//

تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-10b








(1/120)

وقال رضي اللَّه عنه: من تأمل أحوال الصحابة رضي اللَّه عنهم، بعد ما فتح اللَّه عليهم الفتوح الكثيرة، رآهم مع كثرة الدنيا في أيديهم، ما شُغلهم إلا باللَّه، والذي في أيديهم كأنه ليس هو لهم، ولا بينهم وبين غيرهم فيه مزية، إلا بكونهم يتصرفون فيها فقط، فقد كان الزبير رضي اللَّه عنه له ألف عبد، يؤدون له الخراج، فإذا جاءوه به في مجلس، ما يقوم من مجلسه حتى لم يبق له منه درهم، ويفرقه في الحال، وما الدنيا المذمومة، إلا ما أشغل عن اللَّه، وما لم يشغل عنه فهو زاد الآخرة، وعلى هذا قد يكون الإنسان خلياً من الدنيا وهو مذموم الحال، حيث يشتغل باهتمامه بها عن ذكر اللَّه، وقد يكون معه من الدنيا شئ كثير وليس مشغولاً به محمود الحال أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يُمسك الدنيا إلا الأوعية( ) الدنسة، لأن في إمساكها شكّاً، والأوعية الطاهرة لا تمسكها، ولا يبالي أحدهم إن أصبح بِلاَ عَشَا ولا غدا .
وقال رضي اللَّه عنه: الإفراط في محبة الدنيا يغير العقل والدين، لأن طبعها الإسكار .
وقال رضي اللَّه عنه: علامة اليسر في الأمور، أو العسر فيها يعرف من أوائلها، إن رأيته يسراً فالباقي كذلك، أو بالعكس فالباقي مثله .
وقال رضي اللَّه عنه: محبة الطاعة دليل العناية، ومحبة الشر دليل الخذلان، فعناية اللَّه تظهر على الإنسان، وكذلك خذلانه لأن أفعال اللَّه باطنة، ولا تعرف إلا بظهورها.
وقال رضي اللَّه عنه: العمدة على اجتماع الأرواح، وبالأبدان يكون الاجتماع في الدنيا، وبالأرواح يكون الاجتماع في الآخرة، ولا عبرة باجتماع الأبدان مع مفارقة الأرواح .
كلمات تقال عند الوقاع
(1/121)

وقال رضي اللَّه عنه: سمعنا في بعض الكتب أربع كلمات تقال حال الوقاع استحسناها ولا بأس أن يأتي بها بعد الوارد، وهي: الحمد للَّه الذي جعله في حلال ولم يجعله في حرام، وجعله في طاعة ولم يجعله في معصية، وجعله في ستر ولم يجعله في هتك، وجعله في أخيار ولم يجعله في أشرار .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يستقيم ويتيسر للإنسان أمر الطاعة إلا بخصلتين: الرغبة والفراغ، وأحدهما أبلغ من الأخرى( ) . الرغبة أنفع من الفراغ .
ما قيل في حسن الظن في غير محله
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان يسمعون ما ورد في الحديث من مدح حسن الظن باللَّه، فيفعلون المعاصي ويصرون عليها، ويغترون ويظنون أن ذلك هو حسن الظن المطلوب، بل إنما هو سوء ظن باللَّه، وإن كلّمته قال: ما أنا صالح، وأنا من شق الناس، وما الذي يمنعه من الصلاح، ومتابعة نبيه؟، ويتوكلون في ترك الطاعات ولا يتوكلون في ترك الدنيا، ومن علامة المؤمن من المنافق، إن المنافق جميع ما تراه منه في أفعاله وجميع أحواله يتتبع الرخص، والمؤمن يحتاط، وهذا منافق في العمل دون الدين، وإن أنكر على من يرد عليه، فهو منافق في الدين أيضاً، ولكنك اجتهد أن لا تداينهم، ولا تطلع على أحوالهم، وإلا وقعت معهم في محنة، وإن بليت بأحد منهم فاجتهد في سلامة دينك ونفسك من شره .
وقال رضي اللَّه عنه: حسن الظن في غير محله ضحكة للشيطان، كإساءة الظن في غير محله، كمن يرى عاميّاً يصلي، وقد اطلع على حاله، وعلم أنه لا يحسن شروط الصلاة، ويخل في شئ من أركانها، ثم إنه اقتدى به، وقال: حسن الظن بالمسلمين واجب وهذا من قبيله، فليس كذلك، بل إذا علم منه ما ذكر لم يصح اقتداؤه به، وهذا غالب في هذا الزمان السيء .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا لم يمكنك أن تقوم بالأمر كله، فتوسط فيه، فإذا كانت الغايات لا تدرك، فالقليل منها لا يترك .
(1/122)

وقال رضي اللَّه عنه: من حصلت له عقوبة مع السيئات( ) حصلت له بعدها( ) مثوبة( ) لأن اللَّه لا يعاقب إلا ويثيب .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه لم يخرج عبده المؤمن من الدنيا، حتى يُضجره منها بمرض ونحوه، ليخرج منها زاهداً فيها.
وقال رضي اللَّه عنه: من لا يعرف قواعد الصوفية، يظن أنه تفاض عليهم العلوم( ) كذا بلا شئ وهم جلوس، لا، بل لا بد من الإقامة بالكتاب والسنة أولاً، ثم يفتح اللَّه بعدُ عليهم بها، وهي( ) علوم عين اليقين، بعدما تنظفت قلوبهم من المذمومات وتحلت بالمحمودات، وذلك حاصل من الإقتداء بالكتاب والسنة، وهو معنى المجاهدة التي وُعِد عليها بالهداية، فمنه( ) تحصل العلوم اللدنية، ومن جلس ينتظر من غير اتباع لهما، من أين يحصل له ذلك، وقد كانوا يحصل لهم من الأنوار والعلوم والمعارف ما لم يعبر عنه، وأما اليوم فقد تغيرت القلوب من أكل الحرام والشُّبَه .
وسألت سيدنا نفع اللَّه به: ما المراد بالعلوم التي ذكر الإمام الغزالي في الأربعين الأصل: إنه اختلف في سبب تحصيلها النظار والصوفية، وذكر سبب ذلك عند كل منهما، فقال رضي اللَّه عنه: تلك حقائق العلوم التي هي غاية كل علم، فإنّ كل علم له حقيقة وسبب يتوصل به إلى حقيقته، كمعرفة الملائكة وما ذكر من أمور الآخرة، فتوصّل الصوفية إلى تحصيلها بالمجاهدة، حتى بلغوا حق اليقين فيها الذي لا شك فيه فصار قولهم قولاً واحداً، وأما النظار الذين توصلوا إلى تحصيلها بالقياس والدليل، وتشبيه الشيء بالشيء فيقاس عليه، فلم يبلغوا من حقيقة اليقين مثل ما بلغ إليه أولئك، ولهذا ترى لهم في المسألة عشرة أقوال، لكون مبلغ علمهم الظن، فيقولون لكل قول من العشرة، لعل هذا هو حقيقة اليقين، والصوفية إنما كان قولهم قولاً واحداً، لما حصل معهم من تحقق حقيقة اليقين .
(1/123)

وقال رضي اللَّه عنه: لا يفتح على أحد في العلم حتى يطلبه ويعتقد أنه خلي منه، لأن المظاهر الدنياوية، قد تنقص من المظاهر الأخراوية .
وقال رضي اللَّه عنه: ما جَرَّ إلى خير، فعاقبته إلى خير، وإن كان في ظاهره شرٌّ، وما جَرَّ إلى شر فعاقبته إلى شر، وإن كان في ظاهره خيرٌ، والعاقبة للخواتيم أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: كأن هذا الوقت مقدمة للحشر( ) أعني غير الحشر المنتظر .
وقال رضي اللَّه عنه: إن اللَّه أمر بأداء الواجبات، من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، والعبد يفعل ويرجو القبول، وهو فيها أقرب من غيرها، لأنها دَين للَّه، واللَّه مطالِب بها، وقليل ما أحد يرد دَينه إذا أوصله المديون إليه، ولو كان فيه خلل، وأما النوافل فهي تبرع، فلا تقبل إلا إن كانت على الوجه الأكمل .
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: لا يكون من الأرض شئ من المنافع والفوائد إلا وله سبب سماوي، وبالعكس لا يحصل شئ من السماء من العقوبات، من منع قطر أو عاهة أو أي شئ إلا وله سبب أرضي، وإذا اعتبرتَ رأيت جميع الخيرات الدينية والدنيوية كلها إنما هي من السماء، أو سببه من السماء، فالقرآن نزل من السماء، وهو السبب في الهداية، والماء نزل من السماء، وهو السبب في النبات( ).
وقال رضي اللَّه عنه: العافية هي الستر للإنسان، وعليها المعوّل في طلب الدين والدنيا .
(1/124)

وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً ادعى ما لم يكن له أهلاً . فقال نفع اللَّه به: أحد من الناس يشمخ بنفسه، ولم يكن شيئاً، ثم قال أقل أحوال أهل الحق، أنهم يتواضعون وينصفون إذا ما رأوا صفاتهم المذمومة، وأقل ما في حال الداعي إلى اللَّه، أنه يتكلم على الناس بما يرقق قلوبهم، وإن تعددوا( ) من قائم ظاهر للناس يدعوهم، إن كان هو القطب فذاك، وإلا فهو نائب عنه، والقطب إن كان من أهل الخمول، ينصِّب أحداً ظاهراً ويدعو له، فيعيش ذاك في بركته، ومن افترقت الكلمة بسببه يدعو عليه الباقون .
وقال رضي اللَّه عنه: قيل: كل كلام يخرج وعليه كسوة القلب الذي خرج منه، فإن كان القلب منوراً خرج منه الكلام وعليه النور وإن كان الكلام مظلماً، وإن كان القلب مظلماً خرج منه الكلام وعليه الظلمة وإن كان الكلام منوراً.
وذُكِر: إن الشيخ عبدالقادر رضي اللَّه عنه إذا تكلم على الناس يُسمع لهم الصياح والبكاء ويتوب كثير من الناس مما هم مصرين عليه، وكان في لسانه لُكْنة لأنه كان أعجمياً، فسافر بعضُ بنيه وطَلَبَ العلم واللغة( ) والنحو وغير ذلك، حتى أتقن علوم الآلات، فجاء واستأذن أباه أن يتكلم على الناس، فأذن له، فلما خرج إليهم جعل يتكلم، ويتفصح في الكلام، ويجتهد في الإعراب، فصاح منه الناس، واستغاثوا بالشيخ والده( ).
وقد قال سيدنا نفع اللَّه به في حِكَمِه: كلام أهل الإخلاص والصدق نور وبركة، وإن كان غير فصيح، وكلام أهل الرياء والتكلف ظلمة ووحشة، وإن كان فصيحاً انتهى .
وقال رضي اللَّه عنه: قال بعضهم عملٌ واحدٌ في ألف شخص، أبلغ من ألف قول في شخص واحد .
(1/125)

وقال رضي اللَّه عنه: إن فلاناً من السادة من أهل الشحر، يطلب شيئاً من القصائد فاختر له، قلت: إنه يريد التوالي، قال: مليح، ونحن ما جعلناها قصاراً قريبة اللفظ إلا لهذا القصد، ليسهل حفظها على من أراده، فاختر له إن كنت تحسن الاختيار، قلت: إن اخترتوا له فهو أحسن من اختيار غيركم وأولى، فتبسم وسكت قليلاً ثم قال: أنت تسمع ولا تعقل، ودائرة العقل أوسع من دائرة السمع، وقد ذمَّ اللَّه سبحانه بعدم العقل أبلغ مما ذم بعدم السمع، فقال اللَّه تعالى: { أًمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ }( ) الآية، فلو قال: ويعقلون لكان أهون، فلما نفى عنهم العقل أيضاً، مع نفي السمع كان ذلك في أقصى غاية من الذم، أما سمعت في القصيدة قولنا فيها: الجسم المشبه بالبوّ( )، تشوفونا ندخل ونخرج، ولا أنتم داريين، فما ترون حال من يخطر في باله أنه يصلي قائماً أو قاعداً ويتخوف السقوط كل حين، فخذوا منا القليل، ولا تطلبوا الكثير، فإن القليل ممن هذا حاله كثير، كالرجل المريض، إذا جاء عنده أحد يستند، ويتحمل بالقوة، ولكنه يغلبه ما يجد، وأهله يريدونه يأكل شيئاً، ويسقونه الماء، كل ذلك يريدون عافيته وحياته لنفعهم واحتياجهم إليه، أو لرغبتهم في حياته، وهو في ذلك مشغول عنهم بما هو فيه، فقال له رجل كان حاضراً: ما هذا إلا بخت لأهل الزمان يوم يرونكم كل حين . فقال رضي اللَّه عنه: لكن أهل الزمان ما يحسنون يضمون البخت، ولا يعرفون قدر البخت، إلا فيما بعد، كالمرأة السوء ما تضم البخت، كلما مس يدها يريدها( )، جَرَّت برجله. قلت: إن الأمر كذلك، فماذا ترون؟، قال نفع اللَّه به: خذ بالرفق لأنك خذها قاعدة: في كل أمر انبهم عليك فلا تدري حقيقته خذ فيه بالرفق، قلت: الإنسان مع خِسَّة حاله يطلب الكمال ويرجوه، قال: نعم، لا ترى الشيء خاصاً بك، كما إذا كان عندك قوت طيب، ومعك
(1/126)

ناس، فإن كان كثيراً يكفيك وإياهم فتضلع منه، وإن كان قليلاً لا تأخذه عليهم، وخذ منه قدر حصتك، وخل لهم الباقي، قلت: فإن اعتمد الإنسان على المقادير تعطل، وإن عمل ما أحسن، ولا عرف كيف العمل. فقال رضي اللَّه عنه: أشياء من المقدَّرات مقدرة مع العمل، فلا المقدَّر يمنعك من العمل، ولا العمل يمنعك من المقدَّر، ولا بد لك من كلا الأمرين، فتعمل بظاهرك، وتعتمد على اللَّه بباطنك، فلا بد لك أن تزن نفسك بالأمرين جميعاً، أما سمعت الشيخ علي( ) في الحدائق( )، كلما ذكر حديقة قال: وكيفية الموازنة .
ما قال في القضاء والقدر
وصافحه رضي اللَّه عنه بعض الفقراء عليل الرِّجل، فقال نفع اللَّه به: الإنسان ضعيف، ما يريد بطبعه إلا العطا دون المنع، والعافية دون البلا، وهذا لا يكون، ولكن عطاء ومنع، وعافية وبلاء، وكذلك في كل شيء، ولكن إذا نزل بك شيء من ألم تريد دفعه، أو نفع ترجو حصوله، فاسع فيه بما له من الأسباب، كتداوي، حتى يجيك ما يغلبك، حتى لا تبقى لك قدرة على شيء، فحينئذ تنح عن طريق القضا والقدر، ولو كان للإنسان عبد ما يريد منه إلا العطاء الدائم وكل ما يحب، ولا يحتمل من سيده ما يكره، ضاق منه سيده وباعه في الحال، وهذا سر الرياضة والانقياد، كالزئبق لو فُتل حصل بفتله قلب الأعيان ذهباً وفضة، ونحن وإياكم على ما قال اللَّه تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ }( ) أو كما قال.
(1/127)

وقال رضي اللَّه عنه: الأشياء تكون بأوقاتها، لا بأسبابها، ألا ترى الأمور تتم أسبابها فلا تقع، وقد تقع بأدنى من ذلك، وما على الإنسان إلا أن يطلب الفرج واللطف، ولا عاد يبالي من أي وجه يجيء، وقد تكون العقوبات على أشياء سبقت وأشياء نُسِيَت، لأن العلم إليه سبحانه، وما يكون من اللَّه سبحانه مَظْهر عذاب إلاّ وترى فيه الرحمة أكثر، من أجل أن اللَّه سبحانه وتعالى سبقت رحمتُه غضبَه، كالريح، فإنه أهلك بها قوماً، وقد رحم بها على ما ذُكِر في القرآن أقواماً كثيرين .
وسألته رضي اللَّه عنه: ما الفرق بين أمر القضاء والقدر، وأمر الشرع. فقال نفع اللَّه به: القضاء والقدر هو الشرع، فمن أمرك بالإيمان به؟ إلا الشرع، فاعرف الحق واعمل به، واترك الباطل ولا عليك، فإن المبتدعة ضَلَّلوا أهل السنة بالقضاء والقدر، قالوا لهم أما رضيتم حتى كذَّبتم ربكم، والإعراض عن مثل هذا أحسن، فإن الغلوّ في مثل ذلك ما يحصل منه إلا التضليل، وفساد الدين، أو كما قال .
(1/128)

وسألته رضي اللَّه عنه: يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة سنة 1129 عندما خرج لصلاة الظهر، أن أنقل من كتاب "اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر"( ) للإمام الشيخ عبدالوهاب الشعراوي رحمه اللَّه تعالى أبياتاً كتبها يهودي إلى الإمام القَوْنَوي، يسأله فيها عن حكم من رضي بالقضاء والقدر، فأجابه بأبيات أخرى، وقد مر ذلك في قراءة السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي، في ذلك الكتاب في الدرس، يوم الاثنين. فقال رضي اللَّه عنه: الحذر تنقلها فهي في غاية الإشكال، وقد حذَّرناك وقلنا لك لا تنقل شيئاً إلا بعد أن تشاور، ثم سكت ساعة، ثم قال: هذه مسألة صعبة جداً، ولا أحد من العلماء بلغ قعر بحرها، وقالوا: لا يتضح أمرها إلا في الآخرة، وأنت تريد أن تدخل لجة البحر من غير سباحة ولا سفينة، فما لك ولهذا الأمر، اترك الخوض فيه رأساً، ولك شغل شاغل في العمل الصالح والأخلاق( ) عن هذه الأمور، فهل سمعت هذا من قول ابن عربي، احذروا هذه الطريقة، فإن أكثر الزنادقة ما خرجوا إلا منها، ثم قال فإذا كان علم الفقه، وعلم الحديث، في كل منهما فضولاً لا حاجة إليه، فكيف هذا، ولو أن الشعراني مثلاً استشارنا في تصنيف هذا الكتاب، كان قلنا له لا تصنفه، وقد أجملنا في "رسالة المعاونة" ما يتعلق بهذه المسألة بما فيه كفاية، وذكرنا من الكتب ما فيها تفصيل لها، وذكرنا إنه لا ينبغي مطالعة تلك الكتب، وإنّ غَلَطَ من يقول إنه يفهم أكثر من غلط من لا يفهم، فأعط الكتاب مولاه( )، وإياك أن تتصفحه وقل له: اطرحه في الخزانة في محله الذي كان فيه، ثم إن السيد أحمد ما عاد قرأ فيه بعد ذلك، نهاه سيدنا عن ذلك فرضي اللَّه عنه ما أشفقه على كل مسلم في دينه ودنياه .
(1/129)

وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، عند قوله تعالى :{ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ }( ) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: لما بعث اللَّه موسى عليه السلام، وأنزل عليه التوراة، قال: اللَّهم إنك رب عظيم، ولو شئت أن تطاع لأُطعت، ولو شئت أن لا تُعصى ما عُصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يارب، فأوحى اللَّه إليه إني لا أُسأل عما أَفعل، ثم سأل عُزَيْر مثل ذلك، فأجابه إني لا أُسأل عما أَفعل، فأبت نفسه حتى سأل أيضاً فأوحى اللَّه إليه إني لا أُسأل عما أَفعل، فأبت نفسه حتى سأل أيضاً، فقال: أتستطيع أن تصُرَّ صُرَّةً من الشمس، قال: لا أستطيع، قال: أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح، قال: لا، قال أفتستطيع أن تجيء بمثقال من نور، قال: لا، قال: بقيراط، قال: لا، قال فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه، إني لا أُسأل عما أفعل أما إني لا أجعل عقوبتك، إلا أن أمحو اسمك من ديوان الأنبياء، فلا تذكر فيهم، فمحا اسمَه من الأنبياء، فلم يذكر فيهم، وهو نبي، فلما بعث اللَّه عيسى، ورأى منزلته من ربه، وعَلَّمَه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ويبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، سأل ربه عن ذلك فقال: اللَّهم إنك رب عظيم، إلى آخر ما تقدم من سؤال موسى، فأوحى اللَّه إليه، إني لا أُسأل عما أفعل، وأنت عبدي ورسولي، وكلمتي ألقيتك إلى مريم، وروح مني، خلقتك من تراب، ثم قلت لك كن فكنت، لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، إني لا أُسأل عما أفعل، فجمع عيسى عليه السلام من تبعه وخطبهم خطبة بليغة، فقال: القدر سر اللَّه فلا تَكَلَّفوه، وبحر عميق فلا تَلِجُوه، انتهى.
(1/130)

وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى :{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}( ) الآية، لم يقل نبيض وجوهاً ونسود وجوهاً لأنه أحال ذلك إلى أعمالهم، لأن أعمالهم هي التي بيَّضتها وسوَّدتها، واللَّه سبحانه بعدما أعلمهم أنه خالق للخير والشر، أحالهم على أعمالهم، ولو شاء لخلقهم بيضاً وأدخلهم الجنة، أو خلقهم سوداً وأدخلهم النار، والإيمان بالقضاء والقدر واجب، والاحتجاج به بدعة، وكان بعض أصحاب بعض من المشايخ يتعاطى أموراً مُحَرَّمة فنهاه شيخه عنها مراراً، وهو يقول مكتوب عليَّ، فلما رآه مصراً على ذلك، ويحتج بهذا الكلام، استعد له يوماً بجملة أو قال بحزمة من جريد النخل، فلما رآه فعل المنهيَّ أَمَر به، فبُطِحَ، فأمر بضربه بتلك الجرائد حتى كُسِّرت على ظهره، فصاح بالشيخ، فقال له الشيخ: هذا مكتوب عليك فلا تَصِحْ . ومن رأيته وهو عالم يعمل بخلاف العلم، فاعلم أن العلم لا يصل إلى قلبه، وإن رأيته يستدل لذلك، سيما علماء الوقت، فإنهم يحتجون للعامة، ويعلمونهم الحيل، ويكتبون لهم المناذرات الباطلة، وليس من شأن علماء الدين، إنما هم الذين يعلمونهم، ويهدونهم ويبيِّنون لهم الحق، ولو كنا والين على هؤلاء أو معنا وال يستمع الكلام، فعلنا لهم أشياء ما يعرفونها، وإنما يعرفون أنها حق فقط، فإنهم لا عهد لهم به، فإذا رأوه ربما ينكرون ما لا يعرفونه .
(1/131)

وذكر رضي اللَّه عنه الأسباب ومسبَّبَاتها، فقال: إنه مكتوب في اللوح المحفوظ، وقوع كل شئ مع سببه، أن كذا يقع بكذا، وكذا بكذا، وعلى هذا، والعالَم من أوله إلى آخره مدَبَّر على أيدي الملائكة، لا على أيدي بني آدم، حتى بنو آدم مدبَّرون بالملائكة، حتى إن الإمام الغزالي ذكر: إن في باطن الآدمي سبعة ملائكة، يدبرون غذاه، هذا يدفع القوت إلى المعدة، وهذا يستخرج الفضلة منها، وهذا يدفع الدم إلى الكبد، وعلى هذا، هذا في السفلي من العالم، وفي العلوي هذا يسوق السحاب، وهذا يحمل الماء، وإنما تدبير أمر الأرض وأحوال الدنيا بأيدي بني آدم، لإقامة أمر اللَّه وأحكامه، وإذا أردت أن اللَّه يجري بك على العادة من لطفه وكرمه، فأجر أنت على العادة من طاعته وعبادته، فإن اللَّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد اللَّه أمراً سبب له أسباباً، وظهر سبحانه في الأسباب، ولا يظهر بالقدرة في الدنيا إنما يظهر بالقدرة في الآخرة . فالقدرة في الدنيا تابعة للأسباب، وفي الآخرة الأسباب تابعة لها، والقدرة في الدنيا خافية في الأسباب، والأسباب ظاهرة بها، وفي الآخرة القدرة ظاهرة، والأسباب خافية فيها، ويجعل سبحانه لكل أمر سبباً غير سبب الآخر، ليعلم الناسُ وسيع قدرته تعالى أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: رُبًّ مسخَّر للقضاء والقدر، مأجور في الشرع، ورب مسخر له مأزور في الشرع، وكل أحد مسخر للقضاء والقدر، ولكنه لا حجة لأحد، لأنه لا جَبْر، وكل الأشياء من القضاء والقدر، لا من الأسباب، والأسباب مظهر لها ومنه طول العمر بالبر، والأسباب وما تعلق بها من القضاء والقدر .
(1/132)

وقال رضي اللَّه عنه: الأشياء من القضاء والقدر، لا من الأسباب، والأسباب مظهر لها، ومنه طول العمر بالبر، وقصره بالفجور، والأسباب وما تعلق بها من القضاء والقدر، فإذا بر وطال عمره، أو فجر وقصر عمره، فهو مَقْضي عليه أن يفعله، ومقضي عليه أن يحصل له من العُمُرين ما حصل .
وقال رضي اللَّه عنه: مسألة القضاء إنما هي اعتقاد في الباطن، لا مسألة احتجاج بها وإظهار لها، ومن أظهر ضَلَّ، فتُعْتَقد ولا تكون في الأعمال، أليس تحريكك يدك باختيارك، فهذا هو الكسب والاكتساب، ولا يُظهرها أو يتكلم بها للعامة إلا من أراد أن يَضِلَّ و يُضِلَّ، وقد قيل: إنها مسألة غامضة لا تتضح إلا يوم القيامة، وقالوا: الرضاء بالقضاء أن تفعل ما يرضَى اللَّه به ظاهراً، وترضى بما يقضيه باطناً، فهذا هو الحق والصواب، وما كان غير ذلك فهو باطل، وماذا وقع للعامة من قولهم، في كل ما فعلوه: هذا مقدَّر علينا، وإذا جاء ما فيه هواهم وغرضهم، قالوا ذلك، وإذا جاء خلاف ذلك ضاقوا به ذرعاً، وقامت عليهم القيامة، أو كما قال .
وقال له رضي اللَّه عنه رجل من أهل القارة( ): حصل عندنا في بلدنا ريح شديدة مع مطر، حتى إنه أصبح تحت النخيل كثير من الطيور، مات من شدة الريح، ملأوا منها زنابيل لكثرتها، فقال نفع اللَّه به: ذيبها( ) تحدث في الوقت حوادث، ثم قال: اللَّهم اجعل مرادك فينا خيراً، لكن ما معنى هذا المراد، والمراد قد سبق، إلا إن كان بالصبر والرضاء و يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت .
وذكر رضي اللَّه عنه في بعض مجالسه المشيئةَ والقضاء والقدر، فقال: القضاء والقدر بحر عميق، وقد جاء: إن اللَّه تعالى لما عصاه إبليس، قال له: بِمَ علمت أني قَدّرت الذنب عليك، قبل فعله أو بعده، قال: بعده، فقال تعالى: بها أخذتك .
(1/133)

وقال رضي اللَّه عنه: مذهب القدرية خير من مذهب الجبرية، وإن كانا باطلين، لأن الأولين إنما نسبوا لأنفسهم قدرة، وأما الآخرين فإنهم عطلوا الأحكام الشرعية، وهذا هو الزندقة بعينها، ومذهب الجبرية هو الغالب الجاري على ألسن العامة وأفعالهم، فهم زنادقة إلا أنهم ما علموا بذلك، لكونهم لا يعرفون العلم، أليس أحدهم يأكل باختياره، ويفعل باختياره، وهو بقضاء اللَّه وقدره، ولكنه في ذلك مختار، وما جعل اللَّه سبحانه وتعالى للإنسان اختياراً، إلا ليختار ما اختاره اللَّه، والأسباب من اللَّه تعالى، وهو الفاعل في الفعل، فليفعل من الأمور الشرعية المطلوب، وينتهي عن المنهيات في كل ما له اختيار فيه، وإذا ذهب عنه الاختيار حصل له العذر حينئذ، فما الفرق في رجلين، أحدهما سقط في بئر مع غفلته عن ذلك ومات، حتى إنه يُصلَّى عليه ويجهز ويُدعى له، ويقال هو شهيد، وحاله ممدوح، ثم إذا سمع آخر بمدح ذلك رمى بنفسه في البئر، هل يكون مثله في المدح؟، لا، بل يكون مذموم الحال، مستوجباً للعقاب . ولو عطل الناس الأحكام واعتلوا بالقضاء والقدر لبقُوا مثل الحمير والبهائم .
وقال رضي اللَّه عنه في مجلس آخر: للَّه أسرار وَحِكَمٌ في ترتيب الأسباب، وارتباط منافعها بعضها إلى بعض، واحتياج البعض منها إلى البعض، وهذا عالَم الأسباب، جميع أموره تتوقف على الأسباب وهو موضع قوله :{ كُنْ فَيَكُونُ} قال تعالى:{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً}( ) إلى قوله تعالى :{ مَّتَاعًا لَكُمْ وَلأنَعَامِكُمْ }( )، وأما عالَم الأمر فهو شئ آخر، لا حكم فيه للأسباب، ولا للكاف والنون، ولا احتياج إليها.
(1/134)

وقال رضي اللَّه عنه: الناس كلهم يخدمون القضاء والقدر، لأنهم يسعون في تنفيذه ويُعرف تخصيصه بظهوره عليهم، ولو قلت لشخص سِرْ إلى البلد الفلاني لتموت فيها لأبى، ولكنه يسيرُ لقصد حاجته، وقد قُضِي أجلُه فيها، فيموت بها، وكلٌّ يسعى في نفع نفسه، فيصير النفع لغيره بسببه، وينتفع بعضهم من بعض، ولا أحد قصد إلا نفع نفسه .
وقال رضي اللَّه عنه: يكفي الإنسان بعد الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر ذكرُ الوعد والوعيد عن الخوض في مسألة القضاء والقدر، لأن فيها إشكالاً لا ينحل إلى يوم القيامة، وكل من تكلم في حَلها زادها إشكالاً، فلا تطمع في حَلها.
وقال رضي اللَّه عنه: إذا انبهم عليك أمر، فسر معه حتى ينقطع طرفه الثاني، لأن الأول قد عرف، فإذا عرفت السابقة فلا تنبهم عليك الخاتمة .
وذكر رضي اللَّه عنه رؤية الأشياء من اللَّه تعالى فقال: لو أن رجلاً أتاه سائل فأعطاه شيئاً، لا شك أنه يرجو عليه ثواباً، ويرى أنه فعل شيئاً، وينسى أن اللَّه تعالى هو الذي أقدره على الفعل، وأنه هو الذي يَسَّر له ما تصدق به، وأنه هو الذي ساق إليه السائل . وفي المعاصي النفس تدعو إليها والشيطان يزينها له وينسيه عاقبتها ليطمئن بها قلبه وينوي العود إليها ويصر عليها.
وقال رضي اللَّه عنه ما معناه: الأشياء كلها صادرة من حضرة الإرادة، إرادة اللَّه تعالى، ولكن الطاعة مظهر نور وخير وتَنَزُّل إلى حضرة الملائكة، إلى حضرة المؤمنين، والمعصية مظهر نار وظلمة وتَنَزُّل إلى حضرة الشياطين، إلى حضرة الفاسقين، ولا عذر مع الاختيار في تجاوز الأحسن إلى ضده أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: الناس مُسَخَّر بعضهم لبعض، ولِمَا يريده اللَّه منهم، فترى الإنسان يفعل الأمر مما ينفع غيره، بقصد وبغير قصد، ويظن أنه إنما يسعى في حاجة نفسه فقط، وإنما الحاجة أو معظمها لغيره، وحاجته من ذلك قليل .
(1/135)

وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة في وصف الإنسان فقال:مسكين الإنسان، إذا قُتِّر عليه رزقه جزع وتبرم، وإذا وُسِّع عليه طغى وغفل،وفي طبعه الدعوى ورؤية نفسه،وإن لم يكن ثم شئ، وأكثَرَ نَفَعَ اللَّه به في هذا،ثم قال: ولهذا سئل بعضهم عن الإنسان، فقال:هو أنف في السماء، واْسْت في الماء .
وقال رضي اللَّه عنه: الأمور بالأقدار، فإذا قامت الأقدار فانظر الشريعة هي أين، حتى تستقيم الشريعة مع الحقيقة .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رَفَعَت الملائكة من الأرض إلى السماء أمراً لم يعرفوه( )، نزلت من السماء إلى الأرض بأمر لم يعرفوه( ).
وقال رضي اللَّه عنه: ما مع الإنسان إلا جهده، والأقدار تحكم عليه، لا يحكم عليها .
وقال رضي اللَّه عنه: الحق سبحانه وتعالى إذا لم يردك لأمر، قيَّض لك سبباً، وإلا فما الفاعل إلا هو سبحانه .
وقال رضي اللَّه عنه: ما يحيل على المقادير إلا العاجز، فأعط الأمور حقها أولاً، فإذا أعجزتك فحينئذ كِلْهَا إلى المقادير، فلو أعطى الأشياء حقها، وساعدته بها المقادير، وقام فيها على الوجه المطلوب، كان محمود الحال إلى آخر الزمان، وأسباب الرجاء في اللَّه، الناس إلا يعرفون طرقها، ما هو إنهم ما يعرفونها.
وقال رضي اللَّه عنه: إذا حَكَمَت الأقدار، تيسرت الأسباب أو تعسرت، وَقَعَت المسبَّبَات، ولم يعذر مع الاختيار، وأما إذا لم تسبق الأقدار فلم تقع، فلا عذر له أيضاً مع الاختيار، وهذه مسألة قد تخفى، فيحتج الإنسان بالأقدار مع ثبوته على المعصية، أو كما قال .
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في السفر، فقال: ليس هذا وقته، فاصبر حتى يأتي وقته، واحفظوا هذه الكلمة: إذا أردت أن تقطع، فاقطع على مفصل( )، فإن قطعت على مفصل قطعت( )، وإن لم تقطع على مفصل( ) كسرت .
(1/136)

وقال رضي اللَّه عنه: الخلق مكلوفين على ما خلقوا له، فإن اللَّه تبارك وتعالى أراد بهم، وأراد منهم، فالسعيد من وافق ما أراد به الحق وأراد منه، والشقي من اختلفت به الأمور، ثم قال لي: احفظ هذه الحكمة، إن كنت حافظاً.
وقال رضي اللَّه عنه: ما يُحتج بالقضاء والقدر، إلا بعد ما يقع المقدور، وأما قبله فلا، وإلا تعطلت الأشياء .
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى :{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ }( ) ومتى يشاء اللَّه؟، إذا كنت قادراً تفعل باختيارك فقد شاء اللَّه، واللَّه سبحانه ما يسأل الناس إذا جاءوه يوم القيامة إلا عن الأعمال، لا عن أمثال هذه الأشياء .
كلامه رضي الله عنه في الحسد
وقال رضي اللَّه عنه: الحسد يدخل ـ أو قال يظهرـ على الإنسان في كلامه وأحواله، من غير شعور منه، وهو لا يظن ذلك من نفسه، بل يرى أنه برئ منه، وهو من أكبر الذنوب، وبه هلك إبليس وقابيل، ولو كان فيكم أهلية لقرأنا عليكم مقاطع القرآن، فاقرأوا:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى}( ) فماذا تقول لو جاء أحد من الحَسَاء( ) فطلَّعناهم وخليناك، فماذا ترى يقع عندك، قلت: إني أَوَدُّ لو جاءوا كلهم يلتمسون منكم وينظرون إليكم، قال: لا، وهذا هو معنى قولنا لكم، إن طريقة الإمامة مظلمة لا يُهتدى فيها، قلت له: فالحاصل أن كل مجلس يفوتني من مجالسكم، ولا يحصل لي فيه الحضور، يحصل لي من فواته تعب كثير، قال: قد علمنا منك ذلك، وما خاطبناك بهذا إلا لعلمنا بذلك منك، أرأيت إن كان مجلس يضرك في دينك، أتحب أن تحضره؟، قلت: أنتم أعرف، قال: ومجالسة الأكابر كثيراً ما ننهى( ) عنها ولذلك أكثر ما يُحرَمهم أهلهم ومخالطوهم .
(1/137)

ولما ابتدأ القارئ من القراء بعد العصر، وكان عادةُ هذا الابتداءَ كل يوم، فقال له: لا تعد تبتدئ أنت كل يوم إلا مرة، ومرة، لأن هذا يحرك منك داعية الرياء، ومن غيرك الحسد، وأنتم ما تعرفون هذا الأمر، ولا رُضْتوا أنفسكم، ونحن أعرف به منكم، ثم قال: كل كلمة تخرج من الأكابر للتلميذ، فيسمعها منهم، تكون على نفسه كالحجارة، تزيد بها نفوسهم رياضة وخموداً، ومن لا يكون كذلك، لا تزيده إلا قوة نفس، ولا يزداد إلا حسداً، ويعمل بخلاف ذلك، أو كما قال، قال ذلك القارئ: واللَّه ما قط خالجني الرياء بالابتداء، إلا ذلك اليوم، فأطلعه اللَّه عليه، فنهاني نفع اللَّه به، فلما كان تلك الليلة، وهي ليلة الخميس تاسع عشر ربيع الثاني من سنة 1129، طلب مُسَمِّعاً وفعل سماعاً، وذلك عادته في أيام متراخية، ومن عادته أن لا يُحضِر أحداً ولا يتركه يحضر، كذلك سمعته يقول، فلما كانت تلك الليلة طلبني للحضور، ولم يطلبني لذلك قبلها قط، فلما صافحته، وجلست كان فيما تكلم به أن قال: ليس من عادتنا أن نطلب أحداً للسماع، وذلك من عهد قديم، ولا يحضرنا أحد إلا إن كان من العيال، أو خادم واحد يُحتاج إليه، ولكن من استمع من بعيد كما( ) من تحت الباب، أو حيث يسمع لا نعنّف عليه ولا نلومه ولا حرج عليه. ومثل ذلك في كل أمر نفعله، فهذا حالنا إذا كنا في البيت، وأما لو كُنَّا في خلاء في السبير أو غيره فنُحْضِر جماعة مخصوصين مقتربين، الذين يحصل بهم الأنس وباجتماعهم، وهنا عندنا في البلاد عادة: إن الإنسان إذا كان في داره، فَقَلَد( ) على نفسه ما أحد يجيئه، وإذا فتح الباب ضاق بالناس المكان حتى لا يسع أحداً كما ترون في عواد( ) وغيره، ودخل فيهم الشريف والوضيع من رعاع وغيرهم، ممن لا يعرف الأدب، ولكن الرعاع من عادتهم إذا حضروا مجالس الأشراف، فإن رأوهم متأدبين تأدبوا، وإن رأوهم على خلاف ذلك زادوا عليهم في
(1/138)

إساءة الأدب، فاحفظوا هذا لا تنسوه، ثم قرأ الفاتحة ودعا: اللَّهم احفظنا في ديننا وقلوبنا، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ثم أمره يشل، فلما تم من أول مأخذ، وسكت المسمع، قرأ سيدنا:{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }( ) وتركه يسكت ساعة، وهو يتكلم بما يناسب الحال والمجلس، ثم أمره يُشل، فلما فرغ أمر بإحضار القهوة، فجعلت أصبها وأديرها، حتى فرغت، ثم أمره أيضاً فلما فرغ قال نفع اللَّه به لي: هل ظهر لك من هذا شئ لم يكن لك على بال؟، قلت: اللَّه أعلم، قال: هل سمعت ما لم تكن تسمع؟، قلت: نعم، ثم التفت إلى ابنه الحَسَن، وقال: إنه ما يريد إلا مثل كرامات الشيخ عبدالقادر الجيلاني نفع اللَّه به، تكون منه الكرامات الظاهرة الباهرة على التواتر، وهذه أشياء لا يجوز إظهارها، فلا هي نبوة حتى يجب إظهارها وإنما هي بحسب الحاجة والضرورة الداعية إليها، كما في قصة الحنفي مع تلميذه في المشي على الماء، وقد كان من كرامات بعض من شهد الشيخ عبدالقادر، أنه عرض عليه طبيب مُقْعَداً وصحيحاً في صندوقين ليختبره، هل يعلم أيهما المقعد والصحيح، فقال: تريد اختباري بذلك، هذا هو المقعد وهذا هو الصحيح، أو كما قال في معنى هذه الحكاية، ثم قال: وأنت لو كنت في بلادك لكذا( ) ولكن الضوء لا تظهر مع الشمس، وذلك بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لا بنا، لأنه عليه الصلاة والسلام هو الشمس، ونحن الظلال، وقد أمر هو بالتمسك بأهل البيت النبوي، وبكتاب اللَّه، وقال: (( لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ))، وقد كان رجل من المتعلقين بنا انقطع فقلنا له: وانقطاعك ماذا يحصّل لك، أتندفع عنك به حجة، أو تثبت لك به الحجة، فبقي يتردد كما يتردد هؤلاء الذين يترددون، وخليناهم على تردّدهم، لأنهم كانت لهم
(1/139)

حبال، والحبال إذا ثبتت لا يجوز قطعها، ثم أمره أن يشل، وقال: اختم فلما ختم قرأ الفاتحة، ودعا ومن جملة دعائه بعد الحمد والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: اللَّهم يسر أمورنا وأمور المسلمين، وأنزل أمطارهم، وأرخص أسعارهم، اللَّهم الطف بنا في قضائك، وعافنا من بلائك، وأوزعنا شكر نعمائك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك، اللَّهم جَمّل أحوالنا، وأصلح أعمالنا، وطهر وحسن أخلاقنا، ووسّع وطيب أرزاقنا، واقض بفضلك ديوننا، وأصلح بكرمك شؤوننا، واجعل إلى رحمتك ورضاك ومجاورتك في دار كرامتك منقلبنا ورجوعنا ومصيرنا، فلما انقضى هذا المجلس الميمون المبارك، ونزلت من عنده، فلما وصلت إلى المكان الذي أنا فيه نازل، أعلقت( ) السراج، وكتبت هذا الذي جاء على خاطري، وما نسيته أكثر .
وحضرت مرة عنده رضي اللَّه عنه سماعاً في نخل السيد عمر الحداد، فقال المسمع في سماعه، من أبيات لبامختار( ) هات محزم وخذ لك ألف محزم، هذا ما ظهر لي من لفظه، فرأيت سيدنا عند ذلك رفع رأسه متبسماً ضاحكاً،ثم صوَّبه وخفَّضه، وإذا به يبكي ودموعه تتقاطر.
ذكر ما قاله في الإلباس
(1/140)

وذكر رضي اللَّه عنه الإلباس، فقال: الإلباس لا يُراد لصورته، ومن لبس لصورة الإلباس، ما حصَّل شيئاً، وإنما هو لمعنى فيه وهي الرابطة، وقد رأى أبو يزيد رجلاً يماشيه، فيضع قدمه في موضع قدمه، فقال له: لِمَ تفعل هكذا، فقال: لأسير على طريقك، فقال: لو سلختُ جلدي، فلبستَه ما نفعك حتى تدحق على طريقي التي سلكتها إلى اللَّه عَزَّ وَجلَّ، فقلت لسيدنا نفع اللَّه به: أيقتضي هذا أنه لا بد بعد الإلباس وحصول الرابطة أن يقتدي بمن لبس منه، قال: نعم، بما أمكنه، ولو بعض اقتداء، بحيث لا يصير مخالفاً له، ويكون منتسباً إليه، قلت: فهل يشترط في هذا أن يراه؟، قال: لا، بل بحيث يكون على الطريق لا يميل عنها، وإن لم ير السائرين عليها، فإن المائل عن الطريق لا يصل إلى المقصود، والسائر عليها وإن بَعُد عن مَن أمامه يصل، فأين نحن من الشيخ محمد بن علوي( )، ونحن في تريم، فقلت: رأيت في شئ من الرسائل إنكم قلتم فيها: إن طريقنا الكتاب والسنة، ولو جاءنا صادق لبَيَّنَّا ذلك له، ولوددت أنكم ذكرتم من ذلك ما تيسر، فضحك متبسماً، وسكت قليلاً، وكان ذلك عادته إذا خوطب بكلام يحب أنه لم يذكر له، ثم قال: هي الطريق، وإن اختلفت الطرق فهي عليها وهي واحدة، ولكن ما كل أحد يعلمها ويعمل بها، فلو صلى رجل مثلاً من غير طمأنينة، فلا يخلو إما أن يكون عالماً ببطلان صلاته، فهو مخالف للعلم، وإلا فهو جاهل، والزمان اليوم إلى وراء وقد أدركنا جماعة نقصوا عما كانوا عليه كثيراً، هذا بالنسبة، وأما الكامل على القدم المحمدي، فما أدركنا عليه أحداً أو كما قال .
(1/141)

وذكر قصة الذي ذكره اليافعي( ) أنه مر عليه الشيخ مع تلميذ له، والطبل في عنقه، وكان في جماعة يسمون السناكم يأكلون الميتات، ويشربون الخمر، فأخذه وضربه بحزمة قضبان، ثم صلى بهم صلاة أظنها العصر، ثم فرش له سجادته، ثم أمره يجلس عليها، فجلس وسار يمشي على الماء، فيقول السامع متعجباً كما قال تلميذه الذي معه: أنا لي معك كذا كذا سنة، ما حصل لي، وهذا حصل له في لحظة، فالجواب ما قاله الشيخ من أنه ليس الأمر في ذلك إليه، بل إنما الأمر فيه إلى اللَّه لا غير، حتى قال: أنا وددت لو كان ذلك لي، وإنما أنا عبد مأمور، بل قيل لي فلان من الأبدال توفي، فأقم فلاناً مكانه، فامتثلت كما يمتثل الخدام، ثم قال: وهذا الأمر لا بد فيه من جذبة أو سلوك .
(1/142)

ولما خرج رضي اللَّه عنه لصلاة الظهر يوم السبت ثالث عشر جماد أول سنة 1129، ذكر لي الكتب التي في خزانته، واستخبرني عنها، ومن جملتها الصحيحان، فقلت: أود لو حصل معي كتاب جمع بينهما لجعلت جل مطالعتي فيه، فقال نفع اللَّه به: أنت فيك فضول تحب جمع الكتب، خَلّ عنايتك بالعلم والعمل، دون جمع الكتب، إفهم كلاماً قليلاً، يغني عن كلام كثير، فما ينفع كثرة الكتب كَمَثَلِ الحمار يحمل أسفاراً، فخل همك هماً واحداً، ولا يتشعب قلبك في طلب العلم، والناس ما صحبوا أهل التصوف، إلا لهذا المعنى، ومن تتبع الشُعَب، لا يبالي اللَّه في أي وادي أهلكه ويبقى قلبه يتتبع الشُّعَب، حتى في صلاته، فيتتبع الشعب في طلب العلم، حتى يتتبعها في النساء والثياب، وما شاكل ذلك، وفي مثل هذا المعرض، قال: وكتاب واحد من كتب الإحياء يكفي من جميع الكتب، والعلم المطلوب منه العمل، وإلا فما تنفع لفلفة( ) الكتب، فكم أناس جمعوا كتباً ولفلفوها، فما نفعهم ذلك، فلا عاد أحد يخبرنا بالكتب، فما مر عليك بعضه قد مر علينا كله مرتين أو أكثر، لأنا من سنة( ) خمسة عشر سنة إلى الآن ونحن في الكتب ثم أنشد:
وتعليمُ زيد بعضَ علم الفرائض ... ومن عجبٍ إهداءُ تمر لخيبر
(1/143)

وكان رضي اللَّه عنه طالعاً يوماً من الصالح( ) يريد مكانه الحاوي، وذلك يوم السبت ثامن عشر جماد الآخر سنة 1125، فقال: إن سَلِم الفلاني، ووصل إلى بلاده، صار لهم مثل حديث( ) خرافة، رحت أنا مع فلان إلى مكان كذا، وجئنا من مكان كذا، وكان الأمر كما قال نفع اللَّه به، فقلت: إن كان الأمر إلا هكذا فالحجة فسلة . فقال رضي اللَّه عنه: كل شئ له حُكْمُه، للظاهرِ وأمورِ الأجسام حكمُها، وللباطن وأمور الأرواح حكمُها، فما معنى قول لا عبرة بالأكل ولا بشيء من الأمور التي تتعلق بالجسم، وهو لا يسمح بترك أكلَة، وقول بعض المتصوفة: أنا أعمل لا لحصول الجنة، ولا لخوف من النار، ولا للحور والقصور، وهو متعلق قلبه بنكاح النساء، وبسائر اللّذات، فما هو إلا من حيث إن مطلوب الأرواح غير مطلوب الأجسام، أفهمت هذا القَدْر؟، قلت: قريب منه إن شاء اللَّه، ثم ذكر قصة الذي عزم على أن لا يأكل الطعام مدة أربعين يوماً، ثم اشتد به الجوع، فخرج من غير شعور منه بنفسه إلى السوق، فرأى رجلاً يقول: أشتهي كذا من الحلوى، وكذا من شهوات أخرى، فقال ذلك الرجل في نفسه: إن هذا الثقيل يتمنى هذه الشهوات، وأنا أشتهي كسرة ما حصلت لي، ثم بعد ساعة حصل لذلك الرجل المتشهي ما أراد، فأتى به لذلك الآخر وقال له: من هو الثقيل منا، الذي قطع عزمه وآذاه الجوع، أو من يَتَشهَّى الحلال، فخذ هذا واقطع الأربعين بالتدريج شيئاً فشيئاً، ما هو بمرة واحدة، فهذا كله بالنسبة إلى الأرواح والأجسام، فافهم ذلك واعرفه أو كما قال .
(1/144)

وخرج رضي اللَّه عنه اليوم الذي بعده، وهو يوم الأحد إلى السبير، فتكلم في الطريق، وذكر أحوال الفقراء في الرد والأخذ، فقال نفع اللَّه به: للرد شروط لا بد منها، أَوَ كل أحد يحسن الرد، فقلت: أَوَ يشترط في الرد كما فعله من فعله أن يستوي عنده المال والحجر سواء؟، قال: نعم . قلت: إن ذلك لشديد وأمر غريب، فقال رضي اللَّه عنه: كل أمور الصالحين غريبة، لأن تعلقهم وأمورهم من الآخرة، فأي شئ من أمورهم ليس بغريب، واعتمد على ذلك الكلام الذي ذكرناه لك في طريق الصالح، فإنه( ) يفهمك أموراً لم تكن في بالك، ويحل لك مشكلات كثيرة ويوضح لك أشياء إن سألت عنها، أو قال ربما تسأل عنها، أو كما قال .
وكان رضي اللَّه عنه طالعاً يوماً من الصالح إلى الحاوي، وذلك بعد الإشراق يوم الجمعة 24 جماد آخر من السنة المذكورة، فسأل عن غريب قدم منذ يومين، ظاهر حاله التجرد وتقليل الطعام، حتى امتنع من الدخول مع الجماعة للعَشاء، ويصوم، فقال: هل له قيام بالليل؟، قيل: ما رأيناه، فقال نفع اللَّه به: قلة الأكل وقلة النوم متلازمان، قيل: وكثير من الغرباء عند مجيئهم يعملون على هذا، ولكنهم لا يثبتون عليه، كما قصة فلان حيث أراد أن يدخل أربعينية( )، واستأذنكم في ذلك، فقال رضي اللَّه عنه: ليس ذاك الأربعينية المذكورة في طريقة السابقين، وتريم فيها أربعينية( )؟، وإنما هي أربعينية كذا في طريقة أصحاب اليمين، وهذه الطريق ليس فيها أربعينية، بل هي طريقة سهلة، تُفضي بالإنسان إذا واظب عليها باللحوق بأهل تلك الطريقة، فربما حصل له في هذه الطريقة فتوح فالتحق بأهل تلك، وليس فيها من طريقة السابقين إلا من كل شئ جزء يسير، وهي طريقة سهلة ولا أربعينية فيها ولا مشقة ولا خطر .
(1/145)

وأما طريقة السابقين فهي مُشِقَّة وفيها أربعينية، ولكنها مُخطِرة، يخشى فيها على أمور الدين من تغير العقل والعقيدة، وكثير من الناس إذا رأوا شيئاً من ذلك خرجوا من الأربعينية، كيف وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وهو مؤيد بالوحي والعصمة: (( لقد خشيت على نفسي ))، قلت: قال ذلك لما رأى المَلَك، قال: وهذا أيضاً ربما رأى المَلَك مَلَك الإلهام، لا مَلَك الوحي، وأيضاً النبوة فيها مَلَك وحي، ولا سبيل للشيطان مع مَلَك الوحي، وأما مَلَك الإلهام فربما حضر معه الشيطان، وقريش إنما استنكرت من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما رأوه مخالفاً لهم، وقالوا: نخشى أن يكون أصابه الشيطان، وأرادوا ينظروا له طبيباً يداويه، ولا يليق بأهل هذا الزمان إلا هذه الطريقة السهلة، دون الأخرى، وأين الناس اليوم، وأكثر ما يحصل التغير في الأربعينية لمن يدخلها بغير شيخ، أو من غير امتثال، وقد كان جاء إلى عندنا رجل يعمل لنفسه رياضات، وأدخل نفسه الأربعينية، ويزن القوت بالجريد الأخضر، فقلنا له: اترك هذا، واعمل على تلك الطريق السهلة، فعل الأوامر الظاهرة، والاقتصاد في العمل مع المداومة عليه، فأبى، فقلنا له: تكذب في عملك، هذا أنت ما بعد أحكمت طريقة أصحاب اليمين، فكيف يمكنك سلوك طريق السابقين، فسَافَرَ من عندنا، فتعوقت عليه الطريق، حتى رجع نحو ثلاث مرات، حتى تيسر له السفر فيما بعد، ونحن ما نتأسف على فعل الخير، وإنما نتأسف على كلمة صدرت منا لأحد، وكان يسعنا العفو عنه فيها والتجاوز والإغضاء، ومنذ ابتدأنا إلى الآن، ما أشهرنا أنفسنا بطريقة السابقين، لا سابقاً ولا لاحقاً، ولا سلكناها بين الناس، ولا سَلَّكنا فيها أحداً، وأين الزمان من الزمان، والناس من الناس، طالباً أومطلوباً، قلت( ): فإذا جاءكم أحد لا يعرف طريقة السابقين، ولا طريقة أصحاب اليمين، فماذا يفعل؟، قال: يعمل على ما نحن عليه، فما يرانا نفعله يفعله، كما
(1/146)

ترى، من إقامة الصلاة، وقراءة القرآن، وترتيب الأذكار، وطلب العلوم النافعة مع الدوام على ذلك، فهل رأيت أحداً دام على ذلك من علماء الحرمين، أو غيرهم، أو سمعت أحداً ينكر هذه الطريقة، قلت: لا، قال: هذه طريقة أصحاب اليمين، وهي اللائقة، فينبغي أن يُطلق لأهل الزمان طريق العموم، لتعذر طريق الخصوص، وإلا فكم واحد يظن بنفسه أنه مثل الشيخ عبدالقادر، وهو ما يكون مثل شوكة في رجله، قلت: فالطمع طبع، يطمع في كل شيء أن يكون له منه الحظ الأوفر، فقال رضي اللَّه عنه: الطمع يكون في أمور الدين( )؟،إذا كان الطمع في أمور الدنيا مذموماً، فكيف في أمور الدين .
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً كلاماً كثيراً حتى قال: أكثر ما يغار الإنسان إلا من أمثاله، ولو حضر أربعة متماثلون في جنازة، لطلب كل منهم أن يكون هو المتقدم في الصلاة، ولو جلس مثلاً رجل من غير الأشراف للتدريس، من آل بافضل، أو غيرهم، لما استنكف الأشراف من الحضور عنده، ثم قال ولو قد رحت إلى بلادك، وجاء واحد ليتقدم عليك كرهت ذلك، فقلت: نعم، ولكن إلى متى الإنسان على هذه الحالة، فقال نفع اللَّه به: حتى يخرج عن حكم الطبيعة، فقلت: وبأي شئ يخرج منه، فقال: باختيار اللَّه، وليس بكسب الإنسان، وإنما هو بالبخت والنصيب، فكل ما أراد اللَّه( ) شيئاً لا يحصل له إلا بالبخت والنصيب، أما سمعت قولهم: وما هو إلا بالبخت والنصيب .
وقال رضي اللَّه عنه: إنما قيل في النفس إنها أعدى الأعداء، لكونها تنكر الشيء من غيرها وتكرهه وفيها مثله، فلو رأيت إنساناً في أمر كرهت منه أشياء، فلو قمت أنت في ذلك الأمر ظهرت منك تلك الأشياء التي كرهتها من غيرك، فيكرهها منك آخر، فالطباع سواء، والنفوس على طبع واحد في ميلها عن الصواب، ولكن يظهر الشيء ويخفى أو كما قال .
(1/147)

ولما خرج رضي اللَّه عنه لصلاة العصر يوم الثلاثاء 23 من الشهر المذكور، سأل عن رجل فقير غريب، سافر في هذا اليوم، وهو الذي لم يخبر باسمه، وإذا سئل عنه، قال: التراب، وسماه سيدنا أبو الفتوح الشامي، وكان من أهل حَلَب، فسأل هل معه زاد، ثم ذكر أحوال أهل التجريد فقال: كانوا إذا احتاج الرجل منهم، وعرض له شئ أخذ حاجته فقط، وَرَدّ الباقي، وإن لم تكن حاجة رد الكل، ولا يخطر في قلبه الحالُ، في الوقت المستقبل، ثم ذكر قصة ذلك الرجل المتجرد الذي احتاج فجاءه رجل بحاجته، وقال له: إني رأيت النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في النوم يقول لي اذهب بكذا وكذا إلى فلان في المكان الفلاني، فإنه محتاج لذلك، فأتيتك به، وقال له: إذا احتجت فتعال إلى عندي، أقضي حاجتك وأنا في المكان الفلاني، فقال له: لا آتيك، فإذا أنا احتجت، يأتي بك أو بغيرك من أتى بك الآن، الحكاية بمعناها، فقلت: إن مثل هذا وقع بصيغة خرق العادة، من حيث الكرامة، ولا يكون ذلك إلا نادراً، فمتى يكون مثل ذلك في كل حين، والضرورة تتكرر في كل حين. فقال رضي اللَّه عنه: نعم إذا خرقت من نفسك العوائد، انخرقت لك العوائد، وهو أمر قد ذكر الإمام الغزالي إنه لا يوصل إليه بالهوينا، بل بعد اللُّتَيَّا واللتي( )، فقلت: يعني به شدة الصبر على مثل ذلك، قال: نعم، إذا صبر عليه لأجل اللَّه، كتقوية اليقين، لا لأجل هوى، وإلا ترى( ) رهباناً وفلاسفة ونحوهم يتخلون ويتريضون ما حصلوا شيئاً، أما سمعت قول بعضهم: قف على الباب لا لتفتح لك الأبواب، تفتح لك الأبواب، واخضع لا لتخضع لك الرقاب، تخضع لك الرقاب، فقلت: إن هذا أمر عسر جداً، وكلٌّ غافلٌ عنه، ومع ذلك كلٌّ يريده، فقال نفع اللَّه به: هذه الأشياء إنما هي بالبخت والقِسَم، ولما استخلف( ) منه ذلك الغريب المذكور، مسافراً في ذلك اليوم، قال سيدنا له: مع اللَّه نتلاحق إن شاء اللَّه تعالى في مكة، ثم
(1/148)

عَقَّب ذلك بقوله: إما في اليقظة وإما في النوم، واللَّه اللَّه في دينك، واحذر من الرياسة، لا يكون لك بها تعلق، وخل الأمور تمر عليك، ولا تخطر ببالك، وكن في الإقامة حيث ما يستقيم قلبك، ودم على لا إله إلا اللَّه إما باللفظ أو بالقلب حسب الفراغ، إلا إذا كان لك في وقت ورد معين لذلك الوقت، فاشتغل به فيه، وأمر الدنيا لا يخطر ببالك، وإن دخل يدك منها شئ فخذ منه حاجتك، وإن خرج من يدك فلا تخالف، أو كما قال .وطلبت من سيدنا نفع اللَّه به الدعاء، وذلك ليلة الأحد في 29 شهر رمضان سنة 1129، بعد ما فرغ من ختم مصلى الحاوي، لما دخل الضيقة يريد الدخول إلى الدار، فقلت: ياسيدي اللَّه اللَّه فِيَّ بالدعاء، ادعو لي في هذه الليلة المباركة، فقال نفع اللَّه به: ادع أنت لنا ولنفسك، لأن لك حق الغربة، وحق الطلب، فإنك غريب وطالب، ولا تدع لنفسك إلا بأن اللَّه يتولاك مع اللطف والعافية، وإلا فإن الولاية الخاصة فيها ابتلاءات كثيرة، قلت: دعاكم لي بصلاح القلب بالخصوص، وغيره بالعموم، فقال: اللَّه يتولاك بولايته، اللَّه يتولى الجميع، أو كما وقع. وخرج رضي اللَّه عنه يوم الثلاثاء في 6 ذي الحجة سنة 1129 بعد الإشراق، من دار آل فقيه، إلى دار آل عمر حداد، فكان فيما تكلم به وهو يسير قابضاً بيدي، إذا عاش الإنسان زماناً طويلاً، أنكر ما يراه من الناس، لأنهم جاءوا بعده فينكر أفعالهم وأحوالهم، يراهم يطلبون غير ما يطلب ويفعلون غير ما يفعل، ويهوَون غير ما يهوى، فهو مباين لهم في كل شئ، فانظر إذا عشت بين أهلك، كيف تستنكر أمورهم، فتكون وأنت بينهم كأنك مفرد عنهم وحدك، أو كأنك غريب عندهم، قلت: فما يصنع الإنسان مع هذا في حال نفسه، وما يتعلق بالناس؟، فقال رضي اللَّه عنه: ففي حال نفسه يتبع الحق وما أمر به، ولا يميل إلى الباطل فاعتبر بنفسك، ومعهم تسايرهم بالتي هي أحسن، وتقيم عليهم حق
(1/149)

اللَّه، إن كان لا عذر له منهم، بأن كانوا أهله وقرابته، وإن كانوا غيرهم، فمن له منهم بدٌّ فيجانبهم، ولا يتابع أحداً إلا فيما يجوز، ويتحرى لنفسه الصواب وما فيه الاحتياط، وهذه الأمور لا يلزم النظر فيها إلا من كان من الخلفاء، إما خلفاء الظاهر أو خلفاء الباطن، لأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل أحداً في الخصوص وأحداً في العموم وأحداً في الخصوص والعموم، وما خلقهم على حالة واحدة، ولا دبرهم تدبيراً واحداً، ولا عيَّن للفعل وجهاً، فيختلف النظر باختلاف التدابير، ولا يجوز أن يدبر العالَم تدبيراً واحداً، ولو كان كذلك، لحصل من الضرر والفساد والاختلال شئ كثير، بل دبره سبحانه وتعالى تدبيراً( ) شتى، ولو عيَّن فعلاً على وجه مخصوص للزم الأخذ به، ولا جاز لأحدٍ يتعداه أو كما قال بمعناه .
وجلس إليه نفع اللَّه به الوفائي( ) فشكا إليه حاله وما به من الابتلاء والفقر، فقال له سيدنا رضي اللَّه عنه: من ساعة إلى ساعة فرج، فتزود فيها من الطاعة، ومن التقلل من الدنيا، فقال: وأي دنيا عندي، وما تمنيتها ولا طلبتها، فقال: أحسن، وما القل من الدنيا إلا قربة، أَوَ ما عليك ذنوب تستغفر منها، قال: بلى، قال: لكن إذا أعطيت من غير سؤال فخذ، قال: فإن قيل لي أتريد كذا وكذا، فقال: لا، إنما هذا مشاورة، ثم التفت إليَّ نفع اللَّه به وقال: وكم عطية بلية، وكم من بلية عطية، احفظ هذه ياحساوي .
(1/150)

وسأله رضي اللَّه عنه: عبداللَّه بن فلاح( ): ما السبب في أن الإنسان في بعض الأوقات يحس في نفسه نشاطاً للطاعة وداعية إليها، وفي بعض الأوقات خلاف ذلك، يكسل عنها، وتميل نفسه منها، فقال رضي اللَّه عنه: إن كان الباعث على فعل الخير من جانب الحق، بأن شاهد في نفسه أمراً من جانب الحق تعالى، فذلك إلى اللَّه سبحانه وتعالى لا مدخل للعبد فيه، وإلا فهو رجل دنياوي، لا قَدْرَ له، بأن كان إذا تيسرت له أمور الدنيا وتوتّت له، نشط للعبادة، ورغب فيها، وإذا تعسرت عليه وانقبضت عنه أمور معيشته، كسل واشمأز من الطاعة، فإن باعثه ذلك باعث دنياوي، وهو خسيس الهمة، لكن النشاط في الطاعة مليح، وخذ نفسك بالتي، كالغريم الظالم، خذ منه كل ما سمح واتفق، والنفس إلا غريم ظالم .
وكان يوماً رضي اللَّه عنه خارجاً من البلاد إلى الحاوي، وهو يوم الثلاثاء 18 محرم سنة 1130، فقال رضي اللَّه عنه: النفس تحتاج إلى الترويح والفسحة، تستجم ويقوى الإنسان وينشط، ولو كان دائماً كذا، وذكر كلاماً كثيراً نسيته في الطريق، معناه دائماً يكد نفسه وذهنه في أمور الجد، بلا تروح في بعض الأوقات، لكان يخشى على مزاجه ودماغه، ولكن التروح في بعض الأوقات ينشطه للأمور الجدية، كما قال بعض الصحابة لعله ابن مسعود، إني لأستجم نفسي بشيء من اللَّهو، ليكون عوناً لي على الحق، أو كما قال الصحابي، وذكر بيت :
ما ينفع النفسَ إذ كانت مُدَبَّرةً ... ... إلا التنقلُ من حال إلى حال
(1/151)

فقلت: لكن النفس فيما يلائمها وتشتهيه تألفه وتعتاده بسرعة، ولو كان في أمر خير وطاعة لم تألفه وتعتاده إلا بمشقة، فقال نفع اللَّه به: نعم، لأنه خلاف طبعها والأصل فيها الهوى وخلاف العمل بالطاعة واتباع الشهوات، فإذا جاء خلاف ذلك، كان غير مستقل حتى يعتاد ويثبت، وإذا غلبت النفس العقل كان الحكم لها، وإذا غلبها العقل كان الحكم له، والنفس والعقل كالرجل مع المرأة، فإذا كان الرجل تابعاً للمرأة في كل ما تريده، كان التدبير تدبير امرأة، وبالعكس، (( ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ))( ). وأخرج اللَّه النفس للإنسان من نفسه عدواً ضاراً، أو قال قريناً ضاراً، كما أخرج حواء من آدم، فصارت هي عليه سبب الشر، حتى قيل إنها سقته الخمر، حتى أكل من الشجرة .والإنسان ولو قد خرج من أسر نفسه بالرياضة والتهذيب، فيحتاج أن يتعهدها، ولا يغفل عنها، وقد ذكر الإمام الغزالي في رسالته إلى الفتح الدمشقي، إنه فتش عن حال نفسه، وتقصى عن حالها، وكذلك الذي طلبت منه نفسه الجهاد( )، أو كما قال بمعناه . وفي ليلة الاثنين في 16 جماد الأول سنة 1132 سادس نجم الصرفة، أشرف من الغيلة( ) إلى المصلى، وناداني، وذلك حين بقى من الليل نحو الربع، وقال: استغفروا اللَّه من هذه السيول الهائلة، فإنها بلاء أصابهم بذنوبهم، واقرأوا يس بنية دفع الضرر .
(1/152)

وقال رضي اللَّه عنه: الطالب الصادق يجئ، فيأخذ ما يكفيه، ومن جاء بحسن ظن وصدق، ومع أدب، مثل من يحمل من الماء ما يكفيه، ويشرب حتى يروى، ومن كان ليس معه أدب كالذي يشرب ويحمل، ثم يبول في الماء، ومن يعمل الأعمال الصالحة ليَظْهَرَ فضلُه فهو مذموم، فقلت: إنما يريد الإنسان الاستقامة على الصراط المستقيم للَّه تعالى ويطيعه كما يجب، فكيف الوصول إلى ذلك، فقال نفع اللَّه به: بما أنت عليه من ظاهر الصلاة، ومن الباطن ما أمكنك [أي من الخشوع]، وتُعَلِّم متعلم، واللَّه سبحانه هو المعطي، فقلت: إنما مددنا منكم، فقال: إنما المدد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ونحن ما مددنا إلا منه، وذكر هنا قصة الذي يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر العدني، وكان عَشَّاراً، فرؤي بعد موته ومَلَك من ملائكة العذاب قابض يده ليدخله النار، فاعترضه مَلَك آخر، وقال: خلِّ سبيله، إنه يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر، فقال: إنه يغلط فيها، فقال: أما يحفظ منها مستقيماً قوله :
وذكر العيدروس القطب أجلا عن القلب الصدا للصادقينا ...
(1/153)

قال: بلى، قال: فخلِّه، ولو لم يكن فيها إلا هذا البيت أو كما قال في القصة، فقلت: إذا سمعنا كلامكم في الرجاء لمثل هؤلاء، لا يكاد يقطع الرجاء من أحد، وإذا رأينا أفعالهم يكاد الرجاء ينقطع منهم، فقال نفع اللَّه به: أُرْجُ لغيرك ما ترجو لنفسك( )، وأرج لنفسك ما ترجو لغيرك( )، فقد يكون ما في نفس الأمر خلاف ما في الظن، كما رأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، قُطْفَ عنب في الجنة لأبي جهل، فأحزنه ذلك فقال: وما لعدو اللَّه أبي جهل وللجنة، حتى ظهر تأويله بإسلام ابنه عكرمة [واستُشْهد]، لأن الأمور بالخواتيم، إلا إنك جانِبْ أهل المعاصي، وعظهم وذكرهم، من غير أن تتكبر عليهم، أو ترجو لنفسك خيراً منهم، ثم سألته حينئذ عن حال رجلين، أو رجل في إحدى الحالتين، أيهما أحسن وأحب إليكم، أحدهما غائب منكم وهو متعلق بكم كثيراً، وآخر عندكم ولكنه ليس كالأول في التعلق، فقال رضي اللَّه عنه: المتعلق أحسن حالاً من الآخر، وإن كان حاضراً، لأن في التعلق منافع كثيرة، لا تحصل بدونه، وإن حصل مع الحضور منافع أُخَر، فقلت: ما يحصل للحاضر من رؤيتكم، والاجتماع بكم، والصلاة معكم، والتعلم منكم، وغير ذلك، لا يقابل تعلق الغائب، فقال: لا، لأن مع المخالطة لا يكاد يستقيم له شئ يحصل، بل يفوت بسبب المخامرة، كالذي يكون مشتاقاً للطعام، فإذا شبع مَلَّهُ، وفي البعد تغلب رؤية الخصوصية على البشرية، وفي الاجتماع تغلب رؤية المماثلة والبشرية على رؤية الخصوصية، وقد قال الشيخ أبو بكر بن سالم: لو سألت اللَّه أو قال شَفَعت في أحد من الكفار، ولعيالي وأخدامي، لرجوت الإجابة لأولئك الكفار، دون الآخرين، لأن المخامرة إذا قلت هات كذا، أو افعل كذا، تذهب الاحترام، ولهذا كانوا إذا جاء الطالب يمكث شهراً أو أكثر، لا يكلمونه بكلمة، خوفاً أن يألف الكلام معهم، ويقل احترامه، أو كما قال، كل ذلك بمسجد إبراهيم يوم الثلاثاء
(1/154)

ثاني ربيع ثاني سنة 1126، وسألته رضي اللَّه عنه مرة عن حال الرجل، يكون في البعد متلهفاً إلى الشوق إليكم كثيراً، وفي الحضور سالياً عن هذا، وفارغ البال منه، أيُّ الحالتين خير، فقال نفع اللَّه به: حالة الحضور خير، وليس في ذلك من الخصال المحمودة، إلا التلهف والشوق إلى الاجتماع فقط، وهذا يزيد عليه ببقية الخصال، وإن كان خالياً من التلهف الحاصل لذاك، لأن الإنسان في الطبع، لا يشتاق إلى الحاضر، فلهذا لا يكون الشوق في الجنة، وإنما يكون فيها الاشتياق، قال ذلك ضحى يوم السبت لعله في 8 صفر سنة 1128 .
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً من مجاهدات الأكابر الذين سلفوا كالشيخ أبي بكر بن سالم، فقال: كانوا أيضاً يترصدون لملئ الحيضان في الليل حتى لا يراهم أحد، ويقيمون الليل بالصلاة والتلاوة، ومرادهم بهذه الأشياء كلها وَجْهُ اللَّه تعالى، فيخفونها عن الخلق، فقيل له: فما هذه الهمة التي كانت لهم، فقال: بهذا حصل لهم ما حصل، أَوَ أعطاهم اللَّه ذلك بلا تعب، أَوَ يجلسون جالسين ويطلبون ذلك، كان سَوَّى اللَّه بين الناس، ولم يتميز أحد منهم على أحد، فقلت: إنه قد أعطاهم هذه الهمة العظيمة، فبها سبقوا غيرهم، فقال: عرفوا الحق فطلبوه، من عرف ما يَطلب هان عليه ما يَبذل .
وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً: طريقة السادة آل باعلوي، العقيدة التامة، والتعلق بالشيخ، والاعتناء من الشيخ، والتربية بالسر، وهي طريقة السلف، كالحسن البصري وغيره، وليس من شرطها الأربعينية ولا بأس بذلك، وقد فعله كثير منهم، ومن لم يجتمع قلبه بَعْدُ على شيخ معين، فلا يختص بأحد منهم ولا ينتسب إليه، بل يكثر من لقاء المشايخ، ويتبرك بهم ما دام كذلك حتى يجتمع قلبه على واحد، فحينئذ يلزمه ويختص به، وينطرح تحت نظره .
(1/155)

وقال لي رضي اللَّه عنه عشية الخميس في 11 ربيع الأول سنة 1125 من طلب وأراد شيئاً من أحوال الصالحين، فيطلب ذلك ويستثمره بالأعمال الصالحة الخالصة، والأخلاق الحسنة، ويطلبه من اللَّه بذلك، ولا يطلبه منه بغيرها، ثم يطلب منه لها الزيادة والترقي، فإن هذه الأمور تثمر له ذلك، إن كان له نصيب، واللَّه هو الفاعل، إذ ما كل حبة تجيء بسبول( )، فتراك ترى كثيراً من الناس، ياصلاة، ياصيام ،[ أي يكثر منهما]، ولا حصلوا شيئاً لعدم ترقيهم، فإنهم بقوا جامدين على ذلك، ولم يطلبوا الزيادة والترقي، ولكنهم على خير لا يخلون منه، ولا عاد نوصّي إلا بالإحياء، كما أوصى بها السلف، وفي الفقه: المنهاج، لأنه مُغَرْبَلْ، وفي كل كتب الحديث خير، "البخاري" أو "مسلم" أو "رياض الصالحين"، أو "الأذكار"، إلا أنه لا يمعن جداً، أو قال لا يتقعر، لأن ذلك يزيد قوة في الإدراك والفهم والتحقيق، وما ندري ماذا يصير الأمر بعدنا، ولكن احفظوا عنا ما ذكرناه ضحوة وقت القراءة من أمر الدجال، لأن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال( ): (( إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فكل حجيج نفسه )).
وقد ذكر رضي اللَّه عنه ضحى هذا اليوم في مجلس القراءة المسيح الدجال، فقال نفع اللَّه به: ما جاء أنه يمسح الأرض لا يلزم من ذلك أنه يعمها كلها، بل يطلق هذا على الأكثر، ويحصل به العموم، لأنه جاء أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وفي الجبال حصن حصين منه، فعلى من خافه بها( )، إلا إن كان يرسل لمن بَعُدَ منه، لكن ما له رسل ولا طلائع يبعثهم، وإنما هو مفرد برأسه، وقد مر علينا في آثار ضعيفة جداً، أنّ مَن كان في الأموات، ممن لو حضره لأجابه، يجيبونه من قبورهم، ولكن لا يصح هذا، أو كما قال .
(1/156)

وقلت لسيدنا نفع اللَّه به: لو أن رجلاً اجتمع ببعض المشايخ، ولم يكن معه إذ ذاك همة في العبادة، فبعد مفارقته للشيخ حصل له باعث العبادة، هل يكفيه اجتماعه بذلك الشيخ، عن لقاء شيخ بعد ذلك، ويكون ذاك شيخه، وينسب إليه، فقال رضي اللَّه عنه: نعم يكفيه ذلك، ويكون شيخه، وهو تلميذه، والطريق معروفة، ولا عليه إلا أن يسلكها، والفتوح من اللَّه يأتيه، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: اعملوا ولا تستعجلوا، وجزاء العمل إنما يكون في آخر العمل .
وسألته رضي اللَّه عنه: ما معنى نسبة أمور إلى العبد لا اختيار له فيها، كأمره بالإخلاص واليقين، وغير ذلك من الأمور الباطنة، التي هو يتمناها ولا يقدر عليها، فقال نفع اللَّه به: هذا لأجل النسبة، أمر نسبة يعني ينسب ذلك إليه مجازاً .
وسألته رضي اللَّه عنه: عن كلام تكلم به، في مجلس القراءة، في الداعين إلى اللَّه، القطب أو من ينوب عنه، وكان السؤال يوم الأحد في 13 صفر سنة 1124 في السبير داخل بستان الليمة، فقال: القطب إذا لم يتأهل للظهور في الدعوة يستنيب من فيه أهلية، وذكرنا كلام الشعراوي، وهو إلا في من كان شيخاً، ومعه تلامذة، وجاء آخر ومعه تلامذة كذلك، ودعوتهم مختلفة، فيدعون عليه لأنه معترض باغ، ولهذا لا يجوز إمامان في وقت واحد، وإن كان قصدهم كلهم الدعاء إلى اللَّه، فيسلِّم أحدهم الأمر للآخر، ويصير تابعاً له، حتى إن بعض الداعين إلى اللَّه من مشايخ مصر يقال له الحسن، أتاه شيخ يقال له يوسف، وكلاهما على الطريقة، قال الحسن ليوسف: إما أن تكون تابعاً لي، وإلا أنا أكون تابعاً لك، واختار الحسن أن يكون تابعاً، فبقي كأنه من تلامذته .
(1/157)

وحكي إن موسى عليه السلام، لما كثرت عليه بنو إسرائيل، وتدافعوا على بابه، سأل اللَّه أن ييسر له من يدعو إلى اللَّه معه، ويعينوه على ذلك، ويخفُّوا من تزاحمهم عنده، فأوحى اللَّه في تلك الليلة إلى مائة أو مائة وعشرين، فكان حينئذ هؤلاء أنبياء، فتفرقوا عنه حتى لم يبق عنده منهم أحد، واجتمعوا على أولئك الأنبياء، فلما رأى ذلك غار، فدعا عليهم، فماتوا كلهم في ليلة واحدة، ولما بعث اللَّه إلى موسى عليه السلام ملك الموت لقبضه، ثقل عليه الموت، فأوحى اللَّه إلى يوشع بن نون فنُبِّي، وقال اللَّه تعالى: لا تعلم موسى بأنا أوحينا إليك، فرأى موسى كأن اللَّه أوحى إلى يوشع، وأمره أن لا يعلمه، فلما أتى يوشع إلى موسى، سأله موسى: بماذا أوحى اللَّه إليك؟، فأبى أن يعلمه، وقال له: أما كان يوحى إليك قبلي، فلا تعلمني بما أوحي إليك، ولم أسألك عنه، فلِمَ تسألني؟، فقال موسى عليه السلام: أما الآن فلا طيبة لي في الحياة . ونحن إذا رأينا من يدعو إلى اللَّه على الطريقة العامة، ويُعَلِّم الناس، وإن لم يكن صَحِبَنَا، نفرح بذلك، وإنما نتكلم على من يدّعي أنه من أهل الطريق الخاصة، ويرى أنه من أهل الباطن، ويدعو إلى ذلك، فننظر إن كان حقاً ما يقول، فيسلم لمن هو أكمل منه، وإلا كان مفتناً، وإن قدرنا على منعه منعناه، ثم ذكر قصة سيدنا علوي بن الفقيه مع الغريب الذي جاء إلى تريم، وموَّه على الناس، وادعى الصلاح، وأظهر لهم خوارق، فاعتقدوه واجتمعوا عليه، إلى أن افتضح على يد سيدنا علوي المذكور، إلى آخر القصة، ثم قال سيدنا رضي اللَّه عنه: وقد جاء رجل من جماعتنا، يعني من السادة آل باعلوي من الحرمين، ومعه إجازات من جملة مشايخ، وقال: اجتمعت بفلان وفلان، وجاء إلى تريم يريد يصير صاحب طريقة، وبقي يتلقّط الذين قد صحبونا، فقلنا له: إن هؤلاء قدهم مربوطين، فخذ ممن لم يصحبنا، ولم يجتمعوا
(1/158)

بأحد، فبقي على ذلك، فرأيت في النوم كأني خارج من مسجد الهجيرة إلى الطريق، وهو ضيّق، وإذا بالشيخ محمد بن علوي صاحب مكة قائم في الطريق، وذلك الرجل ومن معه قائمون في جانب الطريق، فقال لي السيد محمد بن علوي: أنا أمر وأنت مر بعدي، فمر السيد محمد بن علوي، ومررت بعده ولم يمر أولئك وبقوا، وبعد هذه الرؤيا ما استقام لذلك الرجل أمر، فرجع يُقَرِّي في الفقه، ونحن ما بيننا وبين الناس شيء ومن يدعو لنا في جميع أقطار الأرض، ويحبونا أكثر من الذين يبغضونا، لأنا ما نازعناهم في شيء من أمور الدنيا، ولا طلبناهم أموالهم، وتكلم كثيراً، ثم قال: أمسكوا الحبل بطرفيه، ليمتسك لكم الأمر، وإن أخذتوه بطرف واحد انتثر عليكم، أو كما قال .
ما قاله من المقابلة لتصحيح النقل والتوصية بذلك
وكنت يوماً أسايره خارجاً من البلاد إلى الحاوي، وذلك يوم الثلاثاء خامس ربيع الثاني سنة 1132، وكان قبله بنحو أسبوع وصل اثنان إخوان من بغداد، وهما من أولاد الشيخ محمد الرَّحبي مفتي بغداد، وطلبا أن ينقلا شيئاً من القصائد من الديوان، فقال رضي اللَّه عنه حينئذ: لا تخلي أحداً من الأغراب الذين يصلون إلى عندنا، إذا حصّل شيئاً من الرسائل أو من القصائد يسافر به إلا حتى تقابله بيدك، واكتب عليه بلغ مقابَلة على يد فلان، واذكر اسمك واسم المصنف، أو الناظم، وأن هذا من نظم فلان أو تصنيف فلان، لأنك معروف بتحصيل الكتب، وأي شيء ينفع الكتاب المغلوط، وربما زاد حرف أو نقص حرف أو زادت نقطة أو نقصت أو غير ذلك، فقرأه على الخطأ ونسب ذلك إلينا ولم يعرفوه، فالحذر تخلي أحداً يكتب شيئاً ويسافر به حتى تقابله، وتكتب اسمك على مقابلته، واسم المصنف أو الناظم .
(1/159)

وقريء على سيدنا نفع اللَّه به في شيء من مؤلفاته، فاتفق تقديم بعض الكلام وتأخير بعضه، فأمر بإصلاحه، ثم قال رضي اللَّه عنه: إنه قد يحصل الابتداع في الدين بزيادة كلمة أو نقص كلمة، ومثل هذه الأشياء هي التي أوجبت الإنكار والطعن على الأكابر، وقرأ ممن كان يقرأ بحضرته، قارئٌ كان يقرأ في "رسالة المذاكرة" في فصل: وأما ضعف الإيمان إلى أن قرأ إلى غير ذلك من الأخلاق المشومة، فغلط وقال: المسمومة، فقال سيدنا عند ذلك بعد ما ردَّ عليه غلطته: أكثر ما أنا خايف من أحد ينقل هذه الرسائل، وفيها الغلط والتحريف فينقله عنا، ويقول: قرأته على المصنف، فاشهدوا على ذلك، وإنما نحن خُدّام الشريعة، فمن أتانا فنفعه اللَّه بنا أو بكلامنا فلا نكره، وإلا فلا حاجة لنا بأحد، فمن سمع منا بكلام غير مستقيم، أو مخالف للكتاب والسنة، إما لغلط( )، أو اعوجاج في لسانه، فلا يُصدَّق، والغَيَار كله من قلة الفهم أو العجلة، حيث يسمع بعض الكلام، ويفوته البعض، فينقله، فينبغي أن يسمعه كله ويفهمه، قال ذلك عشية السبت سلخ ربيع الأول سنة 1129هـ .
(1/160)

وقال لي رضي اللَّه عنه يوماً: عاد آل فلان أرسلوا لك، قلت: نعم، واعتذرت، فقال رضي اللَّه عنه: إذا كان لك في شيء هوى، ماعاد تعرف الصواب من الخطأ، وأنت امتثل ولا عليك أن تعرف وجهه، فإن الطريق العامة، والطريق الخاصة، كل منهما مظلمة، لا يهتدي الإنسان بنفسه فيهما إلى الصواب، فيحتاج أن يجعل يده في يد العالم بذلك، ولا يتكلم، كالأعمى أو مَن هو في ظلمة يجعل يده في يد البصير، أو مَن هو أعرف منه، ونحن جميع أقوالنا وما نتكلم به مع الناس في هذا الزمان إنما هو في طريق العامة، ومعنى كونها مظلمة أنك لو قلت للرجل منهم، في صلاة أو زكاة ونحو ذلك، من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، اشْتَغَلَ مِنْ ذلك، ولا يحب من يُذَكِّره ويعلمه، وقد نَجِدُ في نفوسنا على أحد من الناس من هذه الحيثية، حتى على أغراب وفقراء، لكنا بحمد اللَّه لا نظهر شيئاً من ذلك، وأما الطريق الخاصة، فقد قال بعضهم: إنها قد اندرست منذ زمان بعيد، ومن لم يسلِّم لذلك، قال معنى دروسها: إنها كلما تأخر الزمان، زادت خفاء، وأنت طالِبْ نفسك بحق اللَّه عليك، وهو التقوى واليقين، ولا عليك تكليفها ما وراء ذلك، ومرادنا نعلِّمك حتى تعرف الصواب، فتنتفع وتنفع، فقد مر بعض المشايخ بعبد أسود في عنقه طبل، يشرب الخمر، ومع الشيخ تلميذ له، وذكر القصة إلى تمامها، فقلت: هل التقوى من أول الطريق الخاصة؟، فتبسم وسكت ساعة، وهذه عادته إذا كُلِّمَ بما لم يُرِدْهُ، أو بما بَعُدَ عن المعنى، ثم قال: أولها الاعتقاد الصحيح، ثم قام إلى صلاة العصر، وكان ذلك الكلام في الضيقة .
(1/161)

وقال رضي اللَّه عنه لي يوماً: خذ في كل ما يشكل عليك في حق اللَّه ويوهمك فيه، شيئاً بالتسليم وتَرْكِهِ على ما هو عليه من التنزيه له سبحانه عن صفات الحدث، وقد جاء في القرآن والسنة كثير مما يوهم ذلك، ولكن للسلف فيها طريقان: التسليم والتأويل مع التنزيه، وأين الرب سبحانه من صفات خلقه، ففي وصف أحد من الملائكة من الأمور ما تعجز العقول عن إدراكها، فكيف بالباري سبحانه أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: مَن راعَ رُوعِي، أنت تريد من اللَّه أن يراعيك، فراع حقه أنت حتى يراعيك، ومن لم يكن في وقته الحاضر صاحب خير ويقظة، لا تَسْهَن( ) له في باقي الوقت يقظة، واليوم ما معهم مما مع أهل الزمن المتقدم، حتى غباره، لكن أردناهم يستيقظون لأنفسهم، إذا كان الإنسان على قهوة يقرأ ما تيسر من القرآن ولو جزءاً، ومثل هذا، ولا يضيعون أوقاتهم بلا شيء، فإنا نعرف رجلاً( ) كان بعد الفراغ من الدرس، بعد القراءة قبيل المغرب، يأتي بألفي تهليلة، وهؤلاء ضَعُفَت هممهم، حتى سهل عليهم تضييع أوقاتهم، مع أنهم يسمعون العلم، ولا ينهضهم، فيصير حجة لهم، إلا إذا كان لهم هوىً فعلوا كما يفعل النساء من الإعطاء، ولم يفعله أزواجهن، وهم أولى بذلك، لكن هذا مليح ينتفع المعْطَى، وإن لم ينتفع المعطي، وهو أحسن من لا شيء، ورَغَّبَ رضي اللَّه عنه في الإطعام، فقال: باللُّقَم تُسْتَدْفَع النقم، ومرة قال: تُتَّقى النقم، ولكن مع كثرة التخاليط قل أن ينتفع الإنسان بشيء، إلا إن كان من حيث لا يحتسب، وإنما حصل للأولين بأعمالهم ما حصل، لخلوص نياتهم وزكا أعمالهم، ومن رأى أفعاله تعالى الرحموتية والجبروتية خافه، فيعرف أنه يأخذ في ساعة، ولا جاء في بالي أن مع هذا الهملة، [أي المطر الخفيف ] يجيء هذا السيل الهائل، وفيه كمال التنبيه، لأنه سبحانه أول ما يُخَوِّف ويُنْذِر، ثم يأخذ، وهذا بسبب المظالم التي هم
(1/162)

مقيمين عليها من قديم إلى الآن، واختلط الحلال بالحرام، ولا تناهَوا فيما بينهم، فقد أهلك اللَّه قوماً من بني إسرائيل، مع انتهائهم عن المحارم، ونهيهم عنها، إلا أنهم ما جانبوا أهل المعاصي، فأخذهم اللَّه معهم، لكن عسى في هذا كفارة للذنوب ومذكر بالآخرة .
أقول: والسيل المذكور، هو المسمى سيل الحوت، الذي أخذ النخيل، وكان ضحى يوم الأربعاء في 26 شهر رمضان سنة 1124، وقد تكلم سيدنا رضي اللَّه عنه في أمر هذا السيل بكلام كثير في مجالس متعددة، وسيأتي إن شاء اللَّه كثير منه مجموعاً في موضع واحد من هذا المجموع، وقد اتفقت لي رؤيا قبل السيل المذكور بيومين، وذلك يوم الاثنين بعد صلاة الصبح: كنت في حلقة نقرأ القرآن في مصلى الحاوي، وسيدنا حاضر جالس في المحراب، فبعد ماقرأت المقرا غَطَّني النوم، فرأيت قبة في وسطها قبر، وفيها ثقبان، قبلي وشرقي، وكأن عتْم( ) ماء يدخلها من القبلي ويسفح على القبر ثم يخرج من الشرقي وينفذ إلى نخيل وبساتين يسقيها، وكأن القبرَ قبرُ النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فوقفت على القبر متعجباً كيف يُترك الماء يجري على القبر الشريف، وأقول في نفسي: هذه البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة، أفضل من العرش والكرسي ومن كل شيء، ويترك هكذا، وكأني أتمثل بهذا البيت من قصيدة البكري :
لِمَا حَوَتْ والفَلَكُ الأكبَرُ ... قد حَسَدَتْها سدرةُ المنتهى
وطالت بي الرؤيا حتى وصلني المقرأ، فَنُبِّهْتُ له، فتعجبت من هذه الرؤيا، فلما فرغنا من القراءة بعد طلوع الشمس، وركع سيدنا الإشراق، ثم دخل ودخلت معه إلى الضيقة، فأخبرته بالرؤيا، فقال: سبحان اللَّه، هذا بايقع أمر ما يتحمله إلا هو صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فلما كان ضحى الأربعاء جاء هذا السيل الهايل كما قال .
(1/163)

وقال رضي اللَّه عنه: أشرنا على فلان: رجل سَمَّاه، بشيء، فلم يفعل، وذلك لغباوة فيه لا مخالفة، والغباوة يفوت بسببها من الإشارات أكثر مما يفوت بالتعمد، لأن المتعمد مخالف، وهو كمن يصب الماء( )، وأما الغبي الذي لم يفهم، فله حال آخر، وهو معذور، وكلام أهل الحق كله إنما هو بالإشارة، ولو أشاروا على أحد بشيء فخالف، ثم قال: باأرجع أفعل بالإشارة ما قال لي فلان، وفعل، فما عاد ينفعه.
وقال له رضي اللَّه عنه رجل من السادة: ادع لنا، فقال نفع اللَّه به: وما مع الإنسان ما يصل به أخاه إلا الدعاء، والدعاء علامة المحبة، ولم يجعل اللَّه دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مقبولاً، إلا لما فيه من الإخلاص المقترن بالمحبة، ولهذا جاء الترغيب في ذلك، والأشياء إنما تعرف بأصولها لا بالفروع، فإذا أخذتَ بالفروع، فترق منها إلى الأصول، ولا عكس، فإذا أخذتَ بالأصول لا ترجع إلى الفروع .
ثم قال له يوصيه: خفف على نفسك من العلائق، ومن اتخاذ الدَّين، فليس الشأن من العاقل إذا وقع في الأمور أن يتخلص منها متى شاء، إنما الشأن منه أن لا يقع فيها أصلاً، ثم قال له: أتعلم سورة الملك كم آياتها ثلاثون، وتعلم الجُرز كم هي تسع وعشرون، وللَّه في القرآن من حيث الحروف والآيات والسور أسرار وحكم، وإلا لاستغنوا عن التنزيل، واكتفوا بسورة واحدة .
ما قال في من يرث الولي إذا مات
(1/164)

وقال رضي اللَّه عنه: لم توضع الأسرار إلا في الأوعية الطاهرة النقية، لا الملآنة من القذر والتخليط، ولو كان هو أولى بإرثه من غيره، فقد يرثه غيره لوجود هذا الشرط في ذلك الغير، وخلو ذلك القريب منه، فقد يكون صاحب السر في حضرموت مثلاً، ويرثه إنسان بمكة، أو في غيرها من الأماكن البعيدة، ولا يرثه القريب، ثم حكى إن الشيخ أحمد بن علوي باجحدب( ) علوي نفع اللَّه به لما مات، ما عُرِف في البلاد مَن وَرِثَه، أو قال من أقيم مقامه، فبقي بعضُ السادة يتقصى عن ذلك، فلم يظهر له، فأمر خادمه أن يقف على باب الجامع، يوم الجمعة، وينادي من حفظ منكم الضالة، وبقي كذلك ينادي ساعة، وفهم له بعض السادة، وكان هو، فقال: إنها محفوظة، فعرفوه حينئذ، وتوفي بتريم بعض الأعيان من أهل الأحوال، وقيل له [ أي سيدنا]: إن فلاناً لم نعلم له من وارث، فهل يكون أحداً من الملازمين له والمنسوبين إليه، فقال رضي اللَّه عنه: قد يكون الموروث هنا والوارث في الصين مثلاً، وأما المنسوبين إليه فلا ورثه منهم أحد، لأنهم لم يتربوا ولم يتأهلوا، وقد كانوا إنما يجيء أحدهم إلا عند فراغه، فقيل: بأي شيء يُتأهل لذلك، فقال: بالإقتداء بهم واحترامهم وتأويل ما يشكل عليه مما يصدر منهم مما ينظره إنه يُنكر شرعاً، ولا يقتدي بهم فيه، ومحبتهم وامتثالِ أوامرهم ومراعاتهم ونحو هذا.
(1/165)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل: إخلص العمل، لتأخذ أجرك من ربك، وإن لم تخلص قيل لك خذ أجرك ممن عملت له، ومن كان مُعْتَقَداً( ) يعسر عليه الإخلاص، وخصوصاً فيما يؤكد الاعتقاد فيه كَشَلِّ الأذكار . والرياسة لها سُكْر، كسكر الخمر، ولكن عندنا قلة اعتقاد الصالحين والتعلق بهم، نفعت العاملين، وإن تَقَمَّحَ غيرهم، وويل لمن راح وخسر من عمل الآخرة، اشترَوا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون، قال الشيخ أبو بكر العدني: رياسة تريم، منوطة بأوباشها، فأف لرياسة تناط بهم، أف لرياسة تناط بهم، أف لرياسة تناط بهم.
قصة أصحاب السفينة
وقال رضي اللَّه عنه: يُراعى حال الأكثر في كل أمر، فلو كان عشرة يريدون أمراً يضطرون إلى فعله، سوى واحد منهم يتضرر بفعله فيُراعَون دونه، وقد كان جماعة عابرين في سفينة وفيها مسلمون وكفار عددهم سواء، فحصلت عليهم شدة احتاجوا أن يرموا ببعض العابرين، لسلامة الباقين، فبقي كل من الصنفين، يريد أن يرمي بالآخرين، ويَسلمون هم، ففعل رجل كان فيهم مسلم عاقل هذا البيت وقال :
ويرزق الضيف حيث كانا ... اللَّه يقضي بكل يسر
... أقول: وفي القصة أنهم لما تشاجروا في أيهم يرمى به، قالوا: نقترع، ومن وقعت القرعة عليه ألقيناه، فقال لهم ذلك الرجل المسلم العاقل: ليس هذا حكماً مرضياً، وإنما الحكم: أن نعد الجماعة، فكل من كان تاسعاً ألقيناه، فارتضوا بذلك، فصفهم حلقة على ترتيب حروف البيت المذكور، حروفه المهملة للمسلمين، والمعجمة للكفار، فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار أجمعين، وسلم المسلمون وابتدأ العدد من أول الأربعة المسلمين، ثم بأول الاثنين منهم، وهكذا على حسب الترتيب المذكور، انتهى.
ما قال في طلب المريد الطالب للقراءة
(1/166)

وقدم رجل على سيدنا نفع اللَّه به، فقال له حين قدم: أريد أن أقرأ، فقال له: لا تعجل، ما هكذا يكون الطلب، فقد كانوا يأتي الطالب ويمكث سنة لا يُعرف به، لأن أمور الدين عزيزة عند أهلها، متقبضين عليها، وأما أمور الدنيا، فإن كان عندهم منها شئ، فهو مبذول، وهذا هو الفرق بين أهل الدين وأهل الدنيا، إن الدنيا مبذولة عندهم، أقل الحال المأكول والمشروب، ولو كل من أراد القراءة خليناه يقرأ، لامتلأ منهم المسجد، ولكنهم قرأوا وما حصلوا وقد كان تكفي أحدهم النظرة، لكون قلوبهم ملآنة من العقيدة والتعظيم وحسن الظن، والمدد في المشهد، ونحن بواطننا سليمة على أهل الزمان، وما بيننا وبينهم شيء، وأتى رجلٌ ذا النون المصري، يطلب الاسم الأعظم، فمكث عنده سنة أظن قال لا يكلمه .
وقال عبداللَّه القرشي: كنت آتي شيخي وأجلس تحت سور البلد سنة لا يعرفني أحدٌ، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه لذلك الرجل يوصيه: كن رجلاً مليحاً لربك، يكن كل شيء لك مليحاً، فمن كان مليحاً لربه، كان له كل شيء مليحاً، ومن كان بخلاف ذلك، كان كل شيء له كذلك، لأن الأشياء تابعة لخالقها .
ما قال في آداب مطالعة الإحياء
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في مطالعة الإحياء، فقال نفع اللَّه به: إذا أحكمت التواضع، ما ننهاك عن مطالعة الإحياء، ومن لا يعرف حقيقة التواضع، تكبر بمطالعة الإحياء، فإن أردت أن تتواضع فطالع فيه، وفيكم يا أهل الزمان، فَشَار( ) من غير حقيقة شيء، وإذا رأيت كتاب الغرور( ) خلاك قائماً بلا شيء، وصفوة الإحياء ربع المنجيات، لأن الإمام مخضه حتى انتهى إليها، جعلها خلاصته، ونحن مع حضورنا في أوقات فاضلة، واجتماعنا بناس أهل فضل، لم يخطر ببالنا أن نقرأ على الشيخ فلان المعروف بالخصوص .
(1/167)

ثم تكلم رضي اللَّه عنه كثيراً في أحواله في تلك الأوقات، وذكر جماعة ممن كان فيها، حتى انتهى إلى ذكر أهل هذا الوقت الحاضر، فذمهم وذم أحوالهم وأعمالهم، فقال: إذا جاءك أحدهم فقال أريد أن أقرأ في الكتاب الفلاني، وقلت له: خل هذا واقرأ في كتاب آخر، حنق( )، فما بُعْدَ هؤلاء، ولكنا ما بالينا بهم، وما استأنسوا معنا، ولا نبالي بمن حنق ومن لا يحنق، ولكنا نأخذ البعض منهم بالبعض، ثم أعطاه كتاب "المنجيات"، فقال له: طالعه واجتهد في العمل به، والاتصاف بما فيه، واحذر أن تفوش( ) وتتكبر، فإن إبليس أول من فاش وتكبر .
وتكلم رضي اللَّه عنه في أهل المناصب، فقال: من هو في هذا الحال ينبغي مداراته، للإبقاء عليه، ومثلها( ) كمثل النار، كلما زاد لهيبها، زاد إحراقها، فالعاقل هو الذي يأخذ خيرها ويترك شرها، فإن لم يتميز له الأمران تركهما جميعاً أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا قيل فلان أخذ عن فلان، ليس معناه أنه أخذ عنه في كتاب، أو قال قرأ عليه في كتاب، إنما معناه: إنه اقتدى به في سيرته، بأخلاقه وأفعاله وأقواله، فإذا فعل ذلك فذاك شيخه، وهو له مريد.
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن يأخذ الإنسان من الأعمال على قدر ضعفه وضُعْف زمانه، ولا يدَّعي القوة في غير موضعها، لأن أمور الدين كالمسك، كلما ازددت له شما نقصت رائحته.
وقال رضي اللَّه عنه: من له تعلق وميل إلى أحد من الصالحين، حصل له المدد من جميع الصالحين، لأنهم لا مشاحنة بينهم، ولا مشاحة في شيء أبداً، بل لو قال هذا المتعلق بأحد منهم لآخر منهم: أريد أن أترك فلاناً وألازمكم، لم يطعه ولم يوافقه على ما قال، بل يقول له: كن متعلقاً بشيخك الأول والمدد لك منا يحصل، أو كما قال .
(1/168)

وقال رضي اللَّه عنه: من رأيت له أدنى تعلق بطاعة وإن قلَّت، أو ميل إليها أو بأحد من الصالحين أو ميلاً ما إليه، فارج فيه الخير، وذكر قصة الرجل من أعوان الدولة الذي يحفظ قصيدة الشيخ أبي بكر العدني( ).
وقال رضي اللَّه عنه: ما جَرَّ إلى خير فعاقبته إلى خير وإن كان في ظاهره شراً، وما جر إلى شر فعاقبته إلى شر وإن كان في ظاهره خيراً، والعاقبة للخواتيم .
وقال رضي اللَّه عنه: سبحان اللَّه، الرجل من أهل هذا الزمان، فيه الأخلاق السوء والأعمال السيئة، ثم مع هذا يظن ذلك في غيره، ولا يظنه في نفسه، فينبغي أنه إذا كان فيه هذا النقص، أن لا يظنه بغيره، فيكون نقصاً آخر، ولكن كأن النقائص يتبع بعضها بعضاً، ومثل لذلك بالرجل يترك الزكاة، ثم إذا دخل المسجد، ورأى الجابية غير حارة( )، فيقول: يأكلون الوقف ولا يقومون بالمسجد، وأنه ما قال ذلك إلا لمجرد هواه، لا إنكاراً للمنكَر .
وذُكِر له رضي اللَّه عنه أن أناساً وزعوا أموالهم، وفرقوها وتعسر( ) الزكاة على هذا. فقال: لعل لا نية لهم في إخراج الزكاة، فإذا أردت تعرف ذلك فانظر إلى صلاتهم كيف يؤدونها، فبذلك تعرف قلة رغبتهم في الدين .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل جاء من الحج: هل حججت قبلها؟، قال: نعم، إلا إني كنت إذ ذاك ما معي شيء، وأحب ما يحصل لي بلا شيء. فقال له نفع اللَّه به: الرزق والمال كله لربك، ولا فرق بين أن تعطي غيرك أو يعطيك غيرك، فكلكم عبيده، والذي في أيديكم رزقه، يُعْطي منكم من شاء بالآخر، ويعطي بعضاً على يد بعض، فالرزق من حيث الحقيقة واحد، وكل الناس فيه سواء، وإنما اختلف وضاق الأمر فيه من حيث الشريعة أو كما قال .
(1/169)

وقال رضي اللَّه عنه: صار الناس اليوم غنائم بعضهم لبعض، هذا يَمُدُّ يده في مال غيره، والآخر يمنع الحق من ماله، وما كان هذا عادة الأولين، إنما كان أحدهم يمنع يده من مال غيره، ويرى أن أخذه للتمرة منه جمرة نار يأخذها، والآخر يعطي الحق من ماله، ويرى أن التمرة يخرجها من ماله جوهرة يحتسبها، وكلاهما يغدو ويروح لما طلب.
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: كيف أنت؟، أمستريح؟، ثم قال نفع اللَّه به: ما المستريح في الدنيا إلا من لا يُعوِّل( ) بأمورها، ولا يقول أريد ذا كذا، وذا كذا، وكان الجنيد لا يهتم بها، فقيل له في ذلك فقال: إنها بنيت على التعب، فلا أستنكر شيئاً، ونعلم أن كل راحتها تعب، وتعبها راحة .
وذكر رضي اللَّه عنه الحياء فقال: إن لسيدنا علي فيه كلاماً، ومنه: إن الحياء المفرط باب الحرمان، وهو مانع من الخير، والطالب لا ينبغي أن يستحي وإن استحيا المطلوب منه .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي لمن يريد التوبة، أن ينظر ما خلفه وأمامه أولاً، وأن لا يُخاف عليه أن ينكث التوبة، قال ذلك لرجل بعد أن قال له سيدنا: تبت عن الحَظِي( )، ثم نكثت وعدت إليه، فتُزَيِّن به الدنيا للناس، فيرغبوا فيها ويحبوها، وقد شكا إليه حينئذ تعطل حرفته منذ مدة، وما بقي ينتفع منها، فقال له: خذ مخزن( ) فإن فيه بركة، والقليل منه كثير .
وقال رضي اللَّه عنه: لابد إذا فعل الإنسان شيئاً، أن يجازى به في الدنيا قبل الآخرة من خير أو شر، كما ذُكِر إن بعضهم كان على حمار، فجعل يضربه، فقال له الحمار: ضرْبك على رأسك( )، أكثِرْ منه أو أقلل .
وذكر إن رافضياً كان والياً في بعض البلدان، وكان ظالماً، وهناك يهودي، فمات الرافضي ولم يصبه شيء في الدنيا، فمضى ذلك اليهودي إلى بعض الصالحين، وأسلم على يديه، وقال: ظننت أنه لا يموت حتى يقطّع، ولكن هذا ببركة الإسلام، ويكون نفعه في الآخرة أكثر( ) .
(1/170)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل يخاطبه بهذا: ما كان بينك وبين أهلك فهو صالح على أي حال وإن كان على غير ذلك، ولكن اجعل ما بينك وبين الناس يكون صالحاً .
وذكر رضي اللَّه عنه المرا والجدال، فقال نفع اللَّه به: هو الذي نسميه المعاشاة، وهو أن تقول أنت: الأمر كذا، ويقول الآخر: لا إنما هو كذا، وكل منكما يحتج بقوله، يريد ظهوره سواء كان حقاً أو باطلاً، فإن كان صاحبك محقاً فاتبعه، وإن كان مبطلاً فاتركه، حتى يتبين له الحق في وقت آخر، وإنما يبنى للمحقِّ بيت في أعلا الجنة، لكون السكوت من المُحِقِّ شديدٌ، وأما سؤال المريد شيخه، فعلى ما قررنا في رسالة المريد، لكن بشرط إن قال له اترك السؤال، أو عادك تسأل في وقت آخر، أو أنه سيأتي في الكتاب، أن يمتثل، وهذه الآداب عند أهل الباطن دون غيرهم، كما استدل فيها بقصة موسى والخضر، وقصتهما أيضاً إنما هي لبعض أهل الباطن، لا كلهم، وأيضاً بعضهم إنما رأيه موافقة أهل الظاهر لأجل سلامة نفسه منهم، ولسلامتهم أيضاً من الإنكار، والوقوع في الإشكال، وقد شرط على موسى أن لا يسأله، فلما لم يوافق ذلك العلم الذي هو عليه، لم يمكنه السكوت أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: كل علم له أصول، إذا ضبطها تكاد تنضبط له الفروع، ومن أراد أن يتبحر في فن فليأخذ بأصوله لتتبعها الفروع .
(1/171)

وقال رضي اللَّه عنه: من يقرأ القرآن لا يمكنه أن يقول بالجهة، فيفرق بين معراج النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وكلامه تعالى لموسى من الشجرة، لأن الأمور الإلهية لا يدركها أحد، وما أوهم إشكالاً من كلام المحققين، فلا ينبغي أن يسارع إلى الإنكار عليهم، بل يَدَعُهُم، ويسعهم الكتاب، ويجعلها من قبيل المتشابهات الواردات في الكتاب والسنة، ولِمَ جاءت هكذا حتى احتاج الناس فيها إمّا إلى التسليم وإمّا إلى التأويل، والصوفي لا ينبغي له أن ينكر على أحد بل يترك الإنكار يصدر من غيره، وإنما هو يوجه ويؤوِّل، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: إنما الإيمان في الأمور الغيبيّة، فلو كان إلا في الأمور الحسية، لما احتاج إلى التنبيه عليه، وفي هذا تفاوت بعيد، ثم قال: ولا تستبعده وإن كان منك قريباً لأنه أمر غيبي، فانظر إلى حال النائم بجنبك كيف يرى الرؤيا، وإنه كذا وكذا، وأنت لا تعلم به وربما صاح فتظهر لك .
وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً مات وأوصى بوصايا باطلة وحِيَل فاسدة، حتى جعل ماله: بِنُذْر لأولاده الذكور دون الإناث، فقال نفع اللَّه به: هذه الأموال جاءت من وجوه حرام، فراحت في وجوه حرام، وهذه قاعدة: إذا أشكل عليك مال أحد هل هو حلال أم حرام، فليُنظَر فيماذا يصرف، فإن صرف في حرام فهو كذلك، أو حلال فهو كذلك، وكل ما خالف الشرع لا تحسب أن فيه بركة، وعاد هؤلاء إن طال بك زمان، إلى نحو عشر سنين تراهم يبيعون ما معهم، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: العلم بتقرير المسائل، وأن يذكر مع كل مسألة ما يناسبها لا بمجرد مرور الكتاب، ولو أن أهل الزمان ما معك منهم شيء، إلا أنه ما عاد منا شيء للتطويل، وشيء من الكتب قد قرئت علينا، ونسينا حتى اسمها، وأمّا الإحياء فقد مَرَّ علينا تامّاً ثماني مرات، غير الأبعاض( ) .
(1/172)

وذكر رضي اللَّه عنه الإخلاص والرياء، فقال: على الإنسان أن يعمل ويلوم نفسه ولا يغالطها، وإن حصل التقصي بطل العمل حتى هنا في الدنيا، فضلاً عن حالة الوقوف بين يدي اللَّه تعالى .
واستأذنه رضي اللَّه عنه رجل في الحج، فقال له: اعزم على ذلك، ولا تعلق نفسك بأخذ الأجرة فيه، وأمر الخير إنوه، فإن كان قد قدر لك وقع، وإلا فالنية ما هي قليل، وكذا إنو كل فعل خير بَعُدَ وقته أو عَسُرَ عليك فعله . وذكر الحديث( ): (( ليس له من صيامه وقيامه )) الحديث .
وذكر رضي اللَّه عنه وادي دوعن فقال: فيها آثار من الصالحين، وآثار علماء، ولهذا لا ترى أحداً يروح إليها ولو لقضاء حاجة إلا بنية الزيارة، فظاهر أمره الزيارة، بخلاف وادي عمد، فلا يروح إليه أحد للزيارة، بل لغير ذلك، وسبب ذلك ما ذكرناه من آثار الصالحين فيه، لأن بهم تحيا كل أرض ينزلون بها سواء كانوا أحياء أو أمواتا، لأن في الأحياء مع الخصوصية البشريةَ، وفي الأموات مجرد الخصوصية .
وذكر رضي اللَّه عنه القراءة على القبور، فقال: من أوصى بهوى وغرض لا ينفعه، فمن لا نفعه عمله لا ينفعه عمل غيره، فلا أحد يحدث نفسه بذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: ما كل علم ينتفع به كل أحد، ولا كل علم يَحْسُن من كل أحد، ولا عذر للجاهل أن يَسْكُتَ العالمُ بجهله، أو يسكت عنه لذلك، ولو قال كم يموت كل يوم، فماذا تقول، ما معك إلا ما شاء اللَّه، وذلك موكول إلى علم اللَّه، حتى الملائكة لم يكن ذلك من شأنهم، لأنهم مخلوقون لأمور جعلت عليهم، منهم في الأرض، ومنهم في السماء، حتى الحفظة على الإنسان، ما دام حيّاً، هم على عملهم في الأرض، فإذا مات رجعوا إلى ملائكة السماء، حتى يبعث، فإذا هم قيام عليه بعمله، فمن كان سائلاً فليسأل عما يحتاج إليه ويعنيه.
وقال رضي اللَّه عنه: الدين بصائر، ومن قال ما سيبك( ) مني، ما عليك له كلام، إلا إن كان معك قهر تقهره .
(1/173)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل: استمد واستعد للإقامة في القبور أطول من الإقامة في الدور .
وقال رضي اللَّه عنه: الرجل قبل التزوج قنديل، وبعده زنبيل .
وقال رضي اللَّه عنه: الرجاء أوسع من الخوف، لأن النفس مغرورة، ومن لا معه معرفة بقدر خوفه، يخشى عليه الانقطاع، إن وضع على عبده عَدْلَه ما نفعه عمل، وإن عامله بفضله يرجى له السلامة بأدنى شيء، أو نحو هذا أو معناه، والخوف أهم من الرجاء، لأن فقده مضر ويسوق إلى المعاصي، والنفس كالمرأة السوء، كن شديداً عليها في الظاهر، مع التحنن عليها في الباطن، وهي( ) قط لا تدعو إلا إلى الشر، ومِنْ لازِم الرجاءِ الخوفُ، وَوُسْعُ المعرفة، وأما هؤلاء فيرجون بلا خوف ولا معرفة، وقد قيل: الخوف كله للراجين، والرجاء كله للخائفين .
وقال رضي اللَّه عنه: طبيعة النفس طبيعة أجنبية، ما هي من طبايع الدين، بل هي طبيعة جاءته من جهة الطين، وأُحوِجَ الإنسان إلى قدر الضرورة من الدنيا، ولو اكتفوا عنها مثل الملائكة لاستراحوا، وأولئك( )، قد كانوا ضعفوها( ) بكثرة الأعمال الصالحة وأعمال الدين، وأنت اليوم كلما لك تجدد على نفسك ما يشغلك ويؤذيك، وما زاد على الضرورة فهو عندك بمنزلة الأمانة وعاد متعلق به شواغل وأمور أخرى، ولكن لم يتم لك شيء، فإن الإنسان خلق محتاجاً، وخلق مبلي، ومثل ذلك قد أسسها لهم آدم، إذ أخرجه الشيطان من الجنة، ولكن عليك بتذكر ما يُسليك، فإذا لم يُعَزِّك( ) أحد فعز نفسك .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا نصحتَ شخصاً فذَكَر لك عيبك أو تعلل، فدع منابذته، كما إذا لم تره يصلي، فأمرته بالصلاة، فقال: وأنت لِمَ لا تفعل كذا أو أطعمني أو أكسني، وأصلي، فمثل هذا لم( ) تمكن محاججته، فاتركه، ومثل ذلك في كل أمر بمعروف أو نهي عن منكر .
(1/174)

وقال رضي اللَّه عنه ما معناه عن بعضهم أنه قال: استحسان المصافحة بعد صلاة الصبح، وصلاة العصر، رجاء أن توافق المصافحة، نزول الملائكة الحفظة الموكلين بحفظ بني آدم، فقد ورد( ): إنهم ينزلون عليهم في صلاة الصبح وصلاة العصر، ويقولون: أتيناهم يصلون وتركناهم يصلون، فليس تخصيصها( ) بهذين الوقتين من السنة إلا أن يؤخذ ذلك من العموم .
وشكا إليه نفع اللَّه به رجل ضعف بصره، فقال له: نور اللَّه بصيرتك، فإنه إذا استنارت البصيرة، لا يحتاج من البصر إلا إلى قليل منه، ونور البصيرة هو العمدة .
(1/175)

وقال رضي اللَّه عنه: الزمان زمان جهل، وإذا رجع الإنسان ما رجع إلا إلى جهل، وكان في الناس أهل علم وتقوى، إذا رجع الجهال إليهم أرشدوهم إلى الحق والصواب، واليوم لا يَهْدُونهم إلا إلى الحيل والمخادعات، كما فعل بنو إسرائيل في حيلهم ومخادعاتهم في قصة الاصطياد وغيرها، ولو قَدّرنا أن أهل البلاد أرادوا أن يتوبوا ويتحاللوا، ما عاد لهم إلا الإسلام واليد، فمن يده على شئ، ولم يُعلم له فيه شريك، فاليَدُ له، ولو أن والياً على يتيم له عنده عشر نخلات في جملة ماله، ما يميزها له، ولا عاد ينفع في ذلك منهم إلا السيف ورد الأموال المجهولة إلى الفقراء والمساكين والأمور العامة، وما مع الإنسان إلا الدعاء بالخلاص لنفسه ولهم، كما قال بعضهم: اللَّهم سلم، ثم قال آخر بعده بزمان: اللَّهم خلص، لأنه إنما يطلب السلامة من لم يقع، وأما من وقع فإنما يطلب الخلاص . وقال له نفع اللَّه به رجل أتى بأهله للزيارة وقد عَرَّضَ بالاستشارة في الإقامة بهم أو المسير، فقال له رضي اللَّه عنه: كلا الأمرين من حيث الدين سواء، ولكن انظر ماذا يرجح منهما طبعك، لأنه إذا اتفق الدين مع الطبع في طلب أمر مستحسن، فمن كان يغلب طبعه ينبغي أن يراعي من حيث الدين ويراعي أيضاً من غلبه طبعه، لأن غلبة الطبع تدعو إلى أمور فضول لا فائدة فيها، وان استوى أمران في الدين فليراع الطبع .
وقال رضي اللَّه عنه: إن الإنسان خُلِق متحركاً، وطُلِبَ منه السكون، فعسر ذلك عليه، فكل ما قيل لك إنه( ) زال فصدق، وإن قيل لك إن الطبع يزول فلا تصدق.
وقال بعضهم: إن الإنسان خلق كالكرة على الصفا لم يزل يتحرك ويتدحرج إلى أن يمسكه شئ .
(1/176)

وقال رضي اللَّه عنه: ما دام الإنسان معه خبر عن نفسه، فما هو شيء أصلاً، ولأن يكون معه خبر عن الخلق خير له من أن يكون معه خبر عن نفسه، والخبر عنهم أن يسمعهم يروون عنه، ويعرف ذلك عنهم من خارج، والخبر عن نفسه على هذا الوجه، أن يرى أن له منزلة أو أنه خير من غيره، أو يذكر فضائله أو كما قال .
وقلت له نفع اللَّه به: هل ظاهر كلام الشيخ ابن عِرَاق، حيث يذم المتعاطين للسماع، إنه ينكره فلا يقول به أصلاً، أو ينكره من أحد دون أحد. فقال رضي اللَّه عنه: إنما ينكره إذا صدر من غير أهله، على غير الوجه المطلوب منه، ومع المداومة عليه واتخاذه عملاً، وعلى هذا الوجه، حتى من يقرأ القرآن، ويَذكُر( ) على غير وجهه، مذموم حاله، فكيف بالأشعار ونحوها، والشيء المنهي عنه، قد يكون لذاته، وقد يكون لعارض، فإذا فُعِل الشيء على وجهه، عُرِف الحكم منه، من كونه مباحاً أو منهياً عنه أو مندوباً إليه، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه في علامات المنافق الثلاث( ): ما هو أنه لا يَصدق أبداً، فقد يصدق ويوفي ولا يخون، ولكنه لأدنى غرض يكذب، ولأدنى داعية يخون، ولأدنى عذر يخلف، وذلك لعدم التقوى فيه .
ذكر العقيدة
وقيل له رضي اللَّه عنه: لفلان فيكم عقيدة .فقال نفع اللَّه به: عقيدة هؤلاء في ألسنتهم، فإذا أردت تعرف اعتقاد أحد، فانظر إلى فعله، واعتقادهم تبع لأهويتهم، ومن له عقيدة في بعض الصالحين، ثم زالت، فلا عاد يسأله الدعاء، إذ لا ينفعه الدعاء حينئذ، لعدم الواسطة، كالمطر يرجى حصوله من غير سحاب؟( )، وسحاب الصالحين تعلق القلوب .
وأوصى رضي اللَّه عنه إلى بعض الظلمة من ولاة الجهة، بأنه إن سألك عنا فقل: إنه ما يسلم عليك، ولا هو راض عليك، ويقول لك: الواسطة التي بينك وبينه قد انقطعت عنك من العام، ثم قال: ومن له عقيدة إلى آخر ما قال آنفاً .
(1/177)

وذُكِر له رضي اللَّه عنه رجل اشتهر بالعلم، فقال: هل رأيت أحداً مثل المذكورين في "مجمع الأحباب"، وكل من رأيته مشغولاً بنفسه فلا تعده شيئاً، إلا أنه لا يخلو من خير، لأن الخير له أطراف وحواشي، كالجند الذين يمضون إلى الجهاد، ودرجاتهم شتى، بعضهم أعلى درجة من بعض، وليسوا في درجة واحدة، فكذلك الخير بعضه أعلى من بعض .
وذكر رضي اللَّه عنه ضعف الناس في طلب العلم، فقال: ما يربي الناس في أمر دينهم ودنياهم إلا الملوك، تربيهم بسيرهم وأحوالهم، وكذلك تفسدهم، فإذا رأيت فساداً فابحث عنه، تجد سببه من الملوك الظلمة .
وقال رضي اللَّه عنه: من أراد الهلاك فليظلم، ولا عليه، لأن الظلم كالمغناطيس في جذب الشر، والعدل كالمغناطيس في جلب الخير، ألا ترى كيف يرد اللَّه المراكب في البحر إلى ظفار وغيرها، لظلم فلان وقد سماه .
وقال رضي اللَّه عنه: ومن كلام الحكماء: إذا لم يكن في البلد أربعة، تسارع إليها الهلاك: طبيب، وسلطان، ونهر، ومفتي .
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً من أهل الجهة، في حالة تعب شديد، فقال: كأن البلا إلاّ يدوّر لأهل حضرموت من أين كانوا، فترى الإنسان يؤذَى ويُشغل، ثم يؤخذ ماله، وولاة الجهة خاربة، وإذا أردت خراب بلد فدلهم عليها، فيغيرون حتى قبالها، وتصير كما في قصة عمر بهم( ) المساجد الداثرة، والذي ينبغي للولاة، أن يسعوا في إصلاح البلدان، ولكن هؤلاء زبانية الدنيا .
(1/178)

وأمر رضي اللَّه عنه يوماً بنخلة مثمرة أن تسقى، وأخرى لا ثمرة لها أن لا تسقى، وقال: إذا راعيتها ولم تثمر فاقطعها( )، وافعل ذلك( ) في المثمرة، كالصاحب الذي لا يراعي من يحسن إليه، إذا أساء إليك مع إحسانك إليه، فاقطعه( )، ويكون الإحسان في شاكر أحسن منه في غيره، إلا أن تخاف شره، أو كان ذا رحم، فلا تقطعه لإساءته، والأشجار والدواب في أوائل درجة الآدمي، فيُعاملن بما يعامل به الآدمي، وقد قال سفيان الثوري: أخسر الناس من يفعل المعروف مع غير أهله، أو كما قال .
وألبس رضي اللَّه عنه يوماً أناساً الخرقة، فقال: لبسناها من الشيخ عمر العطاس( )، لكن بالشدة( ) ما طاع يُلبسنا إلا بمعالجة، وأرادنا نحن نُلبسه، لأنه كان متواضعاً جداً، والتواضع وإن كان حسناً من كل أحد، لكنه من أهل الفضل أفضل وأحسن، فالمنظور بين الناس ليس تواضعه كتواضع واحد من أطراف الناس، أقول: سمعته رضي اللَّه عنه يقول: ما ألبسني كوفيته حتى ألبسته كوفيتي، وكل منا ترك كوفيته للآخر، ولهذا كل منهما يَعُدُّ الآخر شيخه .
وذكر رضي اللَّه عنه يوماً كرامات الأولياء وغاراتهم، ثم قال: قد قيل إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طويت، حتى إنه روي أن بعضهم جاء بحزمة سيوف إلى آخَر منهم، وقال: هذه أحوال الصالحين، قد طويت .
ثم قال نفع اللَّه به: ما الإنسان يريد الصلاح ولا الصالحين لأجل هذه الأمور، إنما يريد ذلك لطاعة اللَّه والدار الآخر .
(1/179)

وقال رضي اللَّه عنه: الصالحون خاملون في حياتهم وموتهم، وإنما أشهَرَهم ملوكُ الناس، إذا أشهروا أحداً اشتهر عند الناس، مثل ابن عربي فما أشهره إلا آل عثمان، لأنهم بلغهم عنه الإخبار( ) بأن بعض أجدادهم سيملك فبنوا عليه قبة، وشهروه، وكانوا إذا ظهرت منهم الكرامات يوصون من علم بها أن يكتمها، ولكن عدمت في هذا الزمان الكرامات، وإنما مُنِعوا الأسرار، لعدم كتمهم الأسرار، لو رأى أحدهم رؤيا راح يحول( ) بها، فلما لم يكن إسرار، كذبوا بادعاء الأسرار، أو كما قال .
وذكر رضي اللَّه عنه ليلة الاثنين حادي عشر شوال سنة 1125 هـ كرامات الأولياء، فقال: أهل الزمان ما هم بشيء، فلا تظهر لهم كرامات الأولياء، وهم لا يريدون منها إلا ما يزيد في دنياهم، ولو كان أحد من المكاشفين، فرح بكل ما يحصل لهم من نقص في دنياهم، والكرامات لا تظهر إلا لأسباب، وإذنٍ من الحق تعالى، إما لتحصيل التشمير لمن يراها، مثل من ظهرت له، أو ليعترف من نفسه، ويتحقق أن ما معه شيء .
وذكر بعضهم: أنه ذكر الكرامة لأحد من السادة المتقدمين فقال: فيها مضرتان أحدهما: أن يغتر من هو من ذريته ويتكبَّر بكرامة جده، والثانية: أن يقول من لا عقيدة له: انظر كيف لما كان جدك صالحاً ظهرت له الكرامات، وأنت لما فَسَدْتَ لم تظهر لك، وأهل الزمان مثل قوم وقعوا في نهر وغرقوا فيه، ولكن استنقذ اللَّه قليلاً منهم، وقليل ما هم، وما دام الروح في الجسد فلا ييأس من رَوْح اللَّه، وهو سبحانه وتعالى قادر على أن ينقذه.
وقال رضي اللَّه عنه: إنما فائدة بلوغ الإنسان حد التكليف، الترقي، فإن لم يترق فموته قبل ذلك أحسن، لأنه لم يبلغ الحِنْث، ويكون حينئذ على الفطرة .
معنى الطُرُق إلى الله
(1/180)

وقال رضي اللَّه عنه في معنى قولهم: ( الطرق إلى اللَّه بعدد أنفاس الخلائق ): هي أعمالهم التي يتقربون بها إلى اللَّه تعالى، فكلٌّ أعماله طرائقه، بل لو سبح مائة تسبيحة مثلاً وقُبِلَت، يقال: هذه مائة طريقة، وعلى هذا .
وقال رضي اللَّه عنه: ما عليك إلا أن تَسْلَم من شواغل الخلق، وشواغل خواطرك ونفسك، ويتنزل لك الأمر إن كان فيك بأنه على قدر حالك، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: إياك أن تضع الدنيا التي هي عدوة اللَّه في قلبك، بل ضعها في رجلك كالحذاء، فإذا فُقِدت تكون حذاء بدل حذاء، وأهل الزمان تعلقوا بالدنيا جداً، فتفاخروا بها وتحاسدوا عليها، فصارت لهم محبوباً، ومن كانت هذه حالته، يوشك أن تكون هي معبوده من دون اللَّه وقد كان السابقون عرفوا الدنيا باللَّه، وهؤلاء عرفوه بالدنيا .
وقال رضي اللَّه عنه: أصول المعاصي ثلاثة: الكبر، وهو أصل معصية إبليس حيث تكبر على آدم، فقال: أنا خير منه، والحرص وهو أصل معصية آدم، حيث حَرِصَ على الأكل من الشجرة، والحسد وهو أصل معصية قابيل، حيث حسد أخاه فقتله .
وقال رضي اللَّه عنه: خذ من دينك بيمينك، لأنها للأمور الحَسَنَة، وكذلك الآخرة، وخذ من دنياك بشمالك، لأنها للأمور القذرة، وكذلك الدنيا.
وقال رضي اللَّه عنه: تراحموا تُرحموا، وارحموا فقراءكم، فلو أتاك فقير وغني، كل منهما يطلب حاجة، فالأولى تقديم الفقير، وقد دخل الهوى على الناس حتى في طاعاتهم، ولكن إن سبق الدين ولحق( ) الهوى أبطله، أو بالعكس فزلزلت قواعده .
ما قال في التأني والعجلة
وقال رضي اللَّه عنه: تأنَّ في كل أمر تحاوله، فإن الشرع أطلق المدح في التأني، والذم في العجلة، فإن كان من طبعك العجلة، فريِّض( ) نفسك وكلفها التأني، فإن لم تنفع فيك الرياضة في ذلك، فاترك كل أمر تضر فيه العجلة لا تفعله، وليفعله غيرك .
(1/181)

وقال رضي اللَّه عنه بعدما فرغ القارئ من القراءة في كتاب الزهد من الإحياء: ما عاد في الناس أحد ظاهر في مقام الزهد على هذا الوجه، إلا إن كان أحد في البراري والقفار، لأن هذه الأمة أمة مرحومة، وإنما هم إلا بين راغب وأرغب، ومَن أنشَبَ مخاليبه في الدنيا، أمره مخطر، والمنهمك فيها كالنائم الذي يخط( )، ودونه الذي يتحرك، ودونه الذي يمسح وجهه من النوم، ومثل هذا، وكلهم يشملهم النوم، والصالح من أهل الزمان لا تراه حتى متزهداً، بل إنْ حَسُن حالُه يكون ليس منهمكاً وغارقاً فيما غرق فيه أهل الدنيا، ونحن لا نحب من يذكر الرجاء حتى يفرط والخوف حتى يفرط، إنما نحب الوسط فيهما.
ما قال في الهمة
واستودع منه رضي اللَّه عنه رجل ضعيفٌ حاله يريد الحج فقال له: اللَّه اللَّه في الهمة، جد الهمة، واعزم ولا تتردد فتقول ليتني ما هممت، أو ليتني ما خرجت، فإن التردد في الهمة يُضْعف أمر الثواب، إن تطلبه أو تصبر عليه، إلا أن يضرك في دينك، وما دامت الهمة قوية يأتيه المدد من اللَّه تعالى، فإذا ضَعُفَت الهمة، دخل الشيطان يغويه.
وقال رضي اللَّه عنه: معاملة اللَّه كلها ينبغي أن تخرج فيها بكليتك من حج وجهاد فتخلص له حتى يزلفك، وإلا فهو غني عنك وعن عملك، { وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }( ) الآية، والتردد فيها كالارتداد، بخلاف أمور الدنيا، فإن التردد فيها يكون كفارة لها، كأن كان خادم دولة، فقال: ليتني ما خدمتهم .
ومد له رضي اللَّه عنه فتىً يديه يمسح عليهما، وبهما ألم، فقال له: لعل ذلك من عين، فإنها حق، وفي الحديث( ): (( إن العين تُدخِل الرَّجُلَ القبرَ، والجمل القِدْرَ )) وأكثر ما تكون من فرط التعجب، إما من محب كالأب والأم والأخت والخالة ونحوهن، أو حاسد، إلا أن المحب مستكثر مع مَحَبَّة، والحاسد والمبغض مستكثر مع بغض .
(1/182)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل مستخلف مسافر: لا تخل الزيارة إن أمكنك، وإلا فلا تعجز عن الكتاب، واللَّه اللَّه في طلب العلم النافع، ومطالبة النفس بالعمل به، فإنها قد تطلب العلم ويسهل عليها، ولكن العمل به عليها شاق .
وقال نفع اللَّه به لآخر محترف صوَّاغاً: اللَّه اللَّه في النصيحة في حرفتك، على قدر جهدك، واحذر فيها من الغش، ففي الحديث( ): (( أشرار أمتي الصواغون )) .
وقال رضي اللَّه عنه لآخر: استعد للنوائب، سورة يس، وإذا ظُلِمتَ فلا تنتصر لنفسك، وسلم الأمر لربك لينتصر لك، فإن من انتصر لنفسه لا يكون له من اللَّه نصير.
وذكر رضي اللَّه عنه أخذَ الأجرة على الحج، فقال: اجعل الحج والمسير إلى الحرمين للدين لا للدنيا، إلا ما كان ضرورة للدَّين، ولا تجعل أمور الدين وسيلة إلى أمور الدنيا، وأمور الدنيا إنما هي سُلَّمٌ لا يحسن المقام فيه، وإنما هو وسيلة إلى الطلوع إلى المكان المقصود، وكل من زاد على المحتاج إليه في ذلك فهو ناقص، ولولا ذلك لما رَغَّب اللَّه تعالى في الآخرة، وزَهَّد في الدنيا، ولَكَان رَغَّب في الدنيا، أليس كلهما ملكه .
وقال رضي اللَّه عنه: أمور الدنيا كالبيوت، لا يثبت بناء القصر إلا بعد إحكام الأساس، كذلك الدين أساسه كلمة التوحيد، والتصديق، ثم الأحكام الواجبة، ثم قراءة القرآن، ثم ما يُندب بعد ذلك، قال تعالى :{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ }( ) إلى آخر الآية، فالتأسيس بإثبات العقائد والنيات والصدق، ثم البناء يتم لك بعد ذلك، وخذ أصل العلم الذي لا بد لك منه في نفسك، ولا تفتن الناس بطلب العلم بلا عمل .
ما قال في طلب العلم
(1/183)

وحض يوماً رضي اللَّه عنه ورغب في تعلم العلم وتعليمه، ثم قال: كنا سابقا نسأل عن العالم العامل بعلمه، فإن لم يكن به عاملاً لم نعبأ به، وأما الآن فنحن نسأل عن العالم، وإن لم يعمل، لما رأينا من غلبة الجهل والغفلة عن التعلم وعدم الهمة في طلب العلم والرضاء بالجهل والعمل على مقتضاه، وإن عمل به فهو الغاية، وإن لم يعمل فيعلّم الناس ويهديهم إلى الصواب، فينتفع به غيره، وإن لم ينتفع هو في نفسه .
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن يعرف الإنسان العلم وقواعده، وبعد ذلك إن أراد اللَّه له توفيقاً عمل بذلك وعلَّم، وإن لم يرد له ذلك وأراد له الخذلان والعياذ باللَّه، كان على الضد فلا يعمل، ولا يعلِّم، بل ولا يتحقق في معرفة العلم، وربما اجتنب بعضُ الجهال أهلَ العلم ومجالس العلماء، خوفاً من أن يعرف ما يلزمه العمل به، يظن أن في ذلك عذراً له، وهيهات إنما ذلك يزيده تشديداً ومطالبة، لأنه أعرض عن أحكام اللَّه علماً وعملاً، فهو أشد، وغاية العذر في أشياء تكون لمن رُبي في البادية، وفي بُعْدٍ عن أهل الإسلام، ومن هو مسلم وآباؤه مسلمون ونشأ بين المسلمين أَنَّى له العذر.
ما قال في الاغترار بالكرامات
وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من مناقب الصالحين، ثم قال: طلب المناقب شأن الصغار، وفراكات المغازل، والكامل إذا سمعها أحسن الظن، واعترف له بالفضل، واحتقر في جنبه نفسه، وفيها خصلتان تغرّ العامة، وتجرّي السفهاء، فيقول من له أب صالح هو يكفيني، ولو كفاه لكفى الناسَ جميعَهم النبيُّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأنه أبو الكل، ويقول المتجري: إن كان فيك شئ إفعل مثل آبائك، وأين تروح من الأعراب، أولاد نباشة القبور( )، وإذا بلغك عن أحد منقبة، فابحث أولاً، إن كان قد قدم شيئاً( ) لأن الأشياء لا تجيء إلا بالتعب، ولو أنك غرست نخلة لا بد لك فيها من تعب ومقاساة، فكيف هذا الأمر .
(1/184)

وإنما المناقب: التقوى، والزهد، والحلم، والصبر، والتواضع، والخمول، وما عدا ذلك ففتنة، وأنت أدفن نفسك في الخمول، فإن كان فيك شئ فهو ينبت، وإن لم يكن أعطيت أمراً حسناً، وإن كنت متسبباً في شئ فتسبب في الخمول، فإن أُظهرت من غير اختيار منك فلا عليك.
ما قال في الخمول والشهرة
وقد شكينا الشهرة لما حصلت علينا للشيخ عمر العطاس، فقال: إن بعضهم اعتقده الناس وازدحموا على تقبيل يديه ورجليه، حتى إذا لم يتمكنوا من ذلك قَبَّلوا حافر بغلته، فقيل له في ذلك فقال: إنهم ما عظموني، إنما عظموا اللَّه فلا أمنع أحداً من تعظيم اللَّه، ثم قال: إنهم عظموه للَّه لا لشيء آخر، ثم قال: وفي هذا إشارة إلى أن تعظيمهم له، إنما هو للَّه.
(1/185)

ثم ذكر سيدنا حكايةً: إن رجلاً من أهل الخمول، من السادة من آل باعبود في تريم، إذا أراد الجامع يمر في السوق، فلا يقوم يصافحه رجل واحد، وله صاحب من آل بافضل، معه مخزن يبيع فيه، ويعتاد هذا السيد التردد إليه ويجلس عنده في مخزنه، فقال له صاحب المخزن: أنا متعجب من حرمان أهل البلاد، كيف تمر في السوق ويرونك ولا يقوم لك رجل واحد، ولا يصافحك أحد، فقال: وما تريد بمصافحتهم وقيامهم، فأما إذا قلت هذا، فانظر، فإذا الناس قد ازدحموا عليه في المخزن في الحال، حتى لم يسعهم، وضاق بهم المكان، فلم يتمكن من الوزن والبيع، وبقي صاحب المخزن يدفعهم وتأذَّى بهم، وقال: يا حبيب، إن كان إلا هكذا فاخرج من المخزن فقد ضيقتوا علينا، فقال: هذا كله منك، لتعرف أن المنع منا لا منهم . وبلغ السيد محمد بن علوي ما شكونا للسيد عمر، فأرسل إلينا رسولاً، وقال: قل له يقول لك فلان: عليك بالخمول جداً، فإنا قاسينا من الشهرة مشقة شديدة، وكان هذا حال السيد محمد المذكور من هذا المقام أي الخمول، فقال له الرسول: إنه يُقلّد بابه، ويصل الناس إليه ويرجعون ولا يفتح لهم، فقال: ولو كان، عادك قل له: يقول لك: الحَذَر .
وقال رضي اللَّه عنه: لو ترك أحد الدنيا واشتغل بما لا بد منه، أتاه منها ما يحتاج إليه، وهذا مجرب .
وقال رضي اللَّه عنه في قوله تعالى :{ أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنيَا بِالآخِرَةِ }( ): هذا يتحقق في حق الكافر، وأما المؤمن فلا يخلو عن شيء منه، إما نفاق أو شيء من المعاصي الظاهرة، أو الباطنة كرياء وعجب وغير ذلك .
(1/186)

وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن يسير( ) مع اليسر والإحسان( ) في كل الأمور، من أمور الدين والدنيا، وإلا فما معنى يتنفل ويترك الفريضة، حتى لا يحصل له ثواب بكل فرض ولا نفل، فإن من ضيع الفرض واشتغل بالنافلة، لا يقبلها اللَّه منه، وما ينفع الكلام فيهم، والشيطان قائم لهم في المرصاد، فمن حيث شق عليه الدخول عليهم من جانب دخل من جانب أسهل منه، حتى إن له كما ذكر الإمام الغزالي سبعة مداخل التي يدخل منها على الإنسان، ذكر منها العجلة في الشيء، حتى لا يحسنه، وليس للشيطان مراد إلا أن يضل الإنسان بأي وجه كان، إذا لم يتبعه من هذا الجانب دخل من الآخر، بخلاف النفس، فإنها تطلب منه مطلباً واحداً لا تتعداه وتصمم عليه .
(1/187)

وسئل منه رضي اللَّه عنه الدعاء بالرحمة، وألح عليه في ذلك، فقال: ادعوا ربكم فإنه سبحانه يحب كثرة القرقعة( ) على بابه، ولعل المانع من ذلك ذنوب الناس، ولكن يرجى منه سبحانه أن يرحم المذنبين لأجل البهائم والصغار، فإن كان أولئك ليس فيهم خير، فهؤلاء ليس فيهم خير( )، وأيضاً ليس كل المكلفين أهل معاصي، بل فيهم أهل الخير، وقد بلغنا إن البهائم كل يوم تشكو إلى ربها من بني آدم، وتقول: إنما مُنِعْنَا الرحمة بذنوبهم . فإذا أردتم الرحمة فأطيعوا ربكم، فإن الرب ما يرحم إلا أهل الطاعة، والطاعة ما تكون إلا فيما يخالف هوى النفس، وما ينفع القلب والدين من الأعمال إلا ما لم يكن للنفس فيه هوى، وخزائنه سبحانه كلها مملوءة، ولا بد من مطر في الدنيا كل ليلة من ليالي السنة، إلا إن كانوا مطيعين، جعل اللَّه الغيث حيث ينفعهم، وإن كانوا عاصين قال تعالى: أخروه في الخزائن، وما بالناس إلا المداينات( )، ومظالمهم بعضهم لبعض، وقد ورد: (( إن البهائم إذا قحطت تدعو على بني آدم، وتقول: إن اللَّه واخذنا بذنوبهم ))، إذ ليس لهن ذنوب ولم يمنعهم سبحانه إلا ليؤدبهم، فإن العبيد إذا لم يكونوا مستحقين فالسيد الكريم يؤدبهم، وذلك لأنفسهم لا لنفسه، ليؤدبوا بذلك غيرهم، فإن الآدمي محتاج إلى الرزق، وإلا لجعلهم كالملائكة غير محتاجين للأكل، وعدم الاحتياج إلى الشيء إما لكون بُنيته لا تقبله، كالملائكة لا غذاء لهم في الطعام، أو لكون اللَّه تعالى لم يجعل له فيه غذاء، وجعله في غيره كالبُرِّ قُوتُ الآدمي، والقَضْب قوت الدواب، وإنما قوت الملائكة الذي يتلذذون به القُرْب، وهذا شأن الأرواح، كما إن الأكل شأن الأجسام، ولذة الأرواح في غير ما تلتذ به الأشباح، ولا يلتذ الروح بما يلتذ به الجسم، إلا من حيث المجاورة، وكل ما يذكر من معاني القرب واللقاء، وكونه لا يشتاق إلى جنة، ولا يخاف من نار، ونحو ذلك مما قد
(1/188)

يجري في كلام القوم، فكل ذلك من صفات الروح لأنه لا يأكل، وإلا لاحتاج إلى أكل في القبور، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: من فيه خيرية وكان ذا دين، لم يزل يستفيد من خَيِّر وشرِّير، لأنه يرى فائدته فيأخذها، ولا ينظر إلى من سمعه منه .
وقال رضي اللَّه عنه: نحن ما نمشي إلا على الطريق الأكبر المستقيم، التي لا يكون فيها اعتراض لأحد، وهو المهيع الواسع . قال اللَّه تعالى :{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}( )، والسبل هي الأمور الخفية، يكاد من يسلكها أن يقع في البدع، ومن وقع فيها فاعترض عليه أحد، فلا لوم عليه( )، إلا إن كان له حظ، فمن اعترض على ذي صلاح، واعتراضه بشرع ممتزج بحظ، كأن أراد تنقيصه أو حط مرتبته بين الناس، فهذا يهلك، إلا إن كان اعتراضه لمجرد الشرع، ويكون ظاهره وباطنه واحداً سَلِمَ من المعترض عليه، وإلا هلك، فقد ذُكِر إن ابن المقري( )، ما سلم من إبراهيم( ) الجبرتي إلا لكونه ليس له حظ في اعتراضه بل لمجرد الشريعة( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: علوم المكاشفات غير مخالفة لعلوم المعاملة، لأن معانيها صحيحة، إلا إنها تختلف باختلاف المجاهدات، ومن أمكنه مطالعة علم يَنْتَفِع به في دينه ومعاشه، وهي كتب الإمام الغزالي، خير من التعرض للشتم، وقد طَوَى علومَ المكاشفة، وقال: إنها لا تسطر في الكتب، وقد حوت كتبه ما في كتب غيره .
وسألته رضي اللَّه عنه هل الاعتقاد الحق منحصر في عقيدة الأشعري، وما خرج عنها فهو باطل، فقال نفع اللَّه به: عقيدته هي الحق، وما خرج عنها فيه حق وباطل، وإنما فاق غيره لكونه قال آمنت باللَّه، وبما جاء عن اللَّه، على مراد اللَّه، وفوض الأمر إلى اللَّه .
(1/189)

وذكر رضي اللَّه عنه الأولياء يوماً، وهو يوم الأحد 15 صفر سنة 1125هـ وذلك في طريقه سائراً إلى السبير، فقال: الأولياء يقلون ويكثرون في كل زمان ومكان، ولا يبلغون عدد الأنبياء، إلا إن كان الولاية العامة، من كل مؤمن، فيبلغون أكثر، وأما الولاية الخاصة، من كونه مؤدياً للواجبات، تاركاً للمنهيات أو قليلها( ) فلا، وقد كثروا في وقت الشيخ عبدالقادر، وما بلغ قدرهم إلا إثني عشر ألفاً( )، وأهل الزمان إنما يطلبون الكرامات لأهواء نفوسهم، فيريدون أن يتمكنوا من قلب الأعيان ذهباً وفضة، ليستكثروا من الدنيا، ومن هو على هذا الوصف، فسَتْر الكرامات عنه رحمة به، ومن مُكِّنَ منها وفعل نحو هذا سُلِبَ، فلا بد من فَعَل ما لا ينبغي له، أن يُقَيَّضَ له أحد من الصالحين فيسلبه، وكل من سُلِب منه حاله منهم، إنما هو لسوء أدبه فيه، والكرامة ما كانت ثابتة، وإنما الكرامة الاستقامة، قلت له: إنما يطلب الإنسان قوة اليقين، والخروج من غوائل النفس، فقال نفع اللَّه به: اليقين إنما هو من السماء، فاطلبه من اللَّه تعالى، ولا تُعْرَف غوائل النفس إلا عند التجربة .
وسألته رضي اللَّه عنه عن رجل صحب بعض المشايخ، قبل تحصل له الهمة في طريق القوم، ثم حصلت له بعد فراق الشيخ، هل يحتاج حينئذ إلى شيخ، أو تكفيه صحبة الأول، فقال نفع اللَّه به: تكفيه إذا قد رباه بظاهر العلم، ولكن إذا أمكنه صحبة من ينتفع به أيضاً وتحصل له منه فائدة فحسن، فقد كان فلان وذكره، وهو أكبر تلامذة أبي مدين، قال له: إمض إلى الشيخ عبدالقادر واصحبه، فلما صحبه قال له الشيخ عبدالقادر يوماً وزوى له الأرض: ماذا ترى من هنا؟، قال: أرى الكعبة، قال له: ومن هنا، قال أرى شيخي أبا مدين، فقال: تريد أن تصل إليه، قال: نعم، قال: تريد ذلك في لحظة أو كما جئت، قال: كما جئتُ فودعه فسار .
(1/190)

وصحب ابن عربي جملة مشايخ، والشعراوي نحو مائتي شيخ، وإذا صحبت إنساناً وثبتت لك معه الصحبة، فلا بأس أن تتردد إلى من ترجو منه البركة، ولكن بعد أن تتمسك.
ما قال في انتفاع السادة بعضهم من بعض
وقال رضي اللَّه عنه لبعض السادة: وإذا اندفنتَ، فلا يظهرك إلا منكم، أي السادة بعضهم من بعض، وقد ذُكِر إن عبداللَّه بن أحمد بلفقيه، لما صحب الشيخ أحمد القشاشي( )، وعلم به السيد محمد بن علوي، حنق عليه كثيراً، كيف يروح إليه يصحبه، وهو موجود فلا يصحبه أولاً مع اعترافه له بالفضل، فقلت لسيدنا: لا يكون انتفاع السادة إلا من بعضهم بعض، فقال: نعم، لأنهم مرتبطون بسبب النسب، من حيث إن هذا أبو هذا، أو أخوه، أو عمه أو قرابته، ونحو ذلك، وعقيدة البعض منهم متعلقة بالبعض، وقد يأخذ الرجل منهم عن أبيه، أو قريبه، ثم يروح يأخذ من آخر، إذ كان في الأصل، ما أخذ الناس إلا عن الناس، قلت: وهل يكون ذلك منهم لغيرهم أيضاً، قال: نعم، يكون ذلك منهم لغيرهم، فقد قال الشيخ عبداللَّه العيدروس رضي اللَّه عنه: أُذِنَ لي في تحكيم ربع أهل الدنيا، وقال جده الشيخ عبدالرحمن السقاف( ) رضي اللَّه عنه: من لا له شيخ فأنا شيخه . قلت: ولا يمنعهم تغير الزمان من ذلك، قال: لا، ويكون ذلك على قدر الحال، والنخلة في ابتداء أمرها لا تكون كما في آخره، وما على الإنسان إلا الأهلية، فإذا تأهل حصل له مقصوده في أي زمان كان، قلت: وما الأهلية، وبأي شيء تكون، فقال: بفضل اللَّه، قلت: لا حيلة لنا في ذلك، قال: الحيلة منه وإليه ولا بلوغ إلى شيء من المقاصد إلا بتوفيقه، وإصلاح النفوس في هذا الزمان المعكوس يعسر. قلت: كيف الحيلة في تذليلها، قال: لا يمكن إلا بإعانة وتوفيقٍ، واذكر قوله تعالى :{ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}( ) الآية، كلما استعصت عليك، وقوله تعالى :{لاَ عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ
(1/191)

اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ}( )، ولا أحسن للإنسان في هذا الزمان عند ورود عُجُب أو كبر أو نحو ذلك من الاستغفار كلما ورد عليه، ويكون ذلك عند وروده في الحال .
ثم قال رضي اللَّه عنه: ما مقصد الصالحين بعد رياضاتهم ومجاهداتهم إلا مُلْكُ نفوسهم وقتلُها، فإذا حصل لهم ذلك منها، وقعوا على الإكسير الأعظم، لأنها في هذا الباب أعظم الأجزاء، ولا يتم الأمر إلا بقتلها، وهي فيه كالزئبق في الكيمياء، ولا يحصل المقصود منه إلا بقتله، ويعسر قتل كل منهما، ولا يحصل المقصود من كل واحد منهما في بابه إلا بقتله، فقلت له: إنما نتشفع إلى اللَّه بعد رسوله في حصول أمر مّا في وقتنا بكم، كما إن من أراد من اللَّه شيئاً في زمنه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جاء إليه يدعو اللَّه له به، فقال: تلك خصوصيات له عليه السلام، قلت وتلك الخصوصيات أيضاً يكون منها في ورثته، فقال: عهدة ذلك عليك، ونتوقف فيه حتى نرى عليه دليلاً . وتكلم إذ ذاك كثيراً، فقال بعض الحاضرين من الغرباء المقيمين: إني لا أرى أثر النبت ظاهراً علي، فقال: إن هذا أحسن خوفاً من الإعجاب، وقد نَبَتَّ وبَقِلْتَ وغصت أيضاً زيادة، ولكن قاعدة: إنه لا يظهر على الإنسان ما دام في حضرة من تعلم منه، ولكن إذا سار إلى بلده ونشر ما علم، حصل له الفتوح في أرضه، وإذا أردت أن تسير نجعل لك إن شاء اللَّه وصية، تكون لك قائدة كالحبل في عنق الدابة كلما بَعُدت عن مربطها جرها حتى تعود إليه. انتهى ما حصل في هذا المجلس المبارك، وذلك عشية الأربعاء 24 صفر سنة 1124 وكان مجلس فسحة وتبسط( ).
(1/192)

وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان قَلَّ ما تتم الشروط فيهم، إلا إن حصلت كلها فُقِدَ واحد، فتعطل جميعها لذلك، فلم يحصل بسبب ذلك المطلوبُ، كما في علم الكيميا إذا أتى بشروطها، وبقي شرط تعطل عليه عمله، والكيميا أحد خصلتين: إما أن يؤتيه اللَّه زهداً فيستوي عنده الذهب والتراب، وإما أن يؤتيه اللَّه الكفاف ويشغله بطاعته .
ونحن نقول: الكيميا قل هو اللَّه( )، والعمدة على صفاء القلب، واجتماع الأرواح، وإلا فكثافات الخلق لا حاجة إليها، خذ ما صفا لك ودع أمر الخلق يكون وراء .
وقال رضي اللَّه عنه: فلان إذا أراد أن يسير إلى بلاده، نأذن له أن يُحَكِّم لنا لا لنفسه، ويُلبس الخرقة، ونحن ما أذنَّا لأحد أن يلبس مطلقاً، بل يُلبسوا من أرادوا من أهلهم وأولادهم أو كما قال .
ما قال في معنى حديث: إن الله جميل
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( إن اللَّه جميل يحب الجمال ))، معناه: أي ينبغي للعبد أن يتجمل، لكن بحيث لا يحب التزين ويَتَشهَّى كل ما يرى، ولا يحب أن يُرى متجملاً ولا يفاخر في ذلك ولا( ) من هو كذلك، بل المؤمن لا يحب إلا ما يحبه اللَّه، فإذا كان كذلك فليفعل ما يليق ويَحْسُن ويأخذ الأمر بأوله وآخره، ولا يتبع هواه في أمثال هذه الأشياء ويستدل بهذا الحديث، لأن فيه إتلاف النفس، وإتلافها عسر .
وقال رضي اللَّه عنه: المزاحمة في الدين مطلوبة، زاحموهم بالرُّكَب، وبعض الناس غلبت عليه العوائد، أي المزاحمة في أمور الدنيا، من جاه ومال ونحوهما وحتى يثقل عليه أن يقال له حال الزحام، تأخر قليلاً، ويضيق حاله من ذلك .
وأمرني رضي اللَّه عنه يوما أن أقرأ عليه مقصورة( ) ابن دريد، وبعد تمامها قال: إنها تصلح للمهمومين، أو قال المغمومين من الحكماء .
(1/193)

وقال رضي اللَّه عنه: إذا حصل عليك أمر تكرهه، لك فيه خِيرة فلا تحزن، ولو كان سارق سرق عليك شيئاً. وأنت من أهل الحق في أمان، ولا تأمن أهل الباطل .
وقال رضي اللَّه عنه: كلام الأكابر يحتاج إلى تأمل، ولا يزال يردده ويتأمله، حتى يظهر له .
وذكر رضي اللَّه عنه ابن الفارض يوماً عندما قرئ عليه شئ من قصائده، فقال: هو كلام قلب حي في جسم ميت .
وقال نفع اللَّه به: لا يتم النشيد إلا بثلاثة أمور: حسن الصوت، والنظم، والإعراب، قال: ورابع ولعله طيب الوقت .
وأنشد بين يديه رضي اللَّه عنه بشيء من نظم ابن الفارض فيه غزل فقال: كل هذا مليح، ويُنَزَّل على الروح وعلى الجنة، لا على الحقيقة الإلهية، خالق الكل .
ومرة قال: وإذا تكلم المخلوق، بوصف المخلوق فاللائق به أن يكون في المخلوق .
ثم ذكر نفع اللَّه به ابن عربي فقال: فَنُّهما واحد، إلا إن ابن عربي الغالب عليه الصحو، والغالب على ابن الفارض الاستغراق . وذُكِر لابن عربي( ) كلام ابن الفارض، فقال: كلامنا واحد، وإنما كلامه ميدان لكلامي .
وذكر رضي اللَّه عنه ابن الفارض فقال: إنما عمره 55 سنة، لأن أهل الأحوال الغالب إنهم ما تطول أعمارهم، بل تأخذهم الأحوال، كالشيخ أبي بكر السكران، وابنه الشيخ عبداللَّه عمره نحو 55 سنة وغيرهما. والأحوال المقلقة: شوق، أو خوف، ونحو ذلك، هذه هي الأحوال، ومن لا معرفة له يحسب أن الأحوال غير هذا .
وأمرني سيدنا أن أنشد وكان ذلك ضحى يوم الجمعة ثاني ربيع الأول سنة 1124، فكان مما أنشدت به قصيدته: محب ليس يدري من يحب الخ( ).
... فقال رضي اللَّه عنه: هذه الأبيات التي أولها، إذا هبت، وإن سجعت، وإن مرت، وإن عرضت، هي معنى ما ذكرناه في التائية .
يذكرها العهدَ القديمَ سماعها لترجيع تالٍ للمثاني الكريمة( )
أي الروح إلى آخر الأبيات .
(1/194)

ثم قال نفع اللَّه به: إن الإنسان مازال محجوباً بكثافات نفسه، وعوارض جسمه، فحُجُبه كثيرة، أو قال كثيفة، ولا يمكنه أن يلتذ بما يسمعه من الأصوات الموزونة، والنغمات الطيبة، ومعرفتها من علم الموسيقى، ومتى خرج من ذلك بالمجاهدة، والرياضة، لم يزل يترقى في معرفة الأشياء، حتى يطَّلع ويعرف ما لم يكن يعرفه أولاً، وحينئذ ربما سمع دوران الأفلاك، ويحصل له فيها من اللذة ما يستغرقه ويذهله عن شهوة الأكل، لأن لذلك لذة يجدها الروح، حُجِب الإنسان عنها بشهواته الحسية، ولأي شيء يسكر الإنسان عند سماع شيء من تلك الأصوات، لأن فيها بعض لذة له حينئذ، ولا يُشَبَّه بينها وبين لذة الفلَك، وإن حصل له شيء من الأمور الإلهية، فيحصل له فيها من اللذة والاستغراق شيء عظيم، لا يقاس بلذة الأفلاك، وفي هذه الأشياء ترقٍّ وتَنَزُّل، ولهذا لما أراد اللَّه تعالى أن يبلِّغ النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم غايةَ الكمال، لم يزل يرقيه ويُطْلِعه على الموجودات شيئاً فشيئاً حتى بلَّغه إلى درجة التكلم معه، وأهَّله لسماع كلامه مشافهة مع قرب، وتَنَزَّل لموسى عليه السلام حتى أسمعه كلامه من الشجرة، فانظر الفرق بين الأمرين الإلهيين ولا تنظر ما بين النبيين، وإن كان كل منهما في مرتبة عالية، وعلى هذا التنزل والترقي، ما وقع لإبراهيم الخليل عليه السلام من رؤية الكوكب، ثم القمر، ثم الشمس، ثم التوجه إلى الحضرة الإلهية، حضرة الذي { فَطَرَ السَمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ }( ) هذا ما حفظته مما تكلم به في المجلس المذكور.
وأمرني رضي اللَّه عنه أن أنشد، وذلك بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء في 28 ربيع أول المذكور، من السنة المذكورة، في مسجده الأوابين، فأنشدت بقصيدته التي أولها( ):
يا هل لخيرتنا من جملة الناس ... يا هل لأحبابنا يا هل لجيرتنا
(1/195)

فقال نفع اللَّه به: إن في خاطري أن أسأل عن هذه القصيدة، وكنا نظمناها منذ أيام، ولا بقي معنا خبر عنها، فاتفق أن أنشدتَ بها، وهذا منك ما هو مكاشفة إنما هو نور التوفيق . وكان السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي حاضراً، فقال له: أكتب ما ظهر لك وفهمته من معنى هذه القصيدة، وأرناه لنرى كنه فهمك، فتناول النسخة من يدي حينئذ، وكتب تحتها ما فهمه، وأسمعه سيدنا فاستحسنه .
ما تكلم به السيد أحمد بن زين على قصيدة سيدنا
(1/196)

وهذا صورة ما كتب، وهو قوله: قل (لأحبابنا) من نحبه ويحبنا، (والجيرة) المجاورون في الأمور، والأحوال، والديار، (والخيرة) من يختار وينتخب، (والوسائل) جمع وسيلة وهي الواسطة، و(المقاصد) جمع مقصد، ومقصود، و(المدخر)، لغير الملائم المعد للبؤس والبأس، يسمى ذخيرة جمع ذخائر، ثم طلب من اللَّه المنفرد بالعطا والكرم، أن لا يوحش منهم لكونهم أنسه ثم طلب المن بالإيناس ممن ذِكْرُه ينير السرائر التي هي محل السر، ويميط الهم والوسوسة عن الصدر الذي هو صدر البدن ورئيسه، بانشراحه بنور السريرة، فلا يبقى فيه غير الحق الجلي، فتنزعج النفس عن غفلتها، بتجافيها عن دار الغرور، ورجوعها إلى ربها بالرضى، فحينئذ يبطل كيد الشيطان لضعفه في نفسه، وإنما قَوَّاه في المؤمن إلا غفلة النفس، فلا يبقى لوسواسه شر، ولا استتباع للقلب، لانزعاجه ورجوعه إلى ربه، وإذا ذهبت الشياطين، جاءت الملائكة بخواطر الخير ولوامعه وطوالعه للمجانسة حينئذ لطهارة القلب للملائكة بالأصل، و(الميمون) هو المبارك، و(المَلَك) هو المرسل بالخير، الذي لا يُقبِل إلا بالخير من الخير، و(المرؤوس) التابع كالرأس المتبوع، و(صعود الروح) ترقي القلب بخلوصه عن القيود الجسمية، والصفات البشرية، والصور الهيكلية، في رَوْح التَّروحن، ونَفَس الانطلاق، فإذا صعد الروح وترقى إلى معهده الأصلي الأمري ورجعت النفس إلى حالها الأصلي، الذي قبل نزولها إلى تدبير الجسم والانقهار والانفعال لمطالبه الطالبة بحالها لتدبيره، وحفظها إياه وفعلها به، فإذا رجعت الروح إلى ربها، لَقِيَته وتبوأتْ حضرة عنديته، وسعدت بواردات حضرته القدسية، وذلك لا يستقيم إلا للمستقيم المتوجه إلى الحضرة الربانية بإقامة العبادة الخالصة، وتحقيق التقوى، واجتناب الشبهات، ومِلاكُ ذلك هَوانُ الحظوظ العاجلة والأمور الفانية على القلب وصلَّى اللَّه على من هدانا به، محمد وآله وعترته
(1/197)

وعلينا معهم وسلَّم . اهـ.
وقال رضي اللَّه عنه: كل ما يكون من كلام الغَزَل، فيحمل على مخاطبة النفس للروح، ولا يُحْمَل على الأمور الإلهية، لأن أمرها عسر غامض لا يكاد يفهمه إلا الأكابر الصديقون، ولا تطيقه القوى البشرية، فقد حكي: إن رجلاً جاء إلى نبي من الأنبياء، وسأله أن يدعو اللَّه له أن يرزقه ذرة من محبته، فدعا اللَّه له بذلك فأخر إجابته إلى وقت آخر، وأَعْلَم النبيَّ بالوقت، فلما جاء وقت الإجابة، حصل على الرجل غَيبَة وأُخِذَ عن حسه، ولم يبق يهتدي لشيء، فرجع يستغيث بالنبي، فسأل النبيُّ ربَّه عن ذلك، فأوحى اللَّه إليه، إن مائة ألف رجل سألوني ما سألتَ له، وأخرت إجابتهم إلى هذا الوقت، فلما جاء قسمت بين الجميع ذرة من محبتي، فهذا سهمه . ومعاني المحبة تَلْطُف وتجل جداً عن إمكان التحدث بها، لأن العبارة لا تأتي على معانيها، ولا يمكن التعبير بالمعاني بحال لأنها لا تدركها العبارة، ولهذا ترى أهل المحبة لما أدركوا من معانيها ما يجل وصفه، ولا يمكن كشفه، واحتاجوا بسبب ذلك إلى التنفس والتروح، إنما يعبرون عنها بقوالبها التي هي صورها، والمعاني أرواح قائمة بها، فلما عجزوا عن التعبير بالمعنى، عبروا بالقوالب والصور، وذلك كتغزلهم بليلى وسعدى، ولَبنى، وهند، ودعد، وغير ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا شكا المحب الجورَ من محبوبه، فالجور إنما هو منه، لا من المحبوب، لأنه يطلب منه هوى نفسه، وهو ما يعطيه كل ما يهواه، احفظوا ذلك .
وتكلم رضي اللَّه عنه: ليلة في ضُعْف الهمم عن فعل الخير، فقال: من كان له هوى في الشيء، لو نهيتَه عنه ما انتهى، وإذا لم يكن هوى فكأنك تجره في شخر( )، ثم أنشد للمتنبي( ):
إذا صادفت هوى في الفؤاد ... إنما تنجع المقالة في القلب( )
(1/198)

وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان أفرط بهم حب الدنيا، وقد ذم اللَّه تعالى من سَوّى بين محبة اللَّه ومحبة غيره، وأثبت لهم محبة اللَّه بقوله :{ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ }( ) وخرج بهم حب الدنيا من البر إلى البحر، لأنهم الآن في بحر، والبحر قد أكل دوابه بعضها بعضاً، وليس شيء من الحيتان يقتات من البر .
وقال رضي اللَّه عنه: من رُبِّي على الإحسان خرج منه الإحسان، ومن رُبِّي على العدل خرج منه العدل، ومن رُبِّي على الجور جرى منه الجور.
وقال رضي اللَّه عنه: القربات لا تغني عن الشهوات، فإذا اشتغل قلب الإنسان مثلاً من الجوع، فالطاعة فاسدة، إنما تُسَلِّي عليه، والسماء غير الأرض، إشارة إلى إن المعارف من الأمور العلوية، والشهوات حسية، وهي تراب، غير إن الأرضين سبع، فتكون مثلاً العليا كالمباحات .
وقال رضي اللَّه عنه: إذا أقيم الولي في مقام الرحمة العامة، فيكون إذا علم برحمة قوم فرح لهم فيرحمون برحمته لهم، وإذا عَلِمَ بالتشديد على آخرين، رَق عليهم وساءه ذلك، فيرحمون على حسب ما يَطلبه، وحينئذ تبقى شائبة الطبع فيه ضعيفة، والرب سبحانه عليه قول (كن)، والملائكة عليهم المباشرة، ولكنهم لا يتصرفون في شيء إلا بأمره، ومع ضعف داعية طبعه لا تذهب، ولا يمكن ذهابه بالكلية، وإنما يكون ضعيفاً، وأفهم كلام الإمام الغزالي: أنه لو فقد، وجب تحصيله، وكُلٌّ فيه هوى، وليس الشأن أن يذهب الهوى، إذ لا يتصور ذلك، بل الشأن أن يعمل على خلاف ما يقتضيه مع وجوده، وهذا يضعفه، وكلما ازداد من العمل على ذلك ازداد ضعفاً، حتى ربما يتوهم عدمه، وليس بمعدوم، بل ضعيف جداً، والعمل على موافقته يقويه، وكلما ازداد من ذلك ازداد قوة ورسوخاً، وكلما كملت خصوصية الشخص، قلَّت دواعي نفسه، وكلما قلت الخصوصية كثرت دواعي النفس .
(1/199)

ومن خط ابنه علي زين العابدين، قال: تكلم الوالد يوماً مع الحاضرين فقال: إن العقول قلت، والنفوس كبرت، والحق خفي، والباطل ظهر، اللَّهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال، ومن فضول الكلام وسوء الانتقام، ونعوذ بك من زوال النعم وحلول النقم وضعف الهمم، اهـ.
ما قاله في النفس
وسألته رضي اللَّه عنه يوماً وكان في بستان الليمة بالسبير: ما الشاهد الذي يعلم به الإنسان صدق نفسه فيما تدعي من فعل أمور طاعة، أنها أرادت بذلك وجه اللَّه والتقرب إليه به . فقال رضي اللَّه عنه: ليس لها صدق أبداً، بل هي كالمرأة السوء، والعبد السوء، والطفل، لا يُؤمَنُون، وإنما يستجلبها ويتهمها دائماً، أما سمعت قصة الذي دعته نفسه إلى الجهاد، فأبى أن يسير إليه. فلم يزل يتهمها حتى ظهر له أنها أرادت أن يُقْتَل، ويُعرَف أنه قُتِل في الجهاد، وطلبت حصول الريا بعد الموت، وقال صاحب القصة: إنها قالت له نفسه، إنك كل يوم تقتلني بمخالفة هواي مرات متعددة، وفي الجهاد تحصل لي قتلة واحدة أتخلص منك بها، ويحصل لي الاشتهار بالشهادة، والنفس عدو محبوب، وسارق في الدار، فإذا كان سارقك في دارك ومن أهلك، فأمره مُشْكل، ولا يقدر عليه إلا بأمر من اللَّه .
وقال نفع اللَّه به مرة: إنما قيل في النفس إنها أعدى الأعداء لكونها تنكر الشيء من غيرها وتكرهه وفيها مثله، فلو رأيت إنساناً في أمر كرهت منه أشياء، فلو قمت أنت في ذلك الأمر ظهرت منك تلك الأشياء التي كرهتها من غيرك، فيكرهها منك آخر، فالطباع سواء، والنفوس على طبع واحد في ميلها عن الصواب، ولكن يظهر الشيء ويخفى .
ومرة قال نفع اللَّه به:نفسك عدو لك من أهلك، فإذا كان العدو من أهل بيتك فأمره مشكل.
(1/200)

وقال رضي اللَّه عنه: قد يكون العبد العاقل، والخادم والولد، إذا أمرته بأمر وعلم أن الصواب خلافه يجيبُك على قدر مرادك الذي أردته، ويخبر عنك خلافه، ثم بعد إذا ظهر لك وتبين أن الصواب هو ما عمله، خلاف ما أردته منه، فتحمده حينئذ، وإذا وجدت من العبيد والخدام مَن هذه صفته، فأمسك عليه .
وقال رضي اللَّه عنه: يداري الإنسان نفسه، فإذا أحس منها بعض رغبة في خير، وإن قل( )، ويستجلب منها الزيادة، ومن تدعوه نفسه إلى معصية وهو يمنعها، فهو مجاهد، وأما الصالح فلا تدعوه نفسه إلى معصية، ولا تخطر بباله أبداً .
وقال رضي اللَّه عنه: القلوب الدنسة المشغولة بالنظر إلى الخلق، والتزين لهم، وبمرائاتهم، ومحبة المنزلة عندهم، متى تطهر؟، لو جئت بوعاء وسخ لرجل تريد منه سمناً أو عسلاً أو نحو ذلك، قال لك: رح اغسله أولاً، هذا في أمور الدنيا، فكيف توضع الأسرار في القلوب الوسخة، أو كما قال .
وقال رضي اللَّه عنه: تعلق القلوب بمهماتها إذا صلحت، رجعت دينية .
وقال رضي اللَّه عنه: الأمور الإلهية كلها ترفعك، وعليك بقراءة القرآن، وإن عجزت عنه لا تعجز عن الذكر، فهو يوصلك إلى حيث أردت من أمور الدين، والصعود إلى العالم العُلوي عَسِر، كما يطلع الإنسان( ) البئر، إلا أنه فرق بين من يطلعه بحبل يُشلونه به( )، وبين من يطلعها بلا حبل( )، وهذا هو الفرق بين السالك والمجذوب .
وقال رضي اللَّه عنه: إنما لم تظهر كرامات الأولياء في هذا الزمان، لأنهم ما هم شيء، فلا يستاهلون ظهورها، ولهذا أنكروها، كيف وقد قال رجل في حضرة السقاف، وقد قريء عنده "روض الرياحين"، واتريماه ما فيها من هؤلاء واحد، وأهل الروض قد خالفوا نفوسهم من قبل، حتى ارتاضت، فلما كان بَعْدُ لم يحتاجوا إلى رياضتها، لأن رياضتها ومخالفتها عَسِرة جداً، لو احتاجوا إليها حينئذ لقطعتهم عن أمرهم .
(1/201)

وقال رضي اللَّه عنه: وظيفتنا الذكر، ونحن به مشغولون عن غيره، أو قال مستغرقين به عن غيره، وإنما نقرأ مع الجماعة لنيل فضيلة القرآن، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي ينبغي، فإن من تجرد لشيء اشتغل به عن غيره، وهو الذي دعا أهل "الروض"( ) إلى التجرد عن أهلهم وأولادهم، لما تجردوا للَّه اشتغلوا به عن من سواه، وينبغي لكل أحد أن يأخذ وظيفة في الخير يستغرق بها وقته، ثم يأخذ من كل وظيفةٍ غيرِها طرفاً أو كما قال .
مفاضلة الأولياء
وسألت سيدنا رضي اللَّه عنه عن أولياء كل زمان، هل يفضل أحد منهم أحداً بسبب تقدم زمانه،قال: نعم يكون الزمن المتقدم متوفرة فيه الخيرات ودواعيها، فينال فيها أكثر من المتأخر.
وقلت له نفع اللَّه به: هل الأقطاب كذلك، يفضل المتقدم المتأخر، فقال: المرتبة معروفة، مرتبة القطبية، فكل من هو فيها فهو قطب، وإنما يتفاضلون بسبب فضيلة أخرى، تكون في الفاضل، ولا تكون في المفضول، فَضَلَه بسببها، كمن يكون عالماً بالظاهر والباطن، وانتفع الناس به، أو يتعدى منه نفع إلى الناس، ولم يكن ذلك في الآخَر، فيفضل بهذه المزايا الأُخَرِ، لأن النفع المتعدي أفضل من اللازم( ) هذا في القطب الواحد، الذي هو الغوث، ولا يكون إلا واحداً، وأما في غيره فكل من فاق غيره في فنه، فهو قطب ذلك الفن، كما يقال: الإمامُ الغزالي قطب العلوم، والشيخ سهل بن عبداللَّه قطب الأحوال، ونحو ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: كل من الصالحين إنما يستعظم ما وهبه اللَّه، ولا يرى ما وُهِبَ لغيره، وإن كان الكل حقاً، ولهذا قال بعض الصالحين في ابن الفارض وأمثاله: إنهم ملأوا الدنيا زعاريط بلا شيء، لأن لكل من الروح والنفس تَيَهان، إلا أن تيهان الروح بحق، وتيهان النفس بباطل، كما فعل فرعون .
(1/202)

أقول: كل تائية ابن الفارض الكبرى مشحونة بأحوال الحقيقة التي يصعب إدراك معناها، وكان سيدنا نفع اللَّه به، لا يقرؤها في الملاء مع كثرة ما يقرأ عليه الديوان كله من أوله إلى آخره، كلما فرغ منه أمر بإعادته، وذلك عشية كل يوم ثلاثاء، ويأمر القارئ بتجاوز التائية الكبرى .
ما قال فيمن ينتسب لابن علوان والرفاعي
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً يدّعون أنهم فقراء للشيخ أحمد بن علوان، وآخرين أنهم فقراء للشيخ أحمد الرفاعي، يقال لهم الرفاعية، يتعاطَون أموراً( )، فقال: إنهم دَفّاعية، لا رفاعية، والشيخ أحمد الرفاعي مناقبه عندنا، ليس فيها هذه الأفعال، وإنما هي بدعة، وإذا رأيت بدعة فتَقَرَّب إلى اللَّه بمخالفتها، وكان( ) غاية ونهاية في التواضع، وما سمعنا عن أحد في التواضع ما سمعنا عنه، والتواضع هو التقلل من كل شئ من ملبس ومسكن ومركب وكلام ونوم، وجميع ما يحتاج إليه يقتصر منه على الحاجة إلى القلة .
ما قال في التواضع
وقال رضي اللَّه عنه: الانطراح مع التواضع يحمد، إذا خلى من الذلة والطمع، وأما معهما فقد يفعل أشد من ذلك ولا يُحمد للمؤمن، ومن تكبر ترى الناس يشمتون به، ويبغضونه ويفرحون بمصيبته، ويقولون يستاهل لذلك، وما وقع عليه إلا بشؤم كبره، والمتواضع يرحمونه ويرثون له، وإذا نزل به مكروه توجعوا عليه ودعوا له، فكم فرق بينهما.
قصة صاحب الشجرة
(1/203)

وقال رضي اللَّه عنه: من تعلقت همته باللَّه، حصل له مطلوبه، ووقع في بحر ما له طرف، وإن علت همته، وضعف بدنه حصل له بها ما لا يقدر عليه بدنه، وتعجز عنه قوته، وذكر عند ذلك قصة صاحب الشجرة الذي أرسله ملك العرب إلى ملك الصين، ليسأله ما سبب طول بقائكم في الدنيا وتمتعكم بالملك وأنتم كفار، ونحن مسلمون لا يحصل لنا ذلك، فجاء به إلى شجرة قوية راسخة، وقال: لا أجيبك حتى تسقط هذه الشجرة، فاستبطأ الجواب، وأراد الرجوع بسرعة، وتعلقت همته بسقوط الشجرة، لما توقف جوابه على سقوطها، فبقي أياماً يتردد إليها ويتمنى سقوطها، حتى إنها سقطت، فقال له: هي جوابكم، فسار إلى مرسله فأخبره بأمر الشجرة فأطرق مفكراً، ثم قال: قاتله اللَّه، ما أحذقه، فقال له رسوله: ما معنى ذلك، قال: معناه يقول إنك رجل واحد، تعلقت همتك بسقوط هذه الشجرة القوية، حتى سقطت، وأنتم تتعلق بكم همم الناس كثير( )، تظلمونهم، كيف يطول بكم البقاء والتمتع بالملك، هذا لا يكون، أو كما قال.
ما قال في العقيدة
وقال رضي اللَّه عنه: إذا كنت ماسك الحبل بيدك فَسَيَّبْت فاللوم عليك لا على الحبل، فمن سَيَّب سُيِّب، فإن الأولياء والصالحين يعتنون بك، بقدر اعتنائك بهم، حتى إن رجلاً قال لأبي عيسى المرسي( ): خاطرك معي، فقال له: خاطرك أنت معي، لأن أهل مراتب الولاية لهم نواب، يقومون في مراتبهم عنهم من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون، ولا ينتفع إلا صاحب القلب القوي( ) المنور، وذو القلب الضعيف( ) والقلب المظلم( )، لا ينتفع .
ثم ذكر نفع اللَّه به قصصاً من كرامات الأولياء، ثم قال: من قال لك إن عاد في هذا الزمان شئ من الكرامات، إلا إن كان من نور النبوة، فقد وَهِم أو كما قال .
(1/204)

وذكر لي رجل من أهل الشحر عن جماعة من أهل الحَسَاء، جاءوا من البصرة، أنهم أصابهم في غبة فارس طوفان عظيم، كاد البحر أن يبتلعهم بمراكبهم، وهي ثلاثة مراكب، وأنهم استغاثوا بسيدنا عبداللَّه نفع اللَّه به، ففي الحال طَفَرت( ) سمكة من عند سكان( ) المركب الذين استغاثوا ومرت كأنها سهم في وسط المركب، بين الحبال من جَانب الدَّقل( )، حتى وقعت في البحر من عند صدر المركب، فعند ذلك في الحال انقطع عنهم الطوفان، وسلموا بفضل اللَّه، فأخبرت سيدنا بهذه القصة. فقال رضي اللَّه عنه: المراتب لها خدام، ولم يزد على هذه الكلمة.
وقال رضي اللَّه عنه: الأمور الخارقة للعادة، ما هي بعيدة في كرم اللَّه وقدرته لمن أكرمه، ولا هي بعيدة من أفعال الشياطين، والعمدة على الاستقامة، وإن ذُكِر عن أحد الطيرانُ في الهواء، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب في لحظة، ولا يفعلها من صح له قدم في الولاية إلا لضرورة، كتقوية مريد، كيف يفعلون ما فيه هوى النفوس، وهم يجتهدون في قطع هوى نفوسهم .
ما قال فيمن له في العمل وجهان
وقال رضي اللَّه عنه: إذا رأيت إنساناً يعمل عملاً له وجهان، وجه يدل على الخير( )، ووجه يدل على الشر( )، فسلم الأمر، وأحسن الظن، وإن كان إنما له وجه واحد يدل على الشر، فما لحسن الظن وجه إلا أن تظن أنه لا يصر عليه، بل يتوب عنه ويستغفر منه، وَأْمُرْ، وَأنْهَ على حسب ما بلغك، ولا تَتَقَصَّ عن بواطن أحوال الناس، وإذا تبين لك بطلانه فانْهَ، وتَرْكُه للحياء أو إنهم حبايبنا ما نقول فيهم إلا خيراً، ليس هذا بِدِين، وهو معنى لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، وخذ من الطاعات ما هو ظاهر من غير خلاف، وأنه طاعة، واجتنب من المناهي ما هو ظاهر، مع الاحتياط بما تقدر عليه في الأمرين، فبذلك تدرك درجة أصحاب اليمين، إن لم تقدر أن تكون من السابقين .
(1/205)

ثم أَكْثَرَ نفع اللَّه به من ذكر اختلاف الأزمان، واختلاف الآمرين والناهين فيها، فذكر: إن رجلاً دخل على سفيان الثوري، فرآه يبكي والدم يخرج من حلقه، فقال له في ذلك، فقال: انفتحت في الدنيا( ) قناة، فأردت أن أسدها، فانفتحت منه أبحر، هذا وهو في القرن الثاني، وهو( ) قريب العهد برسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم والصحابة .
ما ذكره عن السيد عبدالرحمن بن محمد الجفري صاحب (تريس)
وذكر رضي اللَّه عنه مَنْ أَمَرَ ونهى في القرون الماضية، حتى وصل إلى ذكر القرن العاشر، فذكر عن الشيخ عبدالرحمن بن محمد الجفري، صاحب تريس( )، فقال: إنه كان قد طلب العلم، وعمل وسَلَّك، ولقي المشايخ، وكان إذا أمر ونهى لا يبالي بمن يأمره أو ينهاه كائناً من كان، وإنه رأى رجلاً في المسجد يقرأ القرآن، وهو لا يحسن القراءة، فبعد الصلاة سأل عنه، فقال له رجل من أصحاب الدولة: إنه ألثغ وهذا مقدوره، فقال له: وأنت يوم تصلي ولا تطمئن، يا فاعل، يا تارك، وبقي يصيح عليه، حتى انهزموا من المسجد، وكان يكتب لبعض سلاطين الجهة: إلى فُلَيِّن مردم جهنم، وأما زماننا هذا فما بقي للدين فيه ذكر، ولا معول، ولا نسبة بينه وبين ما قبله من الزمان، أو كما قال مما ذكره في مجلس القراءة عشية يوم الاثنين حادي عشر شعبان سنة 1124 .
ما قال فيما هو في وقت السلف
وقال رضي اللَّه عنه: ما مضى عليه السلف، من قبل الشيخ عبداللَّه العيدروس، إلى وقته، ما يسعنا إلا تقليدهم والإتباع لما مضوا عليه، وما كان من زمنه إلى وقتنا هذا فلا نتبع إلا ما مَرُّوا عليه، ومن ابتدع شيئاً فعلى مبتدعه .
وقد استأذنه رضي اللَّه عنه المعلم باغريب( ) بأن يجعل في الغَبْرة جابية كبيرة، تجمع ماءها ليكون قلتين فأكثر فأبى عليه، وقال: شيء مضى عليه السلف الصالحون لا نغيره، فاتبعوهم فلستم بأعرف ولا أورع ولا أتقى منهم .
(1/206)

وسمعته نفع اللَّه به مرة يقول: قال لنا السيد أبو بكر بافقيه: إن هذه التكابير لا تنبغي، لأن فيها هتكاً للمروءة، فقلنا له: لا تخوضوا لنا في الأمور التي مرت على السلف والأكابر، والذي لا يحسن النظر في الجليات، لا ينبغي له أن يخوض في الخفيات، ثم ذكر قصة الذي قال للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: علمني من دقائق العلوم، الخ والسِّماية قد مرّت على أكابر أيضاً( )، يقولون: إن السِّماية تهتك المروءة، فلا فرق بينهما( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: وقد قالت بنت أخي السيد عمر بن أحمد المنفر: يا عم ترى شيابة يرقصون، وسمى [ أي سيدنا ] أحداً منهم، فقال لها: عمك ما عاد يقدر، وإلا كان قام معهم، ومثل هذا هو اللَّهو واللعب الذي كانوا يتنفسون به عند الملل والضجر .
وذكر رضي اللَّه عنه زيارة النبي هود على نبينا وعليه السلام، فقال: كل من روَّح( ) ما له زيارة، لأنه خالف ترتيب السادة وما درجوا عليه، فكأنه مراغم لهم، وما جَعَل الشيخ أبو بكر بن سالم الحضرة إلا ليجتمع الناس ساعة، ويذكرون اللَّه، ويدعونه، ويقرأون مولداً لحصول البركة بالاجتماع، ومن سَرَح بعدما حضر الحضرة( ) فله نصف زيارة، ومن نفر( ) فله زيارة تامة، فربما شيء من الأمور الإلهية، مرتب على ما رتبه السادة .
وذكر رضي اللَّه عنه شيئاً من فتوح العارفين، فقال: ومن دخل الأربعينية، قد يرى لدوران الأفلاك وحركاتها لذة عظيمة، فربما رأى شيئاً يفزعه، ومثل هذه الأشياء لا ينبغي تطلبها، لأن في طلب تحصيلها خطراً، بل الأحسن أن يتركها، وهي تأتي من حيث هي تكون، وقد أدركنا الناس متعلقين بهذه الأشياء، فيقولون: فلان دخل الأربعينية، وفلان خرج منها، وفلان حصل له كذا، وأما اليوم فصار الناس في عالَم آخر، إنما يقولون: فلان سافر إلى كذا، وفلان جاء من المكان الفلاني .
(1/207)

وذكر رضي اللَّه عنه ذات ليلة الناس وقلة حصول الغيث لهم، مع كثرة دعائهم بذلك، فقال: إنما منعوا الإجابة لكثرة ذنوبهم، والأمر لا يتم إلا بالأمور الخَلْقية( )، والأمور الحقية( ) جميعاً، وإذا حصلت التي من الخلق، حصلت التي من الحق، وأمور الخلق أجسام، وأمور الحق أرواح، فهل تستقيم أجساد بلا أرواح، ولما كان ذلك كذلك احتاج الخلق إلى الأكل والشرب، ولم تحتج إلى ذلك الملائكة، ثم قال نفع اللَّه به: ومن عظيم لطف اللَّه أن جعل الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، وجعل كاتب الحسنات وكيلاً على الذين يكتبون السيئات، وهذا من سر كون رحمته تعالى سبقت غضبه .
وذكر: إن سليمان عليه السلام أرسل بعض الشياطين إلى موضع، وأمر آخر بأن يتبعه ويُعْلمه بما يقول، فمضى معه ولم يسمعه يتكلم، إلى أن مر بسوق، وفيها كثرة من الناس، ملتهين ببيعهم وشرائهم، فوقف ورفع رأسه، وقال: سبحان اللَّه، ووضعه وقال: سبحان اللَّه، فأخبر سليمان بذلك فسأله عن ذلك، فقال تعجبت من هؤلاء الفوقيين، وسرعة ما يكتبون، ومن هؤلاء التحتيين، وسرعة ما يُملون، وقد مرت هذه الحكاية في أول المجموع، فانظر حال سليمان عليه السلام، وما أعطي من الوحي والنبوة، ما علم الحال من هذا، حتى سأله عنه، ليُعْلَم أن علم الغيب مختص باللَّه تعالى، ومن ادعى أنه يعلم الغيب، يكذبه اللَّه تعالى لأنه ادعى شيئاً لم يَدَّعِه الأنبياء، وكذلك موسى عليه السلام، عندما يكلمه اللَّه، إنما يمضي إلى طور سيناء فيغشّيه عند ذلك بالسكينة، فيعلم خطاب اللَّه، إلا أن كلام اللَّه له على قدره، وليس خطاب الكليم، كخطاب الحبيب عليه الصلاة والسلام، فإن اللَّه كلم موسى عليه السلام في الأرض من الشجرة، وكلم نبينا محمداً صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في السماء بين قاب قوسين أو أدنى، فانظر الفرق بينهما.
(1/208)

وقال رضي اللَّه عنه: صاحب العادة لابد فيه شيء من الحقيقة، إلا إنه ضعيف، والعادة فيه أقوى، وصاحب الحقيقة لا بد أن تكون فيه عادة، إلا إنها ضعيفة، والحقيقة فيه أقوى، وكلما قويت الحقيقة ضعفت العادة، حتى ربما يُتوهم فقدها، ولا يمكن أن تفقد بالكلية، وإنما تضعف، فكلما قويت إحداهما ضعفت الأخرى، والإضافة إلى أحدهما بحسب الأغلب والأقوى، لأن من أكثر من شيء عرف به، ومن عُرِف بشيء نسب إليه .
وحضر بين يديه رضي اللَّه عنه ذات ليلة رجل، فبكى وكأنه متشمم لشيء، فقال له: البكا إنما هو للنساء، والرجال إنما تبكي قلوبهم، والأحوال لا تحصل بالبكاء، إنما تحصل بالمجاهدة.
ثم قال نفع اللَّه به مخاطباً لجملة الحاضرين: لابد للأولياء من أحد خصلتين، فمنهم من يحفر على كنز، ومنهم من يتعلق روحه بالعرش، لابد من أحد هذين، ومن الأولياء من لا يحمل حالَه إلا أربعون رجلاً، ومنهم من يقسم حاله على ستين، ثم قال لذلك الرجل: ابق على حالك، وهو يأتيك نصيبك من الكتاب .
وقال رضي اللَّه عنه: الشيخ أبو يُعَزَّى المغربي، والشيخ أحمد البدوي في المقام الموسوي، عليهما هيبة وجلالة، حتى إن الشيخ أبا مدين لما أتى إلى أبي يعزى ليأخذ منه الطريق بمجرد رؤيته له غشي بصره، وهذا معنى كون الولي في مقام النبي، فيكون مشابهاً له في الدرجة الأولى، وإلا فلا يقام الأولياء في مقام الأنبياء، وأكملهم من يقام في المقام المحمدي، ويكون كرامة كل ولي مثل معجزة ذلك النبي، وأعظم معجزة لنبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم القرآن فمن كان في مقامه، فيكون قائماً على حكم الكتاب أو كما قال .
(1/209)

وقد ذكر الشيخ عبدالقادر( ) باعشن، لسيدنا نفع اللَّه به رؤيا رآها وهي: إنه رأى أنه زار بعض الفضلاء، فرآه متغشياً بغشاء، وإنه كلمه أولاً ثم رفع غشاه، فَغَشَاه عند ذلك نور عظيم، حتى لا يكاد يطيق فتح عينيه، فانتبه وفي قلبه حلاوة لقائه، فقال سيدنا في جوابه: والرجل هذا يكون في المقام الموسوي، لأن النور الظاهر كان يغلب على موسى عليه الصلاة والسلام، حتى إنه بعد رجوعه من المناجاة يتبرقع من شدة نوره، وقد أقيم في هذا المقام السيد الشريف، أحمد البدوي شيخ مصر( ).
وقال رضي اللَّه عنه: ما تُعرف الرجال إلا بالرجال، حتى قال باهارون( ): لو سمعت كرامات الأولياء ما صدقت بها، حتى رأيت كرامات خالي، دحيِّم باهارون( ) فعرفت كراماته فصدقت بها من سائر الأولياء وكان الشيخ أحمد باجحدب يقول: إن دحيم باهارون في مقام الجنيد .
وقال رضي اللَّه عنه: الناس( ) يجعلون الصالحين حجة لهم على أنفسهم، وأهل الزمان يجعلون الصالحين حجة لأنفسهم للذب عن دنياهم فيطلبوا منهم أن يذبوا لهم عنها.
وقال له رضي اللَّه عنه بعض السادة: إن كل ما نقل عنكم من مصنف أو كلام، نقل على وجهه، من غير اختلاف في ذلك، فقال: لأن صاحب الزمان ينطقه اللَّه بما يوافق أهل زمانه، ويباشرونه ويرونه، ويأخذون عنه مشافهة، لا كمن يُنْقَل عنه ويُرْوَى، وقد مضى أقوام من المشايخ أكبر وأقدم منا، ما انتفع بهم إلا القليل، ومن أقاربهم أيضاً فضلاً عن غيرهم، حتى إن الشيخ عبداللَّه العيدروس مع مناداته على نفسه، ما اشتهر( ) ممن أخذ عنه إلا السيد عمر صاحب الحمرا( ) وكذلك الشيخ أبو بكر بن سالم، مع أنه متأخر.
ما قال في كثرة من انتفع به
(1/210)

وسمعت سيدنا نفع اللَّه به غير مرة يقول: الذين انتفعوا بنا أكثر من الذين انتفعوا بالشيخ عبداللَّه العيدروس، فقيل: ولا أولادهم؟، فقال: ما عليك، أما في الأولاد، فيتبعون لا عذر لهم، ولو في غير الحق، لأجل القرابة، ألا ترى إلى بني هاشم وبني المطلب، كيف حبسوا أنفسهم مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الشعب، ولو حارب أحداً قاموا معه، وهم مع ذلك على الكفر كل ذلك بسبب القرابة، فاتباع الأولاد ونحوهم ما يستكثر، فما الذي منع أن لا يكونوا نحو العشرين من آل باعلوي أخذوا عن الشيخ عبداللَّه أقل الحال .
ومرة ذكر مثل هذا ثم قال: ولو جلس مثلاً رجل من غير الأشراف للتدريس من آل بافضل أوغيرهم، لما استنكف الأشراف من الحضور عنده( ) .
ما قال في باجابر
قلت: فَلِمَ كثر اللابسون والآخذون من باجابر لما دخل تريم، في مدة ثلاثة أيام، فأخذوا عنه ما لم يأخذوا من الأشراف. فقال نفع اللَّه به: لأنه دخل بإشارة شيخ البلاد، وبالضمانة، يعني الشيخ أحمد بن علوي باجحدب، وقوله بالضمانة: إنه ضمن له اثنان من السادة، أحدهما من أهل الظاهر، السيد محمد بن حسن بن الشيخ علي بن أبي بكر، والآخر من أهل الباطن، السيد أحمد بن الحسين بن الشيخ عبداللَّه بن أبي بكر العيدروس، وإنه لا يمكث أكثر من ثلاثة أيام، لا يزيد عليها، وأمره أن يبقى في مسجد بروم المدة المشروطة، ثم عند تمامها خرج مسرعاً إلى بلده عَنْدل .
(1/211)

وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان إنما هم على التشبه والرسوم، ومن تشبه ولا معه شيء من الدعاوي الكاذبة فهو على خير، وإلا الأشياء التي تذكر عن الأولين قد طويت، إلا إن كان في الزمان خبايا، وللَّه تعالى أخلاف، ما زال الدين قائماً والبيت قائماً لا بد منهم، ولو أنهم حتى في القفار، ما ترى هنا، القرآن يرفع، والدين يرفع، فهذه مع البقايا وإن اختفوا، وما المؤمنون إلا سابق ومسبوق، والمؤمنون على خير، مَن لقيَ اللَّه مؤمناً دخل الجنة، أو عليه شيء من الذنوب أدخله اللَّه النار بقدر ذنوبه ليطهره، والناس بالنسبة إلى اللَّه أهل تقصير كثير، وإن فعلوا ما فعلوا، فإذا كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يعترف فكيف بغيره، وأنت أعبد اللَّه بقدر ما عندك من العلم والنور، واترك الاغترار والتعلق بصالحين قد مضوا كما يفعله كثيرون، فالذين اعتمدوا عليهم، لأي شيء لم يتركوا العمل، وفي مجلس آخر قال: كأنهم يظنون بأنفسهم أنهم خير منهم، فإنهم لم يبلغوا ما بلغوا إلا بالعمل، وهؤلاء يريدون أن يبلغوا بلا عمل .
وقال رضي اللَّه عنه يخاطب رجلاً من الحاضرين: والإنسان يَنْهى ولا ينأى، بل إذا نَهَيْتَ وهناك خيرٌ إلزمه إلا من يَرُدُّ الدين أو يعترض على أهل الدين فلا تخض فيه بل اتركه، فإنه كالذي يريد أن يرمح، ومن الناس من لا يمكنك أن تجذبه إلى الخير إلا بترغيب في الرياسة، بأن تقول له: أنت فلان، ومن رآك تفعل هذا سقطت من عينه، أو إن لم تفعل كذا استحقرك الناس، قال ذلك الرجل: لا تروا علينا، فإن السكوت عن هذا أقرب إلى الأدب، قال: لا بأس بذلك فإنك تحيي المذاكرة وأنت كالصائد، ونحن ما نحابي، إذا كان المجلس وقت فسحة ويحسن ذلك تكلمنا، وإلا قلنا له: اترك الكلام إلى وقت آخر.
(1/212)

وقال رضي اللَّه عنه: الزمان زمان نكد وتشويش، لا تكاد تسمع إلا ما يسوء، وقد كانوا( ) إذا أخبروا بشيء تتقدمه أشياء ومقدمات تسهل ذلك، وأما اليوم فيجيك الأمر( )، وكان الصالحون في أحوالهم كلامُهم إلا في الآخرة، تشوفهم يتعاطون أموراً ما تدخل تحت طاقة البشر، وانطووا في معرفة القضاء والقدر، وهؤلاء لا يعرفون القضا والقدر، ولكنهم لا يصبرون كصبرهم، طبعُ البشرية .
وقال رضي اللَّه عنه: ما الإنسان إلا ضايق من الدنيا، فإنه لا يرى ولا يسمع إلا ما يكره، ولو كنت في صفا وطاعة، شوشوها عليك، وهذا زمان صبر، القوي فيه ضعيف، ولا مساعد هناك .
ما قال في الصغار وتربيتهم
وذكر رضي اللَّه عنه الصغار يوماً فقال: اللَّه الحافظ، ولكنك مؤاخذ بالاستطاعة، وعندنا( ) يقولون: الصغير إلى سبع سنين هو في رقبة أمه، وقد سقط صغار من سطوح عالية، ولا يضرهم شيء بلطف اللَّه، والفصل في هذا أن تكلف ما كُلِّفْتَ على قدر وسع الدائرة، وما دخل تحت الأقدار فذاك بحر واسع لا تدخله، فلا مدخل لك فيه .
وقد قال سيدنا علي: القَدَر بحر واسع فلا تلجه .
وقد سأل رجل بعضهم عن القَدَر، فقال للسائل: هل خلقك لِمَا أراد أو لما أردت ؟، فقال: لِمَا أراد، قال: فيستعملك أيضاً فيما أراد، لا فيما أردت، ولا يحصل للداخل فيه إلا الاحتجاج للنفس على الرب .
وأُخبِر رضي اللَّه عنه بصبي صغير أنه يريد الحج في تلك السنة، فقال له نفع اللَّه به: لا تحج هذا العام، وصحح أولاً أركان دينك التي هي عليك أَلْزَمُ من الحج، فصحح صلاتك وزكاتك وصومك، فإذا صححت هذه كما ينبغي، فأتمها بالحج، لأن الحج إنما هو تكميل للأركان، قال اللَّه تعالى للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه، بعد ما تمت حجتهم :{ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم }( ) فمن لا يصحح الأركان الأُوَل، ولم يأت بها على الوجه الأكمل، فما يصنع بإتمامها قبل إحكامها .
(1/213)

وقال رضي اللَّه عنه لرجل شكا إليه: لا تَدْعُ على من ظلمك، فإنك إذا دعوت عليه انتصرت لنفسك، وإلا عاد دعاؤك عليك، ولكنك ادع له بالصلاح والهداية للصواب، وأن يؤمنهم في أوطانهم، ليعود دعاؤك لك .
وذكر رضي اللَّه عنه أحوال أهل الزمان في وضوئهم وصلاتهم، فقال: لو أمسكت برأس الرجل في صلاته حتى يطمئن في الركوع والسجود القَدْر الذي لا بد له منه، ما صلى الصلاة الثانية إلا باطلة، فيأتي بها باطلة عمداً، وسبب ذلك عدم الرغبة، وإذا لم تكن رغبة ولا لذة، كيف يأتي بها كما ينبغي، فينبغي ويحتاج أن يُعَلَّم فضيلة الصلاة والوضوء، ليرغب في ذلك، فيحصل له في فعل ذلك رغبة، وكانوا يأتون( ) بذلك، وقلوبهم مفتوحة راغبة في الخير، ويربون صغارهم على ذلك، يعلمونهم إياه، وأما هؤلاء( )، فلا يعلمون صغارهم إلا الرغبة في الدنيا ومحبتها، والصغير إذا فسد باطنه، بأن تأمل أحوال الدنيا أو النساء أو نحو ذلك، فلا( )، كالدمل إنما ينتظر افتقاشه( ) فلا ينبغي أن يكون في المجالس التي لا تنبغي من أسواق، أو مجالسة المبطلين، ويعود ثمر هذا شوكاً، وإنما ينبغي أن يكون ملازماً لمجالس الخير كالمساجد وأماكن القراءات ومجالس الصالحين .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: اللَّه للَّه في الهمة والصبر، فإذا لم تج الدنيا إلا بالصبر، فالآخرة أولى .
وقال لآخر: عليك بالصدق، واتباع الشريعة، والشريعة كالبحر من طبعها الإغراق كالبحر، فينبغي للإنسان أن يتطرف وإلا خُشِيَ عليه الغرق .
ما قال في الخمول
(1/214)

وقال رضي اللَّه عنه: كانوا يحبون الخمول والخفا، مع وجود الشيء، وهؤلاء يحبون الظهور والشهرة بلا شيء، لكن بماذا يظهر( )، أبحب الدنيا والتنافس عليها، وكان سادتنا آل أبي علوي ما طريقهم إلا الخمول، حتى إن الفقيه المقدم كان يحمل السمك من السوق، فيمر به على المجالس، فإذا تعدَّى عليهم أعطاه أول من يلقاه من الفقراء، وأول من سمي منهم شيخاً الشيخ عبداللَّه بن علوي، وكان يغضب إذا قيل له يا شيخ، ويقول للقايل الشيخ أبوك، وكان شيخاً في الحقيقة، شيخاً في العلم والنسب والسن .
وقال رضي اللَّه عنه: كل الأشياء بَغَت ميزان، ولهذا كثر ذكر الميزان في القرآن.
وذكر رضي اللَّه عنه أقواماً سافروا، فقال: فرحتهم عند سفرهم كفرحتهم عند مجيئهم، لأن أمور الدنيا كلها موزونة، ولهذا كثر ذكر الميزان في القرآن، وهو معرفة مقادير الأشياء، بأن تقابل الخير بالشر، أو بالخير، لتعرف قدره .
(1/215)

وتكلم رضي اللَّه عنه ليلة الخميس في 11 ربيع أول سنة 1125، فذكر أقواماً دخلوا في الطريق، منهم من هو من أول عمره، وحصل له التجرد التام فنفذ، ومنهم من هو في آخر عمره، ولم يحصل له هذا التجرد، فلم يحصل له منها كالذي قبله، وقد قال الإمام الغزالي بعد كمال جده واجتهاده وبعد ما ساح: لم يحصل لي منها مثل ما حصل لمن لم يتعلق بالعلوم الظاهرة، لأن شرطه أن ينساها، ويتجرد القلب عنها، ولهذا إن الإمام الرازي لما كان ممعناً فيها لم يبلغ الأقصى من هذا الأمر، ولعدم التجرد الكلي من الدنيا لأنه كان صاحب ثروة . ثم قال نفع اللَّه به: لا أحسن للإنسان في هذا الزمان إذا أراد سلوكها من تصحيح أصول التوحيد، وفعل الواجبات وترك المحرمات، والإتيان من السنن على مقتضى الكتاب والسنة، من غير أن يتعداهما، فإذا أثمرت له هذه الأشياء حصل له خير كثير، وأما أمور المكاشفات فلا تنبغي في هذا الوقت، ولو ظهرت فيه على أحد تأسف عليها، وتمنى أنها لم تكن ظهرت له، لأنك لو كشف لك عن أحد مثلاً، أنه يبغضك ويشتمك، كيف تفعل معه هل تقوم تضربه، لا، بل الستر أحسن، فقد كان بعض الصالحين، ارتاض كثيراً فرأى جماعة واردين على ماء، فرأى بعضهم على صورة كلب، وبعضهم على صورة خنزير، وغير ذلك، فأظهرهم اللَّه له على صورهم المعنوية، فسأل اللَّه أن يستر ذلك عنه، ومن لا يمكنه إذا أشرت إليه بكلمة سر أن يكتمها بل يضيق صدره منها ويفشيها، لا تظهر عليه هذه الأشياء، لأن سَتْرها واجب، وشرط من أُهِّل لها أن يسترها .
قلت: فإن كان في نحو طعام، إنه حرام أو شبهة ليتركه كان في هذا فائدة، فقال: لستَ بمكلف بما لا تعلم، فإذا كان كله حرام، هل تجلس بلا أكل، وفي هذا توسعة من اللَّه تعالى .
(1/216)

وقال رضي اللَّه عنه: مثل الإنسان في الدنيا، كمثل رجل في بيت يُحْذَف( ) بالحجارة فيُخاف عليه كل حين أن يُرضخ رأسه، فسبحان اللَّه كيف يقر الإنسان وهو كل حين يشيع ميتاً، وكل الناس مجمعون على أن الدنيا فانية، وكل الملل مجمعة على ذمها، وكل الأمم التي بعثت إليها الملل مجمعون على محبتها، ولعل ثلث القرآن جاء في ذمها، وأبلغ آية في التزهيد فيها، قوله تعالى: { وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } إلى قوله :{ لِلمُتَّقِينَ}( ).
حكاية الطبيب
(1/217)

ثم ذكر حكاية: إن رجلاً من أهل المشرق أصابته علة شديدة، فطلب طبيباً ماهراً، فدُلَّ على طبيب نصراني في جهة المغرب، وإنه لا يمكنه أن يداويه إلا هو، فمضى إليه، وإذا به يعني الطبيب علة شديدة، ولم يداو نفسه منها، فقال: لو هذا طبيب لداوى نفسه، وأراد أن يرجع، ثم قال: لما إني عنيت له أَنظُر ماذا عنده، فذكر له علته، فقال: لا أداويك إلا بنصف مالك، وكان ذا مال كثير سار به معه، فأبى أولاً ثم رضي لما لم يجد بداً من ذلك، ولم يسأله الطبيب حينئذ عن اسمه، فداواه وصح لكن بقي أثر من تحشيف، فقال: هات المال، فقال: هذا ما طاب فقال: ليس هذا علي إنما داويتك بقدر ما أعطيتني، فإن أردت أن أداوي هذا، فأعطني نصف ما بقي من مالك، وهو الربع فأعطاه وداواه، وصح، وأراد الانصراف فسأله الطبيب حينئذ عن اسمه، ومن هو وما دينه فأعلمه، وقال: ديني الإسلام، فقال: من أعلمكم به، فقال: بعث اللَّه إلينا نبياً صفته كذا، وعلمنا الدين والإسلام، فقال: ما أخبركم نبيكم إنك ستموت، فقال: بلى أخبرنا إن كلاًّ ميتٌ، وإن الدنيا فانية، وإن الآخرة باقية، وهي خير وأبقى، وكان هذا الطبيب عاقلاً، فقال له: أنت مع إيمانك وتصديقك بما أخبركم به نبيكم، تحب الدنيا وتحب طول البقاء فيها، وتحب المال، حتى أتيتني من مسافة بعيدة تطلب صحة بدنك، وبذلت فيها مالك، وأراك حريصاً، وهو( ) مع كفره لما جربت الدنيا، وعرفت أنها زائلة زهدت فيها، فهذا بدني عليل ماداويته، وهذا مالك الذي أعطيتني خذه مني، فلا أريده، وسر عافاك اللَّه، إنما أردت أن أختبرك .
ثم قال سيدنا نفع اللَّه به: والدنيا فانية بكل حال، إمَّا وَلَّت عنك، وإمَّا وَلَّيتَ عنها، وكثيراً ما سمعته نفع اللَّه به يقول: من عرف الدنيا زهد فيها، ولو كان ما يؤمن بيوم الحساب .
(1/218)

وقال رضي اللَّه عنه: محبة الدنيا كلها سوء إن كان ذلك من مسلم أو من كافر، وإن اختلفت المزية، فالكل مذموم، وهم سواء في الذم، لأنهم اشتركوا في محبة العاجل وهو مذموم في جميع الشرائع .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل من أهل بلدة شبام حين استودع منه: الحذر تغبط أهل الدنيا، وتُوَدِّي أن تكون مثلهم، فتحاسب في الآخرة حساب الأغنياء وأنت ما معك شيء، وأُنشِدَ في لسان حال المولود في صياحه حين يوضع :
لما تؤذن الدنيا به من همومها يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
وإلا فما يبكيه منها وإنها لأهون مما كان فيه وأوسع
ما قال في الذي يضيق من القراءة
وقال رضي اللَّه عنه: إن أهل الزمان في قلوبهم شياطين، ولهذا يضيقون من قراءة القرآن، والجلوس في المساجد، ولولا ذلك ما ضاقوا، ألا ترى إلى المصروع الذي دخله الشيطان، أو قال الذي فيه الجني، إذا قرأت عليه القرآن كيف يصيح .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الزمان ليس في أجسامهم قلوب ولا أرواح، إنما فيها نفوس شيطانية، ويعرف هذا بحركاتهم الظاهرة، لأن الأمور الغيبية لا تعرف إلا بالحركات الحسية، على مقتضى ما تدعو إليه، وعلى لسانها، كما يتكلم المدخول من الجان على لسان الجني الذي فيه .
ما قال في العدل بعد المائتين
وقال رضي اللَّه عنه: سُئِلَ بعض السلف عن شيء من العدل يكون بعد المائتين؟ فغضب وقال: كيف يكون ذلك، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: ((من استطاع منكم بعد المائتين أن يموت فليمت)).
ثم قال سيدنا: رأينا في حديث مشهور، أنه تخرج شياطين بعد المائتين كان حبسهم سليمان عليه السلام، فيطلقون حينئذ، ويحدثون الناس بما لا يعرفون، فيأخذون بما يقولون لهم .
ما قال في النفس
(1/219)

وقال رضي اللَّه عنه: لا تأمن نفسك وتطيعها، وقدك مَعَها على شفا، فتَهْلِك أنت معها، ولا يدّعي القوة عليها إلا مغرور . وما معنى قولهم ظلم نفسه مع أن نفسه هي التي ظلمته، لكنه حيث يفعل الأسباب التي تقوده بها وتهيئها له .
ومرة قال: لا تأمن نفسك في الأمور التي بينك و بين الخلق حتى تتحقق صدقها في الأمور التي بينك وبين اللَّه، فإنها إذا لم تصلح وتصدق فيما بينها وبين اللَّه، فلا شك في عدم صدقها فيما بينها وبين الناس .
وقال رضي اللَّه عنه في وصف الرجل من أهل هذا الزمان: إنه لا صدق فيه ولا تقوى، فلا يصدِّق بوجود أحد فيه صدق وتقوى لعدم ذلك فيه، وإقدامهم على الحرام يضاهي إعراض الأولين عن الحلال، لأن الأولين أعرضوا عن الحلال احتياطاً للسلامة ولا بالوا، وهؤلاء وقعوا بالقصد في الحرام ولا بالوا، ومثلهم كالهِرار في بعض الأماكن إذا شمت ريح اللحم هاجت ولم تمتسك ما لم تأكل منه، حتى يدهنوا فمها بقليل من السمن، فتسكن عند ذلك قليلاً.
وقال رضي اللَّه عنه: الإفراط في محبة الدنيا يغير العقل والدين، لأن طبعها الإسكار.
(1/220)

وقال رضي اللَّه عنه: لو مَكَّنَنَا الناس من أموالهم، أخرجنا منها ثلثها برضاهم، لأنه لا يمكن دفع ما هم فيه عنهم من الشدائد والمصائب إلا بذلك، لأنها لم تحصل عليهم إلا بسبب الأموال، يتحاسدون عليها ويتنافسون فيها، ونضعها في أرحامهم وأقاربهم، إذ الإنسان منهم يبات قريبه جائعاً وهو يقدر أن يشبعه فلا يفعل، وإذا تأملت أفعال الفقراء، رأيتها أحسن من أفعالهم، وقد كان أهل الجاهلية إذا وقعوا في شدة، جمعوا أموالاً، وقالوا دعونا نرضي ربنا، فإنه سَخِط علينا، حيث أوقع بنا ما وقع، ثم يفرقونها على المحتاجين منهم والأقربين، هذا وهم كفار، وأما هؤلاء أهل الزمان، إذا وقعوا في شيء تكالبوا على الدنيا وبخلوا، وجعلوا يقبحون الأولياء والصالحين، الأحياء منهم إن كان أحد، والأموات، وقالوا أصابنا ذلك فلم يحمونا منه .
وقال رضي اللَّه عنه: سبحان اللَّه العظيم، في صلة الأرحام خاصية في نما الأعداد، وفي نما الأموال، ولو كان ذلك من كافر .
وقال نفع اللَّه به: هذا آخر الزمان، والناس في دهليز القيامة، إلا أنه سبحانه، تفرد بعلمها، والناس اليوم في علاماتها .
وقال رضي اللَّه عنه: مِن الناس مَن أعطاه اللَّه كمال الروح، وهو الذي عليه العمل، ومنهم من أعطاه اللَّه كمال الجسم فقط، وهذا ناقص، ومنهم من جمع اللَّه له كمال الروح والجسم، وهو النهاية والغاية . وذلك لأن اللَّه أراد أن يعمر بهم مراتب الوجود، وكثّر أهل الأجسام لعمارة الدنيا بهم، ولا يتم الكمالان إلا لمن أهله اللَّه للإرشاد، وجعله داعياً إليه ولذلك لا يحصل إلا للآحاد من الناس .
وقال رضي اللَّه عنه: أهل الحق لا يزالون يتوارثون، أو قال يتواترون ويستترون، إلى أن يخرج المهدي، ولهم سير باطن إلى اللَّه، حتى منهم من يُرى كصفة المجانين وغيرهم بخلاف الجهال والعامة( ) .
ما قال في الأمانة
(1/221)

وقال رضي اللَّه عنه: من الخيانة في الأمانة، أن يحدث بها وصاحبها لا يرضى بذلك، ومازالت خيانة خفية فهو منافق، فإذا ظهرت كان فاجراً، فالخفاء نفاق، والظهور فجور، وعند عدم العدالة والأمانة تسقط الثقة به، وبكذبه تسقط الثقة بقوله.
وقال رضي اللَّه عنه: كثير من المنكرات العادية، والمنكرات الدينية، لو قدرنا على إزالته لأزلناه، وما بقي من السُّنَّة مع ما حصل من الحوادث إلا كقدر الملح في الطعام .
وقال رضي اللَّه عنه: ذكر الإمام الغزالي: إن العلم الذي هو نتيجة العمل، وميراث التقوى أفضل من هذا العلم، لأن ذاك هو الأصل، وهذا وسيلة للعمل الذي ينتجه، والعالم بهذا العلم ربما جرَّى العامة على ارتكاب النهي، إذا رأوه يعمل على خلاف علمه.
وقال رضي اللَّه عنه: ذكر الإمام الغزالي رحمه اللَّه: أنه لا فضل للعلوم العملية على العمل، إلا من حيث التعدي، فإن لم يتعد، فالعمل أفضل منها، وإنما يكون الفضل لمجرد العلم فقط، إنما هو في العلم باللَّه، الذي يفيده العمل الصالح، أي الذي يحصل بسببه .
وقال رضي اللَّه عنه: أصلح الصالحين، من لا يرى أنه من الصالحين( ) .
وذكر رضي اللَّه عنه أهل الغفلة، فقال: من كان منهمكاً في محبة الدنيا، إذا وضع في قبره، ومكث نحو ساعتين تَنَبَّه، وقال: هل أنا مت؟، من شدة غفلته .
وقال رضي اللَّه عنه في حديث( ): (( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه ))، الخ: إن هذه المذكورة في الحديث كلها مما يقتضي إجابة الدعاء، إذ ورد: (( أن دعاء المسافر مستجاب))، و: ((كم من أشعث أغبر ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على اللَّه لأبر قسمه ))، ولكن مع أكل الحرام لم تنفعه تلك الأشياء في حصول الإجابة، وإذا لم يُستجب دعاؤه لذلك فكذلك صلاته .
(1/222)

وقال له رضي اللَّه عنه رجل من السادة: ادعوا لنا، فقال نفع اللَّه به: أنتم ادعوا لنا فإنكم عادكم خفاف، وأما صاحب القافلة المحملة والسفينة المشحونة، فإنما يسأل الدعاء من غيره، وقد كان المشايخ المتقدمون، إذا بدت لأحدهم حاجة، سأل الدعاء فيها أحداً من المريدين .
وذكر رضي اللَّه عنه: صحيح البخاري، فقال: إنه لم يعرف إلا من غيره، فإن بعض العلوم يعرف من نفسه، وبعضها إنما يعرف بمعرفة غيره، كالإحياء حيث قال مصنفه، إنما وضعته لسماسرة العلماء، من السمسرة، التي تجمع الأمتعة، وسمي الدلال سمساراً لما يجتمع عنده من الأمتعة .
المرأة لا تكون بدلاً
وقال رضي اللَّه عنه: الصالحات من النساء تكون في مرتبة الأبدال ولا تكون بدلاً، وقال مرة: لا تكون المرأة قطباً ولا بدلاً، وإنما امتنعت سلطانة الزبيدية من الزواج بعدما خطبها أناس من السادة، لأن الصالحين مايحبون أن يدخلون( ) في حكم المَلَكة والقهر، لأن في التزوج حقوقٌ( ) كثيرة تصيرها كالمملوكة، فلعل هذا هو المانع لها من ذلك.
ما قال في القرآن
وتكلم رضي اللَّه عنه يوماً في الفهم في الكتاب العزيز، فقال: إنه غبن فاحش أن يموت الإنسان وما عرف شيئاً من أسراره وعجائبه، وهذه الأشياء إنما تحصل لأقوام قد أعطاهم اللَّه في أصل الفطرة قريحة وقَّادة، وعقلاً صافياً، ثم إنهم أزالوا كدورات العقل باختيارهم( ).
(1/223)

وقال رضي اللَّه عنه: إن اتسع لك النظر بنفسك فانظر أنت، وكل أمر يشكل عليك فهو في القرآن، وإذا لم يظهر لك شيء، فابق على الطريق المسلوكة لمن قبلك، ولا تَتَّبع الطرق فتضل، وهي السبل التي قال اللَّه :{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ }( ) الآية، فكل طريق ماتعرفها لا تجئها، إلا إذا تغلقت عليك الطرق، فإذا كان كذلك بقي في الحيرة، ومثل ذلك يظهر للإنسان في القبور، فإذا قيل له: كيف ماعلمت أحكام الصلاة ونحوها، قال ما أحد علمني، فيقال له كيف والقرآن عندك، وقد فصّل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم الدين، ولكن وسَّعه العلماء بتطويل الكلام فيه، والإنسان مُتَّجرٌ لنفسه، وكل الأمور مشروحات في القرآن، ولكنه يحتاج إلى البيان .
وقال رضي اللَّه عنه وذكر العمل بالعلم: إن لم يمكنك تعمل به فتفعل الطاعات، وتترك المنهيات، فافعل من الطاعات ما تيسر مع العزم على فعل الباقي، واترك العمل ببعض المعاصي مع العزم على ترك الباقي، فانو ذلك فقد يحصل بالنية ما لا يحصل بالأعمال، حتى يقل تحسره في الآخرة إذا رأى درجات العاملين، إذ لو ترك جميع ذلك لطالت حسرته . ومعلوم أن من ترك العمل وجلس عاطلاً باطلاً طال في الآخرة حزنه، ولا يكون فيه خير ولا بركة، ولو أنكر على أحد في صلاة أو زكاة أو غير ذلك، وهو متلبس بما أنكره، فماذا ينفعه علمه، فتكثر حسرته، سيما إن انتفع بعلمه غيره، فهذه قاعدة: إن كل ما جاء به الشرع، إذا لم يعمل به كله تكثر حسرته، أو بعضه فأقل من ذلك، ويجري مثله في أمور الدنيا، فلو رأى من معه مال كثير فاستثقل أن يتسبب، مثل ما تسبب، أو كان معه مال فضيعه أو أعطاه من لا يحمده، فإنه يرجع يسأل أو يتعطل بلا شيء، فيتأسف على ما صنع، فما المراد أنه لا يُدْبِر بالكلية، فإن الزمان زمان سوء، وهذا( ) وصف المدبرين، ولكن يكون مرة كذا ومرة كذا .
(1/224)

وقال رضي اللَّه عنه: إنما الدينُ بعد كتاب اللَّه الحديثُ، إلا إنه قَلَّ من يحفظه اليوم إلا في جهات بعيدة، وأحد يطلبه لذلك الأمر .
ثم ذكر قول عمر رضي اللَّه عنه، حيث تمنى أنه سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن ثلاثة أشياء منها أبواب الربا والكلالة، فقال نفع اللَّه به: نعم، لأن الميراث يصل إلى أقوام مع وجود أقرب منهم، كما يرث ابن الابن مع وجود العمة، وليس لها من الميراث شيء، والأمور الإلهية ما هي على قياس عقول الناس، ولهذا أوقعت أناساً قياساتُ عقولهم، حتى وقعوا في الربا باستحسانهم بيع القهاول( ) من الطعام بقهاولين .
وقال رضي اللَّه عنه لرجل: عادك في زمن التحصيل، وللإنسان مرتبتان، إحداهما أعلا من الأولى، إذا وصلها كان يُنتفع به، ومادام في الأولى، فهو طالب الانتفاع، ويمكنه أن يطلب ذلك في كل واحدة منهما.
... وأمر رضي اللَّه عنه بعض الزائرين بالتحول من مكان إلى مكان آخر ثم قال: كانوا يكونون في الدار الواحدة خمس محالٍّ وأكثر، وكانت عيونهم مغضوضة عن النظر، وآذانهم ممنوعة من الاستماع، حتى إن الرجل لا يعرف زوجة أخيه وعمه، فأعضاؤهم ملجمة عن المعاصي، وأما هؤلاء فيطلقون جوارحهم في المعاصي، ثم يجحدون المعاصي، ويجحدون الشهوات، تجعلهم( ) من كبار الصالحين .
... وقال رضي اللَّه عنه: الشر كالنار، أو كالبحر يجر بعضه بعضاً، فمن لم يتورع عن النظر مثلاً، فلا يملك قلبَه وفرجَه، وإن قال إنه يملكهما ولم يملك عينه يكذب، فمن عجز عن القليل يعجز عن الكثير لا محالة ومن لم يتورع عن الدرهم الواحد، فلا يتورع عن العشرة فأكثر.
(1/225)

و ... ذكر رضي اللَّه عنه يوماً أهل الدنيا فقال: في هذا الزمان قد ذهبت الدنيا عن أيدي الأخيار وصارت في أيدي الفجار، أو قال الأشرار، والفقراء كالمتاع في البيت، هو الذي يحتاج أن يحفظ، والأغنياء كالحجارة، ولو أقبل الناس كلهم على الدنيا، ما استاهلوا أن يحفظوا، وإنما يحفظ اللَّه خلقه بفقراء وصغار وشيبان، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( إنما ترحمون بضعفائكم، وأبغوني فيكم الضعفاء))( )، وفي أحد الوجهين في قوله تعالى :{ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ }( ) الآية، ولولا الضعفاء رحم اللَّه بهم الكافة لأصابهم العذاب .
ما قال في الحِظاية
... وكلمه رضي اللَّه عنه إنسان حظَّا( )، فقال له: أتعلّم الناس الحظيّة، وتحسِّنون الدنيا، والذي يحسِّن الدنيا أسفل وأخس عند اللَّه من الذين يعمرون الدنيا، لأن العمران لها قد تدعو إليه الحاجة كالخياطة، وإذا قد ورد ذمُّ عمران الدنيا فكيف بتحسينها .
... وقال رضي اللَّه عنه: يقال إذا أردت أن تعرف حال أحد، فاسأل عنه أهل بيته وأهل خاصته، لأنه ما يستحيي منهم، ويعاملهم بما يفعله في خلوته، والولي ما يكون مستوراً إلا عند العامة والمحجوبين، وإلا فهو ظاهر عند أمثاله، وعند نفسه، والولي ما همه ومطلوبه إلا الخفا، وإن أحب الظهور سُلِبَ، ولا تتتبع إلا إن رجوت خيراً، ودع الناس تحت ستر اللَّه، والأولياء لا يحبون الاجتماع عليهم، ومن أحب ذلك فعنده شبهة رياء، حتى إن من أحب كثرة الجمع في جنازته، فهو مُرائي طالب شهرته بعد الموت .
(1/226)

... وقال رضي اللَّه عنه: لا تعُدَّ شيئاً من يعدُّ نفسه شيئاً، وإنما الشيء من لا يَعُدُّ نفسه شيئاً، ومن قال: أنا أهل وإن كان كذلك، قيل له: لست بأهل، ومن قال: لست أهلاً وهو كما قال، قيل له: أنت أهل، والطرايق الباطنة غير الطرايق الظاهرة، هذه شيء وهذه شيء آخر، كالذي قال: إن الشيخ عبدالقادر ما رأيت له في الملكوت شيئاً من الأمور، ورُوْحوا قولوا له، فكوشف به الشيخ، فقال له: أنت تدخل من الدركات السفلى، وأنا في الدرجات العليا، فلم ترني، وإنك ما وقع لك الأمر الفلاني إلا بشفاعتي، فصدقه حينئذ، وهذه أمور ينكرها الظاهر، ولا هي منكرة .
... وقال رضي اللَّه عنه: قِلَّة العناية بالشيء أمره مشكل جداً، ولا يحصّله، وإن كان متأهلاً له، وإنما يدركه بالعناية، إنْ ما أدركه في الزمن القليل، أدركه في الزمن الطويل .
... وقال رضي اللَّه عنه: لولا فتنة تكون قبل خروج المهدي، لأحببنا أن ندركه، ولكنا نكره حضور الفتن .
... ومرة قال: المتردد في الفتنة، كالذي يتردد ماشياً في الرمضاء، وسط النهار .
... وذكر رضي اللَّه عنه رجلاً كان بينه وبين آخَرَ شيءٌ، فقال: إنه سليم يصدّق بكل ما سمع، والأحسن للإنسان اليوم الاحتياط، خصوصاً في هذا الزمان، فلا يُصَدِّق من يمدح، ولا من يَذم، فإنهم مفتونون، يصلحون الفاسد، ويفسدون الصالح( ) .
... وقال رضي اللَّه عنه: لا يقال في النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: إنه انتقل من حالة نقص إلى كمال، بل هو في الكمال في جميع أحواله، ومسيره كله في الكمال، حتى إنه عند ولادته ولد رافعاً بصرَه إلى السماء، وحتى مات في الكمال .
ما قال في الأمراء
(1/227)

... وذكر رضي اللَّه عنه الأمراء وأحوالهم، فقال: معاد يقوم الأمر إلا بالسيف، ولا السيف إلا بالعُدد والمعاونين، ولكن الحمد للَّه جعل اللَّه في الأمر سعة، فتُدْرَأ الحدود بالشبهات، وإلا لو كان الحكم أن من عمل ما يوجب الحدَّ، فإذا علمت بفعله ذلك، اسع في تحصيله وهاته كائناً ما كان، وإلا فأنت مثله( ) . ولا عاد تفتش، فكان إذا فتشت لحقت جواهر، واليوم إذا فتشت لحقت بعراً، وهؤلاء البدو الذين يقتلون بالقتيل رجلاً من قبيلة القاتل، فما هم في طيب عيش ولا حياة، ولو قتلوه بنفسه حصل الأمان، ووافق الحق .
ما قال في عدم قبول الملوك والأغنياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلاف الفقراء
... وقال نفع اللَّه به: اسمع، لا عاد في أهل الملك ولا في أهل المال بركة، إلا إن كان قليل، فلا يُستثنى إلا فيهم، وأما الفقراء والمساكين فلو قلت لأحدهم تعال صَلِّ وأُعَشِّيك، جاك ولا خالف، إن لم يج للصلاة جاء للعَشَا .
... وقال رضي اللَّه عنه: العلم مشتمل على أصول وفروع، فالفروع ترجع إلى الأصول، ولا عكس، وأنت اعمل على ساقيتك واترك العمل على دَجلة، فإنك لا تصل في ذلك، وإذا عملت على ساقيتك تيسَّر لك، وإذا كان معها عشرون ساقية، فلا تصل فيها كلها، لأن فيها الكَدِرة والمالحة، ولكن العمدة على الورع بالوسط من غير إفراط ولا تفريط، إذ لا تحصّل مع أحدهما، والأمور تشعبت وتوسعت، فأين من وقتك إلى عهد رسول اللَّه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فلا يمكنك أن تطْلع إلى طالع الغيلة من هابط( ) مرة واحدة، حتى تقرقع مرتين ثلاثاً، ثم يفتحوا لك، ثم تدخل الضيقة وتجلس، ثم تطلع شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الغيلة .
... وقال رضي اللَّه عنه: ومن العلم العمل والاتصاف، والاتصاف أشرف من العمل، فإذا كنت مثلاً تعلم أحكام الصبر وتفاصيله، ثم إنك إذا وقعت بك مصيبة قامت عليك القيامة وجزعت فما نفعك ذلك، وكأنك لم تعلم .
(1/228)

... وقال رضي اللَّه عنه لرجل يوصيه: لا تُقْدم على أمر حتى تتفكر فيه، وآت الأمر الذي تطلبه من وجهه الذي يُطلب منه، فإن من دخل داره أو داراً فيها متاعه من غير بابه أنكر عليه في ذلك، لا لكونه دخل داره أو أخذ متاعه، بل لكونه دخل من غير الباب، وقد تكون أمور مرتبة يقدم بعضها على بعض .
... وقال رضي اللَّه عنه: ما عاد للناس هوى في الطاعة، ولو أنك علَّمت أحداً مقصراً في صلاته، أو قراءته، أو شيء من دينه، ترك المكان الذي أنت فيه، وإن علَّمته في مسجد ترك ذلك المسجد، فما عاد معك إلا تقيس فعله ذلك بتركه، أيهما أحسن وأولى، فتطلب ذلك وتراعيه منه، ولم يزل الناس يتناقصون، حتى يبلغ الكتاب أجله، ولو بقوا على حال واحدة، لما قامت الساعة .
... وقال رضي اللَّه عنه: أمر الخير لا تخليه يضجر بك، خذ منه ما استطعت، فإن النفس تمل حتى في أمور الدنيا إذا أكثرت منها فكيف بأمور الدين، ومن كلام سيدنا علي: إن القلوب إذا أُكْرِهَتْ عميت، وعماها عدم رغبتها في الخير .
... وقال نفع اللَّه به: الزهد في الدنيا والخلقِ عنوانُ الولاية .
... وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن يُتوسط بين الخوف والرجا، لأنه إذا اشتد خوفه انقطع، ألا ترى لما ذكر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بعث النار كيف جزع الصحابة، حتى ذكر لهم ياجوج وماجوج، ومن قد دعاه اللَّه إلى الدين فهو على خير، إذ لو لم يُرد له ذلك، لما دعاه إليه، ولكن لا يغتر ولا ينهمك في شهوات الدنيا، فإن أقل الحال يشتد عليه الموت بسبب ذلك .
ما قال في كلام ابن الفارض وابن عربي
(1/229)

... وسئل رضي اللَّه عنه عن كلام ابن الفارض، هل كان السادة متعلقين به، فقال: نعم لأنه نظم، والنظم سهل ولا عسر فيه، وأين الحقائق الإلهية من يقين الموقنين، فضلاً عن وهم الموهمين، وهذه الأشياء المشكلة تُنَزَّل على الروح والنفس الزكية، أو ما أراده القائل، وكم حد المخلوق، ولا بُعد فيها، فإن الإنسان قد يذهل في أمور الدنيا فيشطح، فكيف بأمور الآخرة، وأكثر ما يطلقون في تغزلهم على الروح المحمدية أو المقامات العلية، لأنه عليه السلام مخلوق، والخطر في المخلوق سهل، وإن عظمت منزلته عليه السلام، مع الغاية في تعظيمه واحترامه، ومن اعترض عليهم فإنما الشيطان لقي له مجالاً في قلوبهم، فلبَّس عليهم( )، وألقى عليهم ما هو سبب في الاعتراض، كما ألقى في قلوب الكفار لما رأى منهم آذاناً مفتوحة لقوله، حين تلا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم سورة النجم، فتمثل لهم بذلك القول، حتى سمعوا من قراءته عليه السلام، بلا شعور من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لذلك ولا علم فاعترض لهم ما بين لسانه عليه السلام، وآذانهم، وقلوبُهم التي أذعنوا بها لعبادة الأصنام أضلُّ من قلوبهم التي كذبوا بها الأنبياء، وكلام ابن الفارض أسلم خطراً من كلام ابن عربي، لأن هذا نظم فيه تسامح وسلاسة تغطي ما فيه، وذاك أكثره نثر وكلامٌ غير منظوم، والنظم فيه نادر بالنسبة إلى النثر .
(1/230)

... وذكر رضي اللَّه عنه ابن عربي فقال: شرط العارف، أن يمضغ بكل أضراسه ورحاه وشقيه، كابن عربي يتكلم في الحقائق مع مبالغته في تعظيم الشريعة، ومعرفتِه في كل علم، فإن من كان مثلاً يعرف الحِرَف كلها، فهو حيك( ) وصبَّان( ) وحرَّاث وغير ذلك، جامعاً للجميع، فيجيئه واحد، ما معه منهن إلا واحدة، فينكر عليه فكيف ينكر على من هو أعرف منه في فنه فضلاً عن غيره ومن أين يعلم المنكِر أنه في ذلك غير مغلوب، ألا حملوا قوله على قول القائل، حيث قال لما وجد الراحلة: اللَّهم أنت الخ، حيث أخطأ من شدة الفرح، كما في الحديث( )، وهذا أيضاً في القول إن صح عنه، وإلا ففي باطن الإنسان خواطر هي كفر صريح، والرجل مستقيم في فعله غير مستقيم في قوله، لأنه إذا سيَّب سُيّب كالمدفع .
ذموه بالحق وبالباطلِ ... ومن دعا الناس إلى ذمه
... وعقيدته وفعله على غاية الاستقامة دون كلامه، وكلامه أقرب إلى السلامة من كلام ابن الفارض، لأنه ما يذكر حقيقة إلا ويذكر لها عشر كلمات في الاستقامة، والحاصل: أن الضعيف لا ينبغي له أن يتعرض للبحور لئلا يغرق فيها .
... وأمرني سيدي رضي اللَّه عنه بقراءة "رسالة القدس في مناصحة النفس"( ) عليه نفع اللَّه به لابن عربي، فلما أتممتها قال لي: لا تَعُد تُمِرُّ نظرك فيها، لأن كلامه مظنة الفتنة، وإن كان في نفسه في غاية الاستقامة .
... وقد سئل بعضهم عن من ينكر على ابن عربي، فقال: هو جدير بالإنكار عليه لكن ممن هو فوقه، لا ممن هو في السناديس، ولكن النفس تميل إلى كلامه، وتنفر من الكلام الذي فيه دواؤها، وبه يحصل لها شفاؤها، وهو كلام الإمام الغزالي، لأن من طبع النفس أنها تنفر عما ينفعها، وتميل إلى ما يضرها، كما تنفر من قول الطبيب الحاذق الناصح إذا وصف لها الدواء.
(1/231)

... أقول: هذا مع ما كان نفع اللَّه به يمدح هذه الرسالة، ويأمر بمطالعتها، ويقول: ما في كتبه أوضح منها، ولا أسلم من الشبه، ولا أبين للصواب مثلها، ومع ذلك قال فيها ما قال شفقة منه رضي اللَّه عنه .
ما قال في تنزيل الغَزَل
وقال رضي اللَّه عنه: لا تتعد في تنزيل ما تسمعه من الغزل نفسك، بل تنزله على روحك أو على الكعبة، لأنه لا خطر في ذلك، ولا تتجاوزه إلى النبوة، فضلاً عن الملائكة، فضلاً عن الأمور الإلهية، فإن حد ما ينتهي إليه علم الملائكة سدرة المنتهى، فيجدون أمر اللَّه عندها، ولا يتجاوزونها . وقد ورد: إن على جوانب العرش مِأتَيْ شمس، أو قال: مِأَتيْ قمر، ينطمس في كل واحد منها نور الشمس والقمر، لا يستطيع أكابر الملائكة كجبريل، أن ينظر إليه، وهو صورة العرش، فما ظنك بغير ذلك، وهذه الملائكة فكيف بالآدمي مع ضعفه .
وقد قالت سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: كيف رأيت ربك ليلة المعراج يارسول اللَّه فقال: نورٌ أَنّى أُراه( ).
وذكر رضي اللَّه عنه أناساً صحبوه أول العمر، وقرأوا عليه، منهم من قرأ الإحيا، ومنهم غيرَه، ثم تنفس الصُّعَداء وقال سبحان اللَّه، ما أطول الدنيا وما أقصرها .
وقال نفع اللَّه به: ما عمدة الإنسان إلا اليقين والصبر، فإذا حصلا له تحمل من الشدائد ما لا يتوهم أنه يحمله .
وقال رضي اللَّه عنه: أمر الباطن إنما هو في لحظة .
ما قال في علماء الزمان
(1/232)

وتكلم رضي اللَّه عنه في علماء الزمان، فقال: علماء الزمان ضحضاح، وضحضاح من نار أيضاً، وعلماء الزمان كحُجاج الزمان، إذ يحجون للصلاح للأجرة، فربما حجته للإسلام على هذه النية لا تصح، ولم يتعلم العلماءُ العلمَ إلا للدنيا . قال بعضهم في علماء السوء: يوم يذمون الدنيا ويُرَغِّبون في تركها، ويَرْغبون فيها، كأنهم يقولون للناس، اتركوا الدنيا لنا، نأخذها نحن وحدنا، ومن تعلم علماً لا يحتاج إليه ولا ينتفع به هو ولا غيره، فكأن العلم مات في صدره، فينبغي أن ينظر من أول أمره العلمَ الذي ينتفع به، وينتفع به غيره، فيحصّله، ويَدَع ما سواه، ولا أقل في العلم الظاهر من العمل به، وما مرادنا ممن يقرأ علينا إلا الاستعمال، والانتفاع، والدعاء، ونحن ندعو لهم بالاستعمال والانتفاع، فإن من توضأ غير مرتب ما انتفع بالعلم، وإن عرف ذلك .
أخذ العلم من المتأهل
وقال رضي اللَّه عنه: يحتاج أن لا يأخذ الإنسان العلم إلا من المتأهل للتعليم، ومن أخذ من غير متأهل، له أن يعمل به في نفسه، ولا يعلمه الناس، لأنه يحتاج في تعليمه إلى قواعد، ولا يمكن إيرادها إلا بالتأهل، ولا يتأهل له من لم يكن شيخه متأهلاً، وإن تأهل لبعض العلم دون بعضٍ عَلَّمه( ).
ولما مر وقت الدرس في قراءة الإحياء ذِكْرُ أركان المجاهدة والرياضة الأربعة التي بها صار الأبدال أبدالاً، قال نفع اللَّه به عند ذلك: إن الصوفية أمعنوا فيها، وأخذوا بالحظ الأوفر منها، بحيث لا يكاد من يسمع ما نُقِل عنهم فيه أن يصدق به، ومن دخل طريقتهم فليأخذ منها بحظ على قدره، بحسب قوته واستطاعته، فمن مقل من ذلك ومن مكثر، وإلا فليكن إلى وصفهم أقرب من غيره .
انظر طلبه أيام بدايته
(1/233)

وقال رضي اللَّه عنه: قد أدركنا في جهة حضرموت من أهل الفضل الأخيار، أناساً كثيراً أدركناهم، وتبركنا بهم وزرناهم، من أشراف وغيرهم، وأدركنا منهم في كل قرية من قرى حضرموت جماعة، كشبام والغرفة وسيؤون، حتى المسفلة وعينات واللِّسك والواسطة، وكنا نتردد لزيارة أهل الفضل، الأحياء والأموات، وكان يتبعنا ناس كثير، فإذا جئنا إلى بلدة طلبونا أي للضيافة ومن لَحِقَنَا، فيلزم من هذا التثقيلُ على الناس، حتى وصلنا مرة إلى الهجرين، ومعنا نحو ستين رجلاً، لكنَّا بعدُ قلنا: إن كان أُذِن لنا في التردد للزيارة، مثل الشيخ عمر العطاس، لأنه كان كثير التردد لها، تخلينا من جميع من يلحقنا، وبقيت أنا وواحد الذي يمسك الدابة فقط، لأجل التخفيف، ولو تركونا ولم يتعرض لنا أحد بالدعوة( ) لما فعلت ذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: ارفع رأسك إلى ربك، وعامله ولا تقصر إذا قصر عنك الخلق، فتكون إنما أنت معامل لهم، واصفح عن تقصيرهم، وإن كان يجوز لك مقابلتهم بذلك، فقد سماه تعالى سيئة بقوله :{ وَجَزاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}( ) .
وقال رضي اللَّه عنه: قَوِّ همتك وارفعها، واجعلها للَّه تعالى، وأخلص نيتك، وأصلح عملك، واقصر نيتك على أمرين، لا تتعداهما: الأول أن تكون جميع أفعالك وحركاتك وسكناتك وأحوالك ظاهراً وباطناً للَّه تعالى، أو فيما هو وسيلة إلى ذلك، والثاني: اجعل ميزانك في الآخرة، يرجح بما هو للَّه تعالى على ما هو لنفسك، لتكون ممن ثقلت موازينه، فأولئك هم المفلحون، ومن ثقلت أمور نفسه على ما هو للَّه، فأولئك الذين خسروا أنفسهم .
ما قال في طبع النفس
(1/234)

والنفس طبعها طبع الماء، إذا سيبت إنما تسير إلى أسفل، لا إلى أعلى، لكن يمضي عمر الواحد، ما قهر نفسه للَّه، ولا قام بحقه كما ينبغي منهم، بل تَرَكوا حقّه وراحوا إلى أمور لا فائدة فيها، لأن الشيطان قعد لهم على الصراط المستقيم، فلا يصلون إلى اللَّه إلا منه، ولكن منعهم منه الشيطان، فإذا كان لا يدخل الجنة داخلها، ولا يدخل النار داخلها، إلا بالصكاك لهم في ذلك، أفيحسبون الأمور سائبة؟، ومعرفة اللَّه خصوصٌ لخصوص . والشيطان لما لعب بنفسه، وعلم أنه ليس له توبة، رجع يلعب ببني آدم حتى إنه لم يسأل اللَّه إلا أن يُنْظِرَه لذلك يلعبُ بهم، حتى يحرمهم الخير، ويُلقيَهم في الشر، فلما لعب بأبيهم آدم حتى أخرجه من الجنة جعل يلعبُ كذلك ببنيه، وإبليس يتنقل في سخط اللَّه، فيخرج من سخط إلى سخط، من كبر إلى حسد، إلى غير ذلك، حتى إنه سأل من اللَّه الإنظار، ليعمل في ذلك، فأجابه اللَّه لذلك زيادة في نكاله، واستكثاراً من غضبه، فإنه قد آيسه من رحمته، فلا مطمع له فيها، فلما علم أنه كذلك جدّ فيما يقربه إلى غضب اللَّه، ويدعو من اتبعه إلى ذلك، وأما آدم فإنه لا يزال يتنقل من رضى إلى رضى، من بكاء على خطيئته، ثم إلى إخبات ثم إلى تواضع .
وقال رضي اللَّه عنه: غلبت الغفلة على أهل الزمان، حتى عمت في أمر دينهم ودنياهم وصلواتهم، وسائر أفعالهم، مع أنهم يسمعون الكتب، ويقرأونها، لكن إذا فتح أحدهم كتاباً كحِجَاب، يريد أن يرفعه .
ما قال في حديث النفس في رمضان والسجود
وذكر رضي اللَّه عنه معنى حديث( ): (( إن مردة الشياطين، تُغَلُّ في شهر رمضان ))، فقال: ولكن هذه الخواطر التي تَعرِض، قد كانت معجونة في الإنسان من الشيطان قبل دخول رمضان، وذكر ابن عربي: إنها من النفس، وذكر: إن خواطر السجود في كل وقت من النفس وإن الشيطان إذا سجد ابن آدم يشتغل بنفسه ويعتزل يبكي .
(1/235)

ما قال في سهر كل الليل في رمضان
وقال رضي اللَّه عنه: سهر كل الليل في رمضان بدعة لم يفعله السلف الصالح.
ودعاني رضي اللَّه عنه يوماً في رمضان بعد صلاة الظهر، لكتابة ورقة، وكنت نائماً فقمت وتوضأت وأتيته وصافحته، فقال: توضأتَ؟ قلت: نعم، قال: نمتَ بعد الظهر؟، قلت: نعم، قال: ونمتَ أيضاً قبل صلاة الظهر؟، قلت: نعم، فقال: إن اللَّه يمقت على نومتين في اليوم، إلا إن كان من شدة سهر، ولم يحصل له قرار نوم في الأولى من تشويش . وكان الأمر كذلك .
وقال رضي اللَّه عنه: لا يطالب العبد في العبادات بإقامتها في الباطن، حتى يقيم الصورة الظاهرة، فإذا أقامها وأحسنها فخض معه في الباطن، ولا يمكن إقامتها باطناً إلا بمقدمات، ورياضات، وترك الخوض في شيء( ) قبل فعلها، ولولا فضل الجماعة ما صلينا صلاتنا هذه( )، لَكُنَّا نصلي في الخلوة( ).
وكان رضي اللَّه عنه يبالغ جداً في النهي عن الكلام حال انتظار الصلاة، وينكر أشد الإنكار على من يفعله، حتى إني سلمت عليه يوماً وهو خارج للصلاة، من رجل أوصاني له بالسلام، فنهاني عن ذلك بعد الصلاة، فقال: لاَ قَطُّ تسلم علي من أحد حال خروجي للصلاة، فإنا نخرج للصلاة باجتماع وحضور، وقطع الهم عما سواها .
مسئلة فقهية
وقال رضي اللَّه عنه: ينبغي أن يقرأ المأموم الفاتحة بعد ما يؤمن على قراءة الإمام الفاتحةَ في الحال من غير تخلف، فإن أتى بها تامة في سكتة الإمام فهو الأحسن، وإن بقي منها قليل، يتمها بعد ما يشرع( ) في السورة، ثم يستمع قراءة الإمام، ولا يمطِّطها حتى يبطئ ولا يمكنه سماع قراءته السورة، فمن فعل ذلك فهو عاميٌّ مخالف، وقد كنا أردنا أن نفعل نبذة في الصلاة للمصلين، لكن رأيناهم معرضين عن الصلاة فتركنا( ) .
(1/236)

أقول: وكثيراً ما ينهى نفع اللَّه به، عن الجهر بالقراءة خلف الإمام، ويذم من يفعله، وعن الجهر البالغ في تكبيرة الإحرام، وعن التطويل والبطء بالنية، سيما عندما يدرك الإمام راكعاً، وعن الكلام وقت الجلوس للحِزْبِ( )، أو بين الأذانين، لانتظار الجماعة، وعن التلهي حال الحزب بذكر أو غيره، حتى لا يشعر بالغلط ليرده، ويقول إنه لا يمكنه الاجتماع في واحد منهما، لا ذِكْره، ولا الحزب، فاشتغاله إذ ذاك ضائع .
ما كان يقرأ في السكتة
وأسمعه رضي اللَّه عنه دائماً يقرأ في السكتة بين الفاتحة والسورة، في الصلاة الجهرية، في الركعة الأولى :{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } إلى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}( )، وفي الثانية :{رَبِّ أَوْزِعْنِي} إلى: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِين}( )، كما سيأتي في الخاتمة من ذكر السور والآيات التي كان يواظب عليها في الصلوات .
ما قال في المواساة
وقال رضي اللَّه عنه: لبعض السادة( ) وكان صاحب ثروة: لا تشذ واتبع طريقة أهلك، فمن شذّ عمّا هم عليه شذ إلى النار، وتريم كانت مؤسسة على السنة، وإنما تغيرت الأمور بسبب الحوادث القريبة، فلا تشك في ذلك، وسر على الطريقة، ودع السبل وهي تتبع الرخص، وما يسهل، أهو يصح أن يأكل اللحم ثلاث ليال وصاحبه أو جاره لم يذقه، سيروا مثل سيرة عبداللَّه( ) باعلوي، هذا هو العيش، لا غير ذلك، وكان يلتمس( ) بطون المساكين، يتحسس إن كان بهم جوع فيواسيهم، وكان جيرانه من شدة حيائهم منه، لكثرة عطائه لهم، يوقدون التنور وهم طاوين، يوهمونه أن عندهم عشاء، وكان إذا علم بهم كذلك يغضب كثيراً، ويقول: تريدون أن يخسف اللَّه بنا، اللَّه يحللكم( ) يوم تباتون بلا عشاء ولا تخبرونا وهؤلاء( ) يُخَبون ما معهم ويجيئونك يطلبون.
(1/237)

وذكر رضي اللَّه عنه أحوال الناس في طلب الدنيا وكثرة سعيهم لتحصيلها، فقال: أحسن أحوالهم بعد الصدقة الراحة من متاعب الدنيا، فإنه ليس لهم منها إلا فائدتان، إحداهما التصدق في سبيل اللَّه تعالى، خالصين في ذلك للَّه، والثانية الراحة فيها، وأهل الزمان خالفوا اللَّه ورسوله، ولا عدلوا في أنفسهم وأهلهم وجيرانهم، وهم على هذا، ويطلبون والياً عادلاً فمن أين لهم ذلك، لو طلبوه( ) في النار ما وجدوه، لكن سلط اللَّه، عليهم ظالماً بلا كيل، لأن والي الأمر لا بد له من نظر، إن لم يكن نظر دين كان نظر دنيا .
وقال رضي اللَّه عنه: من العجائب أن يتمنى الإنسان أهل الخير، وهو ليس فيه خير، وقد مضى جميع الناس إلا يتأسفون عليهم، ومن تأمل الكلام وأشعار العرب، عرف ذلك، وإذا رأيت الإنسان قائماً بنفسه لك فلا تطالبه بحقك .
وقال رضي اللَّه عنه: تُجَيْبَزْ، ولا تخلي الأمور الباطنة تظهر عليك، وإذا وقعت في مصيبة، فاذكر النعمة تسهل عليك، والأمور الباطنة هي كالغضب، والحقد، والحسد، والعجب، وغيرها .
وقال رضي اللَّه عنه: الدنيا ما هي إلا كاس بكاس، والدنيا منذ خرجتَ من بطن أمك وهي وراءك وأنت مدبر عنها، والآخرة أمامك وأنت مقبل عليها، ولا أحسن للإنسان في هذا الزمان من سلاسة الطبع( ) والمَيْلة( ) فينبغي له أن يأخذ بذلك.
وقال رضي اللَّه عنه: بلغنا أن بعض الناس قال: ما في تريم إلا الفقيه المقدم في التربة، والسيد عبداللَّه الحداد في الأحياء، فنعم الفقيه المقدم، إنما هو قبر، والذي هنا( ) هو الباب، وليس الباب كالقبر، ولا يعرفون الباب حتى يفارقهم ويصير قبراً، وبعدما تنفتح عليهم الأمور( )، فإذا رأوه قالوا: هذا هو الباب الذي كانت تنفتح علينا الأمور( ) منه .
(1/238)

أقول: مراده بالأمور المذكورة أولاً التي تضرهم وتكربهم، والمذكورة ثانياً هي التي تنفعهم وتفرج لهم من الأولى، ولكن لا يعرفون الباب الذي هو باب الفرج، حتى يصير قبراً، فلا عاد يبقى متلق للأمور النازلة عليهم، وكان الأمر بعده كما قال نفع اللَّه به .
ما أشار به إلى وفاته
وقد أشار رضي اللَّه عنه في مجالس كثيرة إلى وفاته، قبلها بأربع سنين، وتَغَيُّرِ الحال بعده ونسينا ما أشار إليه، وما ذكرنا إلا لما رأينا المعاينة كالخبر، وذلك سنة 1128 كقوله لي في ربيع الأول منها، في كلام كثير: لو قد سافرنا إلى مكان، وقلنا لك اجلس أنت في تريم، لا تسافر أتجلس؟، قلت: لا بد لي من امتثال أمركم، فأجلس بمشقة وتكلف، قال: فإن قلنا لك سافر أنت؟، قلت: أسافر أيضاً بمشقة وكلفة، قال: فلو سافرت تكاتبنا؟، قلت: نعم، ولكني لا أحب أن أسافر إلا إن عشتُ بعدكم، لأني لو مكثت غائباً عنكم نحو سنة أو ستة أشهر، اشتغل خاطري بألم الفراق، قال: نعم، لكن ليس الصادر كالوارد، فسفر الآخرة مثل سفر الدنيا فلو قد متنا تسافر؟، قلت: نعم، ولا أجلس يوماً واحداً إلا لعجز، قال: فإن قلنا لك ابق ولا تسافر؟، قلت: امتثلت ولا بد، قال: فإن عَيَّنا لك مدة؟، قلت: لا عذر منها، قال: نعم، لا نأذن لك في السفر حتى يستقل من معك، فلا نأذن لك في السفر حتى يستقل أحد من العيال، ثم بعد ذلك نأذن لك، وقد استقلوا حينئذ بحمد اللَّه وخاب سعيُ من ناواهم .
(1/239)

وكذلك في شعبان منها قال لي في المدرس، عشية يوم 27 منه: أتحفظ أبياتاً لأبي تمام، ذكرها الشَّرَجي في "طبقات الخواص" في ترجمة شيخه، فلم أحفظها، فسأل عنها الحاضرين في المدرس، فما منهم من يحفظها، فقال نفع اللَّه به: احفظوا وعوا، وإلا فما ينفع رفع كتاب، وحط كتاب، وتسويد الأوراق، فترى الأوراق مملوءة سواداً كثيراً، فقد جاء في الخبر: إنهم( ) كانوا يتعلمون القرآن على أربع آيات، يُلَقَّنُها الرجل، ولا يُلَقَّن غيرها حتى يتقنها حفظاً وعلماً وعملاً، فَفَتَحْتُ الخزانة، وأخذت طبقات الخواص، واستخرجت ترجمة شيخه أبي بكر بن محمد العُسْلقي( )، قال وكانت أيامه كلها خضرة، وأوقاته كلها نضرة، فاللَّه المستعان على تلك الأيام كما قال أبو تمام( ) :
كانت لنا أعوام وصل بالحمى فكأنها من طيبها أيام( )
ثم أعقبت أيام صد بعدها فكأنها من طولها أعوام( )
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فانظر إلى هذه الإشارة القاطعة، الجاعلة الشك يقيناً، والخبر عياناً، وغير ذلك كثيراً، حتى إني لما رأيت ما دهم بعد وفاته من الهموم، لم أطق الجلوس في مكان أَلِفْتُه معه في حياته، فأزعجني ذلك للسفر إزعاجاً لم أطق أخالفه، وأرجو من حبايبنا العذر والدعاء لي بصلاح الحال والمآل .
ومن تلك الإشارات، أنه رضي اللَّه عنه قال يوماً في مجلس القراءة عشية: من منكم يحفظ الأبيات التي سمعت في عمر بن الخطاب، ويقال إن منشدها كان من الجن، فلم يستحضرها أحد من الحاضرين، فقرأتها يوماً عليه من كتاب "حياة الحيوان"( ) وذلك عندما خرج لصلاة العصر يوم الثلاثاء في 26 ذي القعدة من سنة 1128 في الضيقة، قال في ذلك الكتاب: أنشدها منشد من الجن، في أيام منى فما لبث بعدما رجع إلى المدينة أن ضربه العِلْج وهي :
عليك سلام من أمير وباركت( ) يد اللَّه في ذاك الأديم الممزق
(1/240)

فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدَّمْتَ بالأمس يُسبقِ
قضيتَ أموراً ثم غادرتَ بعدها سوابق في أكمامها لم تُفَتَّقِ
فلما قرأتها عليه من الكتاب قال نفع اللَّه به: ما مرادنا إلا نعلمك الاستحضار عند المذاكرة، وأما أنك تجيبها في الكتاب فذاك سهل، وكل يعرفه، فقال السيد عبدالرحمن بن حُمُدِّه عيديد، وكان حاضراً: ما أحسن فلاناً، لو كان حاضراً لَفَهِم، يعني به سالم بافضل بلحاج، فقال سيدنا نفع اللَّه به: ما عليك لكن من ربيناه يفوق غيره، إلا أنه لا يظهر أثره مع من رباه، كالسراج في النهار، لأنا نربيه تربية لا يعلم بها، وإن كانوا أحسن منه بديهة، فهو أحسن منهم بذلك( )، وإن كانوا خيراً منه في الكلام، فهو خير منهم بالأوراد، والكلام فيه إظهار للنفس، ثم إن التعلم ممكن، ولكن إنما العلم بالعمل، فإذا علمت شيئاً فأجهد نفسك في العمل به، لتعرف النفس أن العلم بلا عمل لا ينفع، وأن ذلك هو المقصود منه، انظر إلى ابن علوان كيف لما اجتهد في تعلم العلم والأدب، حتى أحكمه ليكون في منزلة أبيه عند السلطان، وما نفعه إلا لما حصلت له من اللَّه العناية، رجع إلى العمل بعلمه، فانتُفِعَ به، فقال السيد عبدالرحمن: نعم هكذا مليح، إذا حصل بالغَرْف من غير كد، فقال سيدنا: نعم، ولكن أصلِح وِعاك من أسفله، وغَطِّهْ من فوقه، لئلا يسقط ما فيه أو يتَطيَّر( )، فيسلم لك ما فيه ويحتفظ حتى إن احتجت إليه نفعك، وإلا بقي لك عُدة كالخزانة، ثم قام نفع اللَّه به إلى الصلاة، وهكذا كلامه على عادته، إذا جلس في الضيقة خارجاً للصلاة، فإذا نهض منها داخلاً إلى الصلاة، فلا عاد يقبل الكلام، ولا يُحب إن أحداً يكلمه حتى يرد السلام، اهـ ما أردنا ذكره من تلك الإشارات الحاصلة منه نفع اللَّه به بالتعريض في هذه السنة، وإلا فهي كثيرة فيها، وفي غيرها لكن أكثرها فيها، حتى إنه رضي اللَّه عنه قال لي في شعبان

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-10b"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip