//

تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10e









(2/165)

فرحم الله امرءاً عرف زمانه، وسالَمَ أقرانه، وقد قال سيدنا علي: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وما عاد إلا تَغافَلْ ما أمكن التغافل من غير مداهنة، والخير في هذا الزمان وأهله قليل، ولكن إذا وجد يرجى أن يدفع الله به عن الناس البلاء، لأن السراج الواحد يضيء في أماكن متعددة، وقد كان الرجل( ) يقرأ الآية من القرآن فيمرض حتى يعاد، لعظم ما يظهر له من معانيها، كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وآخر سمع النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يقرأ الطور، فكاد قلبه أن ينخلع، لأن قلوبهم وأبدانهم متعلقة بالآخرة، وهؤلاء على العكس، قلوبهم وأبدانهم متعلقة بالدنيا، وتركوا قلوبهم مفتوحة للدنيا، فدخلت فيها وقَلَدَتْها( )، وبقيت من داخلها، ومن يحتاج إلى سعي وكسب وعبادة، فليجعل الكسب في بعض الأوقات والعبادة في الباقي، والليل فيه البركة، فليجعل معظم اجتهاده فيه، وكل هذه الأشياء ما تنالها إلا بالصبر، أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: سِترُ الأمور بحيث لا تظهر للناس غم( )، خصوصاً إذا لم يحصل منهم نفع، ولا كلمة طيبة، والتدبير عَسِر خصوصاً في أمر المعيشة إذا لم تعرف من أين يجيء، وكم ظاهر الحال سُوْقِيٌّ أَرْوَحُ منه، وقد قال بعض أهل البيوت الثقيلة لعبد كان يحمل لهم الماء: من أتعب من يكون في البيت، فقال: أتعب من يكون أنا وأنت، أنا آتي لهم بالماء، وأنت تأتي لهم بالطعام، وهم يأكلون ويشربون ولا يدرون، وكلُّ مقيمٍ بحضرموت فهو في التعب( )، إلا من أعطاه الله قلباً بارداً أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: الأرزاق وحشية لا بد لها من قنص .
وذكر رضي الله عنه المطر، فقال: الإنسان خلق من الطين، وما يلينه إلا الماء.
وذكر رضي الله عنه العين، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من شر الجان، ومن عين الإنسان. وإن بعضهم كان يحس حرارة تخرج من عينه( )، ثم قال: كلُّ متعلقٍ بشيء يكون راغباً فيه، ورغبة الإنسان تُتْلِفْ .
(2/166)

وحضر مجلسه رضي الله عنه يوم عيد الفطر من سنة 1124 في الغيلة على الغدا، رجل من الدَّراويش الهنود فذكر عند ذلك المساكين، وقال: نحن في بركة المساكين، وهم في بركتنا، وهذه هي حالة التجريد والإنقطاع الذي يذكر عن الصالحين الأولين، ما هو متعلق بمال ولا حال ولا أهل ولا راجي لذلك، بل منقطع عنه بقلبه لكن بقي معرفة الشروط وأمور الباطن وقوةُ اليقين، ومعرفة الرُّخص وأوقاتها، والتصوف على شعبتين، إما ظاهر مشهور، كحالة الحسن البصري، وحالة الإمام الغزالي أول عمره، وإما خامل مستور كحالة أويس القرَني، والإمام الغزالي آخر عمره، وكذلك الفقه أو قال العلم الظاهر وإن كثرت طرقه، فهو على شعبتين إما عالم على الحق معترف بالتقصير، وإما عالم فاجر مخلط، ثم قال: ولو خيرت أنا بين حالتي التصوف، الظهور أو الخمول، لاخترت حالة الخمول لأنها أسلم، يبيت الإنسان في مسجد طاوياً لا يعلم به أحد، وإن كانت الأولى فيها نفع للمسلمين، فلو كانت أحسن من الثانية لما تركها كثير من الأكابر واختاروا الأخرى، أحد منهم من أول أعمارهم كإبراهيم بن أدهم والفضيل وغيرهما، ومنهم في آخر أعمارهم كالإمام الغزالي وغيره .
وأنشد منشد بحضرته رضي الله عنه في مسجده الأوابين، يوم عشر صفر سنة 1126 بقصيدة ابن الفارض :
ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا ذنب ولا حرج
فقال للمنشد: أتحسن أن تشرحها؟. ثم قال: الكلام في الأعمال ومعاملات النفوس، ورياضتها أسلم وإلا فعلوم الحقائق إن ما غلط في التصنيف فيها غلط في إخراجها لغير أهلها، والإختصار والإيضاح أولى، فاختصِرْ ما فيه النفع .
(2/167)

وقال رضي الله عنه: كان المعزمون في وقت الشيخ عبدالقادر، إذا طلب أحد منهم عزيمةً، لم يفعلوا ويقولون: إنا نحضر مجالس الشيخ عبدالقادر. ومَرُّوا سلفنا ولم يجلسوا لذلك، فقلنا: ذلك منهم لعذر، لأن الناس في وقتهم مستجيبون، ويتنافسون في الطاعات، والمتصدقون إذ ذاك أكثر من المتصدق عليهم .
قف انظر هذه المقالة
وكنا أردنا أن نفعل مثل ذلك يوماً في الأسبوع في الحاوي، أو في مسجد باعلوي، لكن رأينا إعراض الناس إما اجتمعوا وأشغلوك، وإما جاءوا يومين وانصرفوا، وهذا يحتاج إلى إذن وإلى مساعدة، وهذا الكلام ليس ككلام التصنيف، لأن هذا عام يجتمع فيه طبقات الناس، وحتى النساء، وكل أهل طبقة من الناس في موضع وحدهم، وكان العزم منا على ذلك من زمان قديم، حال القوة والنشاط، وأما الآن لو جاءوا يطلبون ويسألون ما أجبناهم، وقد عزمت على أن لا أتكلم مع أهل هذا الوقت، فإن كان من حيث التحذير، فقد بلغ ذلك منا حده، فترى الإنسان منهم إذا تكلمنا في أمر الصلاة، وإنها بترك الطمأنينة لا تصح ونحو ذلك، قام يصلي صلاة لا تجوز، وقال: يُبطِّل علينا صلاتنا أو قال على الناس صلاتهم، أو في أمر الزكاة والتقصير فيها، خرج وقال: يغتاب الناس، فينبغي إذا سمع أحد ما فيه، فليمتثل ولا عاد يقول: يغتاب الناس، وهل قد ذكرناه بالخصوص حتى إنا اغتبناه . قال: وكان الشيخ عبدالقادر إذا تكلم في مجلسه كثيراً، ولم ير أثر الإجابة على الحاضرين، يقول: لا تظنوا أني أتكلم عليكم، إنما أتكلم على أقوام لا ترونهم، وعلى أقوام تشتب في رؤوسهم النار، وكان ابنه عبدالرزاق جالساً تحت المنبر الذي هو قائم عليه فرفع رأسه فاشتبت فيه النار فنزل الشيخ فأطفأها بنفسه، أو كما قال .
(2/168)

وقال رضي الله عنه: السر في العقيدة، ما هو بالأوراق، كما في قصة ولد الشيخ عبدالقادر، حيث تعلم العربية والعلوم واجتهد فيها حتى أتقنها، يريد أن يقوم مقام أبيه في الكلام على الناس وَوَعْظِهم فاستأذن أباه يوماً أن يتكلم على الناس، فقال له: ليس هذا بالفصاحة وإنما هو سر، ثم أذن له فصَعَد على المنبر، فتكلم بكلام بليغ فصيح، فضجوا واستغاثوا منه بالشيخ وأبَوا من سماع كلامه، فنزل وطلع الشيخ والده، فأول ما تكلم به أن قال: البارحة قَدَّمَتْ لي زوجتي أم الفقراء دجاجة في غضارة، فدفعتها الهرة فانكسرت فلما سمعوا ذلك ضجوا بالبكاء والنحيب بأجمعهم حتى لم يبق أحد إلا بكى فالشأن في السر والإقبال القوي فَخَلِّها( ) تُقْبل أولاً.
ما قال في ضرب الأمثال
(2/169)

ومر في القراءة في "الإحياء" ضرب بعض الأمثلة في كتاب الشكر، فقال نفع الله به: هذه الأمثلة لإيصال المعاني إلى قلوب العامة، إذ لولاها لما عرفوا تلك المعاني، ومثله ما مَثَّل به في الذكر، من إنه كالجوز له قشران ولب ولب اللب، ولا بأس بضرب الأمثال، فقد ضرب الله ورسوله للناس الأمثال، ولكن قال الله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُون}( ) وإن اعترض على ذلك معترض، فإنه منافق، فإن المنافقين واليهود قد اعترضوا في تمثيل الله بالذباب والبعوض والعنكبوت وأمثالها، ولكن قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا}( ) الآية، وكل من اعترض في شيء فإن ذلك هو الذي بلغه، ولو بلغه أكثر من ذلك لاعترض عليه أيضاً، وقد سمعنا فيما سمعنا عن عبدالله بن عمرو بن العاص إنه حفظ من رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ألف مثل، ولما قيل له: ألا قاتلت مع علي رضي الله عنه؟، قال: امتثلت أمر رسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إذ قال لي: لا تفارق أباك، فتأولَه في هذا، ولكن بان لهم الأمر بعد قتل عمار، إذ كل من الفريقين معه علم من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إنه تقتله الفئة الباغية، حتى إن معاوية رجع يعتذر من سيدنا علي رضي الله عنه، وعند ذلك جبنوا واستحيوا، إلا بقي معاوية يشجع عَمْراً، وعمرو يشجعه، ولا عاد ينفع، فينبغي لمن أراد الإقدام على أمر خطر أن يتحقق الأمر أولاً، وخصوصاً إذا لم تطعه نفسه على تركه إذا تبين خطؤه، أو يتركه من أول الأمر احتياطاً أو كما قال .
(2/170)

وذكر رضي الله عنه الشهرة، فقال: الشهرة ما تعطي الرفعة عند الله تعالى، فكم من مشهور في بركة مستور، وكان سيدنا الفقيه المقدم غاية في الخمول، وله من التواضع ما لا يكاد يوصف، حتى إنه مع عُظْم حاله يكره أن يسمى شيخاً، وأول من سُمِّيَ به ابن ابنه عبدالله بن علوي ابن الفقيه المقدم، وكان عبدالله إذا قيل له: يا شيخ، قال: الشيخ أبوك، وإذا سمع الإنسان سِيَرَ الأولياء اليوم يقول: ما هذه إلا أضغاث أحلام، فأين هي اليوم، وإنما المتعنتين هم الذين يطلبون معرفة أيهم أفضل، وبيقين: إن الأنبياء والأولياء بعضهم أفضل من بعض، ولكن من الذي يعرف ذلك، وإذا وُزِن بعض الفضائل ببعض عُرِفَ الأفضل، ولكن في ذلك فضول ولا حاجة إليه، وإن دعت حاجة إلى ذلك ينظر بقدرها، كما دعت العلماء الحاجة في أمور العقائد بسبب المعتزلة إلى تأويل وتفضيل، وإلا فلولا ذلك لكان بعدما يحرز معتقده ودينه، ما عليه إلا العمل، ولا يوسوس إلا إن كان حصلت وسوسة في العمل، كما تكون في الصلاة، وخذه من هنا من حديث قول الله تعالى لآدم: أَخْرِجْ بعثَ النار إلخ .
وذكر رضي الله عنه الشيخ عبدالقادر نفع الله به، قال: كان صاحب رياضات ومجاهدات، حتى إنه قال لأمه: هبيني لله، فوهبته، فخرج إلى العراق سائحاً متغرباً، فما نالوا ما نالوا بسهولة، وكان إذا غلب عليه الحال، إنما يقول مثل قوله: يا غلام سِرْ مِيلاً زُرْني، أو كل عندي لقمة، أو اشرب من عندي شربة، ونحو ذلك، ولا يفضل نفسه على أحد، فإن عباد الله العقلاء لا يفضلون أنفسهم، فكيف الأولياء.
(2/171)

وقريء عنده شيء من نظم ابن الفارض الخمرية وغيرها، فقال نفع الله به: أشياء تظهر لهم بعد الرياضات والمجاهدات، وقد ذكروا: إنه لا بد قبل الدخول في السلوك والرياضات والمجاهدات من معرفة العلم لئلا يتغير اعتقادهم من ذلك( )، لأن للشيطان فيها مجالاً، ولهذا لابد فيها من موافقة الشَّرع الصريح الذي هو الأصل، ماهو أقوال العلماء واختلافهم، ألا ترى كيف اعترض( ) للشيخ عبدالقادر، فامتد له عمودًا من نور، وقال له: أسقطتُ عنك التكاليف، فقال له: إخسأ يا لَعِين، فاضمحل عند ذلك، فقال له: قد فتنتُ قبلك بهذا سبعين صدِّيقاً، فبم علمت ذلك؟، قال: بقولك: أسقطت عنك التكاليف، وكذلك قصة الذي شكوه إليه( )، لما قال إنه ينظر إلى الله عياناً فعذره الشيخ بين الناس، وقال إنه انخرق بصره إلى قلبه فرأى بعين قلبه، فظن إنه رأى ببصره، وعاتبه خفية في تكلمه بذلك بين العامة . ورؤية العقل بالعلم، فإذا دقق فيه فكأنه رأى بعينه، حتى إن الشيخ أباعبدالله القرشي قال: انفتح لي باب النظر يوماً فرأيته من كل الجهات الست، وهي رؤية العقل، فلو كانت رؤية بالبصر، فما كان فرق بين رؤية الأنبياء، ورؤية غيرهم( )، وهذه الأمور كلها فيها القرب من جانب، والبعد من جانب، ولا فيها شيء من الحلول والتشبيه . واسمعوا عنا: السعيد في مثل هذه العلوم يمرها ولايدري بها، وإنما يمرها للتبرك، ولايتفكر فيها، فإن التفكر فيها ضلالة، فاحفظوا هذا عنا وانقلوه، فربما تدركون أحداً .
ما قال في الغزل
وسمع رضي الله عنه: شيئاً من نظم السودي فيه غزل، فقال: يذكرون أشياء لا يعرفونها، يعني مايشبه ذكر النساء والخمر، وهم بُرَآءُ منها، فيدل هذا إن هناك شيء آخر، ولهم خمر وراح غير ما يعرفه الناس، ولا حرج على من تغزَّل، وإنما يُخشى أن يستزل به الضعفاء، وصاحب الحال معذور فيما يقوله لكن يخشى عليه في آخر أحواله أن يغلط بشيء من أمور الدعاوي .
(2/172)

ماقال في الوجد
وتكلم رضي الله عنه يوماً في الوجد فقال: من تمكن في روحه غلب عليه وجد الروح، ولا يظهر عليه وجد البدن، فإنهم لا يرونه شيئاً، ومن هو كذلك غلب على كلامه وجد الروح، كما إن من غلب عليه أمر الجسم، غلب على كلامه الكلام في أمر الجسم ولا معه إلا وَجْدُ الجسم أو كما قال .
ما قال في الوسواس
وذكر رضي الله عنه: الوساوس في الصلاة والتلاوة والذكر، وقد فَصَّل ذلك في "الفصول العلمية"، وفي "إتحاف السائل" أكثر، فقال: لا أحسن للإنسان في الصلاة من تركها [ أي الوساوس ] والإعراض عنها، ولا شك إن الخواطر الحاصلة في طاعة تدعوه إلى طاعة أخرى إنها من الشيطان لأنها تسلبه الحضور، فإن دعته إلى مباح كان أخس، فإن كان إلى حرام والعياذ بالله فالأمر أشد، وإذا لم يمكنه الحضور الكلي التام، الذي يعرفه من ذاقه، وفيه يكون اللسان تابعاً للقلب، فلا أقل من أن يجعل القلب تابعاً للسان، بحيث يجري عليه معاني مايجري به اللسان، ويتأمل مايقرؤه، ومن العجائب إن الإنسان في حالة الأكل تَقِلُّ خواطره، لأن النفس مجتمعة على مطلوبها، فإذا قام إلى الصلاة تفتحت عليه الخواطر من كل جانب لأنها خلاف مطلوب النفس فتضيق منها.
(2/173)

وقال رضي الله عنه في قولهم: حضرةُ الله: هي حضرة معنوية، ومن حضر في صلاته، فهو في الحضرة ومن وسوس فيها بمباح فهو خارجها، أو بمحرم فهو في حضرة الشيطان، والرياء هو الفعل بالقصد، غير الخواطر التي تخطر من غير اختيار فإن قلوب الضعفاء تكثر فيها الخواطر من هذا الجنس، حتى يتخلى القلب من الخلق، وقليلٌ خطورُها في قلوب المتقين، فإذا خطر منها خاطرٌ، نادراً بادَرُوا إلى الرجوع عنه، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الذِّيِنَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا}( ) الآية، وذلك حين يتخلى القلب وينخلع من كل ماسوى الله تعالى، وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يعز وجوده، ويُتَحَدَّثُ به ولا يوجد، أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: النفس تحن إلى السماع أكثر من حنين الروح، لأنها تطرب إلى هذه الأمور، وإنما لذة الروح بالمعاملة( ) وسماع القرآن، والنفس كثيفة تحب هذه، أما ترى الضَّعْفا( ) كيف يرقصون عند سماع الأشعار، فكل هذه حظوظ النفس، وإنما ميل الروح إلى العالم العلوي، ومن نزل منه نزل إلى أسفل السافلين، وإن الله ما أنزل الروح إلى الجسم إلا بعد ما أخذ عليه العهد، فكلما تعلق بالحادث( ) فهو ناكث، وذكر بعضهم: إنه إذا بالغ في الرياضة إن الروح تسمع طنين العرش، فتجد لذلك من اللذة ما لا يدخل تحت الوصف .
(2/174)

وحضر مجلسه رضي الله عنه ليلة الجمعة وقت الذكر بعضُ العامة وكان قد تفقر فتحرك فلامه على تحركه، وقال له: أنت على طريقة العيدروس أو طريقة بن علوان؟، فقال: بل على طريقة العيدروس، فقال: فَلِمَ تتحرك؟، فقال: لضيقٍ يحصل في قلبي، قال: هذا من الشيطان، لأنه يُضيِّق القلبَ إذا دخله، وأما الحق فإنه يُوَسِّعُ القلب، قال الله تعالى :{أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ}( ) الآية، وقال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( إن النور إذا دخل القلب انشرح له وانفسح )). فإذا حصل عليك مثل ذلك فليقرأ عليك أحدٌ شيئاٌ من القرآن، وإلا فقم إمش خطوات، والعامي الذي لا يعرف الطريق يَدخُل الشيطانُ في صدره، والشيطان إذا دخل القلب لم يُرِد أن يبقي من الإنسان للحق بقية، وقد ذكر ابن عربي إنه حضر محضراً فيه سماع، قال: وكان في المجلس رجل صالح مكاشف، يعتقده الحاضرون، فبينما هم كذلك، إذ به يقول: إن الشيطان دخل إلى الحلقة، وإنه دخل في صدر فلان، فما تم كلامه حتى قام الرجل الذي ذكره يستوجد.
انظر إلى عَتْبِه على من لم يحضر ضيافته
(2/175)

وعتب سيدنا نفع الله به على رجل ممن يتخدم له أن لم يكن حضر وليمة ليلة العشرين من رمضان، فقال له: أتتأخر لَمْ تجئ وأنت تطيق، ولا عذر معك يمنع، ماهذه حالة المتعلقين، والتغصَّاب( ) ماينفع، ألا ترى فلاناً( ) ندر( ) وحضر وهو محموم، وما طلع إلا راكباً، ولو أُخْبِرتَ بحَجَّة في شبام سرت اليها، فقد علمنا إنك لما كنت تدور للحَجَّات لا يجيء منك شيء لأن حب الدنيا ذنب لا يغفر( )، فقال الرجل: ياسيدي، الآن عمري سبعون سنة، وليس معي منكم شيء، ولا عُرِفَ لي بكم اتصال ولا نسبة، فعسى ببركتكم يقع لي شيء، فقال رضي الله عنه: أوَ أَنَا أطرح فيك ما ليس فيك، إنما الأنبياء والأولياء مهيِّئون ما جعله في العبد، ومن لم يجعله الله فيه، فماذا يفعلون به، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( إن الله هو الرزاق، وإنما أنا قاسم )) . لكن معك القرآن ما يسيبك، ولو إنك لم تعرف منه إلا لفظه دون معناه، وما أحد يسيب الدين للدنيا لأن أمور الدنيا معروفة من محارثها وتجاراتها، وما سيب الدين منها: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ}( )، {وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين}( )، لكنك أكثرمن قراءة القرآن والإستغفار والصلاة على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إن سقطت من هذا ما سقطت من هذا، ولو إنك على الطريق التي دخلتها لكان الناس يتبركون بك، ولكن اخرج القابلة إلى الحاوي افطر، والسباق إلى هناك يافلان، فإذا بُسِطَ بساط الكرم فلا أحد يغتر به، فبكى الرجل عند ذلك بكاءً كثيراً، هذا أو كما وقع وقال .
(2/176)

أقول: كل هذا العتاب له، حيث لم يحضر العزيمة العظيمة، وكان لسيدنا بها اعتناء كثير وبمن يحضرها خاصة دون غيرها وإن كان شأنهن أيضاً كذلك، لكن لهذه زيادة حيث جعلها في وقت شريف عند العشر الآواخر، وفيها من تقسيم المدد المعنوي أمر عظيم كما مر قوله: من أكل من طعامنا إلخ، وقول الشعراوي عن الشيخ المتبولي، إنه يحصل بأكل الطعام ما ينوب عن التلقين ولهذا طال عتاب سيدنا لهذا الرجل المشار إليه، فرضي الله عنه ما أشفقه على أصحابه ومن انتمى إليه .
وقد سمعته نفع الله به مرة قال لرجل من السادة اعتادحضور مجلسه يوم الأحد في السبير وقد تخلف عنه ثلاثة أسابيع لِحُمَّى أصابته، وفي كل مرة يسأل عنه، فلما حضر بعد ذلك قال له: أين كنت؟، فذكر عذره، فقال: قدسألنا عنك كلما جلسنا ولم نرك، أتظن أن من تعلق بنا وأمسكناه، أنا نسيبه؟، لا، ولو سَيَّبَنَا هو، أصل إنا نمسكه، ثم بعد لا نسيِّبه أو كما قال .
وأنشد منشد بين يديه بقصيدة فيه، مُدِحَ بها، فقال نفع الله به: نحن مانستثقل من هذه الأشياء، لأن ما وقع لنا طرحناه في بحر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم منبع الفضائل كلها وهو الممدوح بها كلها، فكل من مُدِحَ بعده بفضيلة فإن مدحه يعود إليه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لأنه السبب في حصولها . والشيطان منبع الرذائل كلها، فكل من ذُمَّ برذيلة فذمه عائد إلى الشيطان، لأنه السبب في حصولها، وناس يكرهونها، أحد كذب ورياء وأحد من نفسه .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: من عرف نفسه لم يضره المدح .
وقال له رضي الله عنه رجل: الله الله فينا، لا تنسونا، قال: الأمر في هذا من عندك أي العبرة في حصول الإنتفاع بالعقيدة منك، فمن اعتقد انتفع ومن لا، فلا .
وقال رضي الله عنه لرجل يريد السفر: عليك بحسن الظن في الله مع حفظ أمرِه يكن لك، إحفظ الله يحفظك، وماذا تكون قدرة العبد وجهده، ولكن يبذل جهده في طاعة الله سبحانه، ويعتذر فيما قصر فيه ويستغفر .
(2/177)

ما قال في الذي يأخذ من أيدي الناس
وذكر رضي الله عنه الآخذَ من أيدي الناس فقال: إعتقد إن الله تعالى هو المعطي حقيقة، ولا تُعلِّق قلبك بالخلق، ثم خذ ولا عليك، وإنما المكروه أن يأخذ ما استشرفت إليه نفسه، بأن يرجوه من محل مخصوص، فقد كانوا يردونه كما في قصة الإمام أحمد مع الحَمَّال الذي حَمَّله ابنُه له متاعاً من السوق إلى داره، فشم ريح خبز في البيت، فأعطوه قرصاً فرده فلما خرج من الدار وذهب، أَلحَقَ الإمامُ ابنَه بالقرص خلفه فأخذه فقال الولد لأبيه: لِمَ رده أولاً ثم أخذه آخراً فقال: إنه كان رجلاً صالحاً فلما شم رائحة الخبز استشرفت إليه نفسه فرده وكان صائماً فلما مضى وأيس منه أخذه، فقلت لسيدنا: ما الذي يُذهِب من القلب التعلق بالخلق؟ وكيف له بأن يَقْدِر أن يرد ما استشرفت إليه نفسه مع احتياجه، ولا شك إن الأخلاق المحمودة محبوبة بالطبع ولكنه يعجز عن ذلك؟، فقال رضي الله عنه: حتى يعلم إنه مُصَرَّف غيرَ متصرف فإنه لا يحصل له ما أراد، وأنشد هذين البيتين لأبي الدرداء، وقال ليس له من النظم سواهما :
يريد المرء أن يُعطى مناه ... ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ... ... وتقوى الله أفضل ما استفادا
ثم قال نفع الله به: هذه خصوصيات عزيزة لله سبحانه يجعلها في خواص الناس، ولو كانت في كل أحد ماصار لها موقع وانتفت عنها العزة، ولاختلاف الناس خلق الله الجنة والنار، ولو كانوا على حالة واحدة، لكان إحداهما كافية .
وقال رضي الله عنه: صاحب اليقين يأخذ العطا بشرطين، أن يراه من الله ويستعين به على طاعة الله . وفي قضاء الحاجة ارفعها إلى الله ثم أنزلها إلى من جعلها الله على يديه مع تعلق قلبك بالله .
(2/178)

وقال رضي الله عنه: الأمور الإلهية السماوية أعظم وأعز من الأمور الأرضية السفلية، وكلما قرب إلى العلو زاد على مادونه ولذلك زادت السماء الدنيا على الأرض بأضعاف كثيرة مضاعفة حتى صارت فيها كحلقة درع ملقاة في فلاة ثم هي في الثانية كذلك، ثم هما في الثالثة كذلك، وهكذا إلى السابعة ثم هي وما دونها في الكرسي كذلك، ثم الكل في العرش كذلك، وهكذا وكلما هو إلى العلو كان أعز وأعظم، ولذلك عظمت علوم الصوفية، وعزت على ما سواها، لأنهامن العلو، وهي علوم إلهية سماوية، والعلوم الأرضية دونها فيما ذكر، كعقود الأنكحة وغيرها، ولكن من لزم العلوم الأرضية، بحيث استقام عليها، ولم يخالفها في شيء، أفضى به ذلك إلى العلوم الإلهية السماوية، ولمَّا كان مجرد العلو أعز وأعظم من مجرد السفل، كان الناس في جميع الأشياء درجات بعضهم فوق بعض، بنسبة بعضهم إلى بعض في الإستعلاء والتَّسَفُّل .
وقال رضي الله عنه: قال سيدنا علي في من قَصَّر ثم رجا المغفرة: هبك إنه قد عفى عنك، أليس يفوتك ثواب المحسنين، فسمعها بعض السلف فبكى عليها أربعين سنة، قال الإمام الغزالي: لقد دُفِعْنا إلى أمر إن كذَّبنا به كنا من الكافرين، وإن صدَّقنا به كنا من الحمقى المغرورين .
وقال رضي الله عنه: ما عاد معك في هذا الزمان إلا الصبر والتغافل، ثم ذكر الناس وتقصيرهم في العلم، فقال غرقوا في بحار الدنيا، فترى الواحد منهم كالغريق في البحر، ما يرى بَرَّ النجاة إلا نادراً، كما ينظر الغريق البر عندما يرتفع رأسه بحركة الماء لأنه غريق حيران، ومن هو هكذا لا يمكنه النظر.
ما قال في مدح الخمول
وقال رضي الله عنه: من حكمة الله، إن الخاشع قلبه كالماء ولكنه لم يزل يقسو من المعاصي، حتى يصير كالحجارة، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة}( ) الآية .
(2/179)

وذُكِرَ له رضي الله عنه من حال رجل منسوب إليه، فقال: الولي أو قال: الصالح إذا كان منسوباً إلى أهل البيت، لا يُخشى عليه في ظهوره، ويُحصِّل من هنا ومن هنا، ولكن لا ينبغي أن تظهر في هذا الزمان إلا إن كان معك نجم وقَّاد أو شمس مشرقة، وإلا فإن معك( ) إلا سريج، فاترك الظهور لئلا تطفيه الرياح، ولا تشعله في النهار فلا يكون له أثر، لأن الخاملين فيه على خطر، فكيف بأهل الظهور، لأن فيه رياحاً شديدة وظلمة شديدة، وقد كان في الأزمنة الماضية إذا كثر فيها الفساد إما الظلمة وإما الرياح، فقد يظهرون( )، وأما اليوم فقد اجتمعتا فيه، أو كما قال .
وذكر رضي الله عنه: أقواماً أفرطوا في محبة الجاه والرعونة( )، فقال: إذا استحكم الحسد، ومرة قال: الجهل، يخرج الإنسان عن دينه، فيحتاج أن يسير بالنور المذكور في القرآن: { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِهِ}( )، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}( ) وإلا وقع في الأخرى أي العكس: {كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} فكل شيء في القرآن . ما خرج منه شيء، إلا إنه يحتاج إلى قوة فهم .
أقول: وهذه المقالة تبين معنى المقالة التي قبلها، فالنور في هذه هو النجم الوقاد في تلك، والشمس فيها عبارة عن قُوَّته، والسريج عبارة عن ضعفه، والرياح الشديدة والظلمة عبارة عن شدة الفساد والبدع المشتمل عليهما الزمان الفاسد، والنهار عبارة - والله أعلم - عن الرجل الصالح، والزمان الصالح، فإن نوره كثير لكثرة الصلاح والصالحين فيه أو كنت أيضاً في حضرة شيخك، الذي أنت مقتد به فإن نوره يغشاك ونورك مندرج في نوره، هذا ما ظهر لي من وجه الموازنة والله أعلم .
وقال رضي الله عنه: لا ورع إلا ما كان مصحوباً بالعلم، لأن العلم كالميزان للشيء، إن زيدت قليلاً أخطأت( ) .
(2/180)

وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)): هذا يقتضي عدم الحسد والبغض ونحو ذلك، تعتقد هذا في قلبك، وما عليك من فعل الله أن لا يكون فِعْلُه لك أو له، أو لواحد دون الآخر.
وقال رضي الله عنه: لا يَحدث شيء من الأمور السماوية كمنع قطر، وقحط ونحو ذلك مما يُشغل الناس، إلا بحدوث شيء من العباد كمنع زكاة وقطع رحم وعدم المبالاة بالفقراء، ونحو هذا.
وقال رضي الله عنه: إذا رأيت الإقبال فأقبل، وإذا رأيت الإدبار فأدبر، وإذا أقبلت كن مُوَحِّداً، فانظر إلى الله وعلق به قلبك ولا تعلقه بغيره، بل ارحمهم كما قال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: أيست من الناس لأنفسهم، فكيف أرجوهم لنفسي، ورجوت الله لغيري، فكيف لا أرجوه لنفسي .
وقال رضي الله عنه: الأمور التى يطلب القصاص فيها، ورخص الشرع في ذلك، هي الأشياء الظاهرة بخلاف الباطنة، فمن ضربك تضربه بقَدره ونحو ذلك ولا تحسد من حسدك، أو تبغض من أبغضك، بل تحب الصنعة( ) المحمودة، وتُحرِّم المكروهة على أي حال، وإن كان منطوياً لك على خلاف ذلك .
وقال رضي الله عنه: يسمع بعضُ الناس كلامَ الحال، فيظنه كلام المقال، وليس كذلك، وليس هو على ميزان الحس، بل على ميزان آخر، فإذا سمع من يقول: قال لي الله كذا وقلت له كذا فلا يظن أنه كَلَّمَهُ مشافهة، وإنما هو لسان الحال، كالمريض تراه يحكي لك بحاله، وهو ساكت، فإذا سمعنا من يقول من ذلك شيئاً عرضناه على الشرع، فإن كان له وجه قبلناه، وإلا رددناه، ومن سمع كلامهم وأشكل عليه فليسلم لهم على كل حال، وينسب التقصير إلى نفسه، وقلة فهمه .
وقال رضي الله عنه: إذا أضل الله عبداً وأراد هلاكه، لا ينفعُ فيه شيءٌ.
(2/181)

وقال رضي الله عنه: أمور الآخرة كلها محتملة، ولا على الإنسان إلا أن يؤمن بها مجملة، ولا يفصِّل، وقد استدل بعضهم بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ }( ) إن الجن مؤمنوهم يدخلون الجنة، ولما كانوا خلقوا من النار التي خلق منها إبليس قال العلماء: إنهم لا يرون الله تعالى، ولم يَرد ذلك في صريح الأخبار وصحيح الأحاديث الواردة، حتى إن النساء لم يصحَّ حديثٌ بالرؤية لهن( )، بل في الأحاديث الصحيحة ما يوهم عدم ذلك، كما في حديث يؤذن لأهل الجنة في مقدار جمعة إلخ، وفي آخره فيأتون أهليَهم، فيقولون لهم: قد ازددتم بعدنا حسنا وجمالاً، فهذا شاهد على أنهم أُبْقُوا في منازلهم، ولم يزوروا معهم.
(2/182)

وقال رضي الله عنه: أكثر صالحي الزمان لا يَعلم بأنه صالح، ولو نادى مناد بين السماء والأرض، بالغرور مثلاً، بأن قال: من فعل كذا فهو كذا ما صدقناه، كيف والشيخ عمر يقول: لو صَحَّت لي سجدة لعشيت أهل تريم . ولو وقع اليوم نحو عشرة جماعة في شدة، فدعوا الله ففرَّج عنهم، لادَّعى كل واحد إنما هي كرامته هو، عكس ما كان عليه صالحو الزمان السابق، من أن كُلاًّ يراها إنما هي لصاحبه لا له، فيتداعَون الكرامات كما يتداعَون الأموال، وكانوا يرون الصالح مَن هو خامل إذ هو أكمل، ومَثَل الظاهر منهم والخامل، كرجلين مع كل واحد زِق عسل، فالظاهر أخرج بعض زقه، والآخَر بقي زقه ملآن على حاله، ثم ذكر: إن الشيخ أحمد باجحدب، سأل من المعلم باجابر أن يَصَل تريم فقيل: إنه يخاف فيها من السلب، فقال: أنا أضمِّن له اثنين يَضْمَنون له الأمان من ذلك، واحد من أهل الظاهر، وهو الشيخ محمد بن حسن( )، والآخَر من أهل الباطن، وهو الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس، ولكن لا يجلس في تريم إلا ثلاثة أيام، فجاء وجلس في مسجد بروم للإلباس بأمره له بذلك فألبس نحو 98 نفساً، فقيل له: هل يُسْلَب أهل الظاهر، فقال: إنه من أهل الباطن أيضاً لكن أقيم في الظهور فيجري على ظاهر الفتوى أو كما قال .
وسأل رضي الله عنه عن بعض الخطباء في بعض البلدان، فقيل له: لا بأس به، وكان من المترددين عليه، فقال: هل يخطب ببكاء أو بغير بكاء؟، فقيل: بغير بكاء، فقال نفع الله به: سبحان الله كأنهم بلا ذنوب ،لا، بل هم بلا قلوب، وإلا فكل معترف بالذنب، ومن يخلو من ذنب؟، وأتاه هذا الخطيب يوماً زائراً فسأله عن ذلك أيضاً، فقال له: الخطبة بلا بكاء كالقوت بلا ماء .
انظر إلى هذه التورية به عن نفسه نفع الله به كما هي عادته
(2/183)

وقال رضي الله عنه: الحقائق المجردة لا تنفع، ولا تنفع الأعمال المجردة أيضاً، إلا أنها تستر مولاها، ولا تعجبوا من كلامنا هذا فإن له أصلاً، والكلام الذي له أصل يؤخذ منه معان كثيرة، فقد قال الشيخ أحمد باجحدب: من جالَسَنا أربعين يوماً إذا قال للشيء كن فيكون، أو ما هذا معناه، ولما سمع منه ذلك بعضُ الناس جالسه لأجل ذلك، فلما كان بعدُ، مَرَّ يوماً وهو حامل شيئاً فرماه يريد أن ينقلب ذهباً فلم ينقلب( )، فانقطع عن الشيخ ففقده فسأل عنه، فقيل له: إنه مختلٍ في بيته . إلا إن الإنسان قد يترقى من شيء إلى شيء إن كان أهلاً للترقي، كالذي يريد المنزلة عند الناس، حتى يكون في أعلا عِلِّية، ومن لم يكن منهم كان ينزل إلى أسفل سافلين، لأنها إنما هي مرتبتان إما علّيون أو سِجِّين، وهذا يعرف بالبصائر وله شواهد قرآنية وحديثية: (( من أحب قوماً فهو منهم ))، وغير ذلك وبعيد أن يكون منهم ولا يعمل بعملهم.
وقال رضي الله عنه: من العجائب: إن الروح تحجب الجسم، حتى إن بعض من يغيب ويصعق لو سئل ماذا رأى، قال: ما رأيت شيئاً، منعه الجسم من الإطلاع، ولم يزل الإنسان يلطِّف كثافاتِ نفسه حتى يرتقي إلى طبع الملائكة، وقد تعاوده البشرية، كالذي يمكث مدة عن الأكل ولم يزل يكثِّف نفسه حتى يحصل في طباع الشياطين، وقد يرتاح الروح لحصول مطلب النفس، كمن يفرح بأكلة ستحصل له، وقد تكون النفس كذلك ترتاح لحصول مطلب الروح، كما إذا التذ بالطاعة فالنفس تلتذ بها تبعاً للروح، وكل واحد فيما يخصه أصل، والآخر تبع له فيه، أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: من رأيت فيه أدنى ميل عن شاكلة أهل الزمان إلى طريق أهل الخير، فهو صالح الزمان، ومن رأيته مائلاً عن ذلك كذلك إلى طريق الشر، فهو فاجر الزَّمان .
(2/184)

وقال رضي الله عنه: كان السابقون إذا عملوا شيئاً للدنيا جعلوا بعضه للدين، وقالوا: لا نجعل هذا كله للدنيا، وهؤلاء عميت بصايرهم، فلا ينفعهم مع ذلك رؤية أبصارهم، فتراهم يعملون في الدنيا جهدهم، ولا يهتمون للدين بشيء البتة، فقيل له: إن الإنسان قد يهتم بطلب شيء ولم يكن أهلاً لذلك، فقال: الإنسان أهل لكل شيء، لكنه يطلب ما يطلبه لطاعة الله، ومن طريقه .
وقال رضي الله عنه: قلوب أهل الزمان انقلبت في وجوههم، فلذلك يحصل للإنسان بسببهم خواطر، ولكن هذا أهون من أن يتعطَّلوا من الأمرين جميعاً فيبقون بلا قلوب ولا وجوه.
وقال رضي الله عنه: أهل الزمان ما يراعي أحدهم إلا نفسه فقط، أعني نفسه الدنياوية، لأن النفس نفسان، نفس غذاؤها في لقاء الله ومحبته وذكره ومعرفته، ونفس غذاؤها في الأكل والشرب، فهذه هي التى أفرط أهل الزمان في مراعاتها.
وقال رضي الله عنه: ينبغي أن يحترم الإنسان جانب الربوبية أولاً، ثم جانب النبوة، ثم جانب العلماء العاملين، ثم جانب أولياء الله لأنهم خاصته، ولا يعترض على أحد ويخصصه، والإمام الغزالي مع كثرة ما اعترض على علماء السوء لم يخصص أحداً بذكر.
فائدة
وقال رضي الله عنه: ينبغي للإنسان في هذا الزمان أن يسير إلى الله بلطف، ويأخذ نفسه بالتي هي أحسن .
(2/185)

وقال رضي الله عنه: من أتى بأذكار النوم عند المنام فتكلم بكلام أجنبي، ينبغي أن يعيد { قُلْ يَاأيُّهَا الكَافِرُون} و( الإخلاص ) فقط لأنه ورد أن يأتي بهما آخراً فإن انتبه أثناء الليل ونيته العود إلى النوم يكفيه الأول، فإن قام وليس نيته العود إلى النوم، ثم بدا له أن ينام يأتي منه بما تيسر، ولم يرد في القيلولة شيء، ولا بأس بيسير منه، ولو لم يرد إذ ذاك، فإن أوقاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كانت محفوظة، ثم تكلم كثيراً ثم قال: وأين ملبوسنا ومأكولنا وجميع أشيائنا من الأولين، لكن الدَّائرة دائرة التوحيد تشملنا ولم يرد في شيء أن فيه النجاة من النار، أو من مات عليه دخل الجنة، سوى التوحيد.
وقال رضي الله عنه: خروج الروح عند الموت، من حيث سهولة خروجها، وتعسره على قدر زهده في الدنيا وانزوائه عنها، أو رغبته فيها وتعلقه بها، فمن كان زاهداً فيها فارغ اليد منها سهل عليه خروج الروح، ومن كان محباً لها وواجداً لها عسر عليه خروج الروح، ويختلف أيضاً باختلافه قوةً وضعفاً، ومثاله: كطير( ) في قفص( )، ضجر من الحبس فيه: فإذا فُتِحَ له القفص فيفر منه مسرعاً إلا إنه إن لم يعوقه شيء ولم تتعلق رجلاه بشيء من داخل من حبل أو غيره واتسع له المخرج خرج بسرعة بلا مهلة، وإن كان شيء مانع أو عائق عن الإسراع تعوق على قدر ذلك .
وقال رضي الله عنه: والعمدة على اجتماع الأرواح، وبالأبدان يكون الإجتماع في الدنيا، وبالأرواح يكون الاجتماع في الآخرة، ولا عبرة باجتماع الأبدان مع مفارقة الأرواح .
(2/186)

وأخبرني السيد محمد بن شيخ الجفري( )، إن سيدنا تكلم عليهم يوماً بهذه الكلمات وما يتعلق بها سابقاً قبل وصولي إلى حضرته من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وتركوا قراءة الحزب لذلك، وبكى الحاضرون وهي مما تقدم نقله عنه من قوله: طريقتنا نحن هذه طريقة الإمامة، وهي طريقة مظلمة ينبغي للمتعلق بنا أن لا يسأل عن شيء وإذا رأى شيئاً يقول في نفسه الصواب خلاف هذا، بل يسلم قياده ويسكت، ويكون كالأعمى الذي يقوده بصير، أو كمن في ظلمة وماسكه من يعرف الطريق وهو لا يعرفها، فلا يقول تعال من هنا أو ارجع إلى هنا، ثم قال: إنما المقصود بهذا الكلام أنت يعني المخبر لي بذلك، وفلان يعني زين الحبشي( ) قال فاشتد علينا وبكينا، فلما رآنا كذلك جعل يمدحنا ويسكن خواطرنا، وقال: إنما نحن ننتظر بركاتكم .
وقال رضي الله عنه في قول صاحب "الإحياء": من لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه، قال: لأن أسرار الطريقة أمرغامض جداً، لا يطلع عليه الذكي، لأنه يرجع إلى العقائد، وقد يدرك الذكي شيئاً من خفي ظاهر الشريعة . وباطنُ الطريقة لا يطلع عليه إلا الشيخ( )، وقدكان الإمام الغزالي في أيام سلوكه يسأل في طريق السلوك، وكان معه ذكاء مفرط.
وقال رضي الله عنه: لا أعسر عليَّ من الطَّعام والكلام، فإن الكلام مشق علي جداً، إلا إنا نستذكر به ما معنا من العلوم، لا فائدة فيه إلا ذلك، وذلك بسبب قلة مخالطتي للناس، ولا نجلس معهم إلا أوقاتاً متقاربة، لو جمعت كلها ما بلغت ساعتين، وغالب جلوسي إنما هو وحدي، ولو أنا نجلس مع العيال والصغار في الدار، وأوقاتاً مع الجماعة كل ذلك لايبلغ أكثر من نحو ما ذكر.
(2/187)

وضرب رضي الله عنه مثلاً لدعاء أهل الزمان إلى الخير، وإنهم لا يجيبون من دعا، قال: هم كمثل نائم غلب عليه النوم، فتنبهه ليقوم للصلاة، وتجر برجله ثم يخالفك وينام، قال: فإن كان نومه إلى مدة قليلة، كان أشكل( ) ممن نومه إلى الموت، ثم ينتبه حينئذ، وكل ينتبه إذ ذاك.
وقال رضي الله عنه: قاعدة: إن من تعلق بالدين ثم بعد ذلك مال إلى الدنيا أصبح بلا دين ولا دنيا، فليُفهم .
وقال رضي الله عنه: من هَمَّ على معصية، فقيض الله عارضاً منعه منها، فهو يحبه، ومن هَمَّ بطاعة فقيض الله له مانعاً منعه منها فهو يبغضه .
وقال رضي الله عنه: كرامات الأولياء منذ زمان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لم تبلغ معشار عشر معجزاته عليه السلام، لأن من معجزاته القرآن، وتحت كل آية معجزات لا تحصى .
وقال رضي الله عنه: من لم يحسن النظر مع أهل الباطن، لم يحصل له منهم ظاهر ولا باطن، وإن حصل له شئ من الظاهر لم يبارك له فيه .
وقال رضي الله عنه: إذا اجتمع باعث ديني وباعث طبيعي في أمر، كان العبد أقوى ما يكون في فعل ذلك، وغالب ما ينبعث لأهل هذا الزمان الباعث الطبيعي، وأما القوة المجردة في فعل ما انبعث له في فعل الدين، فلا يكون إلا لنبي أو قطب، فإن رأس القطب تحت قدم النبي، يستمد منه، فهمة العوام في الأمور الدينية هي طبيعة القطب، والقطب هو الغوث، وكل من ارتفع في مقام على غيره فهو قطب أهل ذلك المقام، أي رئيسهم فيه، كما يقال قطب الراضين، وقطب المتوكلين، ونحو ذلك، وإذا رأيت إنساناً يعمل شيئاً من أعمال الدين فاتركه عليه، ولا تذكر له النية وإخلاصها، فإن فعله ذلك نية، ولعله لا يعرف معنى اخلاص النية فيتكدر عليه الحال .
ما قال في المحبة
(2/188)

وقال رضي الله عنه: معاني المحبة تَلْطُف وتجل جداً عن التحدث بها، لأن العبارة لا تأتي على معانيها، ولا يمكن التعبير بالمعاني بحال، لأنها لا تدركها العبارة، ولهذا ترى أهل المحبة لما أدركوا من معانيها ما يجل وصفه ولا يمكن كشفه، واحتاجوا بسبب ذلك إلى التنفس والتروح، يعبرون عنها بقوالبها التى هي صورها، والمعاني أرواح قائمة بها، وذلك لما عجزوا عن التعبير بالمعنى، وذلك كتغزلهم بليلى وسعدى وسلمى ولبنى وهند ودعد، وغير ذلك لما ذكر، ألا تسمع إلى ما ذكر: إن رجلاً جاء إلى بعض الأنبياء وقال له: ادع الله أن يرزقني ذرَّة من محبته إلى آخر القصة المتقدم ذكرها، ثم ذكر قصة موسى لما رأى العصا ثعباناً هرب منها، لأن ذلك حصل له بغتة، ولم يكن بصدده إنما كان يطلب جذوة من نار، فلما أن تمرَّن وكلمه ربه لم يقنع بالكلام، حتى سأل الرؤية ولم يحصل عليه عند الكلام ما حصل عليه عند الخطاب الأول، لأنه قد تعود وتمرن على ذلك، وقد جعل الله له في المرة الأولى الشجرة سبباً لسماع النداء، وجعل في الثانية الطور سبباً لسماع الكلام، ولهذا لما أُسري بنبينا محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لم يفزع في شيء من المواطن، لأنه من ابتداء أمره إلى منتهاه كان في صحبة المَلَك ورؤية الملائكة والترقي من حال إلى حال، فلم يندهش في شيء منها، بخلاف ما لو كان فَجَأَه أمر في أول وهلة، فإن هذا من طبيعة البشر، كما وقع لموسى ولنبينا عند ابتداء الوحي، لما قال: زملوني، زملوني، دثروني . أو كما قال من جملة ما تكلم به ضحى يوم الثلاثاء 24 جماد أول سنة 1124 في غرفة السيد حسين بن عمر بلفقيه في الجحيل .
ما قال في أدب السائل
(2/189)

وسمعته رضي الله عنه يقول: من تأمل أحوال الصحابة، وتوقفهم في الأمور عما لا يعني، عرف آداب الرجال، وآداب العلم، وآداب الأئمة، وعرف ما ينبغي أن يستكثر منه من العلم ويستقل منه، وما يُظهر منه، وما يكتم، انظر كيف لم يسألوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن الرجل الشديد بياض الثياب، من هو، ومن أين جاء، حتى ابتدأ بنفسه يحكيه لعمر بعد مدة، ويعرف من ذلك منع الإخبار عن الشيء قبل وقته وإذا جاء أخبر من غير سؤال، وكيف لم يسألوا عن المرأة التى طلبت أن يقام عليها حد الزنا، وعن الرجل الذي أتاها وهل هو بغصب أو برضى منها، ونحو ذلك .
وقال رضي الله عنه: إذا أردت أن تعرف أنك لم تعلم عيبك من نفسك، وإنما تعرفه من غيرك، فانظر إلى نخامتك ومخاطك ونحوهما، كيف لا تكره ذلك من نفسك لو وقع في أي موضع منك، ولو وقع بك من غيرك ولو في طرف إصبعك، لكنت تستقذره وتكره الفاعل، فكذلك العيوب، فاترك كلما يكرهه غيرك منك، وما تكره من غيرك .
ما قال في انتظار النفحات
وقال رضي الله عنه: باطن العادات عبادات، وباطن العبادات مشاهدات إن كان له ترقي، والنفحات ما تنتظر إنما هي يتعرض لها، فقد تحصل في عروض الأوقات .
وقال لي نفع الله به يوماً: استفتح الباب بأظفارك لعل أن يفتح لك، فقلت: التعرض للنفحات الوارد في الحديث بماذا يكون؟، فقال: بالدعاء والجلوس في الأوقات المرجو حصولها فيها والإنتباه وعدم النوم إذ ذاك، فإذا وردت النفحة عليك وأنت نائم فما يقال لك متعرّض .
ما قال في التوبة
(2/190)

وقال رضي الله عنه: من تاب من ذنب وفي نفسه إنه إن تمكن منه فَعَلَه، فهو مصرّ عليه، ولا توبة له، وإن انتفى هذا العزم بعد التوبة ثم رجع بعدُ بباعث آخر، صحت توبته الأولى، وتوقفت إثابته وإثمه على أن يتركه خوفاً من الله أو يقتحمه، وإن تاب كذلك صحت، والعبرة فيها بالندم . وفاعل الذنب كمن يأخذ القَدوم ويهدم، والقدوم الذنوب، والمهدوم الدين، والطاعات بناء له .
ما قال في خداع الشيطان
وقال رضي الله عنه: من دسائس الشيطان أن يشغلك عن الخير بخير آخر حتى لا تحسن الأول، فلا تستعجل بخير لتفعل خيراً آخر، بل أحسن الذي أنت ملابس له، ثم افعل الثاني، وشغله له بأن يوسوس له ويهممه على الذي يكون غير ملابس له عما هو ملتبس به فيتعلق قلبه به عما هو فيه، وبهذا يعلم إن كل خاطر يخطر للانسان في الصلاة والذكر والقراءة فهو من الشيطان، وإن كان خاطر يخطر يأمُرُ بخير فضلاً عما يأمُرُ بمباح، بل عما يأمر بمكروه، فإن أمر بحرام كان أشد .
انظر إلى هذا التأويل البديع
وقال له رضي الله عنه رجل: إن فلاناً كُف بصره فتعب لذلك، وقال: ما مرادي إلا لأجل أنظر في المصحف فأقرأ نظراً، ورأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في المنام فقال له: اكتحل بالعِظة، وإنه سأل عنها فقيل له: هي كل شجرة ذات شوك، ويريد منكم تأويل ذلك، وكيف الكحل بذلك، فقال له نفع الله به: قل له: يقول لك: العظة إنما هي الإتعاظ والصبر، فليصبر على ما أصابه، ولا عاد يسأل، ولا عليك من أهل الزمان، فإن مطالبهم كلها دنياوية، وإنما يسترونها بأمور الدين، كمن لا مال له، فيقول: لو أعطاني الله مالاً تصدقت منه، وفعلت وفعلت، فانظر لو حصل له مال واجلس له عند داره .
(2/191)

وقيل له رضي الله عنه: نظركم علينا، فقال: نظر الله يشملنا ويشملكم، وإذا رأيت المنقّر يسقط من الدار، فاشرد لئلا يسقط عليك، والوسائط ما عليهم إلا أن يفتح الواحد منهم لك بابه، والمدد يجيئك مثل البحر، وأصل المدد من النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومنه تتفرع طرق السماء، ثم ذكر قصة الحنفي مع تلميذه في المشي على الماء، وتقدمت، وكذلك قصة سهل بن عبدالله التستري، وقد قيل له: نريد أن نرى منك كرامة نراها مشاهدة، فنحب أن نراك تمشي على الماء، فقال: سل فلاناً المؤذن، فسأله فقال: ما أعرف منه كرامة إلا إنه يوماً جلس يتوضأ، فزلق في النهر، فلولا أني أمسكته لغرق، وكذلك ذكر قصته( ) نفع الله به مع باجبير، لما زار معه الشعب( )، ومرورهما المعجاز، وكان باجبير صائماً، قال: فلما وصلنا الشعب قلت لباجبير في الليل: نم، فأبى فقال: أخاف اذا نمتُ زرتَ الشيخ أحمد بن عيسى وتركتني، قال: فعالجته على النوم، فما صدقت على الله أن ينام، هذا حد لفظه في حكاية القصة، وسمعتها من غيره، ورأيتها أيضاً مكتوبة إنه أمره بالإفطار من الصيام، وعالجه فيه، وقال له: إنه في الحديث: (( ليس من البر الصيام في السفر)) ومع كل ذلك أبى أن يفطر، وبقي على صيامه، وسلط الله عليه شدة العطش، فلما صعد المعجاز، ورأى هناك سقاية ماء، فوقع كالمغشي عليه، فشرب كثيراً حتى تقيأ ما شربه .
(2/192)

وقيل له رضي الله عنه: قيل لفلان من السادة: ينبغي لمن أراد الهند، أن ينوي إنه إذا حصل له عوين( ) يحج به، فقال سيدنا: هذه نِية نَية، لأنه إن أراد الفرض فينظر في كتاب الله من حيث الشروط والإستطاعة، وإن أراد التجرد والإنقطاع، فليكن كل يوم حليف مسجد، ونحن مانطالب أصحابنا بالإجتماع، أي علينا، ولا نحبه منهم، بل الأحسن أن يبقى كل مكانه، حتى تبقى القلوب سليمة، ومع كثرة الإجتماع لم تحصل سلامة القلوب، ونكره كل أمر يكون فيه وحشة الخاطر على أحد، فينبغي أن تحصل السلامة في القلب، ليحصل المدد والإنتفاع، وقد ذكرنا لكم اختلاف المذاهب، وقصة الحنفي والتستري، وقصتنا مع باجبير، لتعرفوا بذلك ماهنالك، وأهل الزمان مامرادهم إلا كرامات كخوارق السِحْر، أو كما قال .
وسأل نفع الله به عن شخص مات، وكان قائماً بتدبير بيت، وهل قام مقامه أحد مثله، قيل: نعم، فقال نفع الله به: من عمل عملاً وأحسن فيه، نفع اثنين المقدِّر والمدبّر، والإحسان في الدين أعظم من الإحسان في الدنيا بكثير، ومن أين إلى أين .
وقال رضي الله عنه: من حج - أي حجة الإسلام - ليصح حجه لغيره، فأمره مشكل، ويصدق فيه قول القائل :
إذا حججت بمال أصله سحت ... ... فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كلَّ طيبة ... ... ما كل من حج بيت الله مبرور
(2/193)

وقال رضي الله عنه: قد يجيء شيخ صاحب طريقة، وهو على حق، ثم يجيئون ناس يترسمون برسومه، فإن كانوا على قصد الإقتداء به، لايخلون من خير وبركة، وإن قصدوا أن يظهروا التشبه به ليظهر أمرهم عند الناس ويُعرفوا ويُعظموا، فهؤلاء إنما هم أكلة الدنيا قد حبط عملهم وخاب سعيهم، وينبغي لمن له سلف صالح، أن يتشبهوا بهم ويهتدوا بهديهم، فإن لم يقدروا على ذلك فليترسموا برسومهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك بقصد التشبه بهم لايخلون من خير وبركة، والأكابر لايقتدى بهم في العوائد والحقائق، كيف يقدر أن يقتدي بهم في أن يصلي الصبح بوضوء العشاء كذا مدة، أو يمكث كذا أياماً من الأكل، هكذا ماحفظته على مافهمته من كلامه، ضحى يوم الثلاثاء 24 ربيع الثاني1124 في دار آل فقيه، عندما حصل منه التلقين لجماعة من السادة .
وحضر رضي الله عنه في مجمع في داره الشرقية من الحاوي التي فيها ابنه السيد حسين، وذلك يوم الأحد18 ذي القعدة سنة 1126، وختم ذلك اليوم السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي كتاب صحيح البخاري، وحضر من الطعام ماتيسر كطعام المداد( ) . فمن مجموع ماتكلم به إنه ذكرت له زوجة السيد أحمد الهندوان توفيت، فقال: اللهم إنا نسألك حسن المصير عند المسير، وحسن الثبات عند الممات، ولم يزل يتكلم حتى حضرت القهوة، فقال: الفاتحه إن الله يوفق الأحياء، ويرحم الأموات، ويغفر للجميع، وكان عادته قراءة الفاتحة عند القهوة وذكر هذا البيت للبوصيري:
وإذا تحققت العناية فاسترح ... ... وإذا تحققت العناية فاجهد
(2/194)

فقال نفع الله به: فاسترح أي في الباطن، فاجهد أي لا تجلس بطالاً، فلو قيل لك: إنك سعيد، أتجلس وتترك العمل وكأن بين أول البيت وآخره مباينة، فكيف إذا تحققت العناية يستريح وإذا تحققت يجتهد فهو على ما ذكرنا، والبيت للبوصيري، في قصيدة مَدَحَ بها شيخه أبا العباس وشيخه أبا الحسن الشاذلي، ونحن أول ما أخذنا طريق الشاذلية، وطريقتهم تميل إلى الشكر، أخذوا ماجاء فيه عن الله ورسوله، فشرحوه وفصلوه واختصروه، وأول ماطالعناه من كتبهم "لطائف المنن" ولو بقينا عليها( )، لحصلت علينا أمور( )، ولكن تداركَنا الله بكتب الإمام الغزالي لأن ماجاء عن الله ورسوله شبه الأدوية، وهو شرَحَها وأوضَحَها، وجعل العلماء يقدمون في كلامه، أو قال فيها ويؤخرون، والإمام الغزالي ما استيقظ( )، إلا وقده مقبل على الآخرة، لأنه أفنى عمره في طلب العلوم، فتداركه الله بعد، فكأنه مااستيقظ إلا وهو على التجرد، وإلا فكان كهؤلاء الذين يُحضرهم الوزراء والسلاطين، فاستنقذه الله ولكن قد معه علم واسع.
ماقال في كتب ابن عربي
(2/195)

وذكر رضي الله عنه: كتب ابن عربي وبعض مشكلاتها فقال: ينبغي للإنسان أن يرجو ولا يغتر، ويخاف ولا ييأس، ولا يتساهل بخطرة ولا نظرة، وهذه الأشياء ذوقية، ولا يُسلَّم لصاحب الذوق إلا فيما وافق الشرع الصريح، ولا أسلم ولا أحسن ولا أجمع من كتب الإمام الغزالي، لا في الشريعة ولا في الطريقة ولا في الحقيقة، ويدَع ما أشكل عليه، والمراد بذكر هذه الأشياء الحزم حتى يحذرها الإنسان كالبحر أول ما يدخله إلى الركبة مثلاً ثم إلى الوسط، ثم إلى القامة، ثم يغرق، ودليل هذه الأشياء في القرآن، لكن لأهلها، ومن هو في القاع من يجيء له ما في السماء، وهذا إن لم يُخْطِ في ذلك والله أعلم بهم، وقد سمعنا عن الشيخ الفقيه حسين بافضل: إن ابن عربي ما سار إلا في ظل الإمام الغزالي، ولولاه ما جاء ولا راح، ولكن إذا خالط الإنسان القاع إلى خمس( ) ما يدري ماذا يقع له، انتهى ماحفظناه مما تكلم به في هذا المجلس في هذا اليوم المذكور، وفي اليوم الذي يليه يوم الإثنين وقت القراءة تكلم في العلوم من العقائد وغيرها وفي الأعمال: أن يعلم مايلزمه من أمور الإعتقاد بالإجمال ومعرفة العبادات ويشتغل بالعمل، ولا يلتفت إلى ما يصد عنه من آدمي أو خاطر أو قاطع، قال: وهذا هو دين التصميم على الفعل من غير تعرض لإزالة شبهة، فإن التعرض للشبهة يدعو إلى شبهة أكبر منها، ولا أشد من التعرض للجواب، وأمور الشيطان مالها إلا مثل هذا، كل أمر تعرف إنه يشغلك، حتى في المعاشاة وفي أمر الرزق من الخواطر لأن الشيطان يريد أن يشغلك فإذا تدحرجت له في الأمر الصغير، جرك إلى أكبر منه، وهو مثل العدو المنازع، فإن كان معك له مكافأة وإلا فَرُدَّ عليه بابك، والأمر ولله الحمد مكفول إن تركت الأمر على الله وعرفت الأمور الواضحة . وقد وقعت لنا هذه الخواطر سابقاً، عندما أنشأنا هذه القصيدة( ) :
إن كان هذا الذي أكابده ... ... يبقى عليّ فلست أصطبر
(2/196)

إلخ وذلك نحو سنة 1087 وسنّه رضي الله عنه إذ ذاك نحو 43 سنة أو قريباً من هذا، قال: والشيطان ما قام في مقام النبوة، وإنما قام بالباطل في مقابلة الحق، ومتابعتُه أقذارٌ، وإنما غمس أتباعه في الأقذار من فعل المعاصي، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وهكذا كل معصية، ولا تدَّعي القوة فتخفي ضعفك أصلاً، وإلا ظهر ضعفك بشيء سهل، ولو بشوكة، والقاع القاع، ألق نفسك في القاع، فإذا كنت لاتطيق فهم يشلونك، ولاتلام في ضعفك .
وذكر رضي الله عنه قول النبي سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة إلخ، ولم يقل إن شاء الله، الحديث، فقال: ينبغي إسناد الأموركلها إلى المشيئة، إلا ما لا خير فيه مما فيه سوء أدب، وليس هذا بحكم منه، إنما هو الفعل .
وتكلم رضي الله عنه في القُصَّاص فقال: كانوا يفتشون أحوالهم وينظرون ماذا جاء، وماذا حدث .
ما قال في كلام الحقائق والحذر منها
(2/197)

وذكر رضي الله عنه الشيخ ابن عربي وذلك عشية الثلاثاء في الحاوي سادس ذي القعدة سنة 1126 فقال فيه: إنه تقدم له زهد وصلاح فيُسَلّم له أمور الدين والآخرة، وكذلك ابن الفارض والسهروردي، وأمثالهم من المتكلمين بالحقائق، ثم قال: أمر الله عظيم، وكل يقول ماهو إلا أنا. كالشمس والقمر، كل يراهما، ولهذا مثل الله بهما في الامور الإلهية، ولو ظهر لهم جبريل، مااستطاعوا النظر إليه، لكن الآدمي ضعيف، وهو معذور لضعفه، ومن طبيعته التيه، لكن إذا كان ذلك في محل العفو، بأن لايكون متبطراً ولا كاذباً، وقد مثل الإمام الغزالي في هذا بالفيل، واختلاف مرائيهم فيه مثلاً، وكل منهم صادق، ولكن إذا لم يكن شعور، وفيه إشكال فينبغي البيان ممن يعرفه، لئلا يدخل على الناس منها التعقيد والتشبيه، وإلا فإن سلم من الناس ماسلم من الله، فربما ادعاه أحد من الناس فاغتر به، فترى أُناساً يروحون يطالعون في "الفتوحات"( ) ونحوها، ويتركون مطالعة "الإحياء" لأن أنفسهم تهوى أمثال ذلك، وتشمئز من "الإحياء" لكون فيه تبيين الأحكام وتعريفها، فينبغي إجتناب أقاويلهم المعقدة لئلا يدخل منها التشبيه والتعقيد، فما الفائدة في ذلك، ومن يحل لهم التعقيد إذا ركب في قلوبهم، وقد جاء في القرآن وفي الحديث: إن الأمور الإلهية لا تُتعقل ولا تكيف، وأين الإسراء إلى فوق السبع السموات إلى العرش، من سماع الخطاب من الشجرة في الأرض، يعني في قصة الإسراء بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وسمعه لكلام الله من قاب قوسين، وتكليم الله لموسى عليه السلام من الشجرة وسماعه لذلك، والمتكلم واحد، والأماكن متباعدة غاية البعد، ففي هذا دليل على أن الأمور الإلهية أمرها على غير ماتعرفه العقول، وأنه لا يسع إلا الإيمان بها والتسليم، والله أعلم، قال: والغلبات لها أحوال، وهذه المسائل لها حقائق عند أهلها، لكنها لها عندهم أشياء، وفيها مخاطرة حتى في الدنيا فضلاً عن الدين، وقد ذكر
(2/198)

الإمام الغزالي: أن من أراد أن يسلك، فليأخذ ما اتفق عليه أهل العلم وصح، ولكن إذا تغير المزاج مايقع شيء، وقال الفقيه بامخرمة: ماهي إلا معاني ماتسعها العبارة . ولأي شيء ما يروح الإنسان في الأمور الواسعة، ويدخل في سم المخوط، وقد ذكر ابن عربي: إن كل أحد ما يخرج من الدنيا إلا مكاشف حتى الكافر، لأنه يرى عند الموت ملك الموت، والأرواح مثل السرج، وكل ما جئت بسراج زاد الضوء، وقده حاصل بالسراج الأول، لأن هذه معاني ماهي صور، قال الشيخ عبدالرحمن السقاف: مانشل الراتب إلا وعند السارية نحو ثلاثة آلاف من الصالحين، وكم قد وقع غلط في الأمور الظاهرة، فغلطوا في فجر( ) ونحو ذلك، لكن الإنسان ضعيف، والضعيف إذا دخل ما لايقدر عليه يلام، كمن دخل في بحر بلا سفينة، وإذا حمل التغزلات على الروح، فماكان من هجر ومطل وكل مايذم، فمن صفات النفس، وما كان من لطافة ومدح فمن صفات الروح، وما كان من الشوق وتمني اللقاء، فمن شوق النفس إلى الروح، والمعاني قد تضيق، واللسان قد يطغى، كمن يصب دن ماء في فيجان فيأخذ منه مايسعه ويتطير مازاد، هذا أو كما قال .
وقال رضي الله عنه لبعض المنشدين: لا تقصر عن أن تحفظ لعبدالرحيم [أي البرعي] لأن نفوس الناس تطمئن إلى نظمه لكونه يمدح نبيهم، أي فتميل بذلك أرواحهم إلى ذكره، وتطرب أسماعهم وأسرارهم إلى مدحه، والثناء في الحقيقة إنما هو لله تعالى ولنبيه، وما عدا هذين الحضرتين، فكلهم أخدام، إلا مابين خادم رفيع وخادم وضيع، وفي مكاشفة الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه فإنه قال: وقفت على أبواب الله كلها، فرأيت كلاً منها عليه تزاحم شديد إلا باب الفقر رأيته خالياً.
وقال رضي الله عنه: إن لله نظرات ينظر بها من نفسه إلى نفسه، ومن كرمه إلى رحمته، لا مدخل للعباد في ذلك .
ما قال في أقسام الصُّحبة
(2/199)

وقال رضي الله عنه: الصحبة ثلاثة أقسام: صاحب يصحبك لك فقط، وصاحب يصحبك لك وله، وصاحب يصحبك له فقط، والأول فيه من وصف الله تعالى، وهو أكملهم، لأنه لمجرد نفعك من غير مايرجو منك شيئاً، والثاني فيه إنصاف إن أقام العدل لأنه يأخذ ما له ويؤدي ماعليه، والثالث أضعفهم ولا يؤمَن مثل هذا ولا يُصحب، ومَثَله كالمرأة .
ماقال في الفتن
وقال رضي الله عنه: لا تظن أن الفتن في هذا الزمان تسكن ،لا، بل كلما رأيت فتنة سكنت فهي كالنار تحت الرماد غير ساكنة بل استترت، لأن الناس غلبت عليهم محبة الدنيا والمال والجاه، ومن كان محباً للمال والجاه لا يَعُدُّ نفسه إلا في الفتنة، حتى يبرئ نفسه منها، وقال: من لا يخاف من النار ولا من العار لا تعده إنساناً.
وبلغه رضي الله عنه أن فتنة حصلت في الحرمين بين الحاج الشامي وحرب [أي قبيلة حرب] ومثل ذلك في مصر ومثله في الهند، وفي أماكن أخر متعددة، فقال: قد ظهر في هذا الوقت أشراط الساعة، فإنه لا يصل أحد من جهة بعيدة إلا ويخبر بفتنة، وإن فلاناً وفلاناً من أعيان الناس قد قتلوا، وإن بقيت هذه الفتنة عامنا هذا- أي وهو عام 1124- فليتحقق الإنسان أن هذا هو أشراطها، فلا يجوز للإنسان أن يخرج من بلاده، بل يتعين عليه الجلوس في أرضه صيانة لدينه وحفظاً لصبيانه ومكالفه، لأن الإنسان أحسن مايخرج إلى حرم الله، وإذا حصل فيه الفتن والقتل فإلى أين يخرج، وهذه الأشياء وأمثالها هي الأمور الموعود بها، وصدق الله وبلّغ المرسلون .
وقال رضي الله عنه: هذا الزمان زمان نار، وأهله مفتونون وفتنتهم في قلوبهم، لو جئت بشرارة جاءوا هم بحطب وأوقدوا عليها حتى تشتعل .
وقال رضي الله عنه: الشبهة أشد على المتنسك من الحرام لأن الحرام يَعرف أنه حرام فيجتنبه، وإن وقع فيه تاب منه، والشبهة أمرها عسر، فربما اعتقد حراماً أنه حلال أو بالعكس .
قف على دعاء الحبيب بعد الجمعة
(2/200)

وكثيراً ما أسمع سيدنا نفع الله به يقول إذا انصرف من صلاة الجمعة :
إلهي فيك قد أحسنت ظني ... ... فحقك يا إلهي لا تهني
وقال رضي الله عنه: لا يَنْبغي للضَّعيف أن يُدخِل على نفسه أمور أهل الزمان، لأن مَثَلهم كَمَثَل من رأى شرارة اشْتَبَّت فراح يطلب لها حطباً يزيدها، فلا ينبغي أن يتكلف زائداً على وُسعه فيَحْصل( ) من ذلك حتى تغيّر المزاج .
وقال رضي الله عنه: لاتحرك المرأة في هذا الزمان في أمر دينها لأنها فيه على شَفَا، فلو قلت لها: هذه الصلاة غير صحيحة، قالت: هذا الذي أعرفه، وتَرَكَتِ الصلاة رأساً. وقد كان في الزمن السابق القلوب منورة وفارغة، فأخذوا الدين وشربوه شرباً كما يشرب الظمآن الماء، بخلاف هؤلاء .
وقال رضي الله عنه: تشبَّهْ بأهل الخير مااستطعت فإن لم تكن منهم فتكون من محبيهم .
وقال رضي الله عنه: قد يكون التحسر على فوات فعل الخير خيراً من فعله، لأن الفعل يفتقر إلى نية، والنية قد تعز ولا تصح، وأما التحسر فلا يحتاج إلى نية .
وذكر رضي الله عنه: همته في الحركة والسكون، فقال: قد أقوم وأروح وأجيء، لأجل النشاط ولا ألغب، والهمة المتعبة للبدن مؤلمة :
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
ما قال في طريق الشط
(2/201)

وذَكَر رضي الله عنه بعضَ من سافر على طريق الشط مع بعض فقراء آل إسحاق، فقال: هو طريق مخوف أشد من البحر بأمور كثيرة، والفقير مسافر دنيا لا متبرعاً، فلو كان متبرعاً لكان معه سيف من القدرة، وآخرهم على طريقة الفقراء الصادقين الشيخ شيبان، وكان من حال الزهد والتجرد بمكان عظيم، وكان غالب حاله مايكون عنده شيء، حتى جاءه رجل مستودع منه مسافراً أراد منه الإلباس، فلم يجد على رأسه كوفية يلبسه إياها، وجاءه رجل بحمل بر، وقال له: لك نصف هذا الحمل، ولكنا محتاجون، فأسألك تقرضني إياه ونجيء لك بحمل بعد ذلك، فقال: هو لك هبة، وكان له مدة أيام ما لَهُ ولعياله عشاء، وحضره ضيف فقال لأهله: ماذا عندكم؟، قالوا: رأس غنم، قال: إذبحوه ففعلوا، فقالوا مامعنا حطب، فقال: كسّروا هذا السرير، لسرير تحته ينام عليه، وغير ذلك من الأحوال، وهؤلاء يسافرون بالقوافل متشبهين بأولئك، وليسوا مثلهم، وإنما يقولون: أهلنا وآباؤنا، فأين هم منهم، أو كما قال، ثم انتقل الكلام إلى ذكر الآباء وشفقتهم على أولادهم، فقال: كلهم شفيق عليهم، إلا منهم من فيه مع الشفقة رقة ويُظهر ما في نفسه، ومنهم من يخفيه .
ما قال في سبب الجذب
ثم ذكر رضي الله عنه الجذب وإن منه جذب سماوي وسفلي، فإن كان سماوياً يكون عقله تالفاً بالأمور السّماوية، وإن كان سُفليّاً فذهاب عَقْله بالأمور السفلية . والعلويةُ كخوف من الله أو شوق إليه ونحو ذلك، والسفلية كعشق العامة .
ما قال في ذكر السيد علي بن عبدالله العيدروس
(2/202)

ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين ضحى يوم الثلاثاء ثامن عشر شوال سنة 1131، وذلك في الغيلة في الحاوي، وطال به المجلس معه، فكان مما خاطبه به أن قال بعد ماجرى ذكر السيد علي بن عبدالله، قال: كنت أظن أني والسيد علي بن عبدالله يكون موتنا في عام واحد، فاتفق أني رأيت كأني وهُو في جمع في غرفته بالسبير، اجتمعنا لأمر يوجب الإجتماع من وليمة عرس أو نحو ذلك، وكنت جالساً في المجلس إلى قبلة، وهو في المجلس إلى شرق، وبعد ماتفرقوا قام وسار مُشَرِّقاً يريد الهند، وكأني أعالجه أن يبقى ولايروح، فأبى وراح، فأولتها: رجوع روحه وأنه يتوفى هناك، وأن لا أكون معه في عام واحد، قال: ورأيت البارحة أي ليلة الثلاثاء المذكور، كأنّ رجلاً أعجمياً وقف فوق هذا الكرسي عندي في الغيلة، وجعل يصرخ ويقول: الليلة مات القطب، وأصبح السيد محمد بن سقاف متوفياً تلك الليلة، قال: ولا أرى الرؤيا تصدق عليه .
(2/203)

أقول: لما حكى سيدنا نفع الله به بالرؤيا هذه للسيد زين العابدين فحفظتها وأرختها وراحت الأيام والليالي، إلى ثالث أو رابع جماد أول أو الثاني من السنة التي بعدها سنة 1132، وإذا بخطوط( ) وصلت من الهند من السيد أحمد باعمر وغيره إلى سيدنا يعزونه في السيد علي بن عبدالله وذكروا: إنه توفي ليلة 18 شوال المذكور، وهي ليلة تلك الرؤيا فصَحَّتْ فيه، وتسميته بالقطب توسعة وتوسع من حيث اللغة كما يقال قطب الراجين وقطب المتوكلين، وإلا فسيدنا هو القطب الغوث والإمام المطلق . وقوله نفع الله به في تأويله رؤياه الأولى: أن لا أكون معه في عام واحد، إنما خرج عن عام وفاته بعشرين يوماً، والكرسي الذي رأى الرجل الأعجمي يصرخ عليه، كرسي لسيدنا يجلس عليه ويضع عليه عمامته، وقوله: أعجمي أي غير عربي فتكون لغته هندية، وإنه جاء من الهند يخبر بذلك، وكثيراً ما يذكر سيدنا السيدَ علياً، ويطيل الكلام فيه حياً وميتاً ويطنب في وصفه، ومن ذلك قال: لم نعلم أحداً من السادة بقي في الهند ستين سنة مع توقعه للخروج إلا هو، حتى إن السيد علي الشاطري قال: ماجلسنا معه مجلساً إلا ذكر تريماً، وتمنى الوصول إليها وقد رأيناه مراراً في الخلاء، ومراراً في البلاد، إنه جاء الى تريم، وفي كل ذلك وهو يريد الرجوع إلى الهند، وأنا أشير عليه بالجلوس، وعدم الرجوع، وهو عازم على الرجوع، فكان ذلك زيارة روحه، وحفرتُه هناك، ولكن الغريب شهيد، لأن موت الغربة كئيب، وإن كان بين أهله وولده، وقد توفي بعض الصحابة في غير بلده، فقال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: هو شهيد، يقاس له من موضع قبره إلى منتهى أثره . وسأل ابنَ ابنه محمدَ بن عبدالله بن علي هل بلغكم قدر مدة مرضه؟، قال: نعم، طال مرضه نحو سنة، ولكنه لم يمنعه ذلك من عاداته ومجالسه وصلواته وجميع عوائده، إلا قبل وفاته بثلاثة أيام، انقطع فيها عن الخروج، وأعتق جملة عبيد نحو عشرة، وأسكت قبل الوفاة بقليل .
(2/204)

وسمعت إنه قال لسيدنا بعضُ أهل بيته: الله يطيل لنا عمرك، وإنه قال له: ما أغرمك، ما أنت داري أن السيد علي بن عبدالله ينتظرني، قال: وكنا عقدنا بيننا وبينه عقد الإخوة، عند قبر سيدنا الفقيه المقدم .
أقول: وكانت وفاة السيد علي المذكور 18 شوال سنة 1131 كما تقدم، وبعد صلاة عصر يوم وفاته قرأ سيدنا {يس} وقرأها الحاضرون معه وأهداها له، ووقت نشيد يوم الجمعة، التي تليه أمر بإنشاد المراثي كمرثيته للسيد أحمد الهندوان، وقصيدته (مرت لنا بالحمى المأنوس أعياد)، كل ذلك استشعار منه نفع الله به لخطبٍ ورُزء يعناه، وهو السيد علي، ولم يتبين أنه هو إلا بعدما جاءت الأوراق بتعزيته، بعد نحو ثمانية أشهر، فافهم، وذكر في جوابه للسيدأحمد باعمر على كتاب تعزيته، قال( ): ولما فشا خبر وفاته بتريم أخذتنا الوحشة الكبيرة لعلمنا بأنه لاخَلَف منه على مثل ما كان عليه لكونها اجتمعت فيه من الخصال ما يعز اجتماعه في مثل هذا الزمان المبارك، من العلم والعمل والسماحة التي لايبقى معها الإبقاء على شيء من الدنيا ولا احتفال بها، وغير ذلك من الفضائل والفواضل، فالله يرحم ذلك الوجه، ويخلفه بالخير خلفاً صالحاً في عقبه الميمون السعيد، عبدِالله بن علي وأولاده وعسى الله، والأمركله لله، وهو المنفرد بالبقاء والدوام، ولا نقول إلا ما يرضيه: إنا لله إلخ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون . وإذا أتتك مصيبة تُشجى بها إلخ( ) . وقول الآخر: فلا تبك ميْتاً بعد ميْت أجنة إلخ( ) . وقول الإمام الشافعي: إني أعزيك . البيتين( ) . وقول بعضهم: وما كان قيس هُلْكُه هُلْكُ واحد، ولسنا نذكر بقية هذا البيت، لأنا نرجو من فضل الله وبركات رسوله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن يبقى اجتماع، ومن يبقى به الإنتفاع والدفاع، وما ذلك على الله بعزيز، ولأهل هذا البيت النبوي ماليس لغيرهم عند ربهم من الإقامات والخصوصيات، والظن في الله جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
(2/205)

وذكر نفع الله به للسيد زين العابدين: إنه كتب إلينا السيد أحمد باعمر يعزينا في السيدعلي فكتبنا له جواباً، وكتبنا له في الجواب صدر هذا البيت، وما كان قيس هلكه هلك واحد، وتمامه ولكنه بنيان قوم تهدما، فتركناه خوفاً من التفاؤل به، أو كما قال، وكان من عادة سيدنا رضي الله عنه مع السيد علي زيارة التربة معاً بعد العشاء، وسمعت إنهما يقفان بعد الزيارة يتذاكران فيما بينهما في فنهما ويستغرقان في المذاكرة حتى يطلع الفجر. ولسيدنا نفع الله به في أبيات كثيرة من قصائد متعددة إشارات إلى تلك المذاكرات والمسامرات كقوله( ):
وكم حبيب وفيّ العهد مجتمع ... على المودة لا بالعاجز الوكلِ
إلى أن قال :
فهل ترى عائداً في الحي مجتمع ... مع الأحبة بالأبكار والأصل
وبالمسامر من ليل وقد هدأت ... عين الشناة وأهل النقل والعذل
يدور مابيننا كأس الحديث من الـ ... ـقديم نُسقى بها في النهلِ والعَلل
ومما نقل عمر باحميد عن سيدنا نفع الله به، قال: سمعته يقول: ما فَهِمَ معنى قولنا في القصيدة الرائية :
بقية قوم قد مضوا وخلفتهم ... وهو خَلّفوني في الحمى عندما ساروا
إلا السيد علي بن عبدالله العيدروس .
(2/206)

أقول: أي إنه من كون الإشارة في القصيدة إلى شيخه السيدمحمد بن علوي، وإن معنى خلفوني: إنه خليفته، والأمر كذلك، ويدل عليه: إن خرقته لما أرسلها لسيدنا وصلته في اليوم الذي مات فيه السيدمحمد، وكان سيدنا رضي الله عنه طالعاً إلى البلاد ليلة، وهي ليلة الثلاثاء أول ليلة من رجب سنة 1132، فلما كان عند مِقطب ساقية ثِبي، التي إلى الحاوي بين الأسوار، لما انحدرت الفرس من علو إلى سفل، قال: إن كان عاد رحنا إلى عند آل عمر يوم يحلون أو ندرنا إلى بيت جبير، بانطلب الفالكي( ) نركب فيه ماعاد منا شيء لركوب الفرس، لأن السيد علي بن عبدالله هَدَّ قواي جملة كافية، فقلت له: عسى الله أن يعوضكم عنها( ) عِوضاً مباركاً، فقال: ماعاد أحد مثله، نرجو أن نكون نحن وإياه ممن يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، رجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ونحن وهو لم نزل متحابين في الله، في حال الإجتماع الحسي، وفي البعد، لم نتناكر أبداً في حال الحضور ومع الغيبة، ولو كان السيد علي في غير بلاد الهند كما في الشحر أو عدن، أو بعض بلاد اليمن، ولم يتفق له المجيء للزيارة سرنا إليه نزوره، ولكن لايمكن ذلك في الهند سيما لمن هو معتَقَد ومعروف في الناس، وإلا فعلوا له مثل أهل الذييبي، حيث مر بهم بعض السادة من أهل الفضل فاعتقدوه كثيراً، ثم أرادوا قتله ليجعلوه مقاماً عندهم يزورونه ويتبركون به، فلم نزل نرى منهم مثل ذلك كثيراً، انتهى مااتفق لنا ذكره مما يتعلق بالسيدعلي بن عبدالله العيدروس نفع الله به .
قف وانظر ما أخبر به عن نفسه الشريفة
(2/207)

ومما نقله أيضاً عمر باحميد عن سيدنا قال: سمعته مرة يقول: لله تعالى علينا منتان لا يمكننا أن نقوم بشكرهما، إحداهما منحنا الله سبحانه علماً واسعاً لا نحتاج معه إلى علم كل من على وجه الأرض، وما بقيت النفس تَتُوقُ إلى لقاء أحد إلاّ علي بن عبدالله العيدروس، والثانية أعطانا الله عقلاً كاملاً لا نحتاج معه إلى عقل أحد.
وذكر رضي الله عنه: إن السيد أحمد بن الحسين العيدروس خطب ابنة عم له، وهي رقية بنت عبدالله بن شيخ ابن الشيخ عبدالله العيدروس، فأبى أبوها من زواجها فنذر لله إن تيسرت له أن يطالع كتاب "الشفا"( ) كله في ليلة واحدة، وهي ليلة زفافها، والسراج في يدها، ثم إنها تيسرت له، فلما زفت إليه طرح السراج في يدها، وجعل يطالعه من أوله حتى أتى عليه كله، وهي ماسكة له السراج .
وذكر رضي الله عنه الناس فقال: ضاعت الأمور التي لم تدرك حقيقتها، فأشياء قد مضت أوائلها حتى بقي الإنسان فيها كأنه ماسك بالذَّنَب، وأشياء ما يعرفها إلا بقرائنها، وأشياء لاتعرف له .
(2/208)

واستخلف منه رضي الله عنه رجل يريد الهند، فقال له: ما الشيء إلاّ هِمَّة، ولا يعين الله العبد في الأمر حتى يَهِمَّ به، ويشرع فيه، وقد كان بعضهم إذا أراد أن يرسل أحداً إلى أحد في حاجة فقال: أخاف ما ألحقه، قال له: اجلس، وأرسَلَ غيره، والعمدة على الهمة، ماهي خفخفه، وامتثِلْ لفلان فقد وصيناه فيك، وإذا لم تمتثل فلا تلم أحداً فيك، فاللوم على قليل الإمتثال، واعتَقِد البر والصلة إن يسر الله عليك، حتى يحصل لك ذلك، فلما أدبر قال سيدنا في ضعف أرزاق أهل الجهة: إنهم لا يحصل( ) نيل مطلوب إلا بفوات فضيلة، حتى لو أراد يأكل أكلةً فَوَّتَ نحو جماعة أو فضيلة أخرى لأنهم ماهم معوَّدين هذه الأمور ولا مُرَفَّهين، ولا تعودوا أن يُخدموا، وقد جاء عن ابن عباس: إن أرزاقهم كمِثْل قليلِ حَبٍّ مُرْتَكِمٍ هبت عليه رياح فبددته، وقد هيأ ربك لك الأمور وأسبابها فاعمل على ذلك، وإن كانت الأمور مقدرة( ).
وقال رضي الله عنه: خَلَق الله في الإنسان نفسه ليحجبه بها عنه فإذا أراد تعالى وصول عبد إليه ستر عنه حُجُبه .
ولما فرغ القاريء في "شرح الحكم" لابن عباد من قراءته قال سيدنا نفع الله به: هذه أشياء مفهومة، وواقع الإنسان فيها، وإذا كان مع الإنسان أصل الإيمان، فما عدا ذلك زائد، فترى الإنسان إذا عصى رأى نفسه منكسراً، وإذا عمل أدنى طاعة، إذا به يتحمحم( ) . والإنسان مخلوق على النقص، وطُلب منه الكمال، فهذا أمر عسر، فليعتبر الإنسان بقصة آدم، كيف عمل الطاعة ثم لم يلبث أن وقع في المعصية، فوَرَّث ذلك لذريته، فهذه الأشياء في جبلة الآدمي لا يخلو منها، ثم قال: ضعفت في هذا الزمان النيات والمُرُوَّات والهمم، وضعفها أكثرمن ضعف الدين .
(2/209)

وكان رضي الله عنه في البلاد، يوم الثلاثاء 14ربيع الآخر سنة 1128، وذُكِر له استئذان بعض الناس، فقال: دَعْه فإنه مبلى لأنه فتح على نفسه أموراً لا تحسن منه، وإذا ضعفت قوى الباطن حصل مثل هذه الأشياء، وأهل الزمان ما عاد اكتفوا منا بالمجالس العامة، ما أرادوا منا إلا مجالس خاصة، ولا جبنا من مجالستهم بطائل، وأوقاتنا الخاصة بنا نحن مشغولون بها بما يهمنا، ثم تمثل بهذا البيت :
تولى زمان لعبنا به ... وهذا زمان بنا يلعب
ودخل عليه رضي الله عنه رجل فسأله عن حاله وقوته، فأظهر التجلد، ثم قال له مباسطاً كيف عادتك في ذلك الأمر( )، فأخبره، فقال نفع الله به: كلما أمعن الإنسان في هذا الأمر وأحسنه كان أضعف لقواه الظاهرة والباطنة، وما ذكر من ذلك عن الأكابر فلا يحتج به، فإن الله قد أمدهم من القوة من معدنها( ) ماهو الغاية، فلا يقيس نفسه عليهم، وإلا فكيف سيدنا علي يحمل باب خيبر، وهو قُوْتُه كما عرف من تقشفه، فليس معهم مما يضعف القوى مما يعتاد عندنا شيء، فإن أمورهم مقدرة .
وذكر رضي الله عنه أمور الصالحين فقال: الأمور الإلهية ما لها حد، فترى جماعة في وقت واحدكل منهم يقول: أنا أنا، فلمن نسلم له منهم، أحد باليمن، وأحد في حضرموت، وأحد في المغرب، وأحد في العراق، ولكن أمر الله يسعهم، كما قيل لبعضهم: إن قبوراً كثيرة تُذكر إن سيدنا علياً مقبور فيها، فأي قبر منها يصح أن يكون مقبوراً فيه، فقال: إذا حصلت النية والتعظيم فكل منها هو قبره، لأن أمور البرزخ لا تتقيد، فإذا لم تتقيد أمور الدنيا( )، فالأولى أن لا تتقيد أمور البرزخ .
(2/210)

أقول: ذكر السيد يوسف الفاسي في رحلته، إن جَدًّا له يقال له: أبو الوكيل، مقبور في بعض بلدان المغرب، في قبيلة من البربر، وكذلك له ثلاثة قبور في ثلاث بلدان في ثلاث قبائل، فتداعى الأربع القبائل، كل يقول إنما قبره الذي عندنا، وتماشعوا( ) السيوف للقتال، واشتكوا إلى ولده، فقال: كل منكم يحفر القبر الذي عنده، ففعلوا فوجدوه في الأربعة القبور، فسكن غيظهم .
انظر إلى هذه الحكاية فيمن يتبع رأي النساء
وذم رضي الله عنه أحوال المنقادين لأزواجهم، فقال: إن سليمان بن داود عليهما السلام، أمر الهدهد أن يمضي إلى بعض البلدان، فيَعُدَّ رجالها ونساءها، أيهم أكثر، وكان المعلوم من تلك البلدان رجالها أكثر، فقال له: عددتهم فإذا عدد النساء أكثر، فقال: كيف ذلك؟، فقال: كل من رأيته منقاداً لزوجته عددته امرأة، فعلى هذا الحساب صرن أكثر منهم، فتنبه سليمان عليه السلام من ذلك لمحبته لبلقيس .
انظر ما قال في البناء
وسأل رضي الله عنه رجلاً عن دارٍ بناه، فأخبره، فقال: كل عمل قد يثاب عليه إلا البناء، والذي ورد النهي به منه تعلية البنيان دون التوسعة، وقد جاء: إنه يقال له إذا أطاله: إلى أين يا أفسق الفاسقين، وهذه الأمور من المباحات إنما هي بالنية( )، والإقتصار على قدر الحاجة منها، وأهل الزمان لم تصح النية لهم في العبادات، فضلاً عن العادات .
وقال رضي الله عنه: إن الله سبحانه يستحي أن ينزع النعمة عن شاكر، ولذلك قال سبحانه: { إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم}( ) .
وقال رضي الله عنه لرجل: هل عادكم ملازمين للحضرة( )؟، قال: نعم، فقال: الخير لا ينبغي التخاذل عنه، بل التعاون فيه والمداومة عليه، وإنما ينبغي ذلك( ) في الشر، والعالم يستنبط ذلك من قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ}( ).
(2/211)

انظر ما قال في ذم طول السفر
وصافحه رضي الله عنه رجل مسافر فقال له: قد صارت اليوم الأسفار أعماراً( )، لأنه قد كثرت المطالب وأَ كَدَّتْ، وتوسعوا فيها، وطول السفر وقصره بقدر ذلك، وقد كانوا( ) في سفرهم إذا طال فهو ستة أشهر، لأن الأمور متيسرة والقناعة حاصلة .
قف على ما قال في سيدنا عمر رضي الله عنه
وقد كتب عمربن الخطاب رضي الله عنه إلى كل من غاب ستة أشهر أن يرجع إلى أهله أو يُطلِّق، ومع طول السفر يتعلق الإنسان برسوم وعوائد لا أصل لها، ولو كان إلا طالب رسوم لو تواضع ارتفع عند الناس، كيف لو كان مطلبه دينياً، وهذه أشياء لبَّسها الشيطان عليهم، وهذه هي مداخل الشيطان التي كان أدخلها على الأمم الخالية قبل الإسلام وبعده، مثل بني أمية، حتى أفسدوا وحاربوا أهل الخير والصلاح، وقد قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ }( ). وكان في معرض المخاطبة لا على لسان واسطة، وقد عم بذلك الكافة، ولكن كان إستثناءه انما هو للقليل من ذلك العام الكثير، والحاصل: إن هذا الزمان السوء إذا لَحِقْت فيه تمرة واحدة في وِجْب حَشَف، فَكُلْها، خصوصاً في هذه الجهة الضعيفة، حتى قال بعضهم: ماتتم لأحدهم شهوة حتى تفوت عليه فضيلة، والدنيا بَحْر عميق كما قيل :
فما قضى أحد منها لبانته ... ... إلا انتهى غرض منها إلى غرض
ومن تعب فيها وحصَّل منها راحة فحاله أحسن من حال من دأبه الشغل فيها والكد والجمع ولا يستريح فيها، فهذا حاله كحال العامل العادل( ) أيضاً، وعند أهل الحكمة: من أمكنه الإستراحة بأمر الدنيا فليستغنمها، وقد كانت فيهم شهامة عدمت منهم اليوم .
(2/212)

وقال رضي الله عنه: الجنة لا شمس فيها ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، ولكن بكرة وعشية، تنعكس البكرة على العشية وتنعكس العشية على البكرة، وهي أشبه شيء بوقت الإسفار بعد صلاة الصبح مع اعتدال الوقت ولطف الهوى في ذلك، ومن طبيعة الشمس الحرارة، ومن طبيعة القمر البرودة، فإذا كان يوم القيامة يكورهما الله تعالى ويسلبهما نورهما فيجعله في الجنة زيادة في نعيم أهلها، ويجعل حر الشمس وبرد القمر في النار زيادة لعذاب أهلها، وإنما ذكر الله الشمس في قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا}( ) لكون الشمس عنصر الحَرَّ، كما إن القمر عنصر البرد، فزيادة حر النار من الشمس، وزيادة بردها من القمر وهو الزمهرير، وبلغنا: إن الله يوم القيامة يسلبهما نورهما فيجعله في الجنة زيادة في ضوئها ونورها، ويلقيهما في النارمع الذين كانوا يعبدونهما زيادة في حر النار وزمهريرها، وليست الجنة درجة واحدة، بل هي درجات مختلفة لاختلاف أعمال أهلها، كما إن النار دركات، لاختلاف العصاة، لأن منهم من عصى الله بالكفر، ومنهم بالنفاق، ومنهم بالمعاصي، والدرجات إرتقاء من حين يدخلها يرتقي في درجاتها إلى أعلاها: الفردوس، والدركات نزول، من حين يدخلها ينزل في دركاتها إلى أن ينتهي إلى أسفلها: الهاوية .
(2/213)

وقال رضي الله عنه في حديث: يؤذن لهم أي أهل الجنة في مقدار جمعة، إن كان من جُمَع الآخرة فما هو إلا بعد سبعة آلاف سنة، لأن اليوم من أيامها ألف سنة، وإن كان من جُمَع الدنيا فقريب، وهذا الإذن عام لخاصة المؤمنين وعامتهم، وإنما يتميز الخاصة عن العامة بقرب المجلس، وأحوال الكرسي وتجليه تعالى لكل مؤمن على قدره، كما ورد: إن الله تعالى يتجلى لأبي بكرخاصة، كما يتجلى لغيره عامة . والقول بعدم إرادة الجنة أو عدم الخوف من النار من شطحات الصوفية التي اعترضوا عليهم فيها، لأنهم إذا أرادوا النظر فلابد لهم من الجنة، ومَثَل ذلك كقول من يقول: ماأريد إلا أن أدخل على السلطان وأراه ولا أريد غير ذلك، وهو يأكل ويلبس، ويركب من ماله، وإنما ـ ـ ـ (وسقط بعد ذلك كلام) ولعله: إنما المراد من قولهم ذلك: إنما نعبدك مجرد امتثال لأمرك وانقياد لعبوديتك، لا غير ذلك من طلب ماتهواه النفس أو فراراً مما تنفر منه، والله أعلم .
ا نظر هذا التأويل العجيب
وتقدم قوله: إن معنى ماقالوا في العبادة: لا رغبة في الجنة ولا خوفاً من النار، إن معناه: إن مطالب الأرواح وما تلتذ به غير مطالب الأجسام وما تلتذ به، فإن مطلب لذة الجنة من الفواكه والنعيم والحور والقصور، وكراهة النار وعذابها وأنواع بلائها، إن ذلك من ملاذِّ الأجسام ومكارهها، وأما التلذذ بالعبادة والذكر امتثالاً وانقياداً من العبودية للربوبية، فإن ذلك من ملاذِّ الأرواح ومطالبها، هذا في الأصل ولابد من تلذذ أحدهما أو تعذبه بما يلتذ به الآخرأو يتعذب به تبعاً.
وقال رضي الله عنه في معنى حديث( ): (( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة )) إلخ أي فقراء كل طبقة يدخلون الجنة قبل أغنيائها بذلك القَدْر .
(2/214)

وذكر رضي الله عنه السادة آل باعلوي، فأَكْثَر ثم قال: مامدد آل باعلوي إلا من بعضهم بعض، وكم من مشهور في بركة مستور، وكان السادة في طبقات العامة، يدخلون الأسواق، ويخالطون الناس من غاية الخمول، وإنما ظهر منهم الشيخ عبدالله [العيدروس] فلاموه، وأهل الجهة من سابق محرومون، حتى إنه ما انتفع به إلا أولاده وعمر صاحب الحمراء، ويحصل للولي بمخالطة العامة تمكن وزيادة فضل، والله أراد لهم الخمول، وأرادوا ذلك لأنفسهم، لأن مانقص من الدنيا زاد في الآخرة وساعدهم القَدَر على ذلك،وكانوا يُسَمّون الرِّقَة لمن غالطهم أو أخذ عليهم شيئاً( ) .
قف على هذه المقالة
ومنْ نَقْل مَن نَقَل عن سيدنا نفع الله به، قال: سمعته مرة يقول: الذين أخذوا منا وانتفعوا بنا أكثر ممن انتفع وأخذ عن الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس والشيخ أبي بكر بن سالم، مع إنا معترفين للشيخين المذكورَين نفع الله بهمابالتقدم في كل شيء، إلا إن لله تعالى في ذلك حِكَماً وأسراراً يطول ذكرها، وتكاد ترجع إلى اختلاف الأزمنة والأمكنة، والأتباع كالأولاد، فقد يقلون ويكثرون من غير أن يتعلق ذلك بذات الوالدين فرب مفضول أكثَرُ أولاداً من فاضل، فليتأمل في ذلك المتأمل .
انظر ما قال في من يحفظ من كلامه المنظوم شيئاً
وسمعته نفع الله به يقول: إن المنشد إذا مات وقَدِم على أهل التربة، يستنشدونه، فقلت له: كل منشد، فقال: المنشد بقولنا خصوصاً لأنه لا يعرف ماقلناه إلا أهل البرزخ، لأنا صادفنا زمان جهل وسلفنا صادفوا زمان علم، لكن مع حسد. انتهى ما نقلت من نقل ذلك الناقل .
(2/215)

وقال رضي الله عنه لرجل: كيف أنت؟، قال: كذا، أي يتشكى، فقال له: قل: بخير، إنما يُذَم التجلد على الله وهو أن يغفل عما عليه من النعم ويقول بلسانه: أنا بخير وقلبه ملآن من الشكوى، ومن تجلد على الله ابتلاه، وإنما المحمود إذا كان معه بعض بلاء فذكر ما عليه لله من النعم فقال: بخير شاكراً على تلك النعم . فقد سئل الجنيد وبه بعض مرض، فذكره فقيل له: أتشكو الله؟، فقال: إنما أذكر قدرة الله علي، أو كما قال .
وذُكِرَت عنده رضي الله عنه الرحمة في الأودية، وإن وادي ثبي حصل فيه سَيْلاَن، الأول كبير، والثاني صغير وحصل منه خير من الأول . فقال نفع الله به: السر في البركة والشكر، السر في البركة والشكر، قاله مرتين، أبى الله أن يرزق المؤمن إلا من حيث لا يحتسب .
وسأله رضي الله عنه بعض السادة: أن يلقنه الذكر، وكان ذلك في مجلس القراءة عشية الإثنين 23 ربيع الآخر سنة 1124، فقال: إن هذا لا يكون في المجلس العام، ولا لعموم الناس، وإنما هو لطالب مخصوص، في مجلس مخصوص، ولا يكون له أيضاً حتى يُسأل ليُعرف صدقه، وشدة تعطشه، وأنتم ما دريتم بهذه الأشياء، ظننتم أنها حصلت لنا باردة من غير تعب، لا، بل إنما حصلت لنا بعد التعب الشديد، لو علمتم بذلك، فقد سافرنا لأجلها إلى مشايخ، وزرنا لأجلها آخرين، وصحبنا آخرين، وما علمتم بذلك، ولو أن معي تحت السجادة هذه جواهر مع عدم مبالاتي بها ما فتحتها لأهل الزمان ينظرونها، وهؤلاء الحاضرون، منهم من ساقِيَتُه ملآنة ومنهم من ساقيته مربودة( ).
(2/216)

وقال رضي الله عنه: يجب على الإنسان أولاً أن يصحح مقام التوحيد، فإذا أحكمه صحح الواجبات من الصلاة والصوم، والزكاة إن كانت عليه، وغير ذلك، ولايفعل مندوباً قبل تصحيح الواجب، أتراك من له عليك دين لازم، وأنت تتركه وتعطيه شيئاً متبرعاً به، هل يقبله إلا بعد إدَّاء( ) اللازم، وما عاد إلا تمتع بما تراه من الخير، ولا تنكده على أهله، ولا عاد مع الناس إلا بركة رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم والسلف الصالح .
ما قال في شرب التنباك
وذكر رضي الله عنه شرب التنباك يوماً، فقال: إن عفو الله عن العبد إلى حد محدود، فإذا بلغه يقول له: رح ما عاد أغفر لك ولا أعفو عنك، فيقطعه الله من عفوه ورحمته، لأن من الذنوب ما لا يغفره الله( )، ثم قال: إنه إذا تعوده( ) الإنسان صارت طبيعته عليه، فيتغير طبعه وعقله، والأصح أنه يَحرُم( )، لأنه يزيل العقل، وذكر أشياء من حكايات من خف عقله بسببه، ثم قال: ومن لم يُحَرِّمه يقول: لأنه لم يرد فيه نص بالتحريم فإنه حادث، ومثله الأفيون، فمن تسبب في إتلاف عقله مختاراً ـ فإنه تجري عليه أحكام التكليف ويخاطب بها ولا يعذر فيها، سواء أزاله بخمر أو غيره، ومن ادعى ممن يستعمل التنباك أنه لا يزيل عقله وطَلَب الجواز لذلك، فنقول: إنه من شأنه أنه يزيله، وما ثبت مع تناوله له إلا بعد أن أزاله مراراً، فلا يعذر فيه، أو كما قال .
وسمعته نفع الله به يقول: إن تاريخ ظهوره بغي، يعني سنة 1012.
(2/217)

أقول: وممن أفتى بحرمته أيضاً، سيدنا الحبيب أحمد بن عمر الهندوان، وكان يُشَنِّع على شاربه . ويكفي فيه هذان الإمامان، مع ما رأيته منقولاً، قال ناقله من تفسير المُقْنِع الكبير: قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: يا أباهريرة، يأتي أقوام في آخر الزمان يداومون هذا الدخان، وهم يقولون: نحن من أمة محمد وليسوا من أمتي، ولا أقول لهم: أمة لكنهم من الشوم، قال أبو هريرة وسألت رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: كيف نَبَتَ يارسول الله؟، قال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: إن الله خلق آدم عليه السلام، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله تعالى: { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُد إِذْ أَمَرْ تُكَ، قَالَ أَنَا خَيْر مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين}( ) ،{ قَالَ فَاخْرُجْ منها فِإنَّكَ رَجِيم، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين }( )، فعند ذلك خاف إبليس فبال من الخوف، فنبت هذا الدخان من بول إبليس، فهل يستوى الإيمان في قلب من شرب بول الشيطان . ولَعَن مَنْ غرسها ونقلها وباعها، قال عليه السلام يدخلهم الله النار، وإنها شجرة خبيثة انتهى ملخصاً.
ورأيت ما صورته: سؤال في التتن، سئل عنه الشهاب القليوبي :
ماذا يقول الإمام العالم العَلَم بشرب قوم دخاناً هل همو أثموا
به وهُو حرام أم يباح لهم ما الحكم فيه أفيدونا فترحموا
الجواب :
بالحمد أبدأ وبالتسليم أستلم
اسمع جوابك يا من جاء يسألنا
فيَحرُم الشرب للدخان أجمعه
فيشغل القلب عن تسبيح خالقنا
يا ويح شاربه يوم الحساب إذا
ما قال هذا حلال عالم أبداً
من قال هذا حلال جاهل أبداً
من رد قولي هذا ضل عن طرق
فنسأل الله ربَّ العرش موجدَنا ... ... أرضى لطالبه الفضل والنعم
عن شرب نارٍ غداً في النار يقتحم
أيضاً وفيه خصال كلها نِقم
يسود الدُّمغ والأموال تنصرم
جاءت صحايفه مسودة عُدُم
قط من الإنس لا عرب ولا عجم
(2/218)

أو قال هذا مباح لم يُصِب حِكَم
أيضا عن الحق في آذانه صمم
بلخير يبدي وبالإيمان يختتم
تم ذلك وإنما أطلنا الكلام لكونه انتشر بين الخلق، لعل إنساناً إذا سمع قول سيدنا، وما في ذلك النقل وما أفتى به الحبر الشهاب القليوبي أن يرعوي قلبه عنه ويتركه.
وذكر رضي الله عنه رجلا قد مرض، فقال: إذا حلت المقادير، حارت التدابير، وليس لهؤلاء معقول يدبرون به أحوالهم، والغيار يدخل على الجسم مع عدم التحفظ في الصغر أكثر مما يحصل في الكبر، لأن الصغير جسمه ضعيف، أدنى شيء يضره، والكبير وإن كان ضعيفاً وأدنى شيء يضره لكنه فيه شدة في بدنه، مستصحَباً من حال القوة، بخلاف الصغير.
وقال رضي الله عنه في قول يحي ابن معاذ في الرسالة: الزاهد يُسْعِطُك الخل والخردل، والعارف يُشِمُّك المسك والعنبر: أي إن الزاهد يشدد عليك الأمر ويتقصى في الإحتياط، ولا تكاد تسمع منه ما فيه سهولة، بل كل أموره شديدة . والعارف بخلافه يسهّل عليك الأمر، وإذا رآك في غفلة أو مُصِرًّا على شهوة تركك ولا ينكد عليك ولكنه يرغبك عنه ويذكر لك الفضيلة في تركه ويستجلبك بلطف ورفق، فأي الحالين ترى موجباً لانقيادك وميلك إلى الحق، فلا يكون الإتباع إلا للثاني .
(2/219)

وقال رضي الله عنه في قول ذي النون المصري فيها أيضاً( ) وقد سئل متى أكون زاهداً في الدنيا، قال: إذا زهدت في نفسك، قال سيدنا: يعني لأنك إنما تريد الدنيا لنفسك، فإن كانت راغبة في الدنيا مشتهية لها، فأنت تطلبها لها لتنال منها شهواتها، وتتمتع بلذاتها، وتتنعم بها، وتفعل بها هي ما تريد منها، وإن كانت قانعة بما تيسر منها، مأكلاً وملبساً ومسكناً، وغير ذلك، فتكتفي بكسرة خبز تسد بها الجوع، وخرقة تستر بها العورة، وزاوية مسجد أو في غوضة، فإنك لا تطلب الدنيا، بل تزهد فيها، فمحبتك للدنيا وزهدك فيها على حسب نفسك، رغبة وقناعة، فترى السُوَّال الذين يفرح أحدهم بكسرة الخبز لو حصلت له، في غاية من الراحة، وهم أكثر استراحة من الملوك والتجار والذين هم في بيوتهم ولو أنهم اتقوا الله لكانوا مع السابقين .
وتكلم رضي الله عنه في الأعياد وذلك ثاني عشر ربيع الأول سنة 1124 فقال: ضعفت العبادات والطاعات، وقويت العادات والشهوات، كانوا( ) إذا أقبلت هذه الأيام، والأشهر الحرم، خصوصاً سيما شهر رجب، يفرحون ويتأهبون بالصدقات وفعل الخيرات، وأهل هذا الزمان يتأهبون للأعياد ويفرحون لأجل نيل أهوائهم وشهواتهم المعروفة فيها.
وذكر: إن امرأة من السادة لها ولد يعطيها نفقتها لكل شهر من التمر والحب، فاكتفت بالحب عن التمر، ولم تأكل من التمر شيئاً، وتصدقت به فدخل عليها يوماً، وذلك في آخر جمادى الآخرة فرأى عليها أثر الجوع، فدخل الدار يتشوف فرأى في زير تمراً، ورآها جاعلته ثلاثين صيما، فقال لها لم تجوعين وهذا التمر أراه عندك، فقالت إنما ادخرته لصدقة رجب، وجعلته ثلاثين لكل يوم واحد أتصدَّق به .
وقال رضي الله عنه لرجل يحذِّره من أكل الصدقات إذا كانت على يده كالأثلاث ولا يخرجها لوجهها: الحذر من أكل الصدقات أو خلطها بالمال فإنها تفسد الجسم والمال وتحرقهما كما تحرق النار الحطب وتفسده .
(2/220)

وقال رضي الله عنه: ينسب إلى الإنسان من المقامات ما يغلب عليه، ولا يتحقق بمقام إلا وقد حصل له شائبة من جميع المقامات، إذ لا يكون زهد بلا ورع وصبر وخوف ورجا، ونحو ذلك كذلك، ولم يبق عليه إلا إحكامها، وتحقيق كل مقام بما يخصه، وكلما أحكم مقاماً حصل له من القوة ما يقويه على الذي بعده، وعلى هذا.
ذكر نفع الأموات للأحياء
وقال له رضي الله عنه رجل: هل الأموات ينفعون الأحياء بشيء، فقال: نعم، إنهم يشفعون لهم، ويدعون لهم، فإن أعمال الأحياء تعرض عليهم، فإن رأوه حسناً دعوا له بالثبات عليه والزيادة منه، أو سيئاً دعوا له بالتوبة والمغفرة، كما ورد. والأموات أكثر نفعاً للأحياء منهم لهم، لأن الأحياء مشغولون عنهم بهَمِّ الرزق، والأموات قد تجردوا عنه، ولا لهم هَمٌّ إلا في الذكر، وفي ما قدموه من الأعمال الصالحة لا تعلق لهم إلا بذلك كالملائكة . وما يعملونه من الأعمال الصالحة كالذي رئي في قبره يقرأ في مصحف وغير ذلك مما يحكى عن الأموات فالظاهر أنهم لا يثابون عليها، لانقطاعهم من دار التكليف، وإنما ذلك ليتلذذوا به كالملائكة، غذاؤهم الذكر . وما ورد: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى آخره، أي عمله لنفسه . قال ذلك الرجل لسيدنا: فهل يتعارف الأموات ويتزاورون، كما هو حال الأحياء، قال يكونون على حسب ما كانوا قبل الموت .
وقال رضي الله عنه: ذكر بعضهم: إن من عجيب الاتفاق أن وقع ولادته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وموته في 12 ربيع الأول فشاب الفرحَ فيه بولادته الحزنُ فيه بموته عليه السلام، ولولا ذلك لكان الفرح فيه شديداً جداً.
ما قال في عاشور
وأما عاشور فإنما هو يوم حزن لا فرح فيه، من أجل أن قتل الحسين كان فيه، ولم يَصِحَّ فيه أكثر من أنه يصام ويوسع فيه على العيال، ولكنه في نفسه يوم فاضل .
(2/221)

وقال رضي الله عنه: اغتنم الساعة التى تصفو لك، فإنها قل ما تحصل كل حين، ولا يحصل الصفا كل حين، ثم ذكر أحوال من تقدم فقال: كم راح ممن قد راح، وكم خلف المتقدم للخالف، أو قال السلف للخلف، ولكن كأن الله لم يرد أن ينفع أهل كل زمان إلا بأهل زمانهم .
ما قال في أموال أهل البادية
وقال رضي الله عنه: أموال أهل البادية كلها بيت مال، لأنهم لا يدينون بأمور الإسلام، وإن أقروا بها، لا صلاة ولا زكاة، ولوسئلتُ عن مثل هؤلاء لم أجزم بأنهم مسلمون أو كافرون، وهذا هو محل التوقف وقول: لا أدري، لأنهم لا يقرون بالشهادة تعبداً، وإنما يقولونها بغير قصد عندما يتكلمون أو يتعجبون، ولا يفعلون أركان الإسلام، فبهذا يكاد يحكم بكفرهم، ولكنهم يقرون بها، ويعتقدون من يفعلونها، فبهذا يرجى أن يكونوا مسلمين، فظاهر أحوالهم يمنع أن يقال بإسلامهم، وباطنهم يمنع أن يقال بكفرهم، ففي مثل هذا: التوقف أسلم، لأن معهم شبهة إسلام، فلهذا حسن التوقف فيهم، ولو قد خرج المهدي لكان أول من يجاهد هؤلاء وأمثالَهم أو كما قال .
(2/222)

واستوصاه رضي الله عنه رجل فقال له نفع الله به: إزهد في الدنيا لا تحبها كثيراً، فقيل إنهم يحبونها كثيراً، فقال: ماطلبنا منه أن يزهدكزهد الأولين، إنما نطلب أن يخفف من حبهاويقرب وكان الأولون كالشيصة الواحدة في الخِيل( )، وكله تمر، والناس اليوم إلا كالريع( ) مايَلقى فيه إن كان فيه صالح إلا واحدة أو ماشي، ثم ذكر حكاية عن بعض السلف أنه سئل وقيل له: من نعامل من الناس، ومن نترك معاملته؟، فقال للسائل: عامل من شئت، ثم بعد مدة قال له: من أعامل؟، قال: عاملهم إلا فلاناً وفلاناً، وسأله بعد مدة أخرى كذلك فقال: لا تعامل إلاّ فلاناً وفلاناً، قال: وكانوا في الزمن الأول ثمراً بلا شوك، ثم ثمراً وفيه شوك، ثم شوكاً بلا ثمر، ثم ذكر ظواهر أحوال الناس فقال: ما مع الإنسان إلا الظواهر . والبواطن إلى الله، وربما لو ظهر من البواطن شيء، كَدَّر الظواهر، ولا نقول في أحد إنه صالح أو طالح، فما أنت جالس في جنبه تعلم أحواله، ومن أخطأ، الله أعلم أصيبت مقاتله، ثم إنك لو اطلعت على باطنه ينبغي الستر أولاً، ينبغي أن تقول في ... (ولم أتَعَنَّ)( ) بعد هذه، ولعل بعدها: أن تقول في الناس إلا خيراً، وذكر آية، قال الله تعالى: { رَبُّكُم أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ }( ) الآية، فاذكر الثمرة ولا تعرض للعمل، ولا يأخذ الله إلا بحجة { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }( ) ومن قال: يأخذ بلا حجة فقد أخطأ، ولا يأخذ إلا بذنب، وإن كان له ذلك، ولا يعامل الإنسان إلا ربه .
ما قال في خلافة الخلفاء الراشدين والرافضة والأباضة
(2/223)

وذكر رضي الله عنه الخلفاء الراشدين وأثنى عليهم كثيراً، ثم قال: من تأمل أحوال الخلفاء ممن له فراسة ومعرفة تامة، رأى طريقة أبي بكر وعثمان واحدة، إذ يغلب عليهما الحياء والشفقة، وطريقة سيدنا عمر وسيدنا علي واحدة، وهما على الضد من ذلك، القوة والشدة( )، ولما وَليَ سيدنا علي الخلافة سأل عنه أهلُ البصرة الحسنَ البصري وظنوا إنه يتكلم فيه لكونه قتل من أهل البصرة يوم الجمل، فأثنى عليه خيراً خلاف ماظنوه . وأهل النصيحة من عادتهم إذا تكلموا على إنسان في غيبته، ثم حضر زاد كلامهم في ذلك، لايراعون، بخلاف المخلطين . وينبغي للإنسان أن لا يتعمق في مطالعة الكتب التي فيها ذكر ماوقع لسيدنا علي من الحروب كالجمل وصفّين وغير ذلك، لأنها توغر الصدور، ولا بد مايمر عليه القليل منها في شيء من الكتب، وإن بُلِي العالِم بذلك واحتاج إلى النظر فيما ذكر، فليتوسط ولا يمعن، وإنما نظرنا فيه حين وصلت( ) الزيدية إلى هذه الجهة، وسألونا عن أشياء فأجبناهم عنها، وكان في السائل منهم إنصاف، حتى إنه مال إلى ماقلناه، وَوَدَّ الإقامة عندنا، وكان من الزِّيَدَة( ) بمكان، وكان متجرداً للأمر والنهي، وقالوا لنا: لأي شيء قَدَّمْتُم عَلَى أبيكم علي بن أبي طالب غيرَه، فقلنا لهم: هو الذي قدم غيره وفَضَّله على نفسه، فقدمناه نحن أيضاً وفضلناه لتقديمه له وتفضيله إقتداء به، فقالوا: إنما ذلك تقية، فقلنا: إنا لسنا مثله في قوته وشجاعته وصولته، فإذا فعل ذلك للتقية، فمن أقوى منه أو مثله في الشجاعة والقوة، فالتقية التي وسعته هو، تسعنا نحن أيضاً .
(2/224)

وذكر رضي الله عنه أهل الرفض فقال: إنهم أهل باطل لا يُذكرون ولا يُعول عليهم في شيء، وإن كان عندهم يسير من الحق فإنهم خلطوه في الباطل، فلا يبقى له أثر، كمن يجعل زباداً في عَذِرَة، وينبغي لصاحب الحق أن يتركهم، وإن رأى عندهم شيئاً من الحق لا ينكره، لئلا يتعللون ويحتجون عليه بإنكاره ذلك القليل من الحق، فيستدلون بذلك على أن كل ما معهم حق، وأنه أنكره، وما اعتقدوا إن سيدنا علياً أولى بالخلافة، فإنه لو ولي بعد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لما كان منه إلا مثل ما كان لما ولي في وقته( )، ولكن سيدنا أبوبكر رضي به الناس ومنهم سيدنا علي، لسابقته وحصوله مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في الغار، ولكونه صلى بالناس في حياته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو أوصى بها باجتهادٍ لعمر، وعمر جعلها في أهل الشورى، الذين يجتمعون عليه من أحد ستة، وهو أي سيدنا علي منهم، ويكفيه فضيلة ما له من الفضائل والمزايا، وإن تأخرت خلافته فإن ذلك أيضاً زيادة في فضله( )، فقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إذا بعثه في سرية يقول: { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا}( ) . الآية، وما ذكره الرافضة من ذمه بأنه سكت في بعض الأشياء تقية، فليس سكوته فيها جبناً، وإنما هو للإبقاء على المسلمين، وكراهة منه لشق العصا بين المسلمين، وأكثَرَ( ) نفع الله به في ذمهم والأباضة، فقال: الأباضة والناصبة أبغض إلينا من الشيعة، لأنهم يبغضون أهل البيت، وقال بعض الشيعة من أهل المدينة لبعض السادة من آل أبي علوي: ما تقول في الشيعة والأباضة؟ فقال: بعرة مقسومة نصفين . ورأينا سنة حججنا رجلاً شريفاً رافضياً قائماً عند قبر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يصرخ ويقول: يارسول الله ظلمونا وفعلوا بنا، ويتنصف كثيراً، وإذا به على أمور قد سلفت منذ زمان بعيد، كما فُعِلَ بسيدنا علي وابنه الحسين، فعجبنا منه . ومن طبع الرافضة الجنون، يدل عليه مثل قصة هذا الرجل، حتى قال بعض العلماء: لو أن الرافضة كانوا طيوراً لكانوا رُخماً، ولو كانوا دوابَّ لكانوا
(2/225)

حميراً، وتكلم في ذلك كثيراً.
أقول: رأيت في بعض التواريخ، إن السفاح أول ملوك بني العباس، أول ماتولى وقف في المشاهدة لزيارة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فسمع شريفاً شيعياًواقفاً تلقاءه ويقول: ظُلِمْنا بعدك، وبُغِيَ علينا وأُخِذ حقنا، فقال له السفاح: من الذي ظلمكم وبغا عليكم وأخذ مالكم ؟ فقال: أبوبكر أخذ سهمنا من خيبر وفَدَك، فأدخله بيت المال، قال: ومن ولي بعده؟، قال: عمر، قال: فما فعل به؟، قال: فعل كفعل أبي بكر، وتمادوا على ظلمنا، قال: فمن ولي بعده؟، قال: عثمان، قال: فما فعل به؟، قال: فعل كفعلهما، وظلمونا، قال: فمن ولي بعده؟، قال: علي، قال: فما فعل به؟، فانخفض وعَرَف إنه إنما فعل مثلما فعلوا، وانكسرت عينه وأراد أن يهرب، فقال له السفاح: فوالله لولا إن هذا أول مقام قمته فيكم، لأنكلن بك، تزعم أي عدو الله إن أبابكر وعمر وعثمان ظلموكم، وإنما فعلوا كما فعل رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وفَعَل علي، قال سيدنا: وسبب تسميتهم بالرافضة: إن جماعة من أوائلهم أتوا إلى سيدنا زيد بن علي، أخي الباقر الذي تَزْعُم الزيدية إنه إمامهم، وأخذ عنه أبو حنيفة فقالوا: يا زيد نكون عسكراً معك على من عاداك، ولكن لا نتبعك إلا إن تتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال لهم: إنما أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا: إذاً نرفضُك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسُمُّوا بذلك من حينئذٍ، وسموا الزيدية بذلك لأنهم ثبتوا معه، لا إنهم على مذهبه، وقد كان من سابقي الرافضة رجل معه حماران، سمى أحدهما أبابكر والآخر عمر، فاتفق أن رمحه أحدهما رمحة شديدة مات منها، فلما عَلِم بذلك بعضُ السلف لعله عبدالله بن المبارك، فقال: انظروا أي الحمارين الذي رمحه، ما يكون إلا الذي سماه عمر، فنظروا فإذا هو الذي رمحه، لأن طبع سيدنا عمر رضي الله عنه الشدة والقوة، يعني في أمر الله، فلذلك قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: أرحمُكم أبوبكر، وأشدكم في الله عمر، وأصدقُكم
(2/226)

حياءً عثمانُ، وأقضاكم علي رضي الله عنهم، انتهى ما تكلم به نفع الله به في هذا المجلس .
وقال رضي الله عنه: ما عاد في هذا الزمان إلا الملاطفة والمداراة والأخذ باللطف، ولا بد أن يدبر الله للناس ما فيه الخير .
وذكر رضي الله عنه الأخطار التي عليها أهل الجهات فقال: كالهند ونحوهم، يتربى الإنسان بين السهام وفي الحروب، وما يشبههم في المخاطرة إلا الصوفية فإنهم يخاطرون بأنفسهم في أمور شديدة لا تكاد تدخل في الطاقة، وذلك لأنهم رموا بأنفسهم ولا حسبوها، فعدوها في الآخرة وإن كانوا في الدنيا، فما يظهر عليهم من أشياء غريبة من رؤية ملائكة أو سماع هاتف أو غير ذلك فكل ذلك من أمور الآخرة .
وسئل رضي الله عنه عن قول الإمام الغزالي في كتاب التوبة: قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسببٍ خفي يقتضي العفو عليه، ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد من الله إلخ، فقال: نعم، لما إن أعطاه الله التوحيد والطاعة ورَزَقَه ذلك ووفقه له، كان هذا منه تعالى لعبده من غير سبب ولا وسيلة استحق بها ذلك، وعند ترتيب المجازاة على الأعمال لا يكون شيء إلا بسبب .
وقال رضي الله عنه في حديث( ): من التقط ما تساقط من الطعام حرم الله جسده على النار، أي للتواضع والصيانة وشكر النعمة، أي لما في ذلك من ذلك.
وقال رضي الله عنه: لا تشاور إلا ذا عقل وذا سر إلا إن كان في أمر ظاهر.
وقال رضي الله عنه: مَيلة الإنسان من الأمر وهو على حق خير من أن يُدْخِل يده فيه وبدنُه في البعد عنه، وباعِد الأمور إذا اضطربت ولا قام فيها والي، يصطلح فيها وجوهُ الأرض إلى أن يقوم والي، أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: بين الناس شياطين من شياطين الجن خالطوا شياطين الإنس مثل ما ترى بينهم في الأسواق في غلاء الأسعار وظهور ما يُطلب إخفاؤه، وكله من الشواغل والأمور السائغة بين الناس .
ما قال في مسير الهند
(2/227)

وقال رضي الله عنه: مسير الهند ما هو إلا بلية عظيمة على آل أبي علوي، ما هو إلا بلية يُصبر عليها وبلية يُشكر عليها، وإلا يَسيرُ إليها صبي صغير، إيش يرجعه إلى وطنه وأهله، ما يرجع إلا إن كان حصلت عناية إلهية، وقد كان السيد أحمد باجحدب ما يخلِّي من يسافر إلى الهند يستخلف منه، ولا سار إليها السيد عبدالله بن شيخ إلا بإشارة ربانية، لكثرة ما حصل عليه من الدَّين، وقد تقدم قوله: إن على أهل حضرموت في سفر الهند دعوة ولي بلا شك، وإلا فإن أحدهم ما يصدق على الله يشوف تريم، ثم إنه ما ينشب أن رجع إلى الهند.
وقال رضي الله عنه: التعلق بالخير في هذا الزمان كالمباشرة لكثرة الأشغال، لأن أمور الخير قَصْدٌ وتَعَلُّق ومباشرة ونية( ).
وقال رضي الله عنه: الدنيا ما هي شيء، لا يعدها الإنسان إلا من قفا ظهره { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }( ).
ما قال في البركة وقصة صاحب الدينار
وقال نفع الله به لرجل: هل بقي لكم شيء من النخل؟ يعني بعد سيل الحوت المتقدم ذكره، فقال: بقي قليل بين جماعة، فقال رضي الله عنه: القليل إذا فيه بركة خير من كثير ما فيه بركة، كما في قصة صاحب الدينار الذي سأل هل فيه بركة؟، فقيل: نعم، فأخذه واشترى به سمكة وجد فيها جوهرتين . وأموال أهل الزمان ما عاد فيها بركة لعدم إخراجهم الزكاة فخالطت أموالَهم ومعاملاتِهم الفاسدة وغير ذلك، ما عاد إلا إقنع منها بالقليل .
وقال رضي الله عنه: النفس قاسية رغيبة، إذا رأت الشيء لم تقنع به، لكن إذا رأته كثيراً تبارك وإن كان قليلاً، وإن رأته قليلاً ذهبت بركته وإن كان كثيراً.
(2/228)

وقال رضي الله عنه: لا تستقل شيئاً طرح الله فيه البركة كائناً ما كان، ولا تستكثر شيئاً نزع الله منه البركة كائناً ما كان، كقصة صاحب الدينار وهو: إن رجلاً من الأمم السالفة اشتد به وبأهله الضر والفاقة، فجعل يدعو مع زوجته، أو قال: يدعو، وزوجته تُؤَمِّن، فرأى ليلة من الليالي كأن قائلاً يقول له: إن في الموضع الفلاني مائة دينار، فخذها أنفقها في حاجتك وعلى أهلك، فقال: هل فيها بركة أم لا؟، فقال: لا، ما فيها بركة، فقال: لا أريدها، فأخبر زوجته بذلك فلامته كثيراً على عدم قبولها، فقالت: كان أخذتها ننتفع بها سواء كان فيها بركة أم لا، وبقوا يدعون كذلك، فرأى القائل يقول له: في موضع كذا عشرة دنانير، فقال: هل فيها بركة؟، فقال: لا، ما فيها بركة، فقال: لا أريدها، فأخبر زوجته فلامته كالأولى، فبقوا في دعائهم كذلك، فرآه فقال له: في مكان كذا وكذا دينار واحد فخذه، فقال: هل فيه بركة؟، فقال: نعم فيه بركة، فمضى إليه وأخذه، فمر إلى الساحل ليشتري به سمكاً، فرأى صياداً يبيع سمكاً فاشترى به سمكتين، فلما أن شقوهما وجدوا في بطن إحديهما جوهرتين، كل واحدة تساوي مائة ألف، فرزقهما الله ذلك بسبب البركة من غير مظنته، إذ من أين للصيد أن يبتلع الجواهر. وفي بعض ما أوحى الله به إلى من يوحي إليه، إنه قال سبحانه: ( إني أنا الله لا إله إلا أنا إذا باركتُ أدرَكَتْ بركتي السابع من الولد، وإذا مَحَقْتُ أدركَتْ محقتي السابع من الولد ) ولم يذكر الله تعالى في القرآن شيئاً من الخير إلا ذكر البركة معه، وإني تأملت في القرآن، فرأيت كثيراً ما يصف القرآنَ بالبركة، كقوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ }( )، { وَهَذا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ }( )، وعلى هذا.
(2/229)

وأوصى رضي الله عنه رجلاً يريد السفر، فقال له: الله الله في الطاعة والهمة وطلب الدِّين والآخرة فإن من سعى في طلب الدين والآخرة يسر الله له دنياه، ومن سعى في طلب الدنيا وترك دينه وآخرته فاتته الدنيا والآخرة، وقد انقلبت همم الناس اليوم إلى ما لا يُهتَم له، واستغرقوا فيما لا يُستغرق فيه، لأن كل أحد إنما يستغرق فيما يهمه خاصة، وكلٌّ يَهمه ما لا يَهم غيره على مقتضى غرضه، قَلَّ ذلك أو كَثُر، وقد جعلوا الآن هَمَّهم هَمّاً واحداً، وهو طلب الدنيا حتى استغرقوا في ذلك عن أمر دينهم وآخرتهم، ولولا أن الله منَّ على الناس بالحزب( )، لذهب بهم إستغراقهم حتى لا يعرفوا يوم الجمعة .
ذكر الهارات
وذكر رضي الله عنه الهارات وهي أوقات الوبا، وكثرةَ الموتى فيها فقال: قد مات على ما أحصوا خمسمائة، وسمعت من يقول: توفى ما بين العيدين عيد الفطر وعيد الحج نحو أربعة آلاف من أهل البلد ومن غرباء وبدو وذلك سنة 1115 وكانت هارة شديدة، ثم قال: وكل يحب سلامة نفسه، ويسعى في منفعتها إلا إنهم مختلفون في القصد، منهم من يقصد التنعم ومنهم من يقصد الطاعة ومنهم من يقصد المعصية ولا بد لكل من الموت، تأخرت المدة أو تقدمت، إذا لم تبك عليهم بكوا عليك، ولكن إذا كان مع الإنسان عبرة ينبغي أن يتسلى، لئلا يتغير عليه أمور دينه ودنياه، وما بقا الإنسان إلا كمن قال له واحد: إني أريد أن أقتلك فقتل من قرب منه ولامَسَه فتعجب من ذلك ثم ظهر عليه أثر القتل كمرض ونحوه فاشتد خوفه، فإذا صح نسي ذلك، وقال: عسى يتركني .
(2/230)

وقال رضي الله عنه: ينبغي أن يأخذ مع أهل الزمان في تعريفهم الصواب بالتعريف باللطف والبيان، وأن لا تتعدى من هذا الطرف إلى الطرف الآخر( )، ولا عاد معنا لهم بيان ولا صبر ولا حوصلة، وهم كمن هو مائل عن الطريق ذراعين( )، فأردته أن يميل الذراعين حتى يقوم على الطريق فقفز أربعة أذرع( )، حتى يصير مائلاً عنه ذراعين في الجانب الآخر، ما شَبَهُهُم إلا كذلك، إلا القليل من أهل العناية، لأن الزمان مدبر، وأهله مدبرون، ويعسر تعريفهم الصواب، ولا لهم بصائر، ولا يَستخرج العلمَ إلاَّ هِمَمُ الطالبين، وما يستخرجه تقرير المعلمين، ولكن يأخذ الإنسان بالقليل من الخير ويحسنه، فما ذلك بقليل، وذكر السيد( ) فقال: إذا كان في بلد أو قبيلة من يُستحيى منه فيرجى فيهم الخير .
وقال رضي الله عنه: كل شيء له أسباب كثيرة فإن أسبابه وإن تعددت تكون فروعاً لأصل واحد، هو أصلها، وترجع جميعها إليه في الخير والشر، فإن كان شراً وأراد قطعها فليقطعه إن أراد الله به الخير وذلك بتحكيم شيخ محقق أو أخ صالح مشفق ناصح، وإلا لم يسلم من دسايس نفسه أبداً، ولو فيما هو صحيح في اعتقاده، فقد قال الإمام الغزالي: إن الإنسان لا يمكنه تعذيب( ) نفسه، ولو كان ناصيته ورأيه بيد كلب لكان أنفع له من كون ذلك إلى نفسه .
وقال رضي الله عنه: إن الأكابر لم يأمروا أحداً ولا ينهونه إبتداء منهم أبداً، حتى ما يُطلب منهم أن يروا له ما هو الأصلح والأنفع له، فقلت فإن طلب منهم أن يكون تحت نظرهم، فقال: يعطونه كلمة واحدة تكفيه، قلت: فإن سَلَّم نفسه إليهم وطلب منهم أن يتصرفوا فيه بما أرادوا، فقال: ذلك له حكم .
وقال رضي الله عنه: ما يستقيم للأولياء أحوالهم إلا بترك الحظوظ في بداياتهم ونهاياتهم .
وقال رضي الله عنه: إذا لم تقدر تمشي على الطريق مع من يمشي فكن منهم قريباً ولا تبعد عنهم، فتميل عنه وتضيع .
(2/231)

وقال رضي الله عنه: الإيمان إذا باشر القلب يكون هو اليقين .
وقال رضي الله عنه: وكل من الأكابر غير أهل البيت لا بد لأحدهم علاقة وبركة من أحد من أهل البيت .
وقال رضي الله عنه: ما كل أحد يستيقظ ولا كل أحد يسير [ أي إلى الله ]، ولا كل أحد يصل، وكل الناس يسيرون، إلا منهم سائر إلى الجنة، ومنهم سائر إلى النار، حتى إنه ما يموت أحدهم إلا وهو على باب النار .
وقال رضي الله عنه: القطبانية في خصوص وعموم، قد يكون قطب أهله، أو قطب بلده، فقد قال الشيخ عبدالرحمن [أي السقاف] في ابنه الشيخ عمر: وجدنا عند عمر أسراراً ما كنا نظنها عنده، فقال الشيخ عمر: أَوَ قد أحاط بجميع أسرار الله، وكان صاحب مجاهدة .
وقال رضي الله عنه: لابد في الإمام المقتدَى به من السيرة والسريرة والصورة، فالسيرة: الطريقة، والسريرة هي حسن الخلق، أن لا يكون فظاً ولا غليظاً ولا وحشاً.
وقال رضي الله عنه: الجهال صغار العقول لا تجالسهم فإنهم كالنار، ولا تَج في طريقهم، وتنح منهم مثل ما تنحى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أبي جهل وأمثاله، إلا إن أولئك كفار، والجاهل ما يرجع من شيء .
وقال رضي الله عنه: ينبغي أن يترك السوءَ وأعمال السوء من أول مرة لئلا تتحكم فيعسر إذ ذاك تركها، وقد جعل الله لك على نفسك بصيرة، وجعل لغيرك من أولي البصائر عليك بصيرة، حتى ينتهي ذلك إلى العلماء، ثم إلى الأنبياء، ثم إلى الملائكة، ثم إلى الله تعالى، ثم تكلم بعد ذلك في التنباك فقال: الأصح أنه يَحْرُم، إلى آخر ما قدمناه .
وقال رضي الله عنه: الإحسان إلى الجار: بالإحسان إليه وكف الأذى عنه والصبر على أذاه.
قف على هذه المقالة
وقال رضي الله عنه: ربما يصل إلى الجهة أجنبي، فيرى أموراً فيتعجب أن يكون هنا من يؤبه له مع وجودها، فنقول كما قال سيدنا علي لما اختلف عليه أهل العراق فقيل له: إنه يقال ليس لك رأي، فقال: لا رأي لمن لا يطاع .
(2/232)

وقال رضي الله عنه: لا أنفع في هذا الزمان من البكاء والإستغفار، ومن معه خوف من الله في الدنيا آمنه في الآخرة، وبالعكس، ولا بد من خروج العرق والدموع، فإن لم يخرج ذلك في الدنيا( ) خرج في الآخرة، قال الله تعالى: (( وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، وإن خافني في الدنيا أَمَّنْتُه في الآخرة ))، كما أخبر بذلك عنه نبيه عليه السلام، وقيل في قوله تعالى: { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون }( ): أي لأنهم خافوا وحزنوا في الدنيا، فلا يعاد عليهم ذلك ثانياً، فينبغي للإنسان أن يتوب ويتقي ويخاف، وعسى الله .
وقال رضي الله عنه: إذا خرجت الموعظة بجد وصدق مع معرفة مقاطع الكلام، وعدم التشكك، والوقف حيث ينبغي أن يقف عليه، نفعت، وإلا شوشت ولم تنفع .
وقال رضي الله عنه: السير على الطريق العام على الإقتداء بالنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مليح، وفيه بركة، وإذا الإنسان دام عليه وتمسك به يحصل له خير مما يحصل من الخلوة، ومر في القراءة كلامٌ للشيخ حاتم الأهدل، فقال سيدنا: العارف إذا وصل إلى هذه المثابة، يعني التقييد بالحقائق لم يُنتفع به، وإنما يُنتفع به ما دام متقيداً بأمور المعاملة، وكذلك الشيخ علي بن عمر( ) من أهل الحقائق، ولا يخلو هذا الأمر من ظاهرِين فيه ومن خاملين، ثم ذكر القطب، فقال: قال بعضهم: الأقطاب أربعة: قطب الأحوال كأبي يزيد، وقطب المقامات كالشيخ سهل بن عبدالله التستري، وقطب العلوم كالإمام الغزالي، وقطب الحق كالشيخ أبي الحسن الشاذلي .
وقال رضي الله عنه: ربما حصل إساءة أدب، فتقل الحظوظ بسبب ذلك، وإذا أحد أقل الأدب فأحسِنْ أنت الأدب حيث يُحتاج إلى حُسْن منهم .
(2/233)

وقال رضي الله عنه: لا ينبغي للجماعة المجتمعين في أماكن متقاربة أن تضيق صدروهم فتضيق بهم أماكنهم، وإذا وَسِعَت صدورهم وسعتهم أماكنهم .
وذكر يوماً رضي الله عنه الأمر الخارق للعادة، وكان ذلك ضحى يوم الجمعة 13 محرم سنة 1127، و6 في نجم النثرة وكان طالعاً إلى البلاد راكباً على حمار لما ماتت فرسه، فقال للخادم عكيمان: هل أنت واثق على هذا الحميِّر في طعمه وسقيه، قال: نعم، فقال له ولمن هو مسايره: لو تكلم الحمار، فقال: لا ما هو واثق علي، مَن أول من يشرد منكم؟، فقال عكيمان: أنا، فقلت: وهل يفزع الإنسان إذا تكلم نحو الحمار، فقال: نعم، لأنه خرق عادة، فقلت: هل الخارق للعادة لا يحصل لأهله إلا مع غَيبة، فقال: نعم، في حالة تسمى السبات وهي مرتبة بين الوحي والحس، لا ترتقي إلى درجة الوحي ولا تنزل إلى مرتبة الحواس. قلت: فما صفة تلك الحالة، فتبسم وسكت ساعة، وهذه عادته إذا سئل عما لا يشتهي السؤال عنه، أو لم يكون السؤال موافقاً ثم قال: ما لم يُكَيفوه لا نُكَيِّفه نحن، لأن ما كُيِّف نزل، فلأي شيء تُضرب الأمثال، ما تُضرب إلا لمثل ذلك، إذ ما كل كلام له جواب، وقد سأل بعضُ الجهال بعضَ العلماء: متى يجد الإنسان لذة النوم، فسكت، وقال: إن قلت قبل النوم فليس بنائم، أو بعده فليس معه حس يدرك به اللذة، ثم تمثل بهذا البيت :
ما كل قول له جواب ... جواب ما تكره السكوت
ثم قال: والأحسن أن يقال: يجد لذة النوم حالة النعاس، وهي أوله، والإنسان معه بعض شعور عند ما يتشكك( )، فانظر كيف أول هذا مزح، ثم انجر إلى هذا الكلام العجيب .
(2/234)

والتقاه رضي الله عنه خارجاً من البلاد إلى الحاوي رجل بماء لينفث فيه لجملة ناس مرضى في وقت بارد، فقال: لا ينبغي أن يُداوى في وقت البرد إلا بكل حار، وكذا في كل فصل بما يخالف طبعه، إلا إن كان طبيب حاذق يرى خلاف ذلك، إذ قد استحبت الأطباء حتى في المأكولات أن يكون في الشتاء( ) مثلاً حيث طبعه بارد رطب، أن يكون المأكول حاراً يابساً، والربيع( ) حيث طبعه حار رطب، أن يكون المأكول بارداً يابساً، والصيف( ) حيث طبعه حار يابس، أن يكون المأكول بارداً رطباً، والخريف( ) حيث كان طبعه بارداً يابساً، أن يكون المأكول حاراً رطباً، وهكذا إذ مداواة كل شيء بضده هو الدواء الكلي، إلا إن رأى طبيب خلافاً في شيء من جزئيات ذلك .
ما قال في الجنون
وذكر رضي الله عنه الجنون فقال: الجنون له مواد كثيرة، مواد من فوق، ومواد من أسفل، فإذا رأيت المجنون ذا خزعبلات فهو من مادة أسفل، وإذا رأيتَه كثير الذكر ونحوه، فمادته من فوق، وقالوا: الجنون فنون أي أنواعه كثيرة ومواده كثيرة .
وقال رضي الله عنه: الجنون فنون، وما هو فن واحد إلا العقل، وكل له منه( ) نصيب، ممن له منه جزء وجزءان أو أزيد أو أقل، ولا كَمُلَ فيه إلا رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وترى الإنسان عليه ثياب وعمامة ولا عقل معه، لأنك إذا تأملت أفعاله لم تكن من أفعال العقلاء .
وقال رضي الله عنه: ربما إن أحداً من المجاذيب المجانين يجتمع ببعض الشياطين، لأنهم ما يميزون بين الإنس وغيرهم، فإنا نسمع منهم مايدل على ذلك .
وقال رضي الله عنه: الجنون مرض عقل، ومنه المطبق، ومنه الذي يرد أحيانا كمرض الجسم وهو على أنواع شتى كما قيل: الجنون فنون، وأما الحمق فنوع واحد، ونهايته بداية الجنون، وهو أشد منه على الناس لأن المجنون كُلٌ يحذر منه، والأحمق فيه شائبة من عقل .
(2/235)

وصافحه رضي الله عنه رجلان أخوان، يقال لهما أولاد - أظن- محمدبن شبانة، فسألهما من أين أصْلُكم، قالا: أبوهما جاء إلى هنا من نجد، وقبلها كان جدهما من الحساء، من آل شبانة المعروفين من عامر( )، فقال أحدهما: ادع لفلان فإنه عاده( ) برأسه يعني له وفرة، فقال سيدنا: الشَّعَر مليح، إلا إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أمر بتعهده، وكان عليه السلام عليه شعر ما حَلَقَه إلا في حجته( )، والسر في التقوى، إذا وجدت صلح كل شيء وإذا فقدت التقوى فسد كل شيء .
وقال يوما رضي الله عنه وهو في الضيقة خارجا لصلا ة الظهر: من الذي ُيدخِل المصلَّى يعني السجادة، بعد ما نقوم من الراتب، مع علمكم بأن صلاة الصبح تكون خارجاً، إذ لا معنى لإدخاله ثم إخراجه للصَّلاة فليخدم الإنسان بجميع أفعاله المعاني المطلوب الفعل لأجلها، لأن من فعل شيئاً لا معنى له كان فعله سدى بلا فائدة، فالحاصل أنه يتعين أن يخدم بجميع أفعاله وأقواله معانيَها التي لأجلها يقول ويفعل، ولا يقول ويفعل ما لا معنى له، والا صار سعيه ضائعاً وعمله خائباً، فراعوا ذلك في كل ما تقولون وتفعلون، أو كما قال .
وصافحه رضي الله عنه بعض السادة فتوسم من حاله، فقال: كان أهل المروات إلا يعينوهم الناس، عكس ما عليه الناس اليوم، والخير والتقدير كلاهما مأمور به وإلا فإن مددت يدك كثيراً تعلقوا بك، فانظر إلى فلان( ) تمره في كل مكان( )، وهم يقولون بخيل، وقد قال الله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ}( ).
(2/236)

وقال رضي الله عنه: خلق الله كل شيء، وجعل تحته حِكَماً، وفي مقابلته حِكَماً، فخلق السماوات والأرض وغيرهما حتى انتهى الأمر إلى الشيطنة، فإن من خصال الشيطان ما لا يقبل الحق مجرداً، إنما ينفع فيه السيف، فرسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لما قاتل أهل بدر، لم َيدْعهم، إنما قاتلهم بالسيف فقط، وإنما كان دَعاهم قبل ذلك، وبعض الحجج الباطلة ما يقطعها إلا السيف، ولا يُناظَر صاحبها إذ لا تفيد فيه المناظرة، لأنه ينجر من شيء إلى شيء، والطرائق المسلوكة إلى الله كثيرة، منها عامة ومنها خاصة، ومنها ظاهرة ومنها باطنة، ومنها جلية ومنها خفية، وكلها مسلوكة إذا سلكها الإنسان وثبت عليها ومال منها قليلاً يمنة أو يسرة ثم رجع إليها، وإن لم ير السائرين، بأن بعد عنهم وجعل يتبع أثر أقدامهم، وأما إذا راح يسير على الشخر( ) تضررت رجله وانقطع ولم يصل .
ذكر مرضه الذي في سنة 1130
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين العيدروس، وكان معه نفع الله به حمى، وذلك في مرضه سنة 1130، فقال سيدنا: الحمد لله حصلت العافية، أو العافية حاصلة، وإنما هي حمى خفيفة، قد كنتُ أحسستُها ولكن كنتُ أخفيها، قلتُ: إذا أظهرتُها تبقى لها صورة، وإذا كان الإنسان يروح ويجيء ويقيم صلاته ولو معه أمراض خفية ما يخالف، وإنما المرض ما أقعد الإنسان، وقد لي نحو سنتين ما أصلي إلا وأنا ماسك بالحائط، من سنة 1127 ومنذ مكثت في الدار لا أخرج( )، أصلي جالساً، واسترحت بذلك، والعافية من الله سبحانه، والعبد ضعيف، وفي بعض الاحاديث: إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جعل يصف الحمى لرجل، ثم قال له: أتريد أن أزيدك من وصفها، قال: لا، لو لم يكن إلا ما ذكرتَ أو قال: يكفيني ما ذكرتَ .
(2/237)

أقول: ولما كان به الحمى في ذلك الوقت كان معي أيضاً حمى، وكان مع ما به نفع الله به، كثير التحنن عليَّ والسؤال عني، فرأيت مرة وأنا تلك الساعة معي منها شدة عظيمة، كأني حامل سيدي على ظهري، وأمشي به فاعترضني في طريقي نوف( ) مرتفع، وأردت أن أصعد به فلم أقدر، فحاولت الصعود مراراً، حتى في بعض المرات تعلقت بذلك المكان المرتفع، حتى صعدت به وهو على ظهري ثم سرت أمشي به، ثم حصلت العافية له وَليَ بحمد الله .
ودخلوا عليه يوماً رضي الله عنه عائدين له في هذا المرض، فبعد ما اطمأن بهم المجلس، قال: الحمد لله العافية حاصلة، وعافية الكبير إلا على قدرها( )، ولو هو إلا من حيث الشواغل لو أراد شيئاً أو أراد أحد منه شيئاً، وشيء من الشواغل من حيث الحقيقة، وشيء من حيث العادة .
(2/238)

وسأل رجلاً من الحاضرين من الذين يقرءون في الليل في مسجد السقاف، متى تقوم لقراءة السدس؟، ثم قال: ومع الكِبَر الإنسان لا يستوفي نوم الليل كله، ولا أَكْلَهُ كله، وقد يكون ذلك إما لِكِبَر أو لعادة، والشاب لا يكفيه ذلك، بل يريد نوم الليل كله، وينام في النهار ويأكل أكثر من العادة، وقد قيل: إن خلاك الموت ما خلاك الكبر، والحاصل: إن الدنيا دار عقوبة منذ خلق آدم، فبقي ذلك في ذريته، خَلَقه للمثوبة فراح يدور للعقوبة، وإلا فما أحد يخالف الحبيب ويطيع العدو: { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ }( ) فدخل بعض السادة أهل( ) الهندوان، من مشطة( ) بأسوكة، فوضعها بين يديه، فقال لي: أتطيق تقسم الأسوكة؟، قلت: نعم، فأعطانيها، فاشتغلت بتقسيمها عن باقي كلامه، ثم دخلوا عليه مرة أخرى، كل ذلك عيادة له في مرضه ذلك، وكنت أنا معي أيضاً حمى، وما تعوقت بسببها عن حضور مجالسه، من فضل الله، فدخلت عليه معهم، ولما صافحته قال عساك أشكل( ) فقلت: بخير، فقال نفع الله به: مسكين الحاج وكلنا ذلك المسكين، ثم قرأ هذه الآية: { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ }( ) الآية . ثم ذكر هارة شديدة حصلت سنة 1030، قال ما أحصي من مات فيها لكثرتهم، وفيها مات الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس، ثم قال لي: أتطيق تنشد، هات ما تيسر، ولو سبعة أبيات، فأنشدت بقصيدته: ( لجيران لنا بالأبطحية ) إلخ... وبعدها قرأ الفاتحة وخرجوا.
(2/239)

ودعاهم مرة رضي الله عنه للدخول عشية يوم التروية، وهو ثامن ذي الحجة الحرام، فدخلوا عليه، فلما اطمأن بهم المجلس، جعل يتكلم فكان كلامه كأنه تَنَفُّس كالفاقد لمجالسه المعتادة، والمتعطش لجريان المذاكرة بعد انقطاعها، فمما تكلم به، وما نسيته أكثر، وهذا أيضاً على مقتضى ما فهمته، مع ضعف حفظي وركاكة فهمي، بعد ما صافحه صبي فسأله من هو، فأخبره، فقال له: بارك الله فيك، ثم ذكر إن بعضهم قال: ينبغي إذا أراد أن يقول لأحد بارك الله فيك أن يقول: بورك فيك لئلا يكثر ذكر اسمه تعالى في كل لفظ، وفي كل محل غير لائق، فيكون شبه الإخلال بالحرمة، وكذلك الإتيان به في الألفاظ المذمومة كأخزاك الله، ونحو ذلك إذ كثرة تكرر الإسم الشريف فيها، يخل بالتعظيم الإلهي، ويعرف ذلك من حيث العلم الذوقي، أو العلم الكشفي، ولكن لا يفهمون بكثرة التعليم .
وقال رضي الله عنه: ينبغي أن يُحْسِن الإنسان جانب الربوبية أولاً، ثم جانب النبوة ثم جانب العلماء العاملين، ثم جانب أولياء الله لأنهم خاصته، ولا يعترض على أحد ويخصصه، والإمام الغزالي مع كثرة ما اعترض على علماء السوء لم يخصص أحداً بذكر.
وقال رضي الله عنه: وقد تُعَوَّج الألفاظ في ألسنة العامة فيقلبونها ولا أحد ينكرها عليهم، فيحتاجون إلى تعليم، (( وقد جاء رجل إلى عند النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال: عليك السلام يارسول الله، فقال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: عليك وعلى أمك )) الحديث( )، وألفاظ كثيرة لكثرة الاعتياد ما يحس الإنسان إلا وقد وضعها في غير محلها بحكم الاعتياد كألفاظ الطهور والخلاء وقد يقع لي أنا هذا كثيراً .
أقول: يعني من كثرة مواظبته على الأذكار المختلفة باختلاف الأحوال، قد يأتي نفع الله به بذكر موضع في موضع آخر غير موضعه، فكثيراً ما أسمعه إذا دخل البيت يأتي بأذكار دخول المسجد، ومثل ذلك كثيراً .
(2/240)

ثم ذكر رضي الله عنه صبر أهل العلم على العامة، فقال: وأهل العلم والدين يصبرون وذلك شرط، وقد يكون إما ابتلاء أو طلب فائدة، فالإبتلاء كمن ُيبتلى بأحد سيء الخلق في جامع أو مجلس تعلم، أو صحبة سفر، كما في قصة الرجل الذي صحبه في سفر رجل سيء الخلق، فجعل يصبر عليه مدة ما هو معه، حتى إذا فارقه جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟، قال: أبكي على صبري عليه مدة، ثم فارقني، وبقي خلقه معه، ثم أمر رضي الله عنه بإدارة دخون( )، ثم قال لمنشد: أنشد حتى يُفرغ من الدخون، وبعد النشيد قال للمنشد يمازحه: هل يمكنك لو قال لك أحد: هيا نروح نحج، ولكن بشرط أن لا تخبر أحداً أيمكنك تسكت، فسكت( )، فقال نفع الله به: لا لا، أستغفر الله، ولو حتى رؤيا إلا إن قال لك: إن أخبرت أحداً تموت فلعل أن لا تخبر أحداً، ثم قال: ما ندري أين جاء خبر بيت الشريف( ) في اختلافهم، ما هو إلا لكونهم قرابة وإخوان، فالإختلاف غير لائق بل ينبغي أن يقول: الذي يقع لي يقع لأخي، ثم قال: وقد رأيت قبل أن تحصل لي الحمى: كأني قائم تحت الكعبة عند الحَجَر، وكأني أمس محله أملس ليس فيه كسر، ولكن نفس الحَجَر ليس موجوداً، فقال له السيد عقيل باعقيل( ): ماذا أولتوها، قال: ما أولناها بشيء لأن التأويل سمح يقع ذاك إلا في الزمن الأول إذا أولت تأخرت مدة وإنما نؤولها بأمر حادث ثم قرأ الفاتحة ودعا، فلما ختم الدعاء قاموا يصافحونه، وفي جملتهم جماعة كانوا مرضى، فسأل كل واحد منهم كيف أنت، فقال: بخير، ثم قال رضى الله عنه: لُون( ) عَرفة إلا بايصحُّون لها الناس، سبحان الله، على بالك أن الناس هنا يقولون عرفة حتى الضواون( ) ما تأكل فيها اللحم .
(2/241)

أقول: وهذا من كلامه في المزاح رضي الله عنه ونفع به، وهذا آخرُ دخول عليه بنية العيادة من مرضه الحاصل عليه في سنة 1130 وأفسحُ مجلس في المجالس المذكورة، ثم مَنَّ الله ببروز طلعته البهية، وظهور غرته السنية، خرج إلينا ليلة العيد إلى المصلى، فتَيَمَّنَّا بنفحة ريَّا مرأى رؤية وجهه البهيج، وحصل لنا برؤيته خيرات كثيرة وفوائد منيرة، وانطفت عنا حرقات الغرام المهيج .
بغرته قد أودع الله أربعاً
تَسَلٍّ لمهموم وأمنٌ لخائفٍ ... ... نشاهدها كالشمس عند التأمل
ورشدٌ لذي غي ويسرٌ لمقلل
(2/242)

خرج بعد ما أتموا ربع القرآن، دخل وهم يكبرون عند تمام حزب آخر الأنعام، إذ هو مرتِّب لهم في إحياء ليلتي العيدين التكبير عند تمام كل حزب تقييداً للتكبير حيث هو مطلق، فقيده بذلك خوفاً أن يترك بمرة، وابتُديء من (الأعراف) بحضرته، وبقي جالساً في حلقة القراءة إلى أن وصلوا مقرأ وما تكون في شأن (من سورة يونس)، ثم قام، ودخلوا عليه ضحوة يوم العيد للمعاودة كما هي العادة في مثل هذا اليوم، ثم استأذن جماعة أخرى ليهنوه بالعيد، فأذن لهم وأمر لهم بقهوة، وما كان أمر بها في تلك المجالس المتقدمة للعيادة، ثم مكثوا قليلاً بعد القهوة ثم قرأ الفاتحة ودعا، ثم خرج من أتى بعد، وبقي من كان حاضراً قبلهم، فقال رضي الله عنه: أبداً ما تخلفت عن شهود صلاة عرفة إلا هذه المرة، لقلة الإختلاف فيها، وعدم اتفاق مرض في هذا الوقت، وأما صلاة عيد الفطر فتخلفنا عنها ثلاث مرات( )، غالبها بسبب الإختلاف وخطاهم في رؤية الشهر، فمرة أفطروا ولم نفطر ولا حضرنا الصلاة ولكن أمرنا النساء والصغار من أهل بيتنا بأن من أراد منهم أن يصوم أو يفطر هو بالخيار، ومرة أفطرنا، ولكن لم نحضر العيد لحصول الشبهة، ولكنها في هذه المرة (سنة 1118 هـ) ضعيفة، وفي الأولى قوية (سنة 1116هـ) ومرة تخلفنا فيها لبقية مرض كان حصل معنا وهو (سنة 1070 هـ). وهذا أخف أمراضنا (أي سنة 1130 هـ) وإلا فقد مرضنا سنة 1070هـ مرضة شديدة جداً، ونحن إلا في لطف كبير، وإلا فكم ناس من الأكابر يمكث الواحد الشهرين وأكثر وهو غائب لا حس معه، وأنا أود أن أخرج أكثر من هذا والمشي أيضاً يسهل علي، وإنما يشق الركوب، ولكون الناس يناتفون الإنسان مثل سارق عينات في نوف وعلى الفرس، فيَشغُلون وإذا عُلّم واحد ما تعلم غيره، وأهل الأرض هنا عامة وجلفان، فقيل له: إنه كان يكفيهم الرؤية بلا مصافحة، قال: ويا الله إن وقع لهم منا هذا، ولكن ما عاد معنا إلا الصبر عليهم، والأمور
(2/243)

إن شاء الله إلا جميلة .
وبينما هو نفع الله به في آخر هذا المجلس، إذ قيل له: هنا جماعة يستأذنون، فقال: قولوا لهم: إنه أبطأ به المجلس وهو جالس فَوَعْدُكم العصر إن اتفق ذلك منا ومنكم، فلما كان العصر حشدوا وتجمعوا، فلما أُخبِر بهم أمر لهم بقهوة، وأذن لهم بالدخول، فلما اطمأنوا جالسين قال: المعاودة هذه ما لها أصل في السنة، وإنما هي بدعة حادثة، ولا يعرف لها ذكر إلا إن كان في الآداب، وإنما السنة عيادة المريض، وقال: ما قطع الناس عن الناس بالمواصلة في هذا الزمان إلا التكلف، وقال: ثلاثة أوقات، الناس يتواصلون فيها طوعاً أو كرهاً، الخريف ورمضان وعرفة، والعوائد شيء منها للنسوان، وشيء للرجال، وساداتنا آل أبي علوي أمورهم إنما هي مرتبة على السنة والعوائد الحسنة، ومن خرج منها فهو قليل خير، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة فيه مُدِحَ بها، وفيها تهنئة له بالعيد، وهي للشيخ عبدالرحمن باكثير( )، ساكن الشحر أولها :
الحمد لله الذي عم الورى ... ... بالجود والإفضال والنعماء
إلى أن قال فيها :
إنا نهنيكم بعيد أكبر ... مع جملة الأهلين والأبناء
فلما فرغ منها سأله لمن هي، فأخبره، فقال: نحن ما نستثقل أو قال: نكتئب من هذه الأشياء لأن ما وقع لنا طرحناه في بحر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقيل له: الحمد الله حيث خرجتم البارحة فقال: نعم، نقول عسى ساعة قبول، أو ساعة رحمة، والدنيا سموها ساعة فهي ساعة، لا ينبغي أن تُجعل إلا في طاعة، وما بعد هذه الساعة إلا ساعتان، إما ساعة نعيم دائم، أو ساعة عذاب دائم، ثم قرأ الفاتحة ثم دعا ثم خرجوا، وكل من أتى زائراً أو معاوداً أو لغير ذلك، لا يرجع بل يأذن( ) في الدخول، ويعطيه من المجلس والجبر كما يريده ويأنس به.
(2/244)

ثم خرج نفع الله به لصلاة العشاء ليلة الجمعة ثاني عشر من الشهر وحضر من الذكر ما كان يعتاد يحضره غالباً قبل ذلك، وهو نحو ثلثيه، تَعَوَّدَ ذلك في هذه السنة أو قريباً منها قبل مرضه هذا، فإنه هذه الأيام قد يحصل له عذر، وقد يحضر كل المجلس ولا يقوم إلا بعد انقضائه بعد أن يقرأ الفاتحة، ومنذ حصل عليه هذا المرض، ما تقدم لصلاة إماماً بل يقدم أحد العيال( )، ولا صلى إلا قاعداً سوى الركعة الأولى حيث تقام الصلاة إذا دخل .
(2/245)

ودخل عليه رضي الله عنه ضحوة يوم هذه الجمعة جماعة معاودين، فانبسط لهم وتأنسوا عنده، وعشيته دخلوا حاشدين معاودين، على عادتهم في الكثرة إذا دخلوا عليه في هذا الوقت، وأمرني بالإنشاد فأنشدت بقصيدته (خلها تجري بعين الله) ...إلخ، و (بمرحباً بالشاذن الغزل) إلخ، ثم قرأ الفاتحة . وليلة السبت خرج لصلاة العشاء، وبعد الفراغ من قراءة يس، قام وأمر بشد الفرس، فركبها إلى البلاد إلى بيت آل فقيه للمبيت على عادته، فلما صعد الدرج وبلغ السطح، كأنه تعب في الدرج، فقال: الكِبَر قده مرض، فما حصل معه من مرض فهو محاوش( ) له، ثم بات نفع الله به عندهم، وظل ذلك اليوم إلى العصر، كما هي عادته أن يبقى عندهم آخر أيام التشريق، وبعد أن صلى العصر خرج إلى الحاوي، ودخلوا عليه عشية الأحد، وفيهم كثرة فتكلم كثيراً في أحوال الناس خصوصاً وعموماً، ثم قال: لا عاد تدعو إلا بالصلاح، فإنما العزيز اليوم إلا الصلاح، وأما الدنيا فلا عبرة بها، فقد تكون عند أقوام، ثم تنتقل عنهم إلى آخرين، فلا ينبغي أن يحرص الإنسان إلا فيما يرضي الله ورسوله، فكلما كان لله ورسوله فما منه بدل، وكلما أخلصتَ في ذلك فهو العمدة { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِص }( ) { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين }( ) وكل شيء فهو في القرآن، إلا إن الناس ما علموا معناه، وقد قال الفضيل بن عياض: لو علمتُ من القرآن أولاً ما علمته منه اليوم، لما كتبت الحديث، يعني إنه انكشف له من معاني القرآن آخر وقته ما لم ينكشف له أولاً، ثم قرأ الفاتحة بلا نشيد، ثم دعا وصافحوا وخرجوا، ثم دخلوا عليه رضي الله عنه عشية الاثنين في 15، وفيهم كثرة كالتي قبلها، فشكا إليه رجل ضيق الحال، فقال: ما عاد معك اليوم إلا الرضى والتسليم، لكن بشرط موافقة الأمر، فإذا وافق الرضا بالقضاء والقدر( )، ثم أمرني بقسمة أسوكة، فبقي يتكلم ولا
(2/246)

عقلت منه شيئاً، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة تنسب للشيخ أبي بكر العيدروس (أغالب دهري حينا وحيناً يغالب)( ) ثم قرأ الفاتحة وخرجوا.
ودخلوا عليه نفع الله به، عشية الجمعة في 19 فكان غالب كلامه في الناس الذين أدركهم وكان يعرفهم، وفي الأماكن التي كان يتردد إليها ويألفها أيام طلبه ووقت شبابه، حتى ذكر محلاً كان فيه حَسارة( )، قال هل هي باقية فقيل لا ولكن محلها معروف ينسب إليها يقال له محل الحسارة، ثم ذكر جماعة ممن كان يعرفهم ويألفهم، فممن ذكر رجلاً من السادة اسمه أحمد عيديد( )، كان عالماً فاضلاً وله اطلاع على العلوم، وذكر من أحواله أشياء، وذكر له في "المشرع الروي" ترجمة مطولة، وذكر غيره أيضاً قال: كل هؤلاء كانوا بين الستين إلى السبعين، وكانوا كلهم متواقرين ومتناصرين ومتعاونين، وما أحد يشح على صاحبه في مثل أمور الدنيا، فإذا مال أحدٌ منهم قام عليه صاحبه بالأمر بالمعروف، ثم قال: وكم أشياء كنا نعرفها ما عاد يعرفها أهل الزمان، فإنه كم وجوه راحت. ثم ذكر خربطة هؤلاء المفتونين وسوء أحوالهم فقال: لا هم لهم نسبة إلى الدين ولا إلى أهل مروءة، فلا ينسبون إلى أهل صلاح ولا إلى أهل دنيا. ثم قال: كل أمر بين أمرين فأمره مشكل جداً، الذي يكون لا هو إلى هذا الأمر فيلحق به، ولا إلى هذا الأمر فيلحق به، فعند الأطباء أن الشيء الذي لا تعرف طبيعته، هل هي باردة مثلا أو حارة، أو هي رطبة أو يابسة، فمعرفته مشقة عندهم، لا يعملون به في إحدى الدرجتين، حتى يتبين قربه من أحدهما فيلحقونه بها، وكذلك الخنثى الذي لا هو رجل ولا امرأة، فقد أخذ نصف العلم، ولا أحد حكم فيه بأمر قاطع، فكم أتعب الفقهاءَ أمرُه وأكثروا فيه الكلام، ونحو ذلك، فقس هذا في الأمور الدينيات، والأمور الدنيويات، واعتبره فيهما.
(2/247)

ثم ذكر قراءته في النحو، فقال: حفظت "الملحة" ثم ذكر أخذه في الفقه إلى آخر ما تقدم ذكره في ابتداء قراءته، ثم قال للذي يدير الدخون: تم الدخون؟، قال: عاده، ثم قال: تم، فقال: الطيب إلا مبارك، وهو أقرب إلى السنة من القهوة، إلا إن القهوة لما كان أصلها وظهورها من عند الصالحين اتخذوها لأجل السهر والنشاط على الطاعة فهي خير، وما كان أصله إنما نشأ من خير فهو خير مما أصله من الأشرار واتُّخِذَ لأجل الهوى، يشير إلى التنباك، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا .
ودخلوا عليه رضي الله عنه عشية الاثنين 22 فكان غالب كلامه في قبائل الأرض، من أهل الخلا وأهل البلد، فذكر أن آل باشيخ، وباسالم يرجعون في النسب إلى أصل واحد، وأن آل أحمد وآل حيد إلى أصل واحد، وآل باجذيع وآل باغوث كذلك.
ثم ذكر باغوث الذي كان خادم الدولة، فقال: ماهو قليل ما فعل، فإذا جاءنا الناس يشكون، قلنا: لا بد ما ينصف الله المظلوم من الظالم، فقال عليوان بن دامس: مرادنا نشوف ما يفعل الله بهم، قلنا: هذه شماتة، والشماتة مذمومة والظالم مأخوذ، إلا إما أبطأ وإلا أسرع: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَالِمُونَ }( )، وقد عاقب الله هذا الظالم، وأخذه أشد أخذة، ورجع جماعته يطلبون على الأبواب بعد ما كان من صولته واستضعافه المسلمَ، وهكذا جرت سنة الله في عباده ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا.
(2/248)

وجاءه السيد زين العابدين يوم الثلاثاء 23 ذي الحجة المذكور من السنة المذكورة( )، فقال له: عساكم إذا طلعتم الرقاد، ما تحسون تعباً، فقال: قليل جداً، وهو من بقايا شيء، ولكن نحسّه كالذي هو ذاهب وبانغلبه بالقوة، وقوة الكبير إلا ضعيفة، ومرضه زيادة فيما معه من الضعف، يعرف ذلك من نفسه، والعاقل ما يحتاج إلى التعلم، لأن التجربة قد علَّمته، ومن حنكته التجارب يعرف من نفسه ما لا يعرفه غيره، هذا إذا كان الإنسان عاقلاً، فإن كان لا عقل له، أو هو ضعيف العقل، فلا يفيد التعلم أيضاً، وقد قيل: بعد العشرين لا يزيد العقل، يعني الغريزي، وما بعد ذلك إلا لزيادة( ) بالتجربة والمعرفة وهو من العقل الكسبي.
ثم امتد الكلام إلى أن قال: ينبغي أن يؤخذ كل شيء من عند أهله، وإن أداه إليه العلم فلا يستغني عن أن يسمعه منهم، فقال له السيد زين: عسى أموركم المعتادة، مثل القوت والنوم قد تراجعت، قال: نعم، هي كالعادة، وما أحس شيئاً إلا إن كان بعض شيء في الدماغ، حتى إنه يشغلني الكلام، إلا إن كان عندي أحد فلا عذر من الكلام . وقد أوصي الأهل والعيال إذا دخلوا عندي، وبقوا ساكتين أقول لهم تكلموا بعضكم مع بعض كما ترون من عادتي، وهم يرون هذه الأشياء أدبًا، وشيء منها من الأدب لكن ما هو بهذه الصورة، ولكن من لك بمن يعرف .
(2/249)

وطلبه السيد زين العابدين يجيه إلى بيته، وذلك رابع عاشوراء سنة 1132 فوعده بذلك، وبقي ينتظره مدة، وما اتفق إلا بعد نحو ستة أشهر من الوعد، وذلك يوم عشرين من جماد الآخر، فظل ذلك اليوم عنده، وبعد ما طال به المجلس، قال له السيد زين: تنامون قليلاً، قال: نعم، وأنا قليل ما يجيئني النوم، وإنما هو السكون، سكون الاعضاء، فيحصل لي بذلك سكونان، سكون الأعضاء وسكون اللسان، وقدني أقول لهم: افصلوا بيني وبين الداخلين علي، إن أرادوا يتكلمون وحدهم أو يسكتون، وإلا فلا يطلعوا وأما أنهم يحيلون الكلام علي فلا، والكلام فضول يجر بعضه بعضاً فبينا أنت تتكلم بكذا انجر إلى كذا كالخواطر في الصدر، إلى غير حد .
وقال يوماً: إن كان رحنا للحج بانطلب الفالكي نركب فيه، لوجود الضعف وينبغي أن يفرق بين أمور الأعذار، وأمور الرياسة.
وقال رضي الله عنه فيما يخاطب به السيد زين المذكور( ): الإنسان إذا طعن في السن ضاعت عليه الأمور ونسي حتى كان( ) في سن التسعين، وقال أنس بن مالك في آخر عمره: ما عاد أعرف شيئاً مما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا الصلاة، وأهل الزمان حَيِيَتْ نفوسهم وماتت قلوبهم، لأنهم لا همة لهم في الدين، كيف يصلون أو يزكون، إنما همة أحدهم ما يأكل أو يلبس، وكان الأولون نفوسهم ميتة، وقلوبهم حية، لأنهم لا يهمهم ما يهم هؤلاء، إنما يهمهم الحياء والدين، ثم ذكر قصة اللصوص، الذين نهبوا قافلة فيها مال كثير، وتأولوا أنهم فقراء من أهل الزكاة، ولا حرفة لهم غير التعسكر، وإن المأخوذين تجار استغرقت أموالهم الزكاة، فحلت لنا لأنهم ما زكوها، وكان مقدمهم( ) عالماً فقيهاً، وسألهم عن مسائل في الزكاة فما عرفوها بَيَّنَ بها ما ادعوه( ) .
(2/250)

ثم قال سيدنا: فانظر كيف هؤلاء مع غفلتهم، تأولوا علم ما يُجَوِّزُ لهم، وفي هذا الزمان ترى أناساً أخيار أولاد أخيار، لا يتفرغون لقراءة المختصر( )، بل استغرقتهم أمور دنياهم، تَعْلَم فرق ما بين ذاك الزمان وهذا الزمان، وهذا هو الذي كان موعوداً به، إذ لولا ذلك لما خَلِقَ الدين( )، وظهرت علامات الساعة .
ثم إن سيدنا ذكر: إنه سيخرج لصلاة الجمعة يوم 26 ذي الحجة المذكور، فطلب منه ابن أخيه السيد عمر بن علي الحداد قبل الجمعة بيومين أن يعبر عليه يومها، واستأذنه أن يفعل عزيمة للغدا بحضرته، فأذن له جبراً لخاطره، ففعل وأخذ عنده مجلساً طويلاً، فمما تكلم به في ذلك المجلس أن قال: اليوم حُسْن السفر من الشحر إلى اليمن، وذلك لعشر في البطين، ثم قال: لو إن أحداً فيه طاقة لسافر إلى الحرمين في هذه الأيام، مادام وقت الحج متراخياً، ومكث في الشحر إلى أن تتفق ساعية مناسبة يطمئن بها الخاطر، ونلقيها( ) إلى المدينة ونحضر زيارة الرجبية، وإن اتفق موت فلا فرق أن يكون بتريم أو بمكة، أو في غير ذلك . وقد سافر جماعة من أهل التصوف في آخر أعمارهم كالشيخ عبدالقادر الجيلاني( ) رضي الله عنه حج وهو ابن نيف وتسعين سنة حتى إن ابنه كان يقود به الناقة، وذلك تواضعاً منه، وإن كان يقدر على إمساكها، وحج السهروردي( )، وكان قريب المائة فحمل على أعناق الرجال من بغداد إلى مكة، فهذه أسفارهم بأبدانهم، والأمور السماويات على حالها كما هى لا تعلق لها بذلك .
(2/251)

وقد قيل لواحد من آل باسهل، كان من أهل الخطوة: يقال إنك تحج متى أردت، فكيف ذلك؟، فقال: يخطر ببالي الحج، فما أحس إلا وأنا بمكة، وهذه الأمور ما هي إلا هكذا. ومولى الشبيكة( ) قال لعياله وأصحابه: إذا أردتم تطوى لكم الأرض، أو أردتم شيئاً فاذكروا اسمي، وكذلك البقال وهو إلا عامي يبيع البقل، لما رأى ابنَ الفارض، قال له: ما يفتح عليك إلا في مكة، قال: وأين أنا من مكة، فقال له: هذه مكة فالتفت فرآها، ولكن تقدمت هذه رياضات ومجاهدات، ثم قال: والعجب من أناس يذكرون في التواريخ، إن الواحد منهم عُمِّرَ مائة سنة ومائة وعشر ومائة وعشرين وأكثر من ذلك من هذه الأمة، من بعد النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وجائي، كيف يستقل أحدهم بالحركة والتصرف في حوائجه، ثم قال لي: أنشد، فأنشدت بالقصيدتين الأخيرتين، الحائية والتي على اللام ألف( )، ثم مكث قليلاً، ثم بعد ذلك قال: أنشد (بسوح المقام) وأت من أثنائها، فأتيت من قوله نفع الله به :
ودع العجز والتعلل واسلل ... صارم العزم يا له من حسام
(2/252)

إلى آخرها. وخصها لما فيها من ذكر الحج والزيارة والحرمين، وترحيل منازل السفر إلى ذلك، وكيفية فعله لذلك لما سافر له، وكل ذلك بل كل كلامه من أول مجلسه ذلك تشوفاً وتشوقاً إلى تلك المناسك والأماكن المعظمة، ثم قرأ الفاتحة ودعا فخرجنا وبقي هو قليلاً يسلم عليه النساء والأطفال من أهل بيته، ثم جاء إلى داره التي في البلد وجلس في الدرع( ) المغلول، وذكر أيام كان يجلس فيه لمقابلة "الإحياء" في الليل، قال: لا بد ما مر علينا جميعه (أي الإحياء) 15 مرة، إلا ما أحد يِتْقَن( )، وذكر أناساً كانوا يقرأون عليه، ومن قرأ هو عليهم . ثم قال: من العجائب أن الفقيه باجبير قبل يروح الهند كنا نقرأ عليه في الفقه، فلما جاء قرأ علينا "الإحياء"، ثم قرأ الفاتحة ودعا وطلع إلى الغيلة. وجلس فيها مجلسا آخر، وجرى بينه وبين السيد أحمد بن زين الحبشي كلام، وهو أن قال السيد أحمد له: الحمد لله أنتم بخير، أقوى مما كنت أظن، فقال: الحمد لله على نعمه وعافيته، وكنت أردت أن أطلع الجمعة التي قبلها، وبيني وبين عمر فيها وعد ولكن جربت نفسي بالحركة والقيام والقعود، أني ما أطيق لشاغل الناس ومناتفتهم( ) فقيل له: إنها شاغل كبير، فقال: شاغل من لا يدري، وبلونا بكثرة المصافحة، وقد هممت أن أقول لواحد يقول لهم: بالقلوب، لا أحد يصافح، أو إني أصلي العصر في الجامع، لكن قلت: لأي شيء لا أنا قاعد لهم، ولا هم قاعدين لي، وأهل البلد في طبعهم جفاوة وبداوة، ثم قرأ الفاتحة وتفرقوا.
(2/253)

وقد ذكر يوماً كثرة من يصافحه على الفرس، حتى أشغلوه، فقال: كنا حال القوة نمسك البغلة عن المسير رفقاً بهم، ونأمرهم في طريق هود إما يتقدمون أو يتأخرون، فلما رأينا من تقدم منهم يحتاج إلى الخبب، وكذا من تأخر تأنَّيْنا لهم في المسير، حتى إذا كان اليوم لو تحرك مسير الفرس قليلاً أشغلنا بسبب ضعف الأعضاء والقوى، وهم يصافحون وينترونا( ) ولا يبالون، وإذا صافحنا الشريف، إذا مددت له يدي بمجرد المد لا بد ما يقع في خاطره، فالحاصل مع الناس لابد من المقاساة لمن عرفهم أو لم يعرفهم، لكن مقاساة من لم يعرفهم أسهل وأقرب إلى التقوى .
وقد كان رضي الله عنه ذات يوم خارجاً من البلاد إلى الحاوي ماشياً فقال: ما أشغلنا إلا الناس بمصافحتهم ومناترتهم وبغوا منا مراعاة، وبغوا منا كلام، وما عاد إلا كما في قصة أبي الأسود الدؤلي، وكُلُّ من يطالب بحظه لا ترج فيه إلا خيراً، أي لا ترج فيه خيراً فإنه نفع الله به قال مرة: لا تقل: ما في الناس خير، فإذا أردت أن تقول ذلك فقل: ما في الناس إلا خير، فإن ذلك يُفهِم المعنى .
(2/254)

وطلب منه السيد أحمد المذكور الدخول عليه بعد العصر، أي من يوم تلك الجمعة، فدخل ومعه ابنه جعفر، وأذن بحضوره لمن حضر بالحضور عنده، فلما استقر المجلس سأل السيد أحمد عن سن ابنه جعفر، فقال: أظنه 12 سنة، فقال: أنتم ما تعتادون تؤرخون المولود، قال: بلى، قال: لا تُخَلُّوا ذلك إلى آخر ما تقدم ذكره عند ذكر تاريخ ولادته نفع الله به، ثم أمر السيد أحمد أن يقرأ على قراءته في "الموطأ" فقرأ من أثناء كتاب الصيام وبقي كل عشية يدعوه بعد العصر إلى عنده في الغيلة، فيأمره بالقراءة فيه، ويدعو معه من حضر للقراءة في وقتها هذا، فيجتمعوا عنده، ودعاه مرة فدخل ودخلوا، فلما اطمأنوا جالسين جاء عبود بن إسحاق فصافحه فقال له: أنت من؟، قال: ابن اسحاق، فالتفت إلى السيد أحمد وقال يخاطبه: لله حكمة في ذكر إسحاق، وهو إن الله تعالى إذا ذكره وذكر إسماعيل، قدم إسماعيل ثم ذكر إسحاق بعده، لأن إسماعيل هو الأكبر وإن ذكر إسحاق أولاً أفرده، (ولم يذكر معه إسماعيل)، هل على بالكم هذا؟، قال: لا، ثم قال: وقد استبعد أهل العلم كون الذبيح إسحاق، لأنه منقول عن أهل الكتاب أرادوا ذلك لكون إسحاق جدهم، ومآثر الذبح إنما هي في الحرمين، والحاضر هناك إذ ذاك إسماعيل، وإسحاق كان في الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يجيئهم زائراً في خفية عن سارة، فإن لم يتفق بإسماعيل أوصى زوجته له بالسلام، ويوصيها بكلام تبلغه إليه، ثم أمر السيد أحمد بالقراءة، وبعد ما تم أمرني بالنشيد، فأنشدت بقصيدة البرعي: (أتأمرني بالصبر والطبع أغلب)( )، وهي نحو 90 بيتأ وكان نفع الله به يستحسنها وتعجبه، وبعد تمام الإنشاد بها، قال: هذه قصيدة غريبة، وهي لعبدالرحيم، هل سمعتموها، قال: نعم، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا.
(2/255)

وقال رضي الله عنه يوماً: من جاء من القراء خلوه يدخل، فجاءوا ودخلوا عليه، وأمرهم بالقراءة فقرأوا، وهي أول قراءة وقعت بعد انقطاعها، وهي قراءة الإثنين والخميس، وبعد تمامها قال للسيد أحمد: قد تفعلون الذكر في خلع راشد، قال: نعم، قال عندكم من يشل مليح، فذكر ناساً يلحنون، فقال: إنَّ شل الذي يلحن يفرق الباطن ويشوشه، ولا يقيم الباطن إلا المستقيم، والأمور في هذا الزمان يحتاج فيها إلى المجاوزة، لكن لا في كل الأمور، بل في الأمور التي يقع فيها الخلل( )، كالذين يقرأون القرآن ويلحنون فيه، فتركُهم للقراءة أولى منها، ثم سكت قليلاً ثم قال: الفاتحة، ودعا وخرجوا.
وبعد الظهر من هذا اليوم وهو يوم الاثنين 29 ذي الحجة من السنة المذكورة أعني سنة 1130 بين الوقتين، أشرف عليَّ ابنه سيدي الحبيب الحسن، بأمر سيدنا والده، وقال لي: طالع لوحك، باتقع قراءة وقل لفلان وفلان: يطالعون ألواحهم، فدخلنا عليه نفع الله به في الغيلة بعد صلاة العصر وقرأنا قراءتنا المعتادة بعد انقطاعها تلك المدة فاتفق القراءتان، قراءة ضحوة يوم الإثنين والخميس، وقراءة عشية كل يوم، في يوم واحد.
ومما تكلم به في هذا المجلس أن قال: قال أهل التجربة من أهل الحكمة: ستة أو قال سبعة لا ينبغي أن يُسكن إليها، من جملتها الطبيب والنهر، وما رأيت باقيها مكتوباً إما إنه لم يذكرها، أو إني نسيتها، ثم انجر به الكلام حتى قال: حكمة المرتبة( ) للأمور بعضها على بعض، حتى إن الإنسان إذا تفكر في توارد الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة في هذا الباب يظنها متضادة ومتناقضة، حيث لم يعلم وجهها، فإذا تأمل في معاني مجاريها واطلع عليها، عرف أنه لا تناقض هناك، أو كما قال بمعناه على مقتضى فهمي .
(2/256)

وطلبهم رضي الله عنه للدخول عليه عشية الثلاثاء سلخ ذي الحجة، فاجتمعوا عنده في الغيلة، فأمر بالقراءة في الكتب( ) المعتاد قراءتها يوم الثلاثاء وهو أول ثلاثاء اتفق فيه ذلك بعد ما ذكر، ودعاهم للدخول بعد عصر يوم الأربعاء غرة المحرم فاتحة سنة 1131 للقراءة، فدخلوا وحشدوا وقرأوا، والقراءة لأهل البلاد، فما انقضى المجلس إلا مع غروب الشمس .
ومما تكلم به في هذا المجلس أن قال: إذا نقل أحد كلام أحد فليذكر الكلام كله من أوله إلى آخره، فإن الكلام يُذكر بالكلام، ويُعرف معنى بعضه من بعض، إلى آخر ما تقدم ذكره في المقدمة، توطئة للكلام الذي نقصد نقله، قدمناه هناك لذلك، وإلا فهذا موضعه .
ما قال في ذم محبة الجاه والترفع
(2/257)

وذكر رضي الله عنه في هذا المجلس قبل هذا أن رَغَّب في ترك محبة الجاه والترفع في الدنيا، وذم ذلك، فقال: ما مقصود أهل المعرفة إلا فراغ القلب لذكر الله، ولا يحبون من يشغله( ) بأي شيء كان، أو بمدح أو ذم، ومن طبعي أنه يشغلني المدح مثل ما يشغلني الذم، لا إني ما أفرق بينهما، ولو جلس عندي أحد وقال: ما أقوم إلا إن قمتَ، ولا أنام إلا إن نمتَ، ولا أفعل شيئاً إلا إن فعلتَ، شغلني كثيراً، ونحن إذا جلسنا بين الأولاد والبنات والأهل، وبقوا منتظرين لنا وساكتين بين أيدينا فرحنا بأن رَفَعنا الله عندهم، وسَلَّمَنا من شرهم، وما ينفع الإنسان إذا ارتفع في الدنيا وهو عند الله بخلاف ذلك، ولا يميل إلى هذا إلا من ضعف عقله، ويعدونه شيئاً، وإذا كان الإنسان عند الله رفيعاً لا يضره أن يكون وضيعاً عند الناس، وإذا ارتفع عندهم ولا هو عند الله كذلك كان أشرَّ له، ولو سجد له جميع أهل الدنيا إلى شرق ما هو إلى قِبْلة، ما نفعه ذلك، فلو كان هذا ينفع لنفع النمروذ وفرعون، لعنهما الله، فإن الله أهلكهما، هذا( ) في أربعة أبواع( ) من ماء والآخر ببعوضة دخلت دماغه، أحب الناس إليه( ) من يضربه في رأسه .
وقد كان يوم كنا في الهجيرة يجلس عندنا وقت القراءة جملة ناس، وفيهم أهل رياسة، فاستأذننا رجل أن يقرأ بعد( ) ما ينصرفون( ) هذه الآية: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَة}( ) إلخ، فأذنَّا له، وقلنا: القرآن بركة، ولا بأس بها، فبقي مدة يقرؤها كذلك ثم بعدُ نهاه رجل منهم عن قراءتها لئلا يُتوهم أنه يقصدهم بها.
(2/258)

ودخلوا عليه نفع الله به بكرة الخميس ثاني المحرم المذكور للقراءة، فصافحه بعض الأشراف، فقال: فلان صار إماماً في السقاف ولا هناك كبير مؤنة، والمعونة تحصل من الله، ولكن يجتهد الإنسان في التقوى والورع، ومرة قال: ما يعين الله العبد على الشيء حتى يشرع فيه، وقال حينئذ: المِنْسَاة المراد بها العصى، ولا ذلك على بال أكثر الناس وربما ظنوها غير ذلك، يوم ما يطلبون العلم، ولو أنهم طلبوه لحصلوا منه ما تيسر أو المهم، وأشياء بعض الناس قائم فيها على الترك بالكلية، وأحد منهم على التوسط، وآخرون على المُهِمّ، وأحد يمعن فيها جداً حتى يشتغل فيها بما لا يُشتغل به، أو كما قال.
وقد طال عليه رضي الله عنه هذا المجلس جداً واشتغل من طول الجلوس، ثم ردفه مجلس القراءة عشية هذا اليوم، فكانا مجلسين طويلين في يوم واحد، مع ما انضم إلى ذلك من تعب مجلس عشية الأربعاء قبله إلى الغروب، فعوّدت الحمى وهي خفيفة فلم تمنعه من الخروج لصلاة عشاء ليلة الجمعة، ولم يطلع لصلاة الجمعة، ثم دعاهم نفع الله به بعد صلاة عصر يوم الجمعة للدخول عليه في الحاوي، فدخلوا عليه وفيهم كثرة، فأمر السيد أحمد أن يقرأ على قراءته، وأن تُقرأ الكتب المعتاد قراءتها في البلاد بعد عصر كل جمعة، واستخلف منه حينئذ السيد عقيل باعقيل، مسافر إلى دوعن وطلب منه الفاتحة، فقرأها ودعا، فلما صافحه قال له يوصيه: الله الله في الدعاء إلى الخير، والوصية بما يحسن منك أن توصي فيه لمن يليق به ذلك، كُلٌّ على قَدْر حاله، ثم انفضوا قبيل الغروب .
وقال رضي الله عنه لرجل جاء من الحج: كم حججت؟، قال كذا وكذا، فقال: المترددون إلى البيت كالمتردد على الباب، يطلب، إذا لم يعط في المرة الأولى أعطي في المرة الثانية، وإنما العَسِر الإنقطاع، أو قال الإدبار .
قف على هذه الفائدة الجليلة
(2/259)

واستأذنه رضي الله عنه رجل في الحج، فقال: مليح حِجوا هذا العام ففي الخبر: من حج حجةً أدى فرضه، ومن حج الثانية دايَنَ ربه، ومن حج الثالثة حرمه الله على النار، حتى ذُكر إن رجلاً حج ثلاثاً ثم أسر، فأرادوا إحراقه، فلم يحترق ولم تضره النار فتعجبوا من ذلك، فسألوا عن ذلك بعض العلماء، فقال: اسألوه كم حج من حجة، فسألوه، فقال: ثلاثاً، فقال لهذا، لأن الله حرم من حج ثلاثاً على النار .
وسأل سيدُنا عن مريض، فقيل: به ضعف، فقال هذا أثر المرض، فإن الأثر يتأخر عن المرض، ونحن الآن ما عاد ننكر شيئاً من بعد ذلك العارض، يعني الذي حصل عليه سنة 1130، وإنما الباقي الآن ضعف الكِبَر،وهو المرض الذي لا يزول، وهو لا يزول عن الكبير،وإن زال مرضه .
وسأل أيضاً رضي الله عنه عن رجل مُسِنٍّ، فقيل: إن أكثر ما يعوِّقه رُكَبُه، فقال نفع الله به: هذا من الكِبَر، ونحن كذلك من حيث ضعف الرُّكَب، فإن سببه الكِبَر وقد قيل :
لو خلانيَ الموتُ ... ما خلاني الكِبَر
ويصلح هذا أن يكون بيتاً، وقد كتبناه إلى السيد علي بن عبدالله يعني العيدروس.
وما طلع سيدنا رضي الله عنه البلاد، يوم جمعة ثامن يوم من صفر سنة 1131. فقال عشية هذا اليوم، طاقني( ) البرد والماء، حيث اجتمع مع ضعف الكبر ضعفُ المرض، فخطر لي أنه ربما يتكلف الإنسان الطلوع، فيحصل ضعف عن صلاة الجمعة، ومع الغسل قد يحصل نافض( ) فيبقى ولا ينقطع فلا يمكن حضور الجمعة، فمع الضعف والكبر قد تحصل مثل هذه الخواطر، ويتوقع مثل هذه العوارض، ولكن الله لطيف، والعبد ضعيف .
(2/260)

ويوم الأحد سلخ ربيع الأول من هذه السنة، كسفت الشمس، وأمَرَنا بصلاة الكسوف في المصلى، فصليناها، وطلبه رضي الله عنه السيد علي عيديد أن يمر على مسجد بناه عند غرفته بوادي ثبي، ويركع فيه ما تيسر ليتبرك به، فمر عليه راجعاً من عند آل عمر حداد حين وصلهم لما حلوا، وصلى في المسجد ركعتين قرأ فيهما بعد الفاتحة :{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}( ) الآية، وبعد السلام دعا، ثم قال: آمال الخير هي النية الحسنة، وقد وُعِد: إن آخر الزمان تكثر المساجد ويقل الساجدون ولكن الله يصلح النيات . وذكر قلة الخريف تلك السنة أي المذكورة آنفاً، فقال: في الحديث: إن العبد ليُحْرَم الرزقَ بالذنب يصيبه . وما بهم إلا ذنوبهم، ذنوب بلا توبة ولا ندم ولا استغفار، ثم مكث قليلاً ثم قرأ الفاتحة وقوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ }( ) إلى { العَظِيم }، ولإيلاف قريش ثم دعا وقام وسار إلى الحاوي وله الآن رضي الله عنه جمعتان يسير من الدار إلى الجمعة ماشياً بعد ذلك المرض، وهو 23 رجب من السنة المذكورة، وليلة الخميس 17 رمضان منها بعد ما تقبَّض الناس، أمر بشد الفرس، ولم يعلم أحد أين يريد، فركب وناداني وسرت معه ثالث ثلاثة، فقال لقائد الفرس عكيمان: خذ طريق الساقية ثم قال له: أتظن أين نريد، قال: المسجد، يعني مسجده المسمى (الأوابين) وقال لي: وأنت ما تظن، قلت: كنت أظن التربة، فلما كان طريقكم هذا يكون المسجد، قال: نعم، والتربة ما هذا وقتها، فقصد مسجده المذكور، وصلى فيه في الحمَّام، ثم في المحاريب وسمعته يقرأ في أحد الركعات، { لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّة}( ) إلى آخر سورة الحشر، وحَضَر الوترية، وأديرت قهوة، وأمر بدخون يدار، ثم قام وخرج إلى الحاوي وقال في الطريق: قد أوقفنا نخلاً على المسجد قبل نبنيه، وكنا أردناه إلا عند سدة باشريف، ولكن أشار
(2/261)

علينا الصنو علي أن يكون في ناحية النويدرة، وأن يكون في ذبر له اشتراه، فاشتريناه منه، وفعلنا فيه المسجد، وفي مثل هذا الوقت من ليلة الثلاثاء 22 رمضان المذكور خرج رضي الله عنه إلى السبير، وقال: مرادنا المسجد نركع فيه( ) وأصابنا في الطريق مطر، فدخلنا غرفته بالسبير، الذي( ) ذكرنا إنه ولد فيها، وكان ابنه السيد علوى حالاًّ فيها إذ ذاك، وأقمنا فيها ساعة طويلة، حتى جاء ابنه السيد علوي من المسجد، بعد ما تفرقوا من الوترية، وقدَّم سحوراً ثم خرج سيدنا إلى المسجد وتوضأ في الجابية وصلى في المسجد ما بدا له، ثم جلس وجلسنا ننتظر طلوع الفجر ساعة، ثم سأل عن الوقت فما منا من جزم فيه بشيء من قوة السحاب والقمر. فلما رأى تحيرنا قال لنا: اركعوا فإنه فجر، أمرنا أن نصلي السنة، وكان رضي الله عنه أعرف بالأوقات من البُصَراء الناظرين بعيونهم، فإنه نفع الله به مدة ما أنا عنده، وقبل ذلك إلى أن توفي، ما يخرج لصلاة الفجر إلا بعد أن يركع السنة داخل الدار عندما يدخل الوقت، من غير أن يعلمه أحد قط، فإذا ركع السنة خرج إلى الضيقة وجلس فيها، ولا يخرج إلى الصلاة حتى يبعث له الجماعة أنهم فرغوا من السنة وما معها من الأذكار، كل هذا من شدة اتباعه لجده المصطفى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كما كان عليه الصلاة والسلام يصليها في البيت، ولا يخرج حتى يأتيه بلال يؤذنه للصلاة، وبعد ما فرغ نفع الله به من الأذكار التي بعد الصلاة، وفرغ القاري يس من قراءتها، أمر بشد الفرس، ثم طلع إلى الحاوي وسمعته رضي الله عنه غير مرة يقول: إنما بنينا هذا المسجد في هذا الموضع، لأنا سمعنا الوالد يقول: رأيت كأن في هذا الموضع عند بير العسلة مسجداً، فلما توفي الوالد تممنا نيته، وصَدَقْنا رؤياه .
قف على تسمية مساجده الشريفة
(2/262)

ومسجده هذا رضي الله عنه سماه مسجد الأبرار ومسجد العابدين، ومسجدُ الحاوي مسجدَ الفتح ومسجدَ التوابين، ومسجدُ النويدرة مسجدَ الأوابين، ومسجدُه الذي في بلد سيؤن مسجدَ باعلوي، والذي في نقر شبام مسجدَ الأبدال، والذي في مدوده مسجدَ الأسرار، وله نفع الله به في سيحوت مسجد بُني باسمه، وكذلك في أرض ابن عبدالواحد، وفي بلاد العوالق وفي أماكن أخر، انتهى .
أنظر بركة آبار مساجده وجوابيها
قال عبدالله باشراحيل: وبئر مسجده والجابية يعني الذي في الحاوي، من أخذ منها جرعة على نية صالحة، حصل له المطلوب، وقد جربت ذلك وجربه الغير، وكذلك جميع آبار مساجده وجوابيها نافعة شافية، شرباً وغسلاً مجربة، واكتحالاً أيضاً للعين .
وقال رضي الله عنه: إنا نحب من يجيء مسجد النقر( ) لأن الحق يتجلى عليه، وهو مسجد الأبدال، المؤسس على التقوى، لن يبيد حتى يبيد الله الأرض ومن عليها، قال ذلك لما بلغه أن بعض الناس قال: هذا مسجد بني في خلاء ما يدوم، انتهى ما ذكر باشراحيل . والذي سمعت أنا من سيدنا يقول: قد قلنا: إن من بدت له حاجة فنزح من بئر الحاوي إلى الجابية سبعة أَدْلاَء بنية قضاء حاجته، قضيت بفضل الله، إن شاء الله، وذكر في محل آخر، أنه قال أحد عشر دلواً، أو إثنا عشر دلواً.
وقيل له نفع الله به: فلان من آل بافضل يسلم عليكم وهو نعم الرجل، فقال: من طاب أو قال صلح من آل بافضل فهو فضة خالصة، ومن طاب من السادة فهو ذهب خالص.
(2/263)

واستأذنه رضي الله عنه بعض الجماعة في السفر، وسأله الدعاء بالتيسير، فقال له: إن شاء الله أمورك ميسرة، والله الله في السيرة المحمودة، فإن لم تقدر عليها كما ينبغي فكن مقارباً لها، وللسيرة علامات وأمارات، فلتكن منك السيرة باطناً، وعلاماتها ظاهراً، وخذ في أمورك بما تعرف أنا لا نكرهه منك، لأن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب، إحذر أن يُؤثِرَ عنك أحدٌ شيئاً من العلامات المذكورة، ثم يَنقل عنك آخر خلاف ذلك فلا يُعرف منك استقامة على حال، مثل من ذُكِرَ أنه مُغَرِّبٌ فرؤي مشرِّقاً، بل ليتواتر عنك ذلك على هيئة واحدة، أو كما قال بمعناه .
ما قال في الخروج للمحلة في الخلاء أيام الخريف
وقال رضي الله عنه لرجل: حِلُّوا، أدخلوا على أروحكم الرَّوح لئلا تضيق النفس، والذي يروِّح الروح كالنسيم والخروج إلى الأماكن المتسعة والأشجار، وتتقوى النفس والجسم بالأكل والنوم والأشياء الكثيفة، وليست هذه أغذية للروح .
وقال له رضي الله عنه بعض السادة: ما حَلِّيتوا هذا العام، فقال: إنهم [أي الأهل] ما نشطوا للحلول، وقالوا: إن الخريف قليل، ثم قال: إن المؤمن يأكل بشهوة أهله، والمنافق يأكل أهلُه بشهوته .
(2/264)

وقال أيضاً نفع الله به لرجل آخر: لأي شيء ما حليتوا؟ والمحلة عادتكم، فقال: نحن في الهمة، والمشيئة بيد الله، فقال: ما عليك، مشيئة الله شيء، ومشيئتك شيء آخر، مشيئة الله قوية قاهرة، وإذا لم يرد شيئاً لم يقع، وإنما هي همتك وعزمك، ثم إن الرجل شكا إليه من الظلم، وما هو وغيره عليه من الأحوال، فقال له: إذا اشتد الأمر فالفرج قريب، وإذا قد حَمَلَتْ بالرأس وَلَدَتْ، وشكا إليه أيضا من ولد له غير بار، وليس هو في رأيه، فقال له: ما عاد معك إلا الصبر والمسامحة، والصبوة في الصغر لا تستنكر، وفي الحديث( ): (( عَجِب ربك من شاب لا صبوة له)) . والصبا شعبة من الجنون، وإذا غلبتك الأمور فاغلبها بالصبر، ولا تَدَعْها تغلبك .
ما قال في خمول السادة
وقال رضي الله عنه: السادة من أهل حضرموت، مناقبهم شائعة وفيها خمول، لأنهم لا يتكلفون ظهورها، وفي الجهة ناس يحسدونهم، وهم مع ذلك يحبون الخمول والستر، حتى إن الشيخ عبدالله باعلوي، إذا قيل له: يا شيخ، قال: الشيخ أبوك، ألا ترى إلى كتب تَرجمت لآل باعباد وغيرهم، ولم يذكروا فيها.
وقال رضي الله عنه: الصالحون خاملون في حياتهم وموتهم، وإنما أشهَرَهم ملوكُ الناس، إذا أشهروا أحداً اشتهر عند الناس، مثل ابن عربي، فما شهره إلا آل عثمان، لأنهم بلغهم عنه الإخبار: بأن بعض أجدادهم سيملك فبنوا عليه قبة، وأشهروه . وكانوا( ) إذا ظهرت منهم الكرامات يوصون مَنْ عَلِم بها أن يكتمها، ولكن عدمت في هذا الزمان الكرامات، وإنما منعوا الأسرار لعدم كَتْمهم الأسرار، لو رأى أحدهم رؤيا راح يُحَوِّل( ) بها، فلما لم تكن لهم أسرار كذبوا بادعاء الأسرار، أو كما قال .
ما قال في إخبار الولي بالمغيَّبات
(2/265)

وقال رضي الله عنه: الأمور الغيبية ما هي إلا إلهام أو أوهام، ولا يكون فيها قطع، ولا يمكن أحد أن يقطع بها، حتى إن الأولياء إنما يخبرون عنها بالوهم، حتى ربما يخطيء في ذلك، ولا يمكن القطع المتيقَن إلا في اللوح المحفوظ .
وقال رضي الله عنه: أهل الباطن لا يبالون بالظواهر ولا بأهل الظاهر، والصادق لا يُمَكِّنُ أحداً أن يعترض عليه( ) .
وأمر رضي الله عنه في بعض الأيام منشداً ينشد، وكان ذلك في مسجده الأوابين، فأنشد بخمرية ابن الفارض، وكان السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي حاضراً، فقال له سيدنا: أثبِتْ لنا ما فهمت من معنى هذه القصيدة وما في معناها لنرى كنه فهمك، فتناول الورقة من يدي والقلم وكتب هذا . وهذا المنقول هنا من خطه: الحمد لله، مما فهمناه من كلام سيدنا مدار المعنى المقصود في كلام أمثال ابن الفارض لأهل المعنى على سر قوله تعالى: { رَبِّ أِرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ }( ) إلخ الآية، وفي نحو قوله في الخمرية: شربنا على ذكر الحبيب مدامة يرجع إلى ظاهر التوحيد وباطنِه وذوقِهم فيه واتصافِهم به، فإذا أُخِذَ ذلك دستوراً ظهرت، وظهر غالب المعاني انتهى.قال سيدنا نفع الله به: كلام الشاذلية متداخل يختلف فيه اللفظ ويتفق فيه المعنى، وينقل بعضهم عن بعض .
وقال رضي الله عنه: لا ينبغي للإنسان أن يجلس في مجالس الخير، مجالسِ الصالحين إلا وقلبه مطمئن وسليم القلب، وإلا عاد إذا سمع من كلامهم شيئاً أدخل فيه الشيطان كلاماً مناسباً لما هو حاضر في قلبه، فيسيء الظن بهم فيخسر، أو يسمعها مَن في قلبه ضغائن، أو محسن الظن لكنه جاهل، فينكر، وقد قرأ النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في حضرة قريش سورة النجم، وفي خاطره حالتَهم، فأدخل الشيطان في قراءته الكلمات: (تلك الغرانيق العلى، إنَّ شفاعتها لترتجى) حتى سجد معه كل الفريقين، أو كما قال .
ما قال في معاملة النفس
(2/266)

وقال رضي الله عنه: إن النفس كسلانة عن الخير، فليقهرها الإنسان على فعل الخير وما ينفعها، وإلا جرته إلى الشر لأنها مجبولة عليه، وفعل الخير يعسر عليها لأنه خلاف طبعها، فليُكْرِهْها عليه ولا يَدَعْها.
وجاء بعض السادة إلى تريم للزيارة في مدة قريبة مرتين خلاف عادته، فقال سيدنا له: ما كنت تعتاد المجيء على القرب، هل أحسست في نفسك رغبة في الخير، فإذا رأيت من نفسك أو من غيرك زيادة خير في الظاهر كسعي في فعل خير لم تكن تفعله فهو علامة زيادة خير في الباطن، وفي الشر كذلك إذا رأيت له أثراً على الظاهر فهو علامة على وجوده في الباطن، وهكذا زن نفسَك وغيرَك، وإلا فما علامة الزيادة والنقصان، والأصل في الشيء الهمة، وقد قال رجل للحسن البصري عظني، قال: مات أبوك؟، قال: نعم، قال: ماتت أمك؟، قال: نعم، قال: رح فما تنفعك الموعظة، أي لأنه لم يعتبر بموت أبويه، وهما أحب الناس إليه، فالله الله في الهمة في طلب الخير، فالسادة أصل تحصل لهم همة الخير، وحصل لهم المطلوب، كما قال الشيخ عبدالرحمن السقاف: إن أولادنا كالذي يحفر في أرض طيبة قريبة الماء، يخرج لهم الماء عن قرب، وغيرُهم كالذي يحفر في جبل أو أرض صلبة لا يكاد يخرج، وإن خرج ماء فعلى بُعْدٍ ومشقة، ولا يدري يكون طيباً أو مالحاً.
ما قال في جُرْأَة أهل الزمان على المعاصي
(2/267)

وقال رضي الله عنه: ليس مع الإنسان في هذا الزمان عن المعاصي مانع من الحق من نحو خوف، ولا من الخلق من سلطان عادل آمر بالمعروف ناه عن المنكر، وإلا لملئت منهم المساجد( ) أو السجون( )، لكن عُدِم ذلك، فاجترأوا على تضييع حقوق الله، لما اجترأوا الأكابر ووجوه الناس اجترأ بسببهم أداني الناس، لما رأوا الأمور مفلتة، ولا زاجر يزجرهم، فأكب كلٌّ على ما يدعوه إليه هواه، طالب الدنيا في دنياه، والظالم في ظلمه، ثم هم في تفريطهم يحتجون لأنفسهم على ربهم، ويقولون مع ذلك: مقدَّر علينا، فَهَمُّ واحدهم في أمر الدنيا يكدح( ) بغاية ما يمكنه خوفاً من جوعة، أو فوت عشاء، وإذا جئنا عند حقوق الله قال: مقدر علي، أفلا ترك أحدهم حرفته أو صنعته ويقول: الرزق مقدر، مع إنه كذلك، أو فَخُذْ ثوبه وقل له: مقدر عليك، وانظر كيف يطالبك إلى القاضي .
وقال رضي الله عنه: إنما وصف الله الجنة وذكر حورها وقصورها وغيرَ ذلك، ليُرَغِّب الناس فيها فيطلبوها ويزهدوا في الدنيا، لأنهم إذا كان مرادهم مثل هذه الأشياء فهي لهم في الجنة، وإلا فإن الحق تعالى يتعالى عن ذكر الحور والقصور وسائر الأشياء.
وقال رضي الله عنه هذان البيتان لأبي الأسود الدؤلي :
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن إلق دلوك في الدلاء
تجيك بملئها طَوراً وطوراً ... تجيك بحمأة وقليل ماء
انظر ولايته في الأيتام والمساجد
(2/268)

وكان سيدنا نفع الله به ذات يوم خارجاً من البلاد إلى الحاوي فالتقاه في الطريق بعض السادة فصافحه وحياه، فحياه وبَشَّ له وألان له الكلام، ثم قال له: إن جدك تزوج عندنا، وجاءه من العيال كذا وكذا، وبقي يكلمه حتى فارقه الشريف، وما بقي معه إلا الفقير وقائد الفرس جعل يحدثني ويقول: ولما مات جده بقي عياله عندنا نربيهم ونكفلهم، لأنهم عيال كريمتنا، وقَلَّ ما تخلو كفالتنا بحمد الله من يتيم أو أرملة، لأن من عادتنا من كان من هذا القبيل مَحْرَماً لنا، ولا له من هو ألزم به منا في الشرع، جعلناه عندنا، معيشته وما يحتاج إليه، فيحصل لنا الثواب الموعود به كافل اليتيم والأرملة بالفعل فيما يمكننا، وبالنية فيما لم نقدر عليه من كفالة الأرملة واليتيم من جميع آل باعلوي بالخصوص، ومن غيرهم بالعموم، المطلوب ذلك من ذوي الثروات، فلما رأيته رضي الله عنه تكلم بهذا، وما هناك من يعي كلامه ويفهمه غيري، سألته: كيف تفعلون باليتيم الذي يكون عندكم، وفي المساجد الذي( ) بنظركم وكذلك كلما لكم فيه نظر، فقال نفع الله به: أما اليتيم فإن كان ما معه ما يكفيه، فجميع مؤنه من عندنا، وإن كان معه بعض كفاية، بحيث يحتاج إلى أكثر من ذلك كَغَلة لا تكفيه سنتَه جعلناه في مصروف الدار، ولا عليه حساب فيما زاد عليه، وإن كان له زائد على كفايته جعلنا كفايته من ماله، لأنه ورد نهي عن اليتامى، يتكففون الناس، كمن جعل فطرة على مسجد، فأردت أن تجعل عليه فطرة، فلا حاجة بجعلها وهو مكفي، فاجعل ذلك في غيرها، وربما راح مالُهم لوارث، فنجعل من مالهم إن كفى مؤنتهم كلها أو بعضها، وما زاد فمن عندنا كما فعلنا في مال فلان (زوج إحدى بناته) وقد أوصى لنا بجميع أمتعته، من أمتعته من تمر ونحوه فأعطيناها( ) منه مهرها وثمينها والباقي للولد وبقي ثمينها معه( )، وما حصل من غلة وهي لا تكفي مؤنة الولد سنة، طرحناه في الدار في جملة المصروف، ونحن
(2/269)

بحمد الله ما أخذنا قط شيئاً من مال يتيم، ولا من مال سدس مسجد، إلا ما كفى المسجد من وقفه، فذاك، وإلا جعلنا له من عندنا، وإذا كان معه( ) من هو أقرب إليه منا، خليناه إليه، ونظرنا من وراه كأولاد فلان (هو ابن أخيه)، وقد أوصى بهم إلينا لكن إلى أبيه، ونظرنا من وراه . قلت: فلو لم يكن، كانوا إليكم، قال: لا، إما إلى أمهم، أو إلى وصي ونَظَرُنا عليهم، ثم قال: الآن نحن غرباء في وقتنا، وأمورنا قد ماتت قبلنا، وتموت بعدنا، فقلت: أنا عارف بذلك، ولهذا أتبحث في هذه الأمور عنكم.
وأراد رضي الله عنه عشية جمعة وهو في البلاد أن يصلي المغرب في البلاد، وأراد أولاده الخروج إلى الحاوي، فقال: من يبقى يصلي معي المغرب؟ قالوا فلان لبعض الأخدام، فلما سمعت منه ذلك، استأذنته في الجلوس للصلاة معه، فأبى عليَّ ذلك وقال: عليك هناك درك، يعني في الحاوي، ودركي فيه الأذان، فقلت: إن كل صلاة تفوتني معكم يبقى علي منها حسرة، فقال: وهذا أحسن، لأن أمور الخير إذا فاتت على إنسان وتحسر عليها، فتحسره ذلك خير من فعله لذلك لو فعله، أما سمعت بقصة ذاك الذي رأى إنساناً تحسر على أن فاته الحج، فقال له: يا فلان إني قد حججت سبعين حجة، أتريد أن أهب جميعها منك، وتهب لي تحسرك هذا؟.
وقال رضي الله عنه: لا تنكر على الأكابر أموراً وليست محرمة شرعاً، فلعل لهم فيها نية صالحة، ولا تقتد بهم فيها حتى تقتدي بهم أيضاً في أمور أخرى، ولا تجعلهم لك عذراً، وقد لبس السواد الشيخ أحمد بن أبي بكر( ).
وقال رضي الله عنه: الرجل، من كان رحمة وسلامة لنفسه ولغيره فلا يكلمهم فيما لا يبلغه فَهْمُهُم من أمور التوحيد والدين سيما العامة ونحوهم.
وقال رضي الله عنه: البخيت( ) بغيره في الفضول لا في الخير، إلا في خير يتفرغ بسبب ذلك لخير خير منه .
(2/270)

وقال رضي الله عنه: الإنسان ضعيف، عينه قوية وقلبه ضعيف، وما نريد من الإنسان إلا الربط على الدين، وأما الدنيا فمن حصلها فهو لا شيء، ومن لم يحصلها( ) فهو لا شيء مرتين.
وقال رضي الله عنه: رأينا في النوم كأن في محل سقاية زنبر، سقاية، فحكينا له بالرؤيا فبادر وفعلها وقال: خشيت أن تسبقوني ببنائها ولكن من نوى عملاً صالحاً وسبقه إليه غيره، فهو نائب عنه .
قف على سرِّ ثِقَلِ الطاعات
وذكر رضي الله عنه أمور الخير وثِقَلَها على النفس وقال: ينبغي أن يستجلب إليها باللطف ولو إلى القليل منها. فإذا كانت الغايات لا تدرك، فالقليل منها لا يترك، وثِقَلُ الأمور الإلهية على الإنسان، فيه سر آخر، فلو كان يتلذذ بها كأمور النفس ما حصل عليها الثواب .
وذكر رضي الله عنه أقواماً يقاتل أحدُهم ابنه وأخاه وقريبه بسبب الملك، فقال: البغي ما له عاقبة، فإذا طلبت أمراً فاطلبه بالتقوى، فإذا ذهبت الدنيا بقيت الآخرة .
وقال رضي الله عنه: فعل الكافر إذا صدر من المؤمن فهو النفاق وفاعله منافق، لأن المؤمن بَيِّنٌ، والكافر بَيِّنٌ، كلٌّ مقر بما هو عليه ظاهراً وباطناً، وأما المنافق فمتلبس بالحالين، الإسلام على ظاهره، والكفر في باطنه .
وذكر رضي الله عنه الأولاد (ورأيت موضعه بياض لا خط فيه، ولعل معناه: ما يتعلق بك من مؤنتهم، والقيام عليهم في دينهم ودنياهم)، ثم قال: لأنهم أخرجهم الله إلى الوجود بواسطتك وجعلهم ضعفاء عاجزين وجعلك قائماً عليهم، ولكن هذا يحتاج إلى نية، والنية تفسرها الأغراض( ) فكم واحد عنده مثل هؤلاء ويقول: ما نحن إلا بُلينا بهم .
وذكر رضي الله عنه الخوف والتخويف، فقال: إن كنت تخاف فلا تفعل ما يكون منه الخوف، وهذا ميزان، والله لا يُضِيعُ أجر من أحسن عملاً، وقال لي حينئذ: أنت جئت عام جاء عمر بن جعفر فسبحان الله العظيم، استَعْمَلَ أقواماً في الرضا واستعمل آخرين في الغضب.
(2/271)

وقيل له رضي الله عنه: كم فرق بين الأولين وأهل الزمان في همة الطاعة، فقال: هؤلاء إلا غثاء مثل غثاء السيل، فقيل له فلو أراد الواحد منهم أن يحصل له ذوق في الطاعة لم يمكنه ذلك، فقال: عليهم حُجُب حائلة، إنما يحك أحدهم جبهته في الأرض حكاً، فسَلْهُم هل يجدون في الطاعة ما يجدون في الأكل والشرب عند الجوع والعطش، لا، ولكن يوم يُخَبِّر( ) أحدهم التمر أو يقطعه فانظر الحلاوة .
وذكر رضي الله عنه ذات يوم كتاب "نشر المحاسن" لليافعي، فقال: أصله جواب على أسئلة من كرامات الأولياء، وهذا أمر لا يحسن السؤال عنه ولا الجواب عليه، لأن أصل الولاية سر، فلا يجوز إفشاؤه وإذاعته . وماالغرض الداعي لذلك؟.
وقال رضي الله عنه: النفس مطية فيها الخير والشر، كالنخلة فيها الرطب والشوك، والشيطان غدار مخادع، ولهذا إذا جاءك من وجه فخالفتَه جاءك من وجه آخر، وعلى هذا حتى يُخرِج الإنسان من الباب الكبير، وهو التوحيد، ودسائس النفوس كثيرة، فإذا وَجَدْتَ واحدة فابحث تجد أختها كالحية، والشيطان قد يقبل منك ويروح لغيرك، وأما النفس فمكانها معك لا تفارقك قال الشاعر:
تَوَقَّ نفسك لا تأمن غوائلها ... ... فالنفس أخبث من سبعين شيطانا
والبكاء نور للقلب، قال عليه السلام: (( لو بكى باكٍ في أمة لرحمهم الله )) لكن من خوف الخالق، وأما البكاء للتصنع للخلق ولو لم يرد منهم شيئاً من جاه أو مال، لكن ليُرى أنه خاشع أو استحياء منهم، بأن يظنوه يبكي وقد رأوه بكى مرة فتباكى للحياء، والبكاء من الخشوع إنما هو قد يَعرُض، فإن كثر وتعدد صار عادة، وينبغي كتمان البكاء في القلب، ومنع الدموع أن تخرج فإن ذلك يزيد في تنوير القلب ويؤثر فيه أكثر مما لو ظَهَرَتْ لأن في ظهورها تنفيساً، ففي الخبر أو الأثر: إن لله عباداً يضحكون من سعة رحمة الله جهراً، ويبكون من خشية الله سراً.
(2/272)

وقال رضي الله عنه: الناس في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر، لأنهم ليسوا في بلاء، وإن كان بهم شيء من ذلك فما هم فيه من النعم يغلب عليه، لأنك إذا تفكرت فيما أنت فيه من نعمة الإسلام والتوحيد، رأيت أنك في أتم ما يكون، لأنه لا عيش مع كفر، إلا إن الإنسان خلق ضعيفاً، وقد رأى بعضهم في النوم قائلاً يقول له: أتحب أن تكون أعمى ولك كذا وكذا؟، قال: لا، قال: أتحب أن تقطع يدك ولك كذا وكذا؟، قال: لا.
وقال رضي الله عنه لرجل مستخلف منه يريد الشحر: المراد مرور الحال، إذا مر وأنت دائم على طاعتك، غير مضيع لديانتك . والشحر بلد مبارك، كان السادة يتعودونها، وحوط الشيخ عمر( ) فيها أماكن كثيرة، ومات الشيخ عبدالله( ) في طريقها، وقال الشيخ عبدالله: إذا جئت من الشحر، ولا معك شيء فاحمل شيئاً من ترابها فإنها مباركة، فعمل بذلك بعض الناس للتبرك بكلام الشيخ، فحمل من ترابها، فلما جاء إلى تريم، لحق فيه أحمر( )، قال: وكانوا يسألون عن حال الإنسان للمواصلة والمراحمة .
(2/273)

وذكر رضي الله عنه التفكر فقال: إن أهل الزمان ما تَخَلَّوا للتفكر، بل تناتفهم الخواطر من شيء إلى شيء آخر، ولو أراد يصلي ركعتين مثلا نتفه الشيطان إلى غير ذلك، وهذا من الغرور بواسطة الشيطان، فلو أنه أحسن ما هو فيه لكان أحسن له من أن يتركه أو يستعجل فيه ليفعل غيره، ثم قد يفوت عليه هذا وهذا، وأما أولئك فقد أعطاهم الله قلوباً قوية، وأجساماً قوية، وأحوالاً قوية، نفعنا الله ببركاتهم، وكان داؤد الطائي ما بينه وبين الميت إلا إنه حي، وإذا سمع الإنسان بسِيَر الأولياء اليوم يقول: ما هذه إلا أضغاث أحلام، فأين هي اليوم، وإنما المتعنتون هم الذين يطلبون معرفة أيهم أفضل، وبيقين: إن الأنبياء والأولياء بعضهم أفضل ولكن من الذي يعرف ذلك؟، وإذا وُزِنَ بعضُ الفضائل ببعض، عُرِفَ الأفضل، ولكن في ذلك فضول ولا حاجة، وإن دعت حاجة إلى ذلك ينظر بقدرها، كما قد دعت العلماء الحاجة في أمور العقائد بسبب المعتزلة إلى تأويل وتفصيل، فلولا ذلك لكان بعد ما يحرز معتقده ودينه، ما عليه إلا العمل، ولا يوسوس، إلا إن كان حصلت وسوسة في العمل، كما تكون في الصلاة . وخذه من هنا معنى حديث قول الله تعالى لآدم عليه السلام: أخرج بعث النار إلخ.
وذكر رضي الله عنه الساعة فقال: أمر الله عظيم، وما هي إلا بغتات، ما تأتي والإنسان مستعد لها، إنما هي بغتة لا يُعلم بها كما يجيء المطر بغتة وينخسف القمر بغتة من غير علم للناس بذلك .
قف على هذا الدعاء
وقال رضي الله عنه لبعض السادة: أكثر من الدعاء بهذه الكلمات، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، وتوفني مسلماً، وألحقني بالصالحين.
وقال رضي الله عنه: ينبغي للإنسان أن يفتش عن نفسه ولا يُخدع بغرورها، فكم من يُبَري نفسه من شيء وهو ملابس له أو نحو ذلك .
(2/274)

وقال رضي الله عنه: ذُكر إن بعض عمال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له: إني رأيت الشمس والقمر اختصما، مع كل واحد منهما جيش وعسكر يحارب الآخر، وإني قاتلت مع القمر، فعزله عن عمله، وقال له: قاتلت مع الآية الممحوة، فاتفق أنه قاتل مع معاوية، وكان في عسكره على سيدنا علي كرم الله وجهه، ويعني بالآية الممحوة القمر، لقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَآيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَآيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَآيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً }( ).
وقال رضي الله عنه: كلما جاء في حق الفقير من المدح فالمراد به الفقير من الدنيا، الغني من عمل الآخرة، لا الفقير منهما جميعاً، فإن ذلك شيطان .
وقال رضي الله عنه: من أنفق عمره في غير طاعة أو وسيلة إلى الطاعة فقد أنفق أعز الأشياء في أخس الأشياء .
ودخل رضي الله عنه الضيقة يوم الجمعة تاسع ربيع أول سنة 1129 فرأى صبياً يتيماً فقيراً، وكان تلك السنة في البلد قحط شديد، والجهة مُسنِتَة جداً، فقال له: غَدَّوك، قال: نعم لكنه قليل، فقال: اقنع اليوم بالقليل والشيء عند ربك، ثم قال: اليوم من معه شيء يقسمه بينه وبين مسكين، ومن ما معه شيء وحصل له قليل يقنع به، وأما أن يتسخط الإنسان القليل إذا أُعْطِيَه نُزِعَت منه البركة، ومع القلة والضيق لا ينبغي أن يحاذر الإنسان، بل يفعل كل شيء بقدر، ومن خبأ التمر لا لأجل صدقته، ولا لأجل مؤنته، فهو محتكر ملعون، وفي الحديث: (( إنه يحشر مع قتلة النفوس )).
(2/275)

وقال رضي الله عنه لبعض بني بعض بنيه، بعدما سأله عن أحوال بيتهم: قل لأمك قال حبيبي( ): استقنعوا ما عاد في الأوقات الضيقة إلا البركة، وهو سبحانه ما يسيب خلقه، ولكن إعرف حقه، واعمل ما أمرك به، ثم ذكر قصة رؤيا الذي رأى الدنانير، وسأل هل فيها بركة، ثم قال: الأمور خرجت عن أوضاعها، وقد كان الأولون: إن الاثنين، إذا وقع بينهما نزاع ذهبوا إلى رجل من أهل الدين والصلاح يصلح بينهم .
وقال رضي الله عنه: لا يستقيم أمر كما ينبغي إلاّ مع العقل والتدبير، ومن لم يكن كذلك فليستعن بمن هذه صفته .
وقال رضي الله عنه: الكِبْرُ ونحوه كالذري تطرحه وهو حبة، ولم تشعر به إلا وإذا به نخلة أو شجرة كبيرة، فليبادر إلى قطعه ما زال صغيراً، لئلا يكبر عليه فيعسر قطعه حينئذ.
وقال رضي الله عنه: كلما قل عقل الإنسان كثر تكبره، ولهذا ترى أكثر الصغار والنساء يتكبرون .
وقال رضي الله عنه: إنما فائدة بلوغ الإنسان حد التكليف، الترقي، فإن لم يترق فموته قبل ذلك أحسن، لأنه لم يبلغ الحنث، ويكون حينئذ على الفطرة.
(2/276)

وقال رضي الله عنه: اسمعوا منا كلمتين، الأولى من حج( ) ليحج للناس، فحجته معلولة، أو قال مدخولة، ويكون حجة إسلامه وحجج الناس في ذمته، والثانية إذا أراد الإنسان أن يعرف نفسه، فليعرضها على كتاب الله، فإنه خليفةُ رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في أمته وأهلُ بيته، قال صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( تركت فيكم كتابَ الله، وعترتي )) فإن لم يعرف نفسه من كتاب الله، فليسأل الأئمة من أهل البيت، فإنهم نوَّاب جدهم وورثته يفسرون للناس ما أشكل عليهم من معاني الكتاب العزيز، فإن لم يجد منهم أحداً فليسأل عنهم ويبذل جهده في طلبهم، فإن لم يجدفليسأل نوابهم من الأئمة من غيرهم وهم العلماء العاملون، فقال له بعض الناس( ) في بعض الأيام: أخبِرْني( )، قال: ألم تكن عاملاً بالقرآن؟، قال: الله أعلم، قال: ألم تؤمن إنه من عند الله وإنه معجزة لا يُقْدَر أن يُؤتى بمثله، وإنه منزل من عند الله؟، فقال: آمنت بجميع ذلك، وأشهدكم على ذلك، قال: كان .
وقال رضي الله عنه: المال مذمومٌ من أكثر الوجوه، محمودٌ من بعضها .
قف على كلامه في حضرموت
وقال رضي الله عنه: حضرموت لم تصلح إلا لمن اجتمعت فيه خصلتان: الطلب والتزهد، لأنه إذا كان كذلك، لم يُبَلْ لو جلس على الجمر .
وقال رضي الله عنه: الأولاد في هذا الزمان بغوا منك صبراً، وإلا حرمتهم وأشغلتهم.
وقال رضي الله عنه: لم يحصل للعباد حسن المعاد إلا بالجد والاجتهاد، إلا إن ذلك على حسب الزمان والحال بحيث يُعَدُّ الإنسان من مجتهدي الزمان، لا من المبطلين المقصرين.
وقال رضي الله عنه ما معناه: ما عاد أهل الزمان لهم هَمٌّ، إلا نظرهم إلى حالتهم الراهنة والأمر العاجل، وغفلتهم عن مآلهم وأمرِ ما هم صائرون إليه، ولو نظروا إليه لكفاهم .
(2/277)

وقال رضي الله عنه: بعدما أكثر من ذكر الزمان وأهله ووصفهم: يشيب الرجل في ذا الزمان ولم تصدق له رؤيا مرة واحدة، وقد كان الناس يرون في المنام ما يوجب لهم اليقظة والإنتباه من سِنَة الغفلة، ويحثهم على ملازمة الجد والتشمير .
وقال رضي الله عنه: لولا الحرص على طلب فضيلة الجماعة وطلب الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يترك صلاة الجماعة، لاخترت الصلاة مع الإنفراد، لأن أهل هذا الزمان لم تزل قلوبهم في الوساوس حالة الصلاة، فتُشغِلنا خواطرهم وما يختلج في صدورهم .
وقد سمعت مرة سيدنا يقول: إن أكثر ما تُرْتَج القراءة على الإمام من سوء خواطر المأمومين، وورد في ذلك حديث .
أقول: قال لي مرة عمر باحميد: قلت للسيد أحمد الهندوان وقت انتظار بعض الصلوات: يا سيدنا إني لا أتمكن من قراءة الفاتحة معكم، فقال نتريض( ) لأجلك، فتقدم يصلي بالجماعة، وصليت معه ركعة أو قال ركعتين، ولم يخطر لي خاطر، وهو متريض أكثر مما يعتاد، ثم ما أدري إلا خطر لي خاطر فطار من العجلة حتى ما أتممت الفاتحة إلا بعد ما فرغ من السجود الثاني .
انظر قدر صلاته نفع الله به
وذكر سيدنا نفع الله به صلاته يوماً فقال ما معناه: صلاتنا هي الصلاة المعتدلة لا تطويل فيها ولا إخلال، وقال لي مرة بعد ما أقيمت صلاة الظهر: إجلس إحزر صلاتنا، فحين ما أكبِّر إبتدِيءْ في قراءة سورة يس، قراءة متوسطة بلا عجلة ولا تأن، فحين ما كَبَّر شرعتُ فيها على ما وصف فأتممتها قبل أن يسلِّم، ثم قراءة( ) الفاتحة وسورة الإخلاص، فأتممتها مع سلامه، ثم أمرني كذلك لصلاة العصر فأتممت سورة يس وقل هو الله أحد مع سلامه .
وقال رضي الله عنه: إذا لم تراقب الله فراقب الناس، لأنك بذلك تسلم من الإثم .
(2/278)

أقول: معناه إذا لم تترك ما نُهيتَ عنه إمتثالاً لأمر الله أو خوفاً منه فتثاب على ذلك، فاتركه حياء من الناس، تسلمْ من الإثم حيث لم يحصل لك ثواب، فتحوز أقل الغنيمتين، فالسلامة إحدى الغنيمتين .
وقال رضي الله عنه: لم يكف فعل الأمر في الباطن، ولم تسقط عنه المطالبة به في الظاهر، وإن كان في الحقيقة سواء .
أقول: لعل مراد سيدنا ما مثاله كما يقع لأحد من أهل الله، إنهم يحجون وتتحقق رؤيتهم في الحج، وهم في أماكنهم ما فارقوها، وإنما لم يحجوا غير ذلك في الحس، لأن الشريعة لها حق مطلوب لله، لا يكفي عنه غيره، والحقيقة كذلك فلا بد منهما، كصور الأعمال مع الإخلاص، فلا يكفي أحدهما دون الآخر.
وقال رضي الله عنه: الملَلُ من ذكر الله، وكثرةُ النوم، وكثرةُ الأكل، وكثرةُ الكلام، كل هذه الأشياء أمراض في القلب تنبغي معالجتها والتداوي منها.
وقال رضي الله عنه: المشغول في باطنه، إذا اشتغل في ظاهره غفل عن الشغل الباطن، وكذلك مشغول الظاهر إذا اشتغل في الباطن غفل عن شاغله الظاهر.
وقال رضي الله عنه: يقال: لا يخلو الطبيب من مرض في الغالب كما قيل :
يموت راعي الضأن في ضانه ... كموت جالينوس في طبه
وقال رضي الله عنه: كلام الصالحين إما وارد، وإما قد أداره المتكلم على قلبه، وكل ذلك صواب ولا سبيل إلى مخالفته .
وقال رضي الله عنه: إن الله يُذَكِّرُ عباده في الدنيا بذكر الوعد والوعيد، فإذا كان يوم القيامة جمع الله جميع الخير كله في الجنة لأهلها، وجمع الشر كله في النار لأهلها.
وقال رضي الله عنه: من كره ما تحمد عاقبته في المآل، ولو كرهته النفس في الحال، فهو مريض القلب، يحتاج أن يصحب أحداً من أطباء القلوب يداويه منه، لأن كلما يُقَرِّب إلى الله مرادٌ للقلب، غير مراد للنفس، والعكس مرادٌ لها لا لَهُ .
وقال رضي الله عنه: ومن دخل عليه شخص فوجده على طعام فاستحيا منه فهو متكبر.
(2/279)

وقال رضي الله عنه: في قول الشيخ سهل بن عبدالله التستري رحمه الله (للعقل مائة اسم لكل اسم ألف اسم) فقال: قد تحصل لهم غلبات، ويقع مثل هذا الكلام فيها، ولو سئل عن ذلك بعد حين لأنكره وقال: ما قلت ذلك، كما قال الشيخ عمر المحضار: سمي الفؤاد بذلك لأن فيه ألف وادي، ولما مر في القراءة قول صاحب العوارف، لما ذكر في أولها جملة من علوم القوم كالفَناء والبقاء، والمحو والصحو، والخاطر، ونحو ذلك إلى آخر ما ذكر، فقال نفع الله به: هذه هي العلوم التي يقول الشعراوي: نعلم مائة ألف علم، وفلان يعرف كذا كذا من العلوم فهي من هذا القبيل .
وقال رضي الله عنه: في قول بعضهم في الرسالة: (الخُلُق: أن تكون من الناس قريباً، وفيما بينهم غريباً) قال: غربَتُه: أن لا يحب أن يكون له عندهم جاه، وأن يكره إحسانهم وثناءهم عليه، وقربُه منهم أن يعينهم على الخير ويحسن إليهم.
وقال رضي الله عنه: ليس مع الله ومع أوليائه غربة، إنما الغربة مع النفس والهوى، ثم قال: إحفظوا هذه الكلمة .
وقال رضي الله عنه: العز: ما يحصل لأحد من الخلق من العز بسبب دينه مع الإخلاص، وأما ما يكون لأبناء الدنيا من القيام لهم، واحترام الناس لهم، فليس هذا عزاً بل ناموساً ينبغي لمن حصل له ذلك أن يستعيذ بالله منه، لأن هذا عبد مبتلى بنفسه، غالبة عليه.
وقال رضي الله عنه: لا يظنن أحد ممن يطلب الرياسة أن تستقيم له، إلا بسرّ أو عبادة، وإن ظن الإنسان أنه يفعل .
وقال رضي الله عنه: الذي يجمع المال للمال( ) أحمق، وإذا لم يعط الإنسانُ ربه من نفسه( ) يأخذ الله منه بيده، ومن فيه حيا وهمة لم يطق الضولة( ) بل لو أراد أحد يأخذ حقه تركه له .
(2/280)

وقال رضي الله عنه: من جالس أهل السر بالتجسس والتطلع حُرِم بركتهم، ولا نرى نحن إلا ما كان على الكتاب والسنة، ومن قال شيئاً بنفس وهوى فالله حسبه، ومن أراد أن ينقل عنا فليفهمه أولاً، وإلا فلا نأذن في ذلك .
وقال رضي الله عنه ما معناه: اسمعوا منا كلاماً واحفظوه، وانقلوه عنا، إن جاء بعدنا أحد وقال لكم: إن فلاناً( ) أطلعني على كذا أي من المغيبات، أو فَعَل لي كذا أي من الخوارق، أو قال لي كذا أي مما ينكره ظاهر الشرع، فكذبوه، ولا تتوقفوا عن تكذيبه أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: الفقراء( ) كالماء، تَرِدُهُ الدابة وهي ظمآنة ثم تعود تبول فيه.
أقول: أي يأتيهم الزائر وهو في غاية التعطش إلى رؤيتهم، ثم إذا طال مقامه معهم، ربما يعود إلى الملل والسآمة، وحينئذ عليه خطر من قلة الاحترام والتأدب وربما أدى إلى الإعتراض عليهم فيخسر في دينه ودنياه .
وسمعته رضي الله عنه يقول: إن الناس لم يحبوا الصالحين لمجرد الصلاح فقط، وإنما حبوهم لأنهم انخلعوا عن الدنيا بالكلية وتجردوا عنها وتركوها لهم، فلم ينازعوهم فيها ولم يضايقوهم عندها، فلذلك أحبوهم، لأن الإنسان مجبول على بغض كل من يطلب أمراً وهو طالبه، وحب من يترك ما هو طالبه .
وسمعته نفع الله به مراراً في أيام متعددة يردد هاتين الكلمتين: يامن لاتخفى عليه خافية، أسألك اللطف والعافية .
وقال رضي الله عنه: أخطر الأعضاء على الإنسان لسانه، لخفته، وبقية الأعضاء قد تتعسر عليه المعصية به إما لخوف مخلوق أو خسارة ونحو ذلك بخلافه هو .
(2/281)

وقال رضي الله عنه في قول أبي عمرو اسماعيل بن نجيد المذكور في "رسالة القشيري"( ): من ضيع في وقت من أوقاته فريضة افترض الله عليه، حُرِم لذة تلك الفريضة ولو بعد حين: إن كلام الصالحين يؤخذ للإعتبار فقط، ولا يكون هذا لكل الناس، بل ربما يكون لبعضهم، بل ربما اختُص به القائل، لأنه جرب هذا من نفسه، ولا يكون لغيره، ولا يعم إلا إن كان كلام الله وكلام رسوله إذا ورد في العموم .
وقال رضي الله عنه: يعسر طلب مجرد الفضيلة لمجرد كونها فضيلة إلا على أهل الفضل .
وقال رضي الله عنه: إذا قوي الروح احتاج إلى مراعاة البدن وقُوَّتِه لأنه مطيته وإلا خيف عليه تغير المزاج .
وقال رضي الله عنه: إنما تم النعيم لأهل الجنة لتمكن الأرواح منهم، كما تمكنت الأجسام في الدنيا، لأن النعيمَ والراحةَ مع تمكن الأرواح، والتعبَ والشدةَ مع تمكن الأجسام، ولهذا كانت الدنيا سجن المؤمن .
وقال رضي الله عنه: من فيه خيرية وكان ذا دين لم يزل يستفيد من خيِّر وشرير لأنه يرى فائدته فيأخذها، ولا ينظر إلى من سمعه( ) منه.
ما قال في شرب الماء البارد في الشتاء، والحجامة
وقال رضي الله عنه: كنا نسمع من الأولين: إن شرب الماء البارد في الشتاء حيث يشتد البرد، إنه يستحيل في الباطن دماً فاسداً، وكان يُنهى عنه كثيراً.
وقال رضي الله عنه: الحجامة على ثلاث درجات: للضرورة فمتى دعته إلى ذلك، وللحاجة فينبغي أن يترقب بها الأوقات المذكورة في الحديث( )، وحقِّ البلوة فلا ينبغي للإنسان أن يَهريق دمه بلا فائدة، لأن الدم حياة البدن .
وقال رضي الله عنه: من يحب الناس ويحبونه فهو مفتون، ومن أحبهم ولم يحبوه فهو مفتونان( )، ومن لم يحبهم وهم يحبونه أو لا يحبونه فهو أسلم وأقرب إلى السلامة .
وقال رضي الله عنه: لا أحسن للإنسان من أن يلزم وصفه من العبودية والفقر المحض، ولا يخرج من ذلك( ) أبداً.
(2/282)

وقال رضي الله عنه: إن لإبليس في أهل الشمال تمكيناً إِلهياً، وإنه سأل الله التمكن من الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال، فلم يمكِّنه من أهل اليمين، فقال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَان }( ) ومكنه في أهل الشمال فقال تعالى: { إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِين }( )، { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجلِكَ }( ) الآية .
أقول: ذكر الشيخ ابن عِرَاق: إن بعض الصالحين رأى إبليس في صورة رجل فقال له: لِمَ تضل عباد الله؟ فقال له: الزم الأدب، وقف عند حدك من العبودية، فإني مأمور فيما أنا فيه، كما أنت مأمور في ما أنت فيه، أما سمعت قوله تعالى: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم }إلخ، وفي كلام آخر عن هذا الصالح أو غيره من الصالحين، لمَّا قال له: لِمَ تضل إلخ، قال له: تأدب لا تعترض علي، فإن كنتُ أضللتُ عباد الله، فأنا من أضلني؟، كنت أنا جالساً على سجادتي في عبادتي عند العرش، فنوديت هناك أُخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. نعوذ بالله من مكره وغضبه .
وقال رضي الله عنه: كلٌّ فيه هوى وليس الشأن أن يذهب الهوى بالكلية، وإنما الشأن أن يعمل على خلاف مايقتضيه مع وجوده، والعمل على خلافه يضعفه، وكلما ازداد من العمل على ذلك ازداد ضعفاً، حتى إنه ربما يتوهم عدمه، وليس بمعدوم، بل يكون ضعيفاً جداً.
مناقب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(2/283)

وقال رضي الله عنه: مِن أعظم المناقب لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن أسلم أبواه وأدرك أبوه خلافته، وحج إلى مكة واجتمع بأبيه، ولكنه ماجلس إذ ذاك في مكة إلا نصف يوم، ولما ذكر لأبيه إن ابنه صار خليفة بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال: أَوَ رضي قريش به، قالوا: نعم، قال: سبحان من أعز ذليلاً، وأذل عزيزاً، قال ذلك لأنه كان من تيم بن مرة، وكانت قريش تعده من أقل بيوتهم، قال سيدنا في حديث( ): (( الأئمة من قريش )) أي الأئمة في الدين والعلم، ومن كان منهم ضعيف الدين جاهلاً، بأي وجه يستحق التقديم، بل يتعين عليه يجتهد أن يصير عالماً تقياً ليصير أهلاً للتقدم، وقد قال الشيخ علي بن أبي بكر لابنه الشيخ عبدالرحمن بن علي: تفخسس تسلم، لا تكن عقرباً تقتل، وكن ذَنَباً في الخير ولا تكن رأساً في الشر، فإن الرأس أول مايقطع .
وقال رضي الله عنه: الجنة ممالك ودرجات، والنار مَبَارِك ومَعَارِك ودركات، وقال: أمور الدنيا تابعة لأمور الدين كالظل من الشاخص.
وقال رضي الله عنه: من لا يخاف من الله خَوِّفْه بغير الله، لأن المراد الإنكفاف .
وقال رضي الله عنه: الأشياء لاتظهر عند أوائلها إلا لأرباب البصائر، وإنما تظهر عند أواخرها .
وقال رضي الله عنه: كلما ذُكِر عن الأكابر من الكلام الذي ظاهره التبجح، كقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي: منذ أربعين سنة ما حُجبتُ عن الله، وقول أبي العباس: لو حُجبَتْ عني جنة عدن لحظة ما عددت نفسي من المؤمنين، كل هذا مؤول وليس على ظاهره.
(2/284)

وذكر رضي الله عنه بعض السادة فأثنى عليه، وقال: لابأس به هو رجل مذاكر، ولا في جماعته مثله، إلا إن الزمان منقوص، إنْ ما انتقص من كلا طرفيه، انتقص من طرف واحد، وقد ذكرنا لرجل من السادة فقلنا له: لو اجتمع السادة على رجل يقدمونه ويرجع رأيهم إليه، إن كُتِبَتْ ورقة أو حصلت مشاورة أو مقابلة في أمر، فقال: إن كان أنتم فنعم، فقلنا: لا، نحن لايمكننا لأننا لا نحبه أولاً، ولأني مدبّر( )، وسلوا عني أهل بيتي، ودعونا نحن للعلم والدعاء، إن طلب أحد يقرأ علينا في علم نحسنه، ونقرر عليه على مقتضى حاله وحالنا، وأنتم أعرف بأمركم، والتوسط بين الناس أمر عسر، أشد من الحكام، لأن هذا يحتاج إلى إقامة الشرع والعادة، وذكرنا له ذلك الرجل، فقال: لا نريده، وهو فيه كفاية إلا إن الزمان محسود .
وذكر رضي الله عنه التجرد فقال: ما هو بعسر، لو أراد كل أحد أن يتجرد سهل عليه، وإنما يعسر على أهل العلائق، ومنهم مَن عوائقه في نفسه، ومنهم من عوائقه في غيره، وإلا فالإكتساب موجود لكل أحد لكن هذا فيمن قنع بالقوام، إما بقوت أو بقوة، وصاحب( ) "التنوير" نَبَّه كما ذكره المتقدمون، ولكن المغرور يظنه إنما يحسن أن يكون هكذا ويترك العمل ويتكل .
وأنشد رضي الله عنه يوماً هذا البيت :
ياصاحباً كله مليح ... عملت بالفضل( ) وبالجزاء
وقال رضي الله عنه: كل ما مع الخلق من التدبير إنما هو من عند الله، بواسطة وحي أو إلهام، ولهذا طُلِبَ إقامة الإمامة والولاية لينتظم الأمر ويؤدي حقوق الله وحقوق العباد. وما وقع من خلاف ذلك، فإن الله لا يزال يعفو عن صغار الأمور حتى يحصل شيء من كبارها، فيعاقب عليه في الدنيا قبل الآخرة بخسف أو غيره، فإن لم يكن خسفاً ظاهراً كان خسفاً باطناً، يخسف القلوب فلا تتأثر بموعظة، ولا تخشع في عبادة ونحو ذلك، وكلما لا يحتمل أهلُ الله الصبر عليه والسكوت عنه، هو الذي يعاقب اللهُ عليه .
(2/285)

أقول: وهذا الذي كان رضي الله عنه ينهى عنه الناس من متداينات الربا، وأمور أخر من المناكر الكبار، التي لا يحتمل أهل الله الصبرعليه حتى أصابه نفع الله به ما جرى عليه من ذلك العارض سنة 1115 وسنة 1116 كما ذكره تلميذه عبدون بن قطنه( )، مما جمعه في رسالته، ولهذا عاقب الله أهل الجهة حيث لم يمتثلوا أمره بهذه العقوبة الشنيعة، التي أخرجتهم من أموالهم وأوطانهم، ودامت من أول يوم من سنة 1117 إلى حين كتابة هذا النقل سنة 1170( )، وبعد ذلك إلى أن يشاء الله، فأعجِب لإشارات سيدنا وما يومي إليه كلامه مما قَرُبَ أو بَعُدَ في حياته وبعد مماته .
وذكر رضي الله عنه ذات يوم ماوقع على الجهة في أموالهم وأحوالهم، فقال: ماعاد إلا يدعو الإنسان: اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، وقاعدة: الظالم مخذول، وهؤلاء( ) مَثَلُهم مثل سيل عِدِم( )، إذا جاء يقول الناس: المتطرف يميل لا يشله، ولكن السيل يخفش( )، وما فات يخلف الله، ومظلوم ولا ظالم، ولا عاد نَفَع فيهم الدعاء، مع إن المظلوم دعاؤه لابد ما يُسمع ولو بعد مدة، ولكن المظلوم إذا كان ظالماً لا يُسمع دعاؤه وقيل :
المرء يغلط في تصرف حاله ... ... ولربما اختار العناء على الدعة
هل لا يحاول حيلة يرجو بها ... ... دفعَ المضرة واجتلابَ المنفعة
وهذه أشياء بذنوب، منها شيء نسيه الإنسان، وشيء ما استغفر منه، وشيء فعله وهو يستلذه، فلا عاد تحرك أحداً فيتجرأ، كقصة ذاك الذي جر أباه من فوق السطح إلى الضيقة، فدخل عليه غريم له وطالبه، وقال له: جريت أباك إلى هنا، فأنا أجرك إلى خارج وجره، وهذه أمور خَوِّفْ فيها بالله وبالرسول وبالسادة، ولا عاد معهم تقوى ولا عقول ولا صيانة، فإذا ذَكَّرت عيالك فهكذا علمهم ولا تُجَرِّيهم، وتقول( ) كان فلان فيه أمانة، وصفته كذا وكذا.
(2/286)

وقال له رضي الله عنه رجل: ادع لي، خاطركم بالطاعة والعبادة، فقال له: مكانك فيها لا تخرج منها فإنها ما عليها باب، وما دعاك اليها، ويريد أن يمنعك( ) منها، لكن ما المانع لك منها إلا ربك( ).
وقال رضي الله عنه: إذا أتاك الأمر المستقيم في نفسه فخذ به، وإن لم يصح عمن نقل عنه لأنه صحيح في نفسه، وإن أتاك الأمر الفاسد فلا تأخذ به وإن صح عنه، لأنه فاسد ولعله إنما فسد في طريق وصوله اليك .
وقال رضي الله عنه ضحوة يوم الثلاثاء 29 رجب سنة 1122 في الغيلة بمحضر جماعة أتوه زائرين: مَن طلب الفضل لنفسه وحاول أن لا يكون لأحد غيره، فما له فضل، فإن موارد فضل الله معه تَسَعُه وتسع غيره، فَلِمَ يضيق من تعديها إلى غيره، فليشربه كله إن قدر على ذلك( ).
وقال رضي الله عنه: إذا أفرط إنسان في محبة أمر أو بغضه، انعكس إلى ضده لأنه لا ضابط حينئذ فينعكس الأمر.
ما قال في البحر
(2/287)

وذكر رضي الله عنه البحر فقال: إن الله قال: { سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ }( ) في غير موضع، ولم يقل وسخر لكم الأرض في موضع، والتسخير إنما يكون فيما يعظم ويهول وقد قيل: البَّرُ بكُم أَبَرُّ. وحُسْنُ حالِ البحرِ نادرٌ، والأغلب فيه الإضطراب، ثم إن اضطرب أشغل، أو السكون الكلي ويشغل أيضاً، وحكى بعض الصالحين من أهل المغرب، إنه أراد الحج فتحير هل يسافر براً أو بحراً، فعزم على أن يشاور أول من يلقاه، فاتفق أنَّ أول من لقيه يهودي على بغلة، فتوقف أولاً عن مشاورته، ثم استشاره فقال له مارأينا فيما سمعنا من كتابكم أن الله ذكر البر والبحر في موضع إلا بدأ بالبر قبل البحر، فَسِرْ فيه خير لك، فسار في البر وهو أسْلَمَ( )، وقيل لسيدنا: ما يحصل من البحر هذا الوقت قليل، فقال: سبحان الله هذا لأمر وإلا فسكان البحر لا تقصير منه( )، وإنما ذاك من سكان البر، إلا إن كان لما كان ذلك نصيباً لأهل البر، ومن رحمته سبحانه وتعالى ولطفه أن قال تعالى: { ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ }( ) إلى أن قال: { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون } ولم يقل لعلهم يهلكون أو يذهبون، إنما ذلك استجرار منه لعباده إلى طاعته .
وقال رضي الله عنه: أحسن ما في هذا الزمان قطع العلائق، لأن الزمان مظلم وخرجت فيه ظلمات الساعة .
وقال رضي الله عنه: من بنى أمره على الفتوح( )، فهو كالبحر ما له في السارحة بارحة.
وقال رضي الله عنه: الحب والبغض موروث، وإن لم يعلم الوارث .
ما قال في بلدة قَسَم
(2/288)

وذكر رضي الله عنه قرية قَسَم ذات يوم فقال: سميت بذلك لأنها مُقْتَسَمة بين السادة، وهي حوطة وإنما تكون الحوطة حوطة بالنسبة لعقيدة المعتقِد، لا المعتقَد، لأنه لا يعتقد( ) في نفسه ولو كان ولياً، لأنه محجوب بنفسه عن قلبه، فإن النفس حجاب القلب، فإذا قوي القلب انخرق منه باب إلى النفس (وبعد هذا بياض لعله سقط كلام متعلق به) وهذا لا يَعرِف معناه إلا هو، ومن هو من أهل مقام الولاية .
وقال رضي الله عنه: ذَكَر بعضهم: ينبغي أن يفرح الإنسان بحصول الشدة، لأن الرخاء يعقبها، ويكرهَ الرخاء لأن الشدة تعقبه، وقدَّم إليه نفع الله به بعضُ أخدامه حذاءه ليلبسها، فقال له افتحها لتزول بذلك كراهة لبس الحذاء قائماً، لأن السبب فيه خوف السقوط، فتزول بزواله، وتناول ابنه السيد علوي رحمه الله الورقة التي كنت أنقل فيها كلام أبيه سيدنا نفع الله به، فكتب فيها كلاماً سمعه منه، فنقلته هنا من خطه وهو: قال سيدنا: كان بلغنا أن السلف لما اختلف عليهم ولاة الأمر، وكثر بينهم القتال، ساروا إلى عند نبي الله هود عليه السلام، واستغاثوا بأن الله يختار للجهة ويجمعها، ويسلمها لرجل واحد، فأجيبوا وقد رأينا هذا اليوم إجتماعاً في ذلك المحل، وفيه ناس من السادة من الأحياء والأموات، وهناك من ينشد بشيء من كلامنا، ورجونا أن يكون ذلك فرجاً للجهة وأهلها مما حل بهم والله أعلم.
أقول: وكان مارأى ضحى يوم الأربعاء حادي عشر ربيع الثاني سنة 1123، ومن الأموات السيد حسين بلفقيه، والسيد حامد بن علوي، وغيرهما وهي إما رؤية منام أو تورية عن الكشف، لكونه أطلق الرؤيا.
(2/289)

وحضر عنده رضي الله عنه جماعة، فبقوا سكوتاً لا يتكلمون، فقال: السكوت مع الإجتماع ما له معنى، ولو كانوا يسبحون، فلأي شيء الإجتماع، فليسبح كل إنسان وحده ولا نرى مع الجمعية أحسن من قراءة كتاب ليسلم الإنسان خصوصاً في هذا الزمان، حيث لا يخلو كلامهم من كذب أو غيبة، وهذه عادتنا من قديم كما قيل :
أعز عزيز ماعلى الأرض سائح( ) ... وخير جليس في الزمان كتاب
وقال رضي الله عنه: طريقة آل باعلوي، من تأملها عرف أنها هي الطريقة الوسطى المعتدلة التي لا تُنكَر، من رأى تواضعهم وزهدهم وفقرهم وخمولهم وسلامة صدورهم، ومن صحب أحداً لا بد أن يقتدي به( )، ولو في بعض الشيء على حسب الحال والزمان، وإلا خرج إلى الخلاء. ومرَّ في القراءة حديث( ): (( إن الله يَبْغَضُ السخي عند موته، البخيل في حياته))، فقيل: أليس هو أحسن ممن لم يفعل أبداً، فقال: وورد: إنك إن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس، وايش هذا الكرم الذي جاءه عند الموت، بعد أن لم يفعل محتسباً لله تعالى في حال صحته بل لا يجوز له إن قصد أن يُحرِم ورثته.
وذكر رضي الله عنه أهل الزمان وإدبارهم، فقال: لو عاد حذفوهم بالحجارة مانفع لأن الشارد شارد، ماعادها إلا حثالة، وقد عرَّف الشعراوي أهل زمانه ببعض صفاتهم، وهم اليوم إلا خضخاض كحثالة الإناء.
وذُكِر له رضي الله عنه جماعةٌ فاتهم الحج فقال: لا بد لله تعالى في ذلك خيرة، ولكن خيرة الله تعالى لا تظهر سمح( ) ما تظهر إلا ما فيما بعد، وقيل له نفع الله به: عجيب من اختلاف طبقات الناس ونياتهم، حتى إن الواحد يحب وجود الشيء وآخر يؤثر خلاف ذلك، فقال: دعهم لربهم حتى يخرجوا من الطاعة، وإلا فدعه لهم فله فيهم مراد.
(2/290)

وجلس ضحوَة يومٍ رضي الله عنه، وهو مُحْتَرٌّ وكان الوقت في شدة الحر، ثامن نجم البلدة 18 جماد آخر سنة 1124 فجعلت أروّح عليه، وذلك يوم الجمعة في داره التي بالبلاد، فقال: سبحان الله، لو أن أحداً رَوَّحَ عليك في الشتاء، أشغلك، فعجب للإنسان كيف يفر من خلاف حظه إلى حظه، ولو فعل أحد معه خلاف حظه، صار عدواً له، ويختلف ذلك باختلاف الأوقات واختلاف الناس، الفاعل والمفعول به، فلو ضربك بيده أحد من أداني الناس، ربما حنقت، ولو فعل ذلك بك أحد من أحاسن الناس، ربما لم تحنق، فقد يجلس الشريف والضعيف( ) والحائك في محل، فإذا كان بيد الشريف مروحة لا يتركونها في يده بل ينازعونه إياها، فلا أدب لهم ولا حرمة، ولا فيهم لبيب ونحن قد طُلِبَ منا أن يُرَوَّحَ علينا في أماكن أحسن من هذه، فامتنعنا إراحة للناس وسلامة من التشبه بأهل الرفاهية، والناس غير يروحون على المحتشمين وإذا بطلت الرياسة بطلت السياسة( ).
ما قال في الجن
وكان رضي الله عنه ذات يوم في فسحة في غرفة آل فقيه في الصالح( )، وذلك يوم الاربعاء 17 ربيع الأول عام 1128هـ، فجاء رجل من أهل شبام من غير أن يعلم بذلك، فقال سيدنا له يمازحه: من أعلمك بأنا هنا؟ أَجِنّي؟، قال: علمت، فقال: إن أهل الطاعة من الجن ينقادون لأهل الطاعة من الإنس وكذلك الشياطين من الجن ينقهرون لأهل الطاعة من الإنس، وفيهم مماثلة، ومشابهة منهم كثيراً، حتى إن فيهم شيعة كما في الإنس.
وعن ابن عباس: إن فيهم ابن عباس مثلي( )، ولهم مع الإنس وقائع، حتى إنه ذكر إن رجلاً من أهل شبام، كان له قرين من الجن يقرأ معه القرآن، ولهم وقائع كثيرة، حتى إن رجلاً رأى جنياً، فقال الجني: أنا شريف، فقال له الآخر: أَوَ فيكم أشراف؟( )، قال: نعم وفينا مشايخ مثلكم .
وقال رضي الله عنه: الطرق كثيرة والمقصد واحد.
عباراتنا شتى وحسنك واحد ... ... وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يشيرُ
(2/291)

وذلك كالصلاة وغيرها، إذا كنت تريد الله فاعبر على النار إلى الجنة، وترى الله سبحانه فيها، ولكن إفهم المقاصد، وصحح النية . وفساد الطرائق والمقاصد عسر.
وقال رضي الله عنه: إذا لم يكن للنفس نظر بينها وبين صاحبها تغيرت، وقد حمل عمر بن الخطاب قربة ماء، وهو خليفة، وكل شيء يُعْرَف بقدَر، ولا أحد أعرف منه من نفسه، وإذا رأيت إنساناً لا تنكر، فرب شيء غير مذموم فلا تنهه إلا إذا علمته عن كِبر ونحوه، ولو مَرِضَ اجتهد في إزالته( )، واهتمامه بأمر قلبه أهم عليه من أمر جسمه.
ودخل عليه رضي الله عنه بعض السادة في آخر يوم من نجم الغَفْر، فقال سيدنا: في الوقت برد، على خلاف العادة ولا بد لله في ذلك حكمة أقل ما يكون في ذلك العبرة، لأن الإنسان إذا رأى ما يخالف عادته يتعجب فيعتبر، فيشل رأسه أظن قال: يحركه( ) بخلاف ما يعتاده.
وذكر رضي الله عنه جماعة من السادة فيهم صفاء( )، ثم قال: ذاك كان زمن صفا بلا كدر، واليوم اختلط منه الصفا والكدر، أما سمعت قول القائل: يا الله بجنون واضح ولاّ( ) عقل ناصح .
كلامه في ذكر زيارة النبي هود عليه السلام
وقال رضي الله عنه ليلة النصف من شعبان وذكر زيارة النبي هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: أرى منصبين في حضرموت، إما يدمران بالكلية، أو ينقلب خيرهما شراً، أرى ذلك واقعاً وظاهراً فيهما، لأنا نرى أهلهما يسعون في خرابهما، وقال: قواعد الزيارة من جانب الشيخ أبي بكر قد تغيرت عن قواعدها المعتادة وأصل الدعاء فيهم إلا من الشيخ شهاب الدين، هو ترك الشيخ أبابكر يدعو فبقيت عادة لهم .
(2/292)

وقال له رضي الله عنه رجل: إن الناس يروحون لزيارة النبي هود عليه السلام يخبُّون لأجل أن يدركوا العيد هنا، فقال سيدنا له: اسكت لا تطرح الملح على الجرح، وقد تقدم قوله: مَنْ رَوَّح ما له زيارة، لأنه خالف ترتيب السادة وما درجوا عليه، فكأنه مراغم لهم، وما جعل الشيخ أبوبكر بن سالم الحضرة إلا ليجتمع الناس ساعة، ويذكرون الله ويدعونه، ويقرأون مولداً لحصول البركة بالإجتماع، ومن سرح بعدما حضر الحضرة له نصف زيارة، ومن نفر فله زيارة تامة، فرب شيء من الأمور الإلهية، مرتب على ما رتبه السادة.
وقال رضي الله عنه: هذه جهة ضعيفة ما تستقيم فيها إلا إن أردت أن تحمل كل ما ترى فيها على الضعف، وإلا أظن قال: الرعاع لا يستقيمون على حال، قال: لأنهم أشرار، ولا فيهم صيانة ( ثم استمر به الكلام ) ثم قال: كما قيل: يافصيح لا تصيح، فسمعه واحد، فقال: بل صح لعل أحد ينقذك .
وقال رضي الله عنه: كانت الأشياء هنا يعني في الجهة من عوائدهم مع القل، والأمور كلها كل أحد على قدر حاله من حيث الجِدَة( ) والقلة، وكان لا عذر من دقتين من الطيب في السنة أحدهما من الأبيض والأخرى من الأحمر، وأين الناس اليوم، مات الدين والدنيا عندهم، ومن مرت عليه الأيام مثلنا ومثل السيد علي بن عبدالله [أي العيدروس]، قده إلا غريب في كل الأشياء من العوائد وغيرها، حتى إنا إذا أذكرناهم بأمر من أمور الدين، قالوا: أينك فَين، فنقول لهم: أنتم أينكم فَين، وكان من عوائد الأولين: إنه إذا تزوجت المرأة ولا لها ظعون بقيت عند أهلها سنة كاملة ما يطالَب الزوج لأجلها بشيء من أمر المعيشة أبداً لا في قليل ولا في كثير، وهذا المدة كلها ما فيها خوض (أي مطالبة)، وكانوا على أساليب جَرَوْا عليها، وحملوها عن غيرهم، وهم فيها على مراتبهم كل أحد يعرف طبقته ومَن هم جنسه من الأشراف وغيرهم .
(2/293)

وقال رضي الله عنه لرجل ثقيل على خواطر الناس، وهو مع ذلك يلومهم في عدم إقبالهم عليه: الذي ترجوه من الناس قَدِّر إنك ترجوه من الله، ومن تميز بالدين لا يعلق قلبه بالناس، أو يقول للناس: عظموني واصطنعوا إليَّ . واظب على قراءة القرآن والطاعة، لكن مع الإخلاص، ولا عليك من الناس، إذا رأوه متمسكاً بالدين عظموه، وعاده إلا يرد الزائد، والرزق مقسوم، لو بغيت ترده ما ارتد إلا بالذنب، قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( إن العبد قد يصيب الذنب يمنعه الرزق))( ) وأسأل ربك البركة، فإن القليل مع البركة كثير، والكثير مع عدمها قليل كقصة صاحب الدينار وإذا حصل للإنسان رزق، فصَرَفَه في الشهوات، إيش الفائدة هل شيء غير الحساب؟ .
ومر في القراءة في تفسير البغوي، عند قوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه}( ) فقال: ينبغي أن يرشد العامي إلى التسمية عند الذبح، لما في القرآن( ) وللخلاف في ذلك، لأن أحوالهم الغفلة، إلا إن كان عنده معرفة بشيء قليل فلا يستعملونه، وقد رتب الله تعالى لكل أمر يتعاطاه الإنسان أذكاراً تخصه من نوم وانتباه ودخول وخروج، حتى إلى حد إذا اشترى دابة أو جارية ونحو ذلك، فمن فعل جميع ذلك كان متنبهاً، وإلا فغافل بقدر ما أغفل، وقد يتعود الإنسان الذكر في شيء من هذه الأمور فيجري على لسانه من غير تقصد، أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: ما شيء أدل على الزهد من السخا، والذين يحبون الدنيا ما يحبون الصالح إلا لسماحته لهم بالدنيا.
(2/294)

وقال رضي الله عنه لرجل بعد ما ذكر أمر المعاش: اقصد محبة الله، وهذه الأمور تجيك عَرَض، أيُعوِز اللهَ أن يعطيك خرقة وكسرة، لو كان هو مانعاً ذلك أحداً لمنعه الكفار، فإذا أردت أن تعرف الله، فانظر إلى الكفار، كيف يرزقهم وينعمهم، تعرف إن الدنيا بأسرها هَمٌّ وشاغل، ولا ترى أَرْوَح ممن يأكل كسرة خبز على دكة أو في مكان مثل الطَلَب( ) فإنهم أَرْوَحُ من غيرهم بكثير، وقال لي بعض الجماعة: إن الحبيب قال لي يوماً: ما لك ليس لك تدبير ولا معرفة بالأمور؟، فقلت: يا سيدنا إن الله لم يجعل لي شيئاً من المعقول، ولا أُحْسِن فيه تدبير الأشياء، فقال رضي الله عنه: أما علمت أنهم قد ينزعون من الإنسان المعقول، فيقربوه بذلك إليهم، ويعطونه معقولاً فيُبَعِّدُونه بذلك عنهم .
وذكر رضي الله عنه "منهاج العابدين" فقال رجل: لكنه عسر، فقال سيدنا: ما عليك، إذا أُخِذَ على المقدور أحسن من لا شيء، كما قيل لسفيان الثوري: قد سبقنا أناس إلى الله تعالى، وتبعناهم على حُمُر عرج، فقال له: أَوَ نحن على الطريق على أثرهم؟، فإذا كنا كذلك فلا بأس، فنحن وإن سبقونا نلحقهم، وإنما الخوف أن لا نكون على الطريق، فنميل إلى الهاوية، ثم قال سيدنا: وأين الناس اليوم، راحت بهم الشهوات والغفلات، وضاعت منهم قلوبهم فلم يجدوها، فمنهم من لم يلحق قلبه، ومنهم من لحقه ولا انتفع به، فترى تخطر على بال الإنسان إذا كان في الصلاة خواطر لا حاجة إليها ولا نفع، ويخطر له منها من آن يصبح إلى أن يمسي ما لا يحصى .
وذكر رضي الله عنه أقواماً كان ألفهم وألفوه أيام الصغر، فتكلم كثيراً وكان هذه عادته إذا ذكر ذلك الوقت وصفاه بالنسبة إلى الوقت الحاضر وكدره، ثم قال: الحديث شجون، يجر بعضه إلى بعض، ومن طال سِنُّه كثرت شجونه، إلا أنه يُصَدَّق في بعض دون بعض، ثم إنه التفت إلى بعض الحاضرين وأنشد هذا البيت :
(2/295)

وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني ... شجونا فزدني من حديثك يا سعد
وقال رضي الله عنه: في هذا الزمان إذا حصلت للإنسان الشهادة، وواجهته الرحمة، فسكون القبور خير له من سكون الدور، وقد رأيت ليلة في النوم الشيخ عمر العطاس يقول ذلك ويتمثل بقول بامخرمة :
قِدْ حِلال المقابر خير وأكثر فوائد ... من مقامي كذا ما بين واش وحاسد
ما قال في كلام بامخرمة
وذكر يوما رضي الله عنه كلام بامخرمة وما فيه مما يشكل فقال: يُترك على ظاهره فلو كان من كلام الأئمة المحققين المقتدَى بهم أُوِّلَ له تأويل يليق، وأما كلامه فيترك على ظاهره، فإنه يتعاطى أموراً لا تليق بالكمل من الصالحين، إلا إنه محفوظ بنور العلم، وكلامه إنما هو وارد وكان من أهل العلم والصلاح، إلا إنه مخرب في طريقة الصوفية، والشاعر ما يؤاخَذ بقوله، فإن كان عالماً لا بد أن يقصد أموراً محمودة.
ومر في الدرس في القراءة في الاربعين الأصل، وتمثيله للتوحيد، وإن له أربع درجات، وفي الرابعة وهي اللب، إلى أن قال: وذلك بأن يعرف سلسلة الأسباب، وكيفية تسلسلها، وارتباط أولها بمسبب الأسباب، فقال سيدنا عند ذلك: وهذه الأشياء لا تحصل إلا بجود إلهي، أو برياضة تامة، حتى ينقطع تعلقه بالخلق، ولا يبقى له تعلق إلا بالله، كهؤلاء المتجردين الذين يسيحون في الأرض، قال: وهذا في التوحيد الرابع وهو عسر جداً يُتَحدث به ولا يوجد، ولا يقع إلا خطرات، ولو دام لاضمحل الإنسان، ويحصل إما بالجذب أو بالرياضة، وليست ترك الأكل بل العمل( ) والإجتهاد، وإنما يكفي الإنسان التوحيد الثالث أن يصحح العمل، والتوحيد على طريق العامة( )، ولو كان مع ذلك مكتسَباً فلا يضره .
وسألته رضي الله عنه عن معنى قوله، في القصيدة العينية :
تلك الأئمة والدعاة إلى الهدى ... ... والحق من أهل المقام الرابع
(2/296)

فقال نفع الله به: هو المقام الرابع من مقامات التوحيد التي ذكرها الإمام الغزالي رحمه الله ومَثَّل لها بأربعة أمثلة .
وقال له رضي الله عنه بعض أولاده يوماً في معرض المدح( ): إن فلانا ما فيه أدب، فقال نفع الله به: أكابر العرب ليس فيهم أدب( )، إنما الأدب معروف عند العجم، مستنكر عند العرب، والكرم معروف عند العرب، مستنكر عند العجم، وكان ذلك ضحى يوم الخميس لعله غرة رجب من سنة 1124 وسبب هذا الكلام، إن المذكورين من الأولاد والرجل المذكور مع جماعة آخرين كانوا مع سيدنا في حضرته على الغدا، لأن هذا اليوم أي غرة رجب، يوم عيد عند أهل حضرموت، فاتفق أن قام بعض الأولاد فقام فلان المذكور، ثم إن سيدنا نفع الله به أخذ يفرق لقيمات على الحاضرين، فقال: أين فلان، فقال ابنه المذكور: فلان ليس فيه أدب أي لأنه قام قبل أن تقوموا، فأجابه بما تقدم ذكره نفعنا الله به وجزاه عنا خيراً.
ما قال في قراء القبور
وضرب رضي الله عنه مثلاً لقراء التربة الذين يقرأون على القبور أي بالأجرة يذمهم، فقال: قراءة أحدهم مثل الحنذوله، يوزوز، وتقدم قوله: قراء القبور بين الآثم والسالم، فلا هم يُعَدون قارئين ولا ساكتين، فإنهم يتحملونها بإجارات وشروط( ) والقاريء وحده أسلم عاقبة، ومَدَح عنده رجل رجلاً آخر، فقال رضي الله عنه: حتى نسأله عنك، فإن مدحك هو فإن مدحك له معلول غير صحيح، فإن المدح في هذا الزمان مسالفة .
أنظر إلى مرائيه المباركة الصالحة
(2/297)

وعندما خرج رضي الله عنه لصلاة الظهر يوم الأربعاء تاسع رمضان سنة 1128 قال: رأيت ضحوة هذا اليوم عوض بن صبَّاح، وكأني أسير في البلاد وهو يسير معي فنمر في أرض سوداء من كثرة الوَصَح( )، فيقول لي: لأي شيء مانهيتموهم عن هذا وهو غضبان من أجل ذلك، فقلت له أمر هذا سهل، هو ذا يجيء الآن المطر مرة مرتين فيغسله، ثم قلت له: إنما نحن ننظر إلى هنا، ورفع نفع الله به سبابته يشير إلى السماء، وأنتم تنظرون إلى هنا ووضعها يشير إلى الأرض، فبقينا نسير من طريق مديحج، وكان أكثر ترددنا أيام الصغر فيها، وكأنا نريد إلى دارنا وإذا بحفرة وطية غير كبيرة يُخشى من سقوط رِجل الماشي فيها، فقلت له: مثل هذه ينبغي أن تدفن، فدفناها ومضينا، قال سيدنا: ففرحت بهذه الرؤيا لخصلتين، إحداهما إشارتي بإصبعي إلى فوق جهة السماء، والثانية ذكري للمطر، ثم قال: وكثير من الناس حنقانين علينا لأجل أغراضهم لا غير.
وقال رضي الله عنه: رأيت سابقاً كأني مِتُّ وأتيت إلى باب الجنة وإذا هو مغلق( )، فقلت: إني قد مِتُّ على الإسلام فلا يضرني ذلك، ومرة قال لي: رأيتك في النوم، وعليك خاتم فضة وفوقه قطعة زائدة، وذلك زيادة خير .
وقال رضي الله عنه لرجل من السادة في مجلس القراءة ضحوة يوم الاثنين في 14 ذي القعدة سنة 1124: رأيت البارحة في النوم كأني وجماعة من الأحياء والأموات في الحرم الشريف تحت الكعبة، فقُسِّم عليهم سُكَّر نبات، فلما استوفوا كلهم بقيت بقية فقلت: وهذا قسمي، فإذا بك قد دخلت، فقلت لك: تعال أقاسمك إياه، فقسمته بيني وبينك أنصافاً، وذكر من الأموات السيد أحمد الهندوان، ومن الأحياء السيد عبدالله بن مصطفى( ) .
(2/298)

وتقدم له رضي الله عنه مرائي كثيرة رآها في حضرموت وفي الحرمين، من جملتها ما رأيته مكتوباً بإملائه على الكاتب ما لفظه: الحمد الله، رأى الشريف عبدالله بن علوي الحداد ليلة الثلاثاء، خامس ذي القعدة سنة 1120 كأنه دخل عليه الشيخ حسين بافضل صاحب مكة، وأخذه( ) في الحياة فقال( ): الحمد لله يوم عادك زرت تريم، وكأنه يقول: أسألك بالله ورسوله أن تضمن لي بالجنة، وإن أردت أني أخرج أجي لك بالشيخ ابن عربي خرجت، وكأنه خرج ليجيء به، انتهى.
وذكر رضي الله عنه رؤياه المشهورة في مسجد باعلوي وهي: إنه رأى الشيخ علي بن أبي بكر في المسجد، وفيه جماعة من السادة أيضاً من جملتهم الشيخ عبدالله بن أبي بكر، فقال الشيخ علي لأخيه الشيخ عبدالله المذكور: هناك رجل يريدك يشير إلى الرائي، قال: فجاء إليَّ، إلى آخر الرؤيا كما رآه عند قبره في الواقعة التي أشار إليها وقد سبق ذكرها( ).
وقال رضي الله عنه: لا يقضى بين أهل الأعراف إلا آخراً، فعند ذلك إما يعطيه بعض إخوانه حسنة يتمم بها ما يتوقف عليها دخوله الجنة، أو يتفضل الله عليه فيأمر بإدخاله .
انظر إلى تهليل زبيدة
(2/299)

وقال رضي الله عنه لرجل موسوس: نريد نعلمك تهليل زبيدة بنت جعفر ابن الخليفة المنصور، لأنك رجل موسوس، وكلما جاءك من التهليل يسقي شجرتك فإن كانت ضعيفة قواها، وإن كانت قوية زادها قوة، وكان لها مآثر وأعمال خير، رؤيت في المنام، فقيل لها ما فعل الله بكِ، قالت: نفعني الله بهذا التهليل، لا إله إلا الله أرضي بها ربي، لا إله إلا الله أفني بها عمري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، لا إله إلا الله أخلو بها وحدي، أربع كلمات وبعض الناس يغلطون: يقولون زبيدة بنت مروان، كيف وهي زوجة هارون الرشيد، ومروان عدوه، وهي بنت عمه لَحْ( )، ثم قال لذلك الرجل إنا نرى عليك سيما المؤمنين، فلا عاد توسوس وتسيء الظن بربك، وسر على الطريق ولا تتخلف فتنقطع وتهلك في المخاوف، لأن مخاوف الطريق من خَلْفِها أكثر من مخاوفها في أثنائها، ولهذا جاء: إن ناراً تمشي يوم القيامة خلف الناس تسوقهم إلى المحشر، والشيطان حاسد يريد الناس كلهم يدخلون النار فلا تتبعه، ونحن نطرح على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وهو يطرح على ربه، والأمر إلى الله فاعملوا ولا تغتروا، وكان هذا الرجل يَخْرُج عليه وقت الصلاة ويعجز عن الإحرام بها، فيكتب كل صلاة تفوته إلى أن يتمكن من قضائها.
وذكر يوما رضي الله عنه تلك النار المذكورة، فقال تخرج من قعر عدن من بئر في صيرة.
وذكر رضي الله عنه ذات يوم الأوراق الواصلة إليه من الجهات، فقال: خُصَّ بالبلا من عَرَف الناس أو عرفوه، الأول مشغول بنفسه والثاني مشغول بربه .
(2/300)

وذُكِر له رضي الله عنه بعضُ الجهات بأن بها مرضاً شديداً، حتى إنه قد يغيب الإنسان عن حسه وشعوره، فقال: هذه الغَيبة بسبب قوة الخواطر لكثرة ما يرى من الموتى، فإذا اشتدت في الباطن ظهر أثر ذلك على الظاهر، وكل الناس إلى هناك فإن الأمر على التدريج، ولو وقعت الأمور على المقاصفة والكثرة لغيرت عقول الناس، مع إن كل هذه الأشياء يوُمن بها الإنسان، ولكن لم يتحقق بها، فتراه يؤمن بالشيء فإذا حَصَل له جَزِع وخاف .
وقال رضي الله عنه لرجل ادعى أنه لا يبالي بما يفوته( ): إن كلامك هذا في اللسان دون القلب، والكلام بمجرد اللسان مثل القربة المنفوخة، فارغة ما فيها شيء، والكلام في اللسان مع موافقة القلب له كالقربة الملآنة .
ما قال في العشق
وذكر يوماً رضي الله عنه العشق فقال: لا يرقى الإنسان إلى الشيء إلا من جنسه في كل شيء من أمور الدين والدنيا فلا يرقى إلى سماء الشيء( ) إلا من أرضه( )، فإن سقط من سماه فلا يسقط إلا إلى أرضه كائناً ذلك الشيء ما كان، فمن كانت همته في الأكل مثلاً، فلا يرقى منها إلا إلى شهوة الوقاع، وكذلك من همته الجمع والتمتع، قال وهذان البيتان للشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله :
أُحِبُّ الكأسَ من غير المدام ... وأهوى الغانيات بلا حرام
وما حبي لفاحشة ولكن ... رأيت العشق من شيم الكرام
وهذا عشق مِنْ طَالِعْ، عشق الأرواح، وهو محمود، لا العشق المذموم فإنه عشق من أسفل، فرب واحد منهم لم يتزوج مدة عمره، فإنَّ شَبَقَ الحمير عشق بلا أليف، حتى عشق الطير ليس هو مثله، فإنها تذكر أليفها فتشتاق إليه، وفي الطير خفة تشبه الأرواح والملائكة، وكلٌّ أمرُه إلى الخفة، وأما البهائم فكثيفة مثل طبع الأحجار.
سيرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي
وكان الشيخ أبو اسحاق من الزاهدين، حتى إنه كان قُوتُه قرصاً يابساً يفته بالماء ويأكله وينشد :
خبز وماء وظل ... ... هذا النعيم الأجل
(2/301)

جحدت نعمة ربي ... ... إن قلت إني مقل
وقد يفته في السوق عند الذي يطبخ الفول، ومضى إليه يوماً فلم يجده فقال الشيخ تلك إذاً كرةٌ خاسرة، ثم قال: والعشق ما يتم إلا بشروط لاختلاف الناس فيه، فإن أحداً يهوى في الرضا، واحد في الجفا، وأحد في العطا، ولولا اختلافهم لما صدروا أشتاتاً.
ومن نقل السيد عمر البار رحمه الله في بعض المجالس، وكنت حاضراً إلا إنه حفظ ما لم أحفظه، قال لسيدنا نفع الله به رجل: عسى القبول، فقال: عسى الله، عسى الإقبال والقبول، وأنت على ما أردت من حيث الإقبال، إن كان من الرب أو من العبد، وأما القبول فلا يكون إلا من الرب .
وسأله السيد عمر إذا من الله علينا بشيء من ملبوسكم كيف نفعل به، نلبسه أو نخبيه، فقال: إلبس لباس العافية، إن الشيخ عبدالقادر الجيلاني رحمه الله ألبس بعض الناس طاقية، فقال له: إلبس العافية، فبقي مدة لم يتألم بألم، ثم قال له السيد عمر: وإذا تقطعت الثياب كيف نفعل بالدويل من ذلك، فقال: يكسوه المتبركين( )، الثياب الا تكسى ورأى أبويزيد بعض فقرائه يمشي خلفه ويجعل قدمه محل قدم الشيخ، فقال له الشيخ: لو إنك سلخت جلدي وجعلته عليك لم ينفعك ما لم تتبع طريقي في السير إلى الله، ثم قال سيدنا: ونحن ما نعطي الناس إلا على قدر نياتهم، ولا يخيبهم الله إما يعطيهم على نيتهم أو فوقها أو دونها، وأما نحن فلا نرى أنفسنا أهلاً لشيء، ولكن كما قال الشاعر:
يظن الناس بي خيراً وإني ... لشر الناس إن لم يَعْفُ( ) عني
(2/302)

ولكن الناس لا يسلِّمون لك، ولا يَتْبَعُونك على نيتك، وكان عيسى عليه السلام، لما عظمه الناس، فَرَّ منهم، فلما فَرَّ عبدوه، ولو عملنا على ما نرى لأنفسنا لكان في ذلك قطع التبركات، والناس أيضاً ما يُسَلِّمون لك ما تدعي من عدم الأهلية انتهى ما نقلته مما حَفِظَ في هذا المجلس المبارك، وحفظت أنا بعد قوله من عدم الأهلية، وهو كذلك في بعض الأشخاص، حتى إنه ليذم نفسه ويقول: أنا ضعيف مسكين مذنب مخطيء، ونحو ذلك مما فيه هضم نفسه، وفي إظهار التواضع إظهار المنزلة ولو بهتَّه وقلت له يا مخطيء يا كذا مما يصف به نفسه، لأشتد ذلك عليه وضاق به الحال، وإنما نقول نحن كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه: إنما أنا رجل من المسلمين، وذلك لما سأله ابنه الحسن( ) رضي الله عنه: أيما أفضل أنت أو أبوبكر؟، قال: أبوبكر، قال: فعمر، قال: عمر، قال: فقلت: ثم أنت؟، فقال: إنما أنا رجل من المسلمين، ولم أقل له في عثمان خوفاً أن يقول: هو أفضل مني، ثم قيل لسيدنا: عسى ببركتكم تحصل الرحمة للمسلمين، فقال: لن نَعدم خيراً من رب يضحك . كما قال الأعرابي: يا رسول الله أَوَ يضحك ربنا قال( ): نعم، قال: لن نَعدم خيراً من رب يضحك، وهو سبحانه كما أعطى البعض، فهو يعطي الكل انتهى ما قاله نفع الله به في هذا المجلس المنور، وهو ضحى يوم الجمعة في دار البلاد، ثالث شوال سنة 1128، ثم بعد صلاة المغرب مضى سيدنا من الدار إلى الدار التي يريد المبيت فيها فقال للسيد عمر المذكور وهو ماسك بيده: عاد دوعن فيه حياة بظهور أثر العلم فيه وما مات العلم فيه بالكلية مثل وادي عمد، قال: لكن ذلك صورة بلا حقيقة، فقال سيدنا: مجرد صورة أو حقيقة خير من عكسه( )، وإن كان أحدهما لا يُنتفع به دون الآخر، وأين الحقائق اليوم فقد طال بالناس العهد من وقت حقائق الأمور، وإذا كانت الصورة ظاهرة ولو بلا حقيقة، فهو خير من عدم الصورة والحقيقة ،
(2/303)

وقد انقلب الناس اليوم إلى حال آخر، فلو ألقيت إلى أحدهم كلمة أو كلمتين من العلم لم يفرح بهما ولم يتأسف على ما مضى من عمره قبل أن يعرفهما، ولو سألته عنهما بعد يوم أو يومين رأيته قد نسيهما ولا يهمه ذلك، ولو أعطيته أوقية مصفى لكان كم خواطر تخطر له فيها، وكم أمور فعلها، وكم شهوات أخذها، وتَحَفَّظَ عليها غاية الحفظ لئلا تضيع أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: فلان مُهَوِّن( ) ولا فيه نظر، ولكن إن شاء الله فيه تقوى، ومع التهوين وعدم النظر تضيع على الإنسان أشياء أكثر مما تضيع مع عدم التقوى، وأمور الدين والدنيا ما تستقيم إلا بالنظر، وإلا فاتت فكم كرر الله سبحانه من قوله: انظروا انظروا . وتقدم قوله: إن والي الأمر لا بد له من نظر، إن لم يكن نظر دين كان نظر دنيا.
أنظر كلامه في الرفق والتواضع
وقال رضي الله عنه: الوطاء( ) محمود في كل شيء، فإذا عسر عليك أمر فَتَوَطَّ له، وهو معنى حديث: (( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ــ ــ ـ الحديث ))، لأن الإنسان لا يخلو إما أن يكون حجراً أو ماء، وكلاهما ينفع فيه الوطاء، فلا يسيل الماء إلا في الموضع المنخفض، وأنشد هذا البيت :
العلم حرب للفتى المتعالي ... ... كالسيل حرب للمكان المعالي
وذكر رضي الله عنه الزمان ونَقْصَ من لحق عن حال من سبق فقال: إن النور لم يزل يختفي شيئاً فشيئاً، والظلمة لم تزل تظهر شيئاً فشيئاً حتى تقوم الساعة ولا أحد يقول: الله، ولو إن الآتي كالذي قبله لم تقم الساعة( ).
(2/304)

وقال رضي الله عنه: عَزَّ الصدقُ اليوم جداً، حتى لو ذُكِرَ رجل صاحب صدق بارٍ لم يصدَّق لعدم إلف الناس لذلك، إذ لا يصدِّق الإنسان إلا بما يألفه ويفعله، فلو قيل لهم: إن أحداً أُعطي عشرة قروش فردها، أو أخذ حاجته وردَّ الباقي لم يصدقوا، ثم إن الإنسان اليوم ربما تُمنيه نفسه أن لو كان معه مال لفعل به كذا وتصدق، فإذا تمكن لم يصبح من ذلك شيء، وكذا يكون قبل حصوله قانعاً بثوب وقوت يوم، وإذا حصل انبعثت دواعي أخرى، ولكن اللهم ارزقنا ما يكفينا، وامنع عنا ما يطغينا .
قصة الرجل من آل بافضل مع أهله
ثم ذكر: إن رجلاً فقيراً من آل أبي فضل كان مع أهله سالكين ومستريحين بحالهم في بيتهم، وفي جوارهم بعض الأشراف معه مال، فبقي الشريف طول ليله مع أهله في كلام من جهة نفعل كذا ونترك كذا، فلما رأوا من حال بافضل وأهله في الراحة غبطوهم براحتهم، فأعطاه الشريف شيئاً من ماله، وقال له: اتجر فيه ولك الفائدة انتفع بها، ورأس المال لنا، فبقي بافضل مع زوجته طول ليلهم في كلام، يقول: نشتري كذا، وهي تقول: بل نشتري كذا وعلى هذا، ثم إنه تفطن وقال للشريف خذ مالك وأرحنا منه.
أنظر ما قال أيام الخريف
وقلَّ القراء يوماً فسأل رضي الله عنه عنهم وقال: من شأن الخريف التشتت، لأنهم يتقسمون في الوادي وفي البلاد، وهو موسمهم، وأهل مكة موسمهم أيام الحج، فيعطِّلون( ) فيها لاشتغالهم، إذ يحصلون في هذه المدة كفايتهم في كل السنة، وكان من شأن السادة الأولين الإرتحال للتخرف والنَّفَس، كانوا أَوَّلاً يحلون ببيت جبير، إلى وقت الشيخ عبدالله، ثم حلوا قَسَم حتى اجتمع فيها في نخل يسمى بازياد نحو أربعين سجادة، وكانوا يعجبهم التمر بالخصوص لأنهم يعتقدون حِلَّه، فإنهم يَرِثُون النخل عن أجدادهم وأسلافهم، ومن الكلام المنسوب إلى السقاف: من حَصَّل أيام التعطيل، عطل في أيام التحصيل .
(2/305)

وقال رضي الله عنه لرجل: حِلُّو على الشجر والمرعى والنَّفَس وإن لم يكن خريف، فقد كانوا يفعلون ذلك لذلك.
وقال رضي الله عنه: كلٌّ جعل الله فيه نفعاً للآخر، جعل في الرجال نفعاً للنساء، لا يوجد إلا فيهم، وفي النساء منافع للرجال لا توجد إلا فيهن، وشيء يوجد في كُلٍّ، ولو لم يجعل النفع إلا في أحدهما، لتعطل جانب العالَم، وفي ما رأينا من عجائب البلدان أن بلداً كلها نساء ما فيهم رجل، ولا يلدن إلا النساء، وسقط عليهم رجل فأرادوا قتله .
وأرسل لسيدنا رضي الله عنه بعضُ أهل السواحل بشملة، وطلب منه شيئاً من اللباس، فقال نفع الله به: لا عاد تطالبونا إلا بالجزاء الذي لا ينفد، الفاتحة والدعاء، ولو تعلق بنا عشرة أنفس مثلاً كل واحد يأخذ من ثيابنا شيئاً لبقينا بلا ثياب، ومن أراد البركة يكفيه أن يجيب ثوب أو كوفية، نُلْبِسْها له، وقد ذكر الشيخ عبدالله بن شيخ: إن جميع أهل الجهات إذا أرادوا يتباركون بالصالحين، جاءوهم بشيء يعطونهم إياه، إلا أهل حضرموت، فإنهم إذا أرادوا البركة طلبوا منهم أن يعطوهم .
ما قال في مسجد آل أبي علوي وليلة ختمه
(2/306)

وسألته عما يعتقده أهل تريم من أفضلية صلاة الصبح في مسجد باعلوي صبح ليلة ختمه بالخصوص، أي في شهر رمضان دون غيره واجتماعهم له، هل فيه خاصية أو يؤثَر ذلك عن أحد، فقال رضي الله عنه: لا، وما كنا نعرف ذلك، وإنما الذي على تِقْنِنَا( ) إنهم من بعد تمام كُتُب الختم يتفرق الناس كلهم، ولم يبق منهم أحد، إلا من جلس يتهجد، فنمر عليه في مضينا إلى الهجيرة لصلاة الصبح( )، فلا نرى أحداً إلا من جلس للتهجد، ونمر عليه بعد الصلاة فلا نرى أحداً( ) وإن كان فيه بعض الناس، وكان لم يكن شيء من الذكر بعد الختم ولكن لعموم بركة مسجد آل باعلوي، يجتمع الناس فيه، ويرغبون في الإجتماع لذلك، وهذه أمور حدثت، خَفيت فيها المقاصد وظهرت فيها العوائد، قلت: فالمقاصد من قوم، والعوائد من قوم آخرين، قال: نعم، حيث لم يعلموا اليوم ما هو المعتاد في وقت السلف، وحدوث هذا كان في وقت حامد( )، قلت: فصلاة العصر فيه مأثورة، قال: نعم عن بعض السادة لعله الشيخ أحمد باجحدب، وإنها حَبَشَة بلا جِفِلَّة( ) وذلك لفضيلة البقعة والوقت، لكون بقعة المسجد كانت مباحة( ) وبنيت بحلال حتى إن طينه حملوه من أموالهم من بيت جبير، ولاجتماع السادة فيه في هذه الصلاة إجتماعاً لا يكون في غيرها، وفي فضل هذه الصلاة خاصة أيضاً أحاديث واردة صحيحة.
(2/307)

وقال رضي الله عنه لرجل يمازحه( ): نريدك تروح إلى عند السيد علوي بن عبيد الله، تأخذ نحو ثلاث إن تيسرت لك أمورك، وإلا ارجع، ولكن ربما لو جُعْتَ طلبت تمراً أَوَّلاً فإذا حصل طلبت خبزاً، فإذا حصل طلبت له خصاراً ثم لم تحس إلا تحرك عليك شيء، فقلت أريد أهلي، وما هذه حالة المتجرد، كأنكم ما سمعتم بقصة توبة ذي النون، وخروج السُّكرُّجات له من الأرض، ورؤيته القُنبرة العمياء وغير ذلك، إنما حال المتجرد إنه كلما طعن في السن عد نفسه في أصحاب القبور، ثم قال: وكل من وثق بغير الله هلك، ثم الموثوق به إن سكن إلى ذلك واطمأن إليه هلك الآخر أيضاً، ثم بعد ذلك قال: لا ما لفلان عذر إلا نجزم عليه، فإن لم تتيسر له أموره واحتاج أذِنَّا له في الرجوع، وإلا وقع له جاه وحشمة جلس إلا أن تطغى نفسه أو احتاجت رجع.
وقال رضي الله عنه عشية يوم 29 صفر سنة 1124: لا تحب الكافر لأجل المؤمن، ولا تبغض المؤمن لأجل الكافر، لأن ذلك بعيد المناسبة، وكذلك في المنافقين.
وقال له رضي الله عنه رجل: ألبسني، وقد تقدم له منذ أيام إلباس، فقال له: قد ألبسناك مع جماعة منذ أيام، فلا ينبغي لمثل هذه الأمور أن تبتذل لأنها عزيزة، وقد ذُكِر: إنك إذا اعتقدت مثلا إن فلانًا شيخك، ينبغي لك أن لا تأكل معه، ولا تجلس بجنبه، أو على سجادته، وقال له: الله يتولى الصالحين، فإذا أردته يتولاك أو قال يصلحك فأصلح ما بينك وبينه .
وقال رضي الله عنه: ما يتم الأمر إلا بثلاثة أشياء، وهي الأثافي( ) التي يقوم عليها: النية والعلم والعمل، لكن لما كان هذا أمر الدين، فتكون سريراً فتحتاج إلى رابع، وهو الاعتماد على الله .
ما قال في الوفاء
(2/308)

وقال رضي الله عنه لرجل يعاتبه: لو دخلت الخلوة ما بارك الله لك فيها لعدم مشاورتك لأهل المعرفة، فإذا كان أمور الدنيا ولا أخس منها، يستعان عليها بمن يعرفها، فكيف بأمور الدين. والأفعال مع الهوى ليس تحتها طائل، والهوى كالجُفاء لا يبقى، وإنما يبقى الحق، ثم تلا: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً }( ) الآية، وقال: إذا أردتم تعرفون الفرق بينهما فاقرأوا الآية هذه، ثم قال: صادف الهوى أوعية أهل الزمان فارغة فسكن فيها فامتلأت به، ولو كانت ملآنة بالحق لخليت منه، والهوى عبارة عن خلو الإناء، فبقدر ما يمتليء يذهب منه وبقدر ما يفرغ يكون فيه، وقال للرجل المذكور: أتريد أن نراعي فيك حسن الوفاء، ولم تراعه معنا، لا، لا يحمل شجرُ الشوك ثَمَراً، قال ذلك للتعليم والتأديب، ثم قال: لا يطول الرأس في الدنيا والآخرة إلا بحسن الوفاء وكان ذلك عادة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه معه ومع أصحابهم وأقاربهم حتى من الكفار، حتى ذلك الرجل( ) في قصته المشهورة مع سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث قال له: لو لا يدٌ لك عندي لم أكافئك بها لأجبتك. ثم طال كلام سيدنا في الوفاء، حتى ذكر العمودي صاحب شيخه الشيخ محمد بن علوي بحسن الوفاء، حيث اعتكف سنة( ) لا يفارقه إلا وقت الصلاة، قال: ثم وقعت له رؤيا عند قبره، فسافر إلى المدينة، فاجتمعنا به، وطلب منا أن يقرأ علينا في حِكَم أبي مدين، فلما ابتدأ حصل في حلقه شحام( )، فقال: أخاف إن السيد محمد ثقل عليه أن أقرأ عليكم، فقلنا له: لا، إنما نحن والسيد محمد شيء( ) وأماثل السادة شيء واحد، ثم ضرب لذلك مثلاً، فقال: ونحن معهم كالجوابي مفترقات من فوق، وملتقيات من تحت، أي ولو افترقنا في الظاهر، فنحن مجتمعون في الباطن، ثم قال: ولو ذكرنا سيرة هذا العمودي، وسيرة حسين بافضل معنا، لاحتاجت إلى كراريس، وإنما ذكر ذلك نفع الله به ليعرف الملازمون قلة وفائهم معه، ومما ذكر
(2/309)

في شأن العمودي معه أنه طلب أن يفرش له السجادة في صلاة الجمعة وأن يغسل ثيابه كل يوم.
وقال رضي الله عنه: كل نفس تخرج من الدنيا ظمآنة إلا نفس الذاكر، وكل يوم للذاكر عيد، والعيد رضا ربك .
ما قال في التجربة
وقال رضي الله عنه: التجربة قسم من العقل، ولا بعد 22 سنة زيادة في العقل، إنما هي التجربة فقط، وإذا أردت تصحب أحداً أو تخالطه لا عليك من ذلك( )، خصوصاً في هذا الزمان الذي قلَّت فيه الأمانة، ولو لا أن عاد طرفاً من الحياء، لخرجت في هذا الزمان أمور غريبة، وقال سيدنا علي رضي الله عنه: الحزم سوء الظن، أي الحذر والتجربة من غير ما تسيء به ظناً، ولا عاد يسع الإنسان في هذا الزمان إلا الصبر والتحفظ لأنهم ضباع، إذا طرفت لهم أكلوك، وأنشد هذا البيت( ):
ومن يفعل المعروف مع غير أهله ... يجازى كما يجزى مجير أم عامر( )
وقال رضي الله عنه: لا بأس أن يُكثر المريد من المشايخ، إن حصل له من كلٍّ فائدة، وإن اجتمع قلبه على نحو اثنين أو ثلاثة فليعتمد عليهم، ويأخذ الفائدة من الباقين، وإن اجتمع قلبه على واحد ولم يمكنه الانتفاع من غيره، فليلزمه فهو شيخه .
(2/310)

وقال رضي الله عنه: ليس في الإنفاق في الصدقة إسراف، فإن أجحف بعياله فلم يُبقِ لهم شيئاً جاء النهي من حيثية أخرى، ولا تحدث أهل الزمان بالإمساك رأساً، فلعلهم لم يُخرجوا الزكاة، ومنهم من يأخذ مال محتاج بنصف القيمة، فهؤلاء هم أعداء الشريعة، وخل الأعداء الكفار ونحوهم، والأشياء بغت البصائر لا الأبصار، لأن البصائر هي التي تعرف طريق الدين، لا الأبصار، لأن الطريق مظلمة لا يسلكها إلا أهل البصيرة، ومن ليست له بصيرة يقلد صاحب البصيرة، وقد يحصل النور في أثناء الطريق، وطريق الإمامة الخاصة مظلمة، فلا يسلك فيها إلا من سلَّم يده( )، ولا تُحَسِّن لأهل الزمان ما هم فيه، إلا إن كان حسناً فحسنه، والناس درجات، أحدهم يجيء باللطف والرفق، أظن قال وأحد يجيء بالقهر والإكراه، وكنا أردنا أن نجلس للناس على كرسي( )، لكن منعنا منه: أن سلفنا لم يفعلوا ذلك، بل مشوا على المنهاج العدل الذي سلكه أناس قبلهم، والجاهل لا يُحصل شيئاً من أمر الدين والدنيا، وإنما يُسلِّك وقته بالإعجاب .
ووصف رضي الله عنه الطريق، فقال ما معناه: إذا رأى الإنسان الأمر عسيراً استصعبه، كالذي يريد سفراً إلى مكان بعيد، يتأمل إلى ذلك المكان فيستعسره، ثم ذكر رجلاً سار إلى نبي الله هود للزيارة، فلما وصل النصف قال: ماذا بقي من الطريق؟، قيل: النصف، قال: النصف يوصلني إلى بلادي، فرجع وترك الزيارة، وهذا كذلك، لكنك إذا كنت في باب من هذا الأمر فافهمه ولا عليك أن تتأمل فيما وراء ذلك.
ذكر زيارته التربة وابتداء الحضرة
(2/311)

وزار رضي الله عنه التربة ضحى السبت 26 ذي القعدة من سنة 1124 فقال: كنا مرتبين زيارة التربة الا في ليلة الجمعة، لأن في الليل يصفو الوقت للزيارة ويسلم الإنسان من تشويش الناس، كل ساعة يجيئك واحد، وبقينا نزور كذلك حتى فعلنا الذكر في ليلة الجمعة في المحرم أول سنة 1072، فبقينا نزور في أثناء الأسبوع وترتيبنا الزيارة ليلة الثلاثاء بسبب رؤيا رآها بعض الأخيار، وهي: أنه رأى كأن السادة مجتمعين عند الفقيه المقدم، ويقولون ما يكفينا من فلان في الأسبوع زيارة واحدة، والآن لما حصل الضعف نزور على الاتفاق حسب الطاقة، وإن طالت المدة، وإذا زرت إن أمكنني أتم الزيارة وإلا زرت الفقيه وحده، وقده تجتمع عنده أرواحهم، فقلت له: قد كنتم تزورون في الليل، وملازمين الزيارة لا بد منها في الأسبوع. فقال نفع الله به: خل كان، كنا نزور نمشي والمركوب قائم، وما عاد ينفع كان لأن ما كان قد كان، وعلى بالك أن ابن خلكان سمي بذلك، لأنه يقال: إنه من ذرية البرامكة، وكانوا على ما هم عليه فيذكرون الناس أيامهم، ويقولون: كان فلان منهم كذا وكذا، ومنهم فلان كان كذا وكذا، ومنهم فلان كان كذا وكذا، وعلى هذا، فقيل له: خل كان، أي أترك كان، فقلت: هل الزيارة مندوبة في نفسها، أو لأجل التذكر والإتعاظ؟، فقال: لأجل ذلك وللتبرك بمجالسة الصالحين، إذ ورد: إن رجلاً سأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن أفضل الأعمال، فقال: الجلوس بين يدي ولي لله سواء كان حياً أو ميتاً، وورد: من زار قبري فكأنما زارني في حياتي، فقلت: أيكون الميت يرى إن عليه حقاً للزائر ينفعه به في الآخرة، فقال: شيء ضعيف، دون من زار الحي، ولهذا تعجب السائل من قوله عليه السلام حياً أو ميتاً، لأن الحي ترجو منه وصية ودعاء صالحاً، ومثال الزائر كالواقع في السيل، إنما يطلب نجاته بأي ممكن، فإنه يطلب ما يتخلص به منه كان ذلك ما كان، ولو بحبل أو عود ولو ضعيفاً، فلو أضله
(2/312)

الشيطان وسَهَّل( ) عليه أمر الزيارة للميت فلا يكون له شيء من الأسباب التي يود أن يتخلص بها، قال: وكان إبراهيم الجعبري إذا مر بموضع قبره يقول: يا قبير، جاءك دبير. وهو مقبور بمصر، وكان من أهل العراق .
وقال لسيدنا بعض الناس إن في سنة 1072، لمزية على بعض السنين، فيها رتبتم الراتب، وفيها جعلتم الذكر، فقال: نعم .
ما قال حيث يحل الشيخ أحمد بن عيسى وأولاده
وقال رضي الله عنه: من نظر إلى مواطن حيث يحلون السادة الشيخ أحمد بن عيسى وبنوه حيث يكونون في الأطراف تحت الجبال يستدل بهذا إنهم لهم مشمة بطلب دولة ورياسة، ويكون قصدهم إعلاء الحق والأمر بالمعروف، فإن الشيخ أحمد بن عيسى، يُذكر في الكتب إنه حل في الهجرين لارتفاعها وكونها حصينة، واشترى فيها مالاً كثيراً، ثم لما رأوا الماء فيها عزيزاً يؤتَى به إليها من هابَط تَرَكَها وأعطى المال بعض أخدامه، ودخلوا حضرموت في الأطراف منها كما يُرى من قبر الشيخ أحمد بن عيسى في الحسيِّسة وابنه عبيدالله في العرض ببور، وابنه علوي بن عبيدالله في سُمَل، يَعرف به إنهم لم يحلوا في هذه الأماكن إلا لأجل شيء يطلبونه، وكانوا أهل علم وتقوى يحبون أن يتمكنوا من إقامة الحق، وأيضاً خرجوا من البصرة بمال كثير له قدر، وكلما حلوا بمكان لم يطب لهم المقام فيه لكون هذا طبع الجهة هذه، فبقوا في الأطراف، إن حصل لهم ما أرادوه بقوا عليه، وإلا فلا ينالهم في مكانهم أذى ملوك البلاد، ولم يحل في بيت جبير ويسكن تريم إلا آل أحمد بن عيسى [أي أولاد أولاد أولاده].
(2/313)

وقال رضي الله عنه: تريم بلاد آل باعلوي ومسقط رؤسهم، وإنما تفرقوا إلى أماكن أخرى، حلوا فيها عن قريب بعد ذلك، وكانوا تَدَيَّرُوها وحلوها سنة 521، من وقت خالع قسم، هو أول من نزلها، وكانت هي بلدتهم لقضاء حوائجهم، وهم كانوا حالين ببيت جبير، وسمل، وعرض بور، فبنوا في تريم مسجدهم المعروف بمسجد آل باعلوي، وقطعوا من محله شجر سَلَم، وحملوا له الطين من بيت جبير طلباً للحِل، وذلك قبل أن ينزلوها، وكان لهم فيها أيضاً حافات معروفة، فحافة آل جديد حوالي مسجد الحبوظي، وحافة آل بصرى حوالي مسجد بروم، أو بالعكس وحافة آل باعلوي الحوطة، وفيها مسجدهم المذكور، وأما الرضيمة فإنها قديمة، حتى حكي أنهم لحقوا( ) في جبلها صناديق، وفيها قبور آل قحطان .
وقال رضي الله عنه: استكثر من أعمال الخير ما استطعت، وخذ منها ما تطيق المداومة عليه، ولا تحتقر منها شيئاً، فلعل فيها( ) وصولك، وذلك كتهليلة وتسبيحة، واملأ بطن جائع، ولا تحتقر منها شيئاً، فقد رئي الإمام الغزالي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟، فقال: غفر لي، فقيل: بم ذلك؟، قال: بذباب برح على القلم وأنا أكتب، فتركته حتى روي، فإن الخير كله في أمور الخير السهلة، التي لا تراها النفس ولا تعدها شيئاً، وأما التي تراها وتعتد بها، فإنها يتطرق إليها البطلان، إما من جهة الفاعل أو المفعول معه، أو الحاضر بينهما.
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها))، قال: هي دعوة عامة يدعو بها في ما شاء، كأنه قيل له: إسأل ما أردت استجب لك .
(2/314)

وقال رضي الله عنه في قول صاحب العوارف ( إن النفس بكل ما تلقيه من الخواطر، تأمر بالسوء )، واستدل لهذا بقوله تعالى: { يَآأَيُّهَا الَّذينَ ءَآمَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ }( ) الآية، ولو إن الآية تشمل مراد من يريد تزكية النفس، لكن الغالب اعتبار ذلك في النميمة والغِيبة، ولا عبرة بقول فقهاء الزمان، ومثلهم مثل حشرج الدخن، يُدَق كثيراً ويظهر بلا فائدة فيه، وما كان لهم فيه هوى أنكروا له، وإلا سكتوا، فقد حكي: إن فقيهاً قال: إن الشيخ عبدالله [أي العيدروس] جلس رجل يفص له حتى دخل وقت بعض الصلوات، قال للشيخ: قم للصلاة قال: قد صليت، فخرج الرجل فرأى الجماعة قد خرجوا من مسجد الشيخ أبي بكر [أي السكران] مصلين، فقال لهم: من صلى بكم؟، قالوا: صلى بنا الشيخ عبدالله، وهذه وأمثالها تسلم لأولياء الله، ولا يعترض عليهم فيها، لأن عقولهم [أي المعترضين] لا تبلغ أحوالهم [أي أولياء الله ]، ولكن قد يصح له قدم الصلاح [أي فيُسَلَّم له] وإلا كان فتنة ينبغي الإنكار عليه .
وقال رضي الله عنه: صاحب الحقيقة مستغرق فيها، وجميع عمله ومشهوده فيها، وأكمل منه الجامع، يضع الحقيقة موضعها باعتبار، ويضع الشريعة موضعها باعتبار.
وقال رضي الله عنه: كان الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه يعمل في عين الحقيقة، وقل من لا تشغله الشريعة عن الحقيقة ولا تشغله الحقيقة عن الشريعة، ثم ذكر قصة الكيسين الدنانير اللذَين أرسلهما له الخليفة العباسي الذي في وقته، فعصر أحدهما فصب دماً، ورسول الخليفة ينظر، فقال له: قل له: يسلم عليك ويقول لك: أما تستحي ترسل إليَّ بدماء المسلمين، فلولا قرابتك من رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لجعلتهما نهرين يجريان دماً من الزاوية إلى بيتك ثم رُدُّهما عليك .
ما قال في الشيخ عبدالقادر والغزالي
(2/315)

وقال رضي الله عنه: ما رأيت مثل رجلين، أحدهما من أهل الباطن، والآخر من أهل الظاهر، يغبطهما أهل الباطن وأهل الظاهر، وهما الشيخ عبدالقادر والإمام الغزالي، نَسَبوا للشيخ عبدالقادر كتباً فيها أمور منكرة، واعترضوا على الإمام الغزالي وقالوا: لا تجوز مطالعة كتبه، حسداً منهم وعدوانا، وكانا في أماكن متسعة، تحصل فيها المنافسة والمباهاة، ولكن من مات لا عاد تذكره إلا بخير لأمور، أولها: إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قال: لا تذكروا مساويء موتاكم، واذكروا محاسنهم، والثاني: إنه رجع إلى الله، ومجازاته إنما هي عليه سبحانه، وهو كافيه، والثالث: إنك إذا خصصت أحداً بالإعتراض ربما تَجَرَّأَ أحد على الإنكار على أحد من أهل العلم لإنكارك على الأول، بل ينبغي إذا بلغك عن أحد ما تنكر، أن تقول كما قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. وتقدم قوله: اثنان يغار منهما أهل الباطن، ويحسدهما أهل الظاهر، لأنهم إذا طعنوهما بمسلة طَعَنَاهم برمح: الشيخ عبدالقادر والإمام الغزالي .
ما قال في الزائر الخاص
(2/316)

وأتاه يوماً رضي الله عنه بعض الفقراء زائراً، فقال له: قد أمرنا لك عند الخادم بحاجة فاقبضها منه، فقال: أتيتكم زائراً لا لطلب شيء، فقال له: ذاك كذلك فإذا أتيت للزيارة حصل لك النفع الدنيوي، مع ما حصل لك من الزيارة من النفع الأخروي، فقد جاء: إن آدم عليه السلام لما هبط من الجنة إلى الأرض نزل معه بأوراق من شجر الطيب، ولها من الرائحة الطيبة شيء كثير، فأتته الظبية زائرة، فأعطاها من ذلك الورق فظهر عليها ريحه، فلما شم ذلك منها سائر الدواب، جاءوا لآدم فلم يعطهم، لأنها أتته زائرة، وهن أتوه لطلب ذلك، ويشبه هذه الحكاية، ما سمعنا: يذكر إن رجلين أتيا إلى سيدنا الشيخ القطب عبدالله بن أبي بكر العيدروس علوي رضي الله عنه، وأحدهما نيته الزيارة والتبرك بالشيخ، والآخر نيته حصول شيء يأكله، فلما وقفا تحت الباب وكل منها مضمر ما قصده، أمر الشيخ الخادم أن ينزل بما أراده ذلك الرجل، فيعطيه إياه ويصرفه من تحت الباب، وأمر بالآخر فطلع إلى عند الشيخ فأكرمه وحصل له بحسن قصده من الشيخ الإقبال والقبول وأضعاف ما حصل لذلك من مراده، مع ما حصل له من الخير الديني، والمنزلة عند الله بحصولها له عند أولياء الله، فسبحان المتفضل المنان بما يشاء على من يشاء، والحارم لذلك من أراد ممن لم يسبق له ما سبق للآخر، وكل ذلك متوقف على حركة المُضْغة [أي القلب] من حيث صلاحها أو فسادها، وهذا معنى الحكاية، ومثلها ما يحكى عن الشيخ عبدالقادر قدس الله سره والرجلين معه، لما وصلوا إلى الرجل الذي يسمى الغوث، ويحتجب عن الناس ويظهر لهم متى أرادوا، والحكاية مشهورة، وهذا سرُّ حديثِ: الأعمال بالنيات، أو كما قال .
(2/317)

وذكر رضي الله عنه الطلسمات والعزائم والتنجيم وأمثالَها فقال: هذه الأشياء كلها أمور باطلة، ولو صدقت في بعض الأوقات في بعض الأشياء، لأن الباطل قد يشتبه بالحق، فإذا أخلفَتْ في وقت، قال: هذا من الله، إذاً فاتركها إلى الله أولاً وآخراً( )، ولهذا، إذا أتيت المنجم مستعجلاً قال دعني أحسب، وقال بعضهم: إن المنجم ونحوه متجسر على غيب الله، لأنه ينزله من حاله حتى يركبه في الحس، وقد يتعلم الأكابر أشياء من هذا القبيل، فيظن بهم ظان أنهم متدينون بذلك، وليس كذلك، وربما تستروا بشيء من هذه عن إظهار كرامة، والكرامة إنما تكون عند الحاجة، وربما توهم بعضهم عند ظهورها أنه كان قادراً عليها قبل ذلك، وإنما أظهرها حينئذ، وما راح بالناس إلا أهل الإشارات وأهل البدع وأولئك( ) معذورون، وأولئك( ) غير معذورين ولا مأجورين، والناس في طرف البحر، نشغوا( ) بهم في الغبة، وهل قال لك أحد: إنه يمكن أحداً أن يدخل البحر بلا مركب؟ لا يمكن ذلك، حتى لمن يسير على الماء، الغاية إنها حصلت له كرامة في لحظة، وما يدريه لعله يغرق أو كما قال .
ما قال في التعزية
وقال رضي الله عنه لرجل يعزيه في ابن له مات غريباً: إن الله يَمُدُّ له من قبره إلى موضع ولادته، والحمد لله على الوفاة على الإسلام، إن الإنسان أصله التي هي النطفة تمزج بتراب أرض قبره، والأعمار مكتوبة، كل له حد معلوم، ولا يخلو في كل سنة أو شهر من مصيبة، لأنه معرض لها، ومن عمره خمسون من أين لك أن ترده عشرين، ولكن تَذَكَّر الأمور التي تنفس عليك، ودع تذكر الأمور المنكدة، وأكثر ما يتعب الإنسان قوله: لَو، لَو، لأن لَو تفتح عمل الشيطان ولا يحصل منها إلا التعب: { لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا }( ) .
ما قال في الإجتهاد في رمضان
(2/318)

وقال له رضي الله عنه رجل في شهر رمضان: أريد كتاب كذا نطالع فيه، فقال له: إن رمضان شهر عمل، فاترك فيه العلم، يكون( ) في غيره، فإن رمضان لمجرد العبادة، ألا ترى كيف يترك الناس فيه التدريس إلا إن كان بعد العصر تذكيراً للأصحاب إذا جلست معهم، فاجتهد فيه في العمل وتنظيف الباطن، وجعل الله في نهاره الصيام، وفي ليله القيام، فيستعمل فيه ما حصله( ) قبله من العمل، فمن جمع في وقت شيئاً من الأمتعة استعمله وقت الموسم، وكان رجل في وقت السهروردي قال له: أُدخُل الأربعينية لعل الله أن يفتح عليك بشيء، فدخلها فنام ذات ليلة فرأى تحت رأسه ورقة فيها 21 دائرة فخرج فقال: فُتِح عليَّ بهذه، فبعد ساعة دخل عليه رجل بواحد وعشرين دينارا، وأهل الزمان إنما هم على التشبه والرسوم، ومن تشبه ولا معه شيء من الدعاوي الكاذبة فهو على خير، وإلا الأشياء التي تذكر عن الأولين قد طويت، إلا إن كان في الزمان خبايا، ولله تعالى أخلاف ما زال الدين قائماً والبيت قائماً، لا بد منهم ولو أنهم حتى في القفار، أما ترى هنا القرآن يُرفع( )، والدين يُرفع، فهذه من البقايا وإن اختفوا، وما المؤمنون إلا سابق ومسبوق، والمؤمنون على خير، من لقي اللهَ مؤمنا دخل الجنة، أو عليه شيء من الذنوب أدخله الله النار بقدر ذنوبه ليطهره، والناس بالنسبة إلى الله تعالى أهل تقصير كثير، وإن فعلوا ما فعلوا( )، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعترف، فكيف بغيره، وأنت أعبد الله على قدر ما عندك من العلم والنور، واترك الإغترار والتعلق بصالحين قد مضوا( ) كما يفعله كثيرون، فالذي( ) اعتمدوا عليهم، لأي شيء لم يتركوا العمل، والإنسان يَنهى ولا يَنأى، بل إذا نهيتَ وهناك خير إلزمه، إلا من يرد الدين أو يعترض على الدين، فلا تخض فيه بل اتركه، فإنه كالذي يريد أن يرمح، ومن الناس من لا يمكنك أن تجذبه إلى الخير، أو عن الشر، إلا بترغيب
(2/319)

في الرئاسة بأن تقول له: أنت فلان، ومن رآك تفعل هذا سقطت من عينه، وإن لم تفعل كذا استحقرك الناس .
وقال له نفع الله به ذلك الرجل المذكور آنفا: لا ترون علينا فإن السكوت عن هذا أقرب إلى الأدب، فقال: لا بأس بذلك فإنك تحيي المذاكرة، وأنت كالصائد، ونحن ما نحابي، إذا كان المجلس وقت فسحة، ويحسن ذلك تكلمنا، وإلا قلنا له: أترك الكلام إلى وقت آخر.
وقال رضي الله عنه في قولهم: لا يقيم على معلوم: وأين هذا، لا يستقيم إلا المجرِّد( ) لا يعول على أهل ولا مال ولا على أحد.
وذكر رضي الله عنه الصمت فقال: هو محمود إلا إنه لا ينبغي أن يبقى الصامت بلا ذكر وفكر .
ما قال في عيد الأضحى
وقال رضي الله عنه ضحى يوم الإثنين سادس ذي الحجة سنة 1124: مع الناس شغل العيد( )، لأن هذه العيد مشهورة في الجهة حتى سموها: الدُّهمة، لا تبقي ولا تذر، ويتكلفون فيها كثيراً، حتى قالت العامة: راحت العيد بزينها وبقي همها ودَينها وهي أشهر من عيد الفطر بكثير، مع إنها في مكة لا تعرف، لأنهم في هذه الأيام يكونون مشغولين بأمر الحج والبيع والشراء، فقال بعض الحاضرين: قد ينفق الرجل منهم إذا حج ثلاثمائة قرش، فقال سيدنا: لأنهم يتكلفون إذا حجوا أشياء، ولأجل ذلك قد يشيب الرجل منهم ولا يحج، لاستثقاله من تلك العوائد التي يعتادونها في حجهم، فقال الرجل: يشبه هذا عندنا أيام المحلة حيث يتكلفون فيها، فقال رضي الله عنه: وكل هذه أوزار يحملونها على ظهورهم، ما في الكُلَف إلا كَلَف .
ما قال في عقيدة أهل الجهة
وقال رضي الله عنه: أهل الزمان حُسْنُ ظنهم في الأموات أحسن منه في الأحياء لعظم حجاب البشرية فيهم .
(2/320)

وقال له رضي الله عنه رجل: متع الله بحياتكم، فقال: ما عاد نرغب في الحياة في هذا الزمان، لأنه زمن إدبار، وإذا بقي في حضرموت واحدٌ أو اثنان يعلمون الناس ظاهرين، فيهم كفاية، ولو إن رجلا( ) خُيِّرَ بين المغفرة وبين مائة قرش، لاختار الدراهم على المغفرة لفرط غفلتهم عن الدين ورغبتهم في الدنيا، ولو قيل: كل من طلب العلم فهو جبري( )، لرأيتهم يتبادرون اليه( )، ولو كان في الدول نظر وأدنى رغبة في الدين لحصلوا( ) أمور الدين، لأن معهم منهم بعض رهبة، فلو قالوا( ): من صلَّى أو من فعل كذا من أمور الدين خُفِّف عليه مما يؤخذ منه لفعلوا، ولكنهم ما يهمهم إلا ظلمهم من غير حق، ووضعه في غير مستحق كما قال فلان: إنهم طلبوا الزكاة وبالغوا كأخذ عمر بن الخطاب، وفرقوها كتفريق الحَجاج .
وسأل رضي الله عنه رجلاً عن سِنِّهِ فقال الرجل: كذا وكذا، فقال رضي الله عنه: بعض الرجال الخُرَّق إذا قيل له: كم سنك؟، ربما يذكر دون ذلك، ويحب أن يكون ما مضى من عمره قليلا، ويظن أنه إذا كان كذلك أنه بقي له عمر طويل، وإن مضى كثير من عمره، فهو الى الموت أقرب، وإن كان يعلم أن الموت يأخذ الصغار والكبار، يتسلى بذلك، وهذا من الشك النافع، الذى هو رحمة للإنسان، فقد يكون الشك خيرا من العلم في أشياء مثل هذا، والعلم خيرا من الشك في أشياء، وفي الشك في مثل هذا تسلية وراحة.
ما قال في اعتياد النفس
(2/321)

وذكر رضي الله عنه اعتياد النفس للأعمال فقال: هذا عام في الخير والشر، فينبغي أن يعَوِّدها الخير مع المشقة حتى تعتاد فيسهل بعد ذلك، وربما يكون بحيث لا يصبر عنه، ويعَوِّدها ترك الشر مع المشقة حتى تعتاد تركه حتى تشمئز عنه، مثاله: رجل يكره أن يجلس في مجلس قوم يكره مجالستهم، فإذا جلس أول مرة مع الاستثقال، فلا يزال يسهل عليه حتى لا يصبر عنه، وكذا في الرجل ينقر الصلاة نقراً، فإذا تكلف الطمأنينة مرة فمرة، بحيث لا عاد يصلي إلا بطمأنينة، وبالعكس لو كان يطمئن فنقرها مرة، ثم لم يزل كذلك حتى لا يبالي بأن يصلي صلاة باطلة، وعلى هذا، وليس ذلك لكل أحد فإنما هو بالنصيب.
ما قال في البَرْد وما يليق له
وذكر رضي الله عنه البرد فقال: في البرد تعريف ومنافع أخرى ما لم يَجُر، فإن جار فهو كالخراب، وله ثورات( ) حتى يضرب به المثل، فيقال: فلان كالبرد إن لم يثر في أوله ثار في آخره، وشدته في ستة نجوم الثريا وما بعدها، ثم ذكر الطبائع وما يليق بكل وقت من الأكل وقال: إن العسل في الربيع أحسن منه في غيره( )، فإذا عرف الإنسان العلوم وقواعدها ومظانها أمكنه الاستنباط، وإذا تفكَّرْتَ في كل علم رأيت إنما أصله من ثلاثة أقسام ونحوها، كقوله عليه السلام: (( بني الإسلام على خمس )) وإنما تفرع الباقي من ذلك، حتى ذكر علم الحَرْف وطبائعها فقال: هو علم جليل، ولا يتمكن منه إلا من هو من أهل الولاية .
وذكر رضي الله عنه أناسا إنهم يتعنتون في شيء من الألفاظ، فذم التعنت كثيرا ثم قال: ولا يخلو كل أحد من أجر على قدر نيته، إن كان له في ذلك نية، وإنما الآثم الخاسر من كل وجه من لا له مقصد إلا الكِبْر والعُجُب .
وقال رضي الله عنه في قولهم: ( بأن لا يعتقد أن الصالحين معصومون، بل قد يقع منهم الزلة والهفوة )، قال: أي على سبيل القلة والندور، وإلا صاروا كالعامة والفساق .
(2/322)

ما قال في حديث سيدتنا فاطمة رضي الله عنها
حين أتته عليه السلام بالكسرة من الخبز
وقال رضي الله عنه: ما جاء في الحديث: (( إن فاطمة رضي الله عنها أتته عليه السلام بكسرة خبز وقالت: خَبَزْتُ خبزاً فما طابت نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال عليه السلام: أما إنه أول طعام دخل فم أبيكِ منذ ثلاث )): إنه عليه السلام كان يتنقل في بيوته التسعة كل ليلة في بيت ويخرج أيضاً إلى خارج المدينة ويصوم ويجوع ولا يعلمون به، وكل موضع يجيئه يظنونه قد أكل في الموضع الآخر، حتى إنهم طلبوا يوماً معرفة كونه صائماً أم لا، فأطعموه فأكل فعرفوا أنه مفطر، ثم تكلم سيدنا في الجوع فقال: ينبغي أن يُنقِص كل ليلة لقمة، حتى يصل إلى حد لا يتغير عليه عقله فيه فيلزمه، وأقوام يدخلون الخلوة على غير هذه المقاصد بل يقصدون أموراً أخرى، فلهذا تتغير عقولهم، لأنهم إذا أشتد عليهم الجوع قد يسمعون أصواتاً وأشياء فيفزعون ويتغيرون منها، ولو أخذوها بشروطها وحقوقها لما حل بهم ما حل .
وقال رضي الله عنه: إذا بقي العُود فالخير يعود، وإن راح فكل شيء إنما هو للفناء، ولكن إنما هي مقدمات، الأول فالأول .
وتكلم نفع الله به في شدة ما في الناس من الطمع، ثم قال: راحت عقولهم وقلوبهم أخَذَها الخوف( ) والطمع.
(2/323)

وطلع رضي الله عنه البلاد يوم سابع عشر رجب سنة 1132 مدعوا عند ابن أخيه السيد عمر بن علي الحداد، لما فعل دعوة لختم ولده أحمد حين ختم القرآن، وكان هذا مجلسا حافلا وتقدم ما تكلم به في هذا المجلس لما ذكر تشوقه إلى الحج، وأمر بإنشاد قصيدته (قل لأحبابنا بسوح المقام) لما كان فيها ترحيل منازل سفر الحج، وبعد الفراغ والبخور خرجوا، وبقي سيدنا يسلم عليه أهل البيت، ثم خرج إلى داره التي في البلد وقال فيها( )، ثم خرج لصلاة الظهر في مسجد باعلوي، وبعدها أنشد المنشدون وأدير البخور والقهوة، ثم جاء الخاتم ومعلمه والمتعلمون، وقرأ الخاتم ما يعتاد قراءته، ثم قرأ المعلم ما يعتاد أيضا ثم دعا سيدنا بالحاضرين فلما ختم الدعاء عادوا للنشيد والبخور والقهوة إلى أن صلوا العصر، وكان ذلك جمعا عظيما حافلا، ولم يكن هناك كلام ينقل، غير إنه قال: لم نحضر لختم فيه قبل هذا، وبعد صلاة العصر أمر السيد أحمد بن زين الحبشي أن يقرأ على قراءته في شرح السنة للإمام البغوي، فقرأ إلى نحو وقت قيام سيدنا من مجلس القراءة المعتاد كل يوم بعد العصر، ثم قرأ الفاتحة وصافحوه وتفرقوا.
( ذكر ابتداء مرض وفاته نفع الله به )
(2/324)

ولم يزل سيدنا رضي الله عنه مواظبا على عوائده كلها، من حضور الصلوات وترتيب الأوراد ومجالس القراءات في البكر والعشيات إلى عشية يوم الخميس 27 من شهر رمضان سنة 1132، وقد حصل معه بعض الألم، وكان ذلك يعاوده ويعتاده وسيأتي ذكره من لفظه هو، فما خرج لصلاة عصر ذلك الخميس المذكور، ولا للقراءة بل أمرهم أن يقرأوا على عادتهم في حضوره، وهو عند الخلفة من الغيلة يسمع قراءتهم وكان قراءتي في "إرشاد" اليافعي ووقفي على قصيدة اليافعي فيه، التي أولها (قفا حدثاني فالفؤاد عليل)، فقرأتها فقط ولم أزد عليها، وبعد إنقضا القراءة قال نفع الله به: ما قرأتَ كثيراً، قلت: اكتفيت بالقصيدة وحدها لعدم حضوركم المعتاد، ثم خرج لصلاة العشاء ليلة الجمعة وتراويحها، ودخل بعد أن ابتدأوا في الذكر، ولا خرج لصلاة الجمعة، بل لما كان وقت طلوعه إلى البلاد لأجلها قال لي: إطلع ما بايقع لنا طلوع لأنه أشغلنا احتباس راقة، الظاهر، ولا أرى لذلك سببا هل هو من يُبس أو غيره، وقد يحصل لي ذلك لكن في وقت يسير ويزول وفي هذه المدة( ) طال قليلا( )، ولا أستر للإنسان من العافية، وقد قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( ولكن عافيتك هي أوسع لي )) . وخشيت من طول الجلوس يحصل بسببه ألم، ولكن كما قال الشافعي، ولا ذكره، فادعوا لنا بالعافية، ومضى أولاده لصلاة الجمعة وجلسوا بعدها في الدار مجلسه المعتاد مع قراءة القرآن على عادته في رمضان نحو جزءين، ثم خرجوا وصلوا العصر بالحاوي، ولا خرج لها وقرأوا بأمره على العادة في الكتب المعتادة في شهر رمضان، وقرأت القصيدة التي أولها: (مَن بَانَ عن ربع من نهواه والطلل ) وهو يستمع كالأمس، وخرج لصلاة العشاء ثم بعدها وبعد صلاة السنة أشار اليهم لصلاة التراويح بالتنحنح وهذه عادته كل ليلة، ثم دخل وهذه الليلة أعني ليلة( ) 29 رمضان هي ليلة ختم مصلى الحاوي وما ترك الحضور وهو يمكنه، وبعد صلاة عصر يوم الأحد سلخ رمضان
(2/325)

دعاني وطلعت عنده في الغيلة، فصافحته وقبلت يده الشريفة، وهو مضطجع على سريره ويده حارة كالمحموم، وسألني: كيف أنت؟، وتحادثت معه ساعة، وسأل عن قراءتي ووقفي وأي باب انتهيت اليه من "الإرشاد"، وسأل عن الباب الأخير الطويل في "الترغيب والترهيب" وقال: تأخر تمامه، وظنناه يتم قبل هذه المدة، ثم قال: امض احضر القراءة وكانوا إذ ذاك في حال القراءة، وهم يقرأون في المصلى على عادتهم يوم كان يحضر في شهر رمضان وفي ست شوال، وفرغت من القراءة آخر يوم من الست، ولسؤاله وكلامه هذا نفع الله به معنى عجيب يفهمه الفطن الحاذق اللبيب، ولهذا دعاني اليه في مجلس القراءة، ولا خرج رضي الله عنه لصلاة عشاء ليلة العيد وهي ليلة الإثنين ولا لصلاة العيد وأشار إلى أولاده الكرام بشهودها، وتخلفت عنها لتخلفه، وخف عنه ذلك اليوم ما يجد من سبب الراقة، ثم عرض له وجع آخر في الجنب وسألت سيدي ابنه الحبيب حسن هل به حمى قال: لا إنما يده حارة فقط، وقد يكون ذلك، وكنا مجربينه إذا مشى أو ركب أو نزل من المركوب أحس يده حارة .
(2/326)

وجاء اليه رضي الله عنه ضحى يوم العيد السيد زين العابدين وأخوه السيد شيخ معاودين وعائدين، فجلس لهما مجلسا فسيحا وكنت حاضرا ذلك المجلس المنور، فقال لهما: سبب ذلك بعد تقدير الله فيما ظهر لي: التقصير في بعض الأمور كالتأديب( )، وذلك إني خرجت إلى السادة آل فقيه( ) ليلة الأربعاء سادس عشرين من شهر رمضان، وقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يترك أمور الدنيا في هذه الأيام، يعني العشر الأواخر. وكان صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يعتكف فيها، ولا يبيت فيها عند أحد من نسائه كعادته، لكن فعلنا ذلك استمراراً على إجراء الحقوق والإقامة بالجبر من غير داعية لشيء ولا عاد معي طلب لشيء، ولو كان مع الاقامة بذلك استعمال( ) قال هذه الكلمة مزحاً وتبسطاً معهما، وقد خرجت ليلة ختم الحاوي وصليت العشاء والركعتين بعدها، لكن مع الحرقة الحاصلة أحس معي لاكز في الكلوة فما أمكنني المقام وأنا عازم إن تنشطت رجعت، ولكن ما ينبغي أن يكلف الجسم عمل الهمة، وقد قالوا: همة العاقل أقوى من جسمه، وجسم الجاهل أقوى من همته، وتقدم قوله: القوى ضعفت، فلا يمكنها تساعد الإنسان على ما يريد، فربما نهم بالأمر لا تساعدنا عليه القوى، فالهمة قوية، والقوى ضعيفة والروح أقوى من الجسم، وإذا قوي الروح حصل للجسم قوة( )، وإذا حصل على الروح ما يوجب الإنقباض انهدم الجسم، واللاكز قد يحصل، لكن أداويه بالزباد وغيره، فيصح ولا يحس به أحد، وهذا فيه زيادة على ذلك، ولكن الحمد لله حيث العافية حاصلة ولا شي زيادة، وقد رأى العيال في بعض كتب الطب عندهم: إنها علة خفيفة وقد كنت حكيت لكم بالرؤيا التي رأيت فيها السيد علي بن عبدالله وهي إني رأيت كأني وردت عليه وهو في مجلس مستطيل، وهو في طرفه الشرقي وأنا في القبلي، وبيني وبينه مسافة، وكأنا جئنا لسبب يوجب الإجتماع كالعزأ ونحوه ومعنا من الصغار كثير جاءوا في جُرتنا( )، وقد كنت قبل وفاته أظن أني وإياه متقاربين في الوفاة، فلما رأيت
(2/327)

ما بيني وبينه من المسافة في المجلس، قلت: هذا يكون مسافة مدة ما بيننا وبينه في الوفاة، وقد تقدم ذكر هذه الرؤيا بأبسط من هذا عند ذكره للسيد علي المذكور، وكان مدة ما بين وفاته ووفاة السيد علي سنة ونحو 19 يوما ثم قال: والحمد لله وقد ذكرنا لكم من المعمرين من آل باعلوي كالسيد عمر بن أحمد عاش 95 سنة وعَدَّدَ جماعة آخرين عمروا، وذكر عمر كل واحد منهم .
أقول: وذكره لهذه الرؤيا والمعمرين من السادة يشير إلى إنه يتوفى من هذا المرض، وأكثر إشاراته رضي الله عنه إلى وفاته كانت منه سنة 1128 كما قدمنا ذكرها فلا نعيده، وذلك لغُزْرِ قَعْرِ بحر علمه وكتمه الأسرار وستره للمغيبات وحفظه الشئون الإلهية، وقد ذكر لي ابنه الحبيب الحسين رحمه الله غير مرة قال: مَرِض الوالد فيما سبق أيام صغري مرضا شديداً أشفقنا عليه، فكنت يوما والكريمة بهية رحمها الله جالسَين عنده إذ قال: كان السيد عمر بن أحمد مَرِض مرضاً شديداً خيف عليه منه، وكان ذات يوم عنده ابن وبنت له يحبهما كثيرا، فجعلا يدعوان له ويقولان: اللهم زد في عمره من أعمارنا، اللهم زد في عمره من أعمارنا، ويكرران ذلك كثيراً، فصح من ذلك المرض، وعاش عمراً طويلاً، وكان يرى أن ذلك زيد له من عمريهما، قال: وأملى عليَّ الوالد قصيدته ( يا رحمة الله زوري) حين أنشأها في مرض فقال عند ختمها: ( يا رب واختم بخير، إذ حان حين المسير) فتعبنا من ذلك، ولكن بَعْدُ مَنَّ الله عليه بالعافية فأصلحها (إن حان حين المسير) وقال له السيد زين العابدين: ما الذي يناسبكم من الزاد، فذكر سيدنا ما يناسبه حينئذ، وذلك قبل أن يشتد عليه الألم كثيرا، فقال: يناسبني الرطب كثيرا، حتى إني لم أدَع كل ليلة عند العَشاء من أخذ حبتين أو ثلاث، وكان الوقت ذلك الحين وقت الرطب فقال له السيد زين: أيناسبكم التين، فقال: لا، لأنه حار، وأرى الصغار يتولعون به، فأعطيهم إياه، وإلا
(2/328)

ففيه عندنا هذه السنة كثرة، ثم أمر بالقهوة وبعدها البخور، وبعده قرأ الفاتحة ودعا بدعاء كثير.
أنظر إلى هذا الدعاء الجامع
ومما دعا به: اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا، اللهم متعنا بالعافية، ومُنَّ علينا بدوام العافية، اللهم إنا نستحفظك ونستودعك أدياننا وأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأصحابنا وجميع من معنا وما معنا، اللهم اجعلنا وإياهم أجمعين في حفظك وكنفك وأمانك وجوارك، اللهم أصلح أمور المسلمين، اللهم ارحم المسلمين واسقهم الغيث والرحمة برحمتك ياأرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين، ثم بقي الناس يتحرون أوقات الدخول عليه نفع الله به، ويطلبون ذلك، وهو يعتذر سيما والوقت وقت معاودة وعيادة حتى وعدهم عشية الأربعاء ثالث شوال بعد صلاة العصر فاجتمعوا لذلك ثم أُعْلِمَ بهم، فأذن لهم في الدخول عليه، وكان غالب كلامه في ذلك المجلس في شبه كلام أهل الحقائق، فأول من صافحه بعض الشيبان من السادة فقال له: الله الله في الدعاء بالعافية واللطف، وفعلُ الله كله فضل وعدل، وما جاء من الله للعبد يكون على قدره تعالى لا على قدر العبد، فينبغي أن يتنبه لذلك من كل الوجوه أو من بعضها، وما نحن إلا من جهة الرحمة بكم والشفقة عليكم، وهذا ونحوه كلامه إلى أن فرغ منه، ثم أمر بماء ورد فأدير به عليهم، ثم قرأ الفاتحة ودعا: اللهم اقسم لنا من خشيتك الدعاء المشهور، حتى بلغ ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يخشاك ولا يرحمنا، اللهم أصلح أمورنا وأمور المسلمين، واسقنا الغيث والرحمة وول علينا خيارنا، واصرف عنا شرارنا، ثم ختم الدعاء، وكلما صافحه إنسان مستخلفا بعد المجلس سأله من هو، فإذا قال: فلان، دعا له بخشوع ورحمة
(2/329)

وتحنن، حتى صافحه آخرهم رجل فأوصاه بمال رجل من أقاربه قد مات وبما يتعلق به، فكأنه أستثقل أن يتعرض فيه، وقال عسى أن يكون فلان لرجل آخر قريب له، ولكنه قد قلنا له فاعتذر، فقال سيدنا: إنما هو قضى حاجة، ما في ذلك من طمع، والكلام ما ينفع في ذلك، ما المطلوب إلا العمل والنصيحة، وما ذكر الله القول مجردًا، ولا على مجرد القول عمل عند الأكابر، ومن كان مراده الا الأكل والإستيلاء ولو على مال يتيم بالظلم فلا تَعُدَّه شيئاً، وقد أوحى الله إلى بعض الأنبياء، وأظنه داود عليه السلام: أن حَبِّبْ إلي عبادي، فقال: كيف أحببهم اليك؟، قال: تُذَكِّرُهم نعمائي، ثم انقضى هذا المجلس .
ودخل عليه رضي الله عنه السيد زين العابدين وقت الإصفرار يوم الجمعة خامس شوال، فجلس مستندا إلى الجدار مستقبل القبلة في الطرف النجدي من الغيلة متوشحا بشَمَط وليس من عادته لبسه إلا تلك الساعة، فكلمه وأنسه وأَثَرُ العافية باد عليه، فقال نفع الله به: ما أظن بي إلا حرارة وأوصيناهم يدورون لنا كِرْزَام( )، لأنه في غاية من البرودة . وقد قطعوا نخلة لأجل ذلك فعله بعض الخلفاء .
أقول: هو هارون الرشيد لما أصابته الحرارة في بعض أسفاره، وقد مر على نخلتي حلوان اللتين يضرب بهما المثل في طولهما وطول الصحبة وفي إتحادهما، فقطعت إحداهما وأطعم كِرْزَامها، فما لبثت الأخرى بعدها أن ماتت، وللعرب فيهما أبيات كثيرة من الشعر في أمثلة تضرب في طول صحبتهما، والتعجب من موت الأخرى بعد صاحبتها، وكانتا من غرس الأكاسرة .
(2/330)

ثم بقي السيد زين إلى أن غربت الشمس، ثم قرأ سيدنا الفاتحة وبعدها سورة لإيلاف قريش والكوثر والإخلاص، ثم دعا اللهم اقسم لنا إلخ إلى أن قال: ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك وكررها ثلاثا، اللهم أصلح لنا أمورنا، وأصلح لنا قلوبنا وأجسادنا، اللهم طهِّر منا باطن الروح وظاهر الجسد، وحِطْنَا من جميع الآفات ونجنا من الأهواء والتبعات، وجُد علينا بفضلك وقربك، واجعلنا من خالص أهل المحبة من حزبك، ثم ختم وقام السيد زين، ولما صافحته قائما قال: بارك الله فيك ووفقك لطاعته، وجعلك من عباده الصالحين . وأرجو أن يستجيب الله دعاءه هذا وغيره، لأن دعاءه نفع الله به مقبول عنده، والله سبحانه لا يخيب من رجاه، وكل يوم بعد ذلك يجتمعون بعد صلاة العصر ويطلبون عليه طريقا فوعدهم نفع الله به عشية الاثنين ثامن شوال، فحشدوا واستثقل من كثرتهم، وأراد أن يعتذر منهم، ثم أمر بدخولهم وهو متكلف لهم فدخلوا وصافحوه وكلم كل واحد بكلام يخصه، ولكنه بقي مضطجعا فوق السرير، ومكثوا عنده قليلا وأمر أن يُنشَد بقصيدة مختصرة، ثم بعدها قرأ الفاتحة وقال: قولوا لهم بالقلوب، أي بلا مصافحة، فخرجوا من غير مصافحة ودعا للجميع وطلب منهم الدعاء كما هي عادته وصافحته أنا وحدي فقط، فقال: كيف أنت، بخير؟، وكلما اتفقت به في هذه الأيام في شكواه هذه قال لي هذه الكلمة، ودخلت عليه رضي الله عنه ضحى يوم الجمعة 12 شوال، وهو في السطح الشرقي وعنده السيد زين العابدين، فبقى يتكلم ساعة ويهون مرضه هذا كثيرا بالنسبة إلى مرضه الأول، فقال: أين مرضنا الذي عام العام، أي عام 1130 من هذا، ذاك حمى مطبقة، وهذا إنما اشتد بسبب الإنحسام، ونحو هذا الكلام .
(2/331)

ثم قال له الأولاد: عسى نقوم مع السيد زين نتقهوى في الغيلة، فقال: مليح وعاد شيء غير القهوة، قالوا: بعدها يعلم الله ما يكون، فقال نفع الله به: إن كان شيء غيرها هاتوا قسمي إلى هنا، وإن قل، فإنا نتبارك بكم أكثر مما تتباركون بنا، فعندما قال هذه الكلمة، أخذت السيد زين العبرة فبكى وخشع كل من سمعها، فرضي الله عنه ما أحسن أخلاقه، وأطيب معاشرته ومحادثته، وما أعرفه بربه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم قرأ الفاتحة ودعا وخرجوا إلى المكان المذكور. ودخل عليه رضي الله عنه هذا اليوم جماعة من السادة فرادى ومجتمعين، كالسيد سقاف بن عبدالله استأذن وحده فأذن له بالدخول، ولم أعلم له زيارة لسيدنا قبلها، وقد أرسل مرة فيما سبق، هو والسيد محمد بن سقاف العيدروس، أرسلا يستأذنان سيدنا في زيارته، فلم يأذن لهما إستنكارا لمجيئهما الآن مع عدم إعتيادهما للزيارة من قبل، فأذن للسيد سقاف في هذه المرة لكونه مستودعا وداع آخرة، وأعطاه قميصا وجعل يوصيه: الله الله في التوالي مع إخوانك العيال: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى }( ) ومثل ذلك ثم قرأ الفاتحة واستودع منه وخرج .
(2/332)

وعشية هذا اليوم كنت أجني رطباً من النخلة العشدلية، التي هي مقابلة الخلفة النجدية من الغيلة، فلما أحس بي، ناداني ثلاث مرات، بحَنانةٍ وشفقة: يا حاج وكانت هذه مناداته لي فلبيته، فقال: ذا مَن عليك يا حاج، قلت ما عَلي من أحد، وبقي يقول في نفسه وأنا أسمع: يا حويِّج مَن ذا عليك، يا حويِّج مَن ذا عليك يا حويِّج مَن ذا عليك، ثلاثاً، فعرفت من هذا إنه يترثى لي من أمور ستعرض لي، والله المستعان، وما رأيتها إلا بعد فراقه، من أمور لا تحكى، في حضرموت وفي الحساء، لو أخبرت بها الناس لعجبوا، وعلموا أن مصادمتي لها من باهر كراماته وخوارق عاداته رضي الله عنه، حتى إني بحضرموت لم أطق أرى موضعا كنت آلف منه الجلوس فيه، أو كنت أمر معه به، وأود الفرار منه بسرعة .
فهذه مقدمة لبعض الشؤون، وأما في الحساء فأمور كثيرة رأيتها من إشاراته رضي الله عنه ونفع به .
وعشية يوم ثامن عشر شوال كثروا العُوَّاد وتجمعوا واشتد طمعهم في الدخول عليه، فأرسل اليهم وقال: أما أنا فلست متكلفا لأجلكم الجلوس، ولا أريدكم تدخلون علي وأنا مضطجع، فادعوا لي وأنا أدعو لكم، وأعذَرَهم فانصرفوا، ومرة قبلها قال: قل لهم في مثل هذا الحال: أتركوني أنا وربي، ولا تكلفوني شططاً( ) وأنتم إلا في الخاطر، وأنا داعي لكم فادعو لي .
(2/333)

ثم عشية الجمعة 19 شوال تجمعوا وأرادوا الدخول عليه، ورجوا أن يأذن لهم، ووافق أن جاء السيد زين العابدين وهم مجتمعون، فأذن له ولهم معه، فدخلوا وازدحموا، فصافحه من جملتهم رجل كان يُرقي من العين، فقال له: الله الله في الهمة، وعمدة العمل على الهمة، وهمة أهل هذا الزمان في أسباب المعاش ولهذا يغبطون من معه منها شيء، ويعظمون أمره، وهذه الأسباب لا تذكر، فذكر له السيد زين إنه أصابته قبل هذا بيومين عين، وذلك إنه جلس عنده رجلان معروفان بالعيانة، فوسوس منهما، فلما قام إلتَوَتْ رجلاه حتى لم يطق القيام إلا بشدة بعد مدة وبقي متألما من رجليه زمنا طويلا، فأوصاه سيدنا بالحذر والإحتراز من العين، وقال له: إن الناس ماعادهم إلا كالخلقان بالنسبة إلى الجديد الصحيح لِمَا هم عليه من الإستكثار والحسد، فلا شيء أخس من العين، وقد كانوا في وقت الإمام الغزالي لَمَّا أصابه ذلك العارض الذي عرض له حتى بقي لا يقدر على الكلام قالوا: إنما هذه عين أصابت الأمة، وسأله السيد زين عن نومه إذ ذاك فقال: هو أكثر من أيام الصحة، ثم أمر بإدارة ماء ورد، ثم قرأ الفاتحة ودعا كعادته ثم خرجوا من غير مصافحة إلا السيد علي بن حامد، فقال له: يباسطه يا علي، يا علي أدع لي، والقهوة عَلَي، ثم إنه في الغد أرسل له نصف قرش، ولكريمته مثل ذلك، ثم صافحته وقال لي: أحمد، قلت: لبيك، وما أعلم أنه ناداني كذلك، إلا هذه المرة( ) فقال: الله الله في الدعاء، قلت قد دعوت لكم اليوم بالعافية عند الفقيه المقدم، فقال نعم أدع عنده، ويوم السبت حصل له رضي الله عنه ورم في البطن وورمة مثل البيضة، تحت السرة اشتغلوا منه جداً، وبعد صلاة صبح يوم الأربعاء فاتحة أو ثاني يوم من ذي القعدة، وصل الشيخ عمر بن عبدالقادر العمودي زائرا وعائدا له في نحو عشرة من أصحابه، وليس له عادة قط يجيء في مثل هذا الوقت، إنما جاء لهذا السبب، فلما جاء
(2/334)

مكث يومين لا يؤذن له في الدخول، ثم بعدهما قال سيدنا: أين الشيخ عمر، مرتين أو ثلاثا وليلة هذا الأربعاء المذكور رأى أحد من أهل البيت كأنها تخاطب أخرى، فإذا رجل قد صعد السطح، فقالت صاحبة الرؤيا من هذا قالت الأخرى هذا سرور طلع إلى عند حبيبه، فأُعلم بالرؤيا فأستَرَّ بها، ويوم هذا الأربعاء فَشَّ ورم البطن لكن حصل له بُحَّة في الحلق وانقطاع في الصوت فشق عليه لذلك الكلامُ .
وقد حصل مثل ذلك للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في مرض موته، وفي ذلك إشارة إلى أنه لما كان شديد المتابعة له عليه السلام في حياته، وأوقات صحته، في كل حالاته الإختيارية من عباداته وعاداته أجرى الله عليه مثل ما أجرى عليه عند وفاته، مما ليس له فيه اختيار، تتميما للمشابهة والإتحاد والإنتساب رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين، وبعد صلاة عصر يوم الخميس دعا سيدُنا الشيخَ عمر المذكور، فدخل وصافحه وقبَّل يده، فقال له سيدنا: مرحبا بالعمودي، مرحبا بالعمودي، مرحبا بالعمودي، ثلاثا، ثم إنه أراد أن يتمسح بسيدنا، فقال له: تمسح، خلوه يتمسح، ففعل ثم قرأ الفاتحة ورفع يديه بالدعاء، ثم قال خلوا العمودي يتوطأ، وعاده يعود، فنزل من عنده .
(2/335)

ومنذ أصابته رضي الله عنه البُحة، لا قوت له إلا نحو مُجِّين أو ثلاثة رائباً لا غير، وفي هذين اليومين الأربعاء والخميس بل والجمعة، ما تناول شيئا قط، وزاد عليه الأمر ليلة الجمعة ويومها إلى الغاية حتى بقي الناس في غاية من التعب عليه، فلما كان وقت العصر من يوم الجمعة خف عنه بعض ما يجد من البحة، ولكن ما أكل شيئاً إلا ضحى يوم السبت نحو ثلاثة أمجاج رائب ولم يذق بعد ذلك شيئا إلى أن توفي، بل مدة مرضه ذلك كله، ما يأخذ شيئاً إلا إن كان قدر العُلْقة من الزاد، وكذلك الشراب، وأخبرني سيدي الحبيب إبنه الحسن، وكان هو الذي لازمه وخدمه في مرضه ذلك، وحَظي به من بين الأولاد، إنه أعني سيدنا ليلة هذا السبت خامس ذي القعدة أخذ ساعة يذكر فقيره ومحبه، ويقول: أين الحساوي، أجاء الحساوي، نبهوا الحساوي، قولوا للحساوي يجلس هو والرجال في الضيقة، لا بعد يطلع لأنا الساعة ما بعد نحن بمفسوحين، خلوه يجلس أولا، ونحو هذا الكلام، فقلت للحبيب حسن: من الرجل الذي يشير اليه، هل ظهر لك من هو، قال: الله أعلم، وما هناك رجل يشار إليه، إلا إن كان يعني الخضر أو أحدا آخر.
ودخلت عليه رضي الله عنه يوم الأربعاء ثاني يوم من ذي القعدة، فرأيته وهو مسجى وكأنَّ بدنه ووجهه لا لحم فيه، بل مجرد جسم وجلد وعظام فقط، وكان يتمنى أن يكون كذلك عند موته، وقد أخبرني ابنه الحبيب حسين إنه سمعه منذ مدة طويلة، أظن نحو العشرين السنة، يقول: أشتهي أني يوم أموت ولا في جسمي مُزعة لحم، وكنا نسمع أهل بلدنا يقولون: رحم الله جثة لم تُخَثْلِم قبرها، أي تقذره، ولكن من لك بمن يصبر عليك إذا طال بك المرض فلو أن أحدا وَضَّاك مرتين أو ثلاثا، مَلَّك وضاق منك .
(2/336)

وقال لي ابنه الحبيب حسين أيضا: إحتجم سيدي الوالد ليلة عشرين من شهر رمضان، سنة 1112 وعشر في نجم الثريا في الليل وقت العشاء، وكان معه شبه الفرسة، ولم يخرج إذ ذاك لصلاة العصر ولا المغرب ولا العشاء، وسمعته وهو يحتجم يقول: الإنسان في هذه الدنيا معرَّض للأمراض والأعراض والأغراض، وسمعته يقول: إني أجد في نفسي هذه السنة زيادة لحم من غير سبب، وأنا أحب أن لا أموت وعَلَيَّ كثير لحم، ولا أحب أن أموت بطول مرض، وقد أشتهى الشيخ أحمد الرفاعي ذلك، فتم له، ولكن مَرَض حصل عليه باطن، ولكن الشيخ أحمد وافق زمانا أشبه من زماننا، وزماننا هذا كما ترى، لو طلبت في الخمسة الفروض واحدا يُوَضِّيك ضجر منك، ثم قال: وما نسمع ما يقول الناس: رحم الله جثة، إلخ.
أقول: فتم لسيدنا نفع الله به ما تمناه واشتهاه من ذلك، ومن أول ما حصل عليه هذا العارض وهو يذكر إنه إنما هو عين، وصرح بذلك مرارا، وكذلك أيام صحته، قال كما تقدم أكثر ما كان خوفي من العين والسم، وأشار إلى ذلك مرارا أخرى، كما ذكر في قصة الإمام الغزالي: إنها عين أصابت المسلمين، وكلما عرضوا عليه نفع الله به شيئا من القوت، أو ذكروه له ذكر قصة الفقيه المقدم عند موته، وكان يأمر برش الماء عليه كثيرا، قل ما يفتر عنه، بل كل ساعة يشير إليه، وذلك من نحو نصف شوال، فلذلك ظنوا أنه( ) حرارة كما تقدم من قوله، ما أظن إلا أن بي حرارة، وطلبُهُ للكرزام، لكنه لم يقبل شرب الماء، فلما رأوه لم يقبله إنبهم عليهم الأمر، فإن طلبه الرش يدل على الحرارة، وعدم الشرب يدل على عدمها، والسيد الحبيب أحمد بن زين قال: ظهر لي إن ذلك( ) لتقوية الأعضاء ونشاطها . وظهر لي أنا والله أعلم، إن ذلك لمعنى من معاني مرض النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حيث كان يُصَب عليه في مرض موته قِرَبٌ من الماء، تتمة من الله سبحانه وتعالى بإجرائه على سَنَنِه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم حياً وميتاً.
(2/337)

وكان رضي الله عنه في مرضه ذلك كثيراً ما يذكر خاتمة صحيح البخاري فيقول: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) وكان في أيام صحته متعلقاً به [أي صحيح البخاري] ولا يَدَعُ مَدْرَسَه يخلو من قراءته( )، وكان أيضاً في آخر مرضه يقول: يامحمد ياأحمد.
وسمعته رضي الله عنه غير مرة يقول: إن شيخه السيد محمد بن علوي السقاف آخر كلمة تكلم بها عند الموت أن قال: يا حبيبى يا محمد، ثم انطفأ بعدها في الحال، ولم يجر على لسانه بعدها كلام، وفي هذه الستة الأيام من ثاني ذي القعدة التي ثقل فيها واستغرق، كثيرا ما يرفع يديه ثم يقبضهما تحت صدره كهيئة المحرم بالصلاة، ثم يضع كفه على ركبتيه قابضا أصابعه، ورافعا المسبِّحة كهيئة المتشهد .
ذكر انتقال روحه الزكية قدس الله سره ونفعنا به في الدارين آمين
فلما كان ليلة الثلاثاء سابع أو ثامن من ذي القعدة من سنة 1132 لنحو ربع الليل، وسَبع في نجم سعد الأخبية انتقلت روحه الزكية إلى أعلا عليين، ومن هذه الدار الفانية إلى الدار الآخرة الباقية وكان حاضرا عنده ابنه الحبيب حسن، فرحم الله مثواه، وبل بوابل الرحمة ضريحه وثراه، وكان مدة عمره 89 سنة إلا ثلاثة أشهر تنقص ثلاثة أيام، ومدة مرضه أربعون يوما، ومدة إقامتي في خدمته والتمتع برؤيته، تحت ظل ريف رأفته 17 سنة وشهر و17 يوما ولسان الحال يقول :
رعى الله أياما برامة قد خلت ... وأوقاتِ طيب ما عرفت لها قدرا
أويقاتُ وصل لو تباع شريتُها ... بروحي ولكن لا تباع ولا تُشرا
وأنشد أيضا لسان الحال فقال :
أسفي على زمن العقيق وطيبة ... ... مع جيرة كانوا لنا بكثيبه
زمن صفا مشروبه آهٍ على ... ... ما فات قلبي من صفا مشروبه
أترى أرى الوادي ويشرق ناظري ... وأرى بحضرته جمال حبيبه
وأرنح الأعطاف من فرح اللقا ... بُشرى بطيب نسيمه وهبوبه
(2/338)

فيالله ما أقصر تلك السنين في حال صحته، وما أطول هذه الأيام في مدة مرضه، وما أنكد عيشنا بعده، وإن كل مصيبة إذا طالت هانت، وأرى المصيبة به تتجدد بتجدد الأيام والأعوام، كما قال أبو تمام :
كانت لنا أعوام وصل بالحِمى ... ... فكأنها من طيبها أيام
ثم اعقبت أيام صد بعدها ... ... فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلُها ... ... فكأنها وكأنهم أحلام
فالله يجبر ما انصدع من قلوبنا لفقده، ويجمعنا وإياه في دار كرامته، فأي عين لم تسح دموعها عليه، وأي قلب لم ينصدع لفراقه ويشتاق اليه، بل والله لو أن أحدا بكى الدمع ثم الدماء لم يكن ذلك كثيراً في رزئه، إذ لا أحد يقوم مقامه مثله، ولا ينوء بعبائه، لقوله نفع الله به: عندنا أمانة لا يحملها إلا المهدي، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وكان ذلك في الكتاب مسطورا، وكان انتقاله رضي الله عنه، في المرواح الشرقي من بيته الذي في الحاوي الميمون، ثم حُمِل إلى الغيلة القبلية ولم يُعلموا أحداً بموته إلا بعد الفجر، أرسلوا إلى البلاد إلى مساجد السلف ليقرأوا له الفاتحة بعد الصلاة، وهكذا عادة أهل الجهة، إذا مات أحد أعلموا أهل المساجد ليقرأوا له الفاتحة ويشتهر موته لمن أراد الصلاة عليه، ولم يُعلموا أهل البيت من النساء والصغار بذلك، ولا أحداً من جماعة الحاوي من الفقراء والمجاورين، إلا بعد أن صلوا الصبح، وقرأ مرتب الفواتح، فقال ابنه السيد علوي، وهو الذي صلى بنا: إقرأ الفاتحة لحبيبك، فحينئذ انقلبوا في صيحة واحدة، ولا عاد قدر مرتب الفواتح بعد الأولتين أن يتم الثالثة، ولا قريء الحزب ذلك اليوم، فلما سمع النساء من أهل الدار ضجة أهل المسجد، ضجوا بأجمعهم وصاحوا، ثم خرج الناعي من البلاد إلى الحاوي وانقلبت الدنيا بمرة، وأظلمت الأرض لهول مصرعه، وحُقَّ لها أن تظلم فالصابر المستمسك الذي يحمد ويسترجع وهو يبكي، ولا
(2/339)

أظن أن عينا لم تبك لفراقه، ولا قلبا لم يحزن عليه، فكم يومئذ من عين باكية، وكم من أصوات بالعويل والنشيج عالية، ومن العجائب كيف لم تنشق المرار، وتؤذن الأجسام بالدمار، ولكن لما ورد :(( إنه ما نزلت مصيبة إلا ومعها من اللطف بقدرها))، وامتلأ الحاوي من الخلائق للتبرك والتمسح به، حتى لم يبق في المصلى ولا الضيقة ولا الحوش الشرقي ولا الغيلة، ولا السطح ولا الدَرَج وما حوالي المكان، وفي الطريق من بحر وبين النخيل من نجد، وقبلي المصلى متسع من الزحام، وهو رضي الله عنه مسجى على سريره في الغيلة الذي كان ينام عليه، وابتدأوا في غسله وقت الضحى، وغسلوه على سريره المذكور، في المحل الذي هو فيه من جانب الغيلة النجدي، والذي غسله ابنه سيدى الحبيب الحسن وهو الذي كان مواظبا عنده أيام مرضه، وأشرك معه صهره السيد عمر بن حامد، ومغيربان يصب الماء، ويتردد إليهما بما يحتاج اليه، وما هناك أحد غيرهم، وماؤه يصب من الميزاب، وتحته ناس كثير يتلقون الماء الذي ينصب من غسله بأقداح وأدنان يشربون منه ويتمسحون به ويتبركون، ثم بعد غسله درجوه في الأكفان، ثم وضعوه على السرير مسجى بعد أن جففوه، ثم لما صلوا العصر حملوه في النعش، وحمل على الأعناق والرءوس، والناس يتنافسون الحمل، أيهم يحمل خطوة أو خطوتين وقل من( ) يتم الثالثة إلا وقبضها عليه آخر، والزحمة من الناس شيء لا يعلمه إلا الله، وكم من ضَرْب بالعصي، ولَكْم بالأكف، ودَفْع باليد لأجل المنافسة على حمل النعش، مع الصياح والبكاء والعويل من كل جانب وما بلغوا الجبانة إلا قرب اصفرار الشمس، وما فرغوا من الدفن إلا بعد الغروب، والإزدحام في التربة لحضور الدفن مد البصر من كل جانب وما وضعوه على شفير القبر إلا وقد قُطِّعت أذبال الشقة الممدودة على النعش للتبرك، وألحده السيد عيدروس بن عمر صاحب مشطة، ومن عادته إلحاد المرموقين والموصوفين بالصلاح . والقوي
(2/340)

الشديد من الناس من تمكن يحثو ثلاث حثوات على القبر، وحزروا بالتخمين من حضر الصلاة والدفن نحو عشرين ألفاً، أو تزيد( ) من كل بلدان حضرموت .
ومن العجيب أنهم لما فرغوا من دفنه جاء درويش عجمي، كالذي وصفه في تلك الرؤيا كأنه هندي أو سندي، وأكب على القبر، وبرك بصدره عليه، وجعل يصرخ ويصيح، ويلثم من تراب القبر، فصاحوا عليه فتنحى إلى قبلي قبة الشيخ عبدالله العيدروس وجلس إلى أن تفرق الناس، ثم لم نره بعد ذلك ولا قبله .
فلما سافرت ووصلت إلى بنادر اليمن، كعدن والمخا والحديدة واللُّحَيَّة وإذا كل أهل بلد يقولون: أول ما سمعنا بموته من درويش جاءنا والله أعلم هو ذاك أو غيره.
ثم نصبوا على قبره الشريف خيمته الكبيرة التي كان ينصبها في زيارته لنبي الله هود عليه السلام أيام كان يزوره وقت نشاطه، ثم بعد ذلك يأمر أولاده الأجلاء بالزيارة، ونصبوها لأجل يستظل تحتها الذين يقرأون على قبره رضي الله عنه، والقراءة عليه طول النهار، ونحو ربع الليل، ثم تسابيح ساعة طويلة، ثم يتفرق الأكثر من الناس، وأبقى في جماعة من الفقراء نبات عند القبر المنور، نقرأ نشاطنا، ثم ننام وذلك من حين دفنه إلى ثالث يوم، وهو يوم ختمه، كذلك عادة أهل حضرموت يقرأون على القبر ثلاثة أيام.
(2/341)

وكان ختمه يوم الجمعة 11 ذي القعدة وفي هذه المدة قل ما تمضي ساعة من ليل أو نهار إلا ويفد ناس لم يشهدوا الصلاة عليه، فيصلون على القبر، ويدعون لأنفسهم ولمن يحبون عند قبره ويترضون عنه ويترحمون عليه ويحملون من تراب ضريحه، حتى إنه في يوم الختم انقلبوا عليه، يأخذون من ترابه حتى قرب أن يستوي مع الأرض، بعدما كان مسنما مرتفعا، وحضر عند الختم أكثر ممن حضر عند الدفن، وفعل أولاده الكرام مأدبة عظيمة ضافية، أكل منها جميع من حضر الختم إلا الآحاد من الناس، كرهوا كثرة الزحام، ودفن في طرف التربة الجديدة، التي أمر هو السيدَ زين العابدين بفعلها ففعلها، وبقي يحثه عليها سنين كثيرة، حتى قال له: أسرع بذلك، فإنه بايقبر فيها أحدنا إما أنا وإما أنت، ولم يتفق للسيد زين عمارتها إلا سنة 1131 قبل وفاة سيدنا رضي الله عنه بسنة وكان محلها ساقية ماء، يجري فيها من وادي عيديد، إلى نخل لجماعة من آل باحرمي يسمى باتميم فعوضوهم بساقية بحري المكان المذكور.
وذكر سيدنا نفع الله به جماعة صالحين مرضوا، منهم من مات قبله ومنهم من عاش، وقال في كل منهم: إن مات فلان، أمرنا بدفنه في تلك التربة يعني المذكورة آنفا، فكلما هَمَّ أن يأمر بدفن أحد من أولئك إذا مات فينسى أن يأمر به، فما دفن أحد منهم حينئذ.
(2/342)

ثم يذكر بعد ذلك فيقول: لو ذكرنا لخليناهم يقبرون فلانا فيها، وتكرر منه ذلك، في نحو ثلاثة ماتوا قبله واثنان بقوا بعده فقال لكل منهما: إذا مُتَّ نقبرك فيها، وأحدهما اشتد به المرض، حتى أصبح لا يتكلم فأرسلني سيدي الحبيب إلى السيد زين يحضه في إصلاحها وقال: قل له يسلم عليك، ويقول لك هيا اهتم في إصلاح هذه التربة، فإن فلانا مرض مرضا شديدا، حتى أصبح لا يتكلم، ونخشى أن يموت قبل إصلاحها، فنريد أن يكون قبره فيها، وما مراده رضي الله عنه إلا أن يحضه حتى يسرع بذلك، واتفق إن سيدنا نفع الله به أول من قبر بها، وذلك بعد أن تشاوروا أولاده المباركون، أين يقبر، فاتفق رأيهم أن يقبر في موضعه هذا.
وتقدم قوله رضي الله عنه: إن الإنسان أصله قد مزج بتراب قبره، وذكر لي السيد علي عيديد، وكان من المترددين على سيدنا كثيرا، قال: سمعت سيدنا الحبيب في بعض زياراته لما خرج من قبة الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس، توطأ إلى موضع قبره، فوقف فيه، وقال: بسم الله: { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ }( ) وذلك قبل وفاة سيدنا بسنين فيدل على أن هذا يكون منزله بعد، وموضع قبره، فأعظم بهذه المكاشفة العظيمة، وأمور سيدنا وأحواله رضي الله عنه عجيبة جدا، لمن ألهمه الله تعالى فَهْمَ معانيها، وقد قدمنا كثيرا منها في هذا النقل، فلا نعيده وهو نقطة من عجيب أحواله .
(2/343)

ومن تصرفاته العجيبة، وإشاراته الغريبة، أنه نفع الله به قال لي ذات يوم: قد أذنا لك أن تزور من أردتَ من شيبان السادة، فزرت كثيراً منهم إلا واحداً، فكلما مضيت إليه قاصداً لزيارته، فَتَرَتْ مني الهمة ورجعتُ من أثناء الطريق، ومراراً أصل إلى بابه، فإذا أردت أن أقرع الباب ما جزمت على ذلك، ورجعت وأنا على ذلك إلى نحو أربع سنين، فقلت: لأذكرنه لسيدنا بالخصوص، فقلت له: إنكم أمرتوني بزيارة الشيبان من السادة فزرتهم إلا فلاناً، فقال: هاه الحذر تزوره، فإنا لا نريد لك زيارته فقضيت من ذلك العجب رضي الله عنه ونفعنا به في الدارين.
وسمعته رضي الله عنه مرارا يقول ما معناه: كنا إذا دخلنا على شيخنا السيد عبدالرحمن بن عقيل( )، أول أيام مخالطتنا له يتمثل ويقول :
ومن رعته العناية في المجيء والذهاب فلا يبالي ومن خانته الأقدار خاب
وإذا دخل عليه عباد بن اسعد، وكان فيه بلوة واعتراض يتمثل ويقول :
وإذا كنت في المدارج غِرّاً ... ... ثم أبصرت صادقا لا تمار
وإذا لم تر الهلال فسلم ... ... لأناس رأوه بالأبصار
ويشير إلى سيدنا، وآخر من مشايخه يتمثل إذا رآه ويقول :
وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... ... نَم فالمخاوف كلهن أمان
ثم إن بعض الناس بعد وفاته رضي الله عنه، جعلوا يتلهفون عليه ويتأسفون أن لا يكونوا من الملازمين له، والمنتسبين به، وندموا كثيرا حيث لا ينفعهم الندم.
وقال رضي الله عنه قبل انتقاله بنحو ثمان سنين: ما يعرفون قدرنا إلا إذا فارقناهم، فما دام الرجل بينهم لا يعرفون قدره، فإذا صار الرجل قبرا، فحينئذ يعرفون قدره.
(2/344)

وقد صدرت منه رضي الله عنه إشارات كثيرة في مرضه هذا، إن هذا هو مرض موته، وما عُرِف بعضها إلا بعد وفاته، منها قوله لجماعة جاءوا عائدين له: قولوا لهم دعوني وربي، ولم يأذن لهم، وليس هذا من عادته، ومنها ذكره للسيد زين العابدين لما جاءه عائدا رؤياه للسيد علي بن عبدالله وذكر له المعمرين من السادة وقد تقدم ذكر ذلك، ومنها إنه طلبني ضحى يوم الثلاثاء سادس عشر شوال، فأتيت اليه وهو بالمرواح الشرقي، وليس عنده إلا ابنه الحبيب حسن، ومغيربان يروح عليه، فلما صافحته حياني بتحية شفقة ورأفة وحنانة، وأمر ابنه السيد الحبيب حسن أن يأتي بقميص له كان قد لبسه مدة، ثم طواه وضمه، وما علموا لمن يريده له، فقال لابنه المذكور: قد قلت لكم اطووا الدرَّاعة الفلانية التي هناك نريدها للحاج، لئلا يأخذها غيرُه، ويفوت الذي عليه العمل، الإلباس الحسي والمعنوي، ثم قال له: قم هات ذلك القميص، فلما أتى به، أخذه ونشره وضمه إلى صدره، وأدخل رأسه في جيبه، كأنه يريد يلبسه، ثم لفه وتفل فيه ونفث، وذكر الله وصلى على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ثم دفعه إليَّ وقال: هاك قد ألبسناك الآن، وأذِنَّا لك في الإلباس لمن شئت من المتأهلين له، وقد تقدم منا لك الإلباس مرات، ونرجو لك الإلباس أيضا بعد ذلك، ونرجو أن يرزقك الله الإلباس الحقيقي ويؤهلك الله له، هذا كلامه بلفظه، وأرجو أن يحقق الله رجاه جزاه الله عنا أفضل الجزاء، وقد ألبسني قبل هذا نحو ستة عشر إلباساً، لكن لم يكن معها إذن في ذلك، ثم قال الحبيب الحسن: صافحْه، يعني مصافحة الخروج، فلما صافحته دعا لي وقال: بارك الله فيك وأصلحك، فكان هذا المجلس مع ما اشتمل عليه من المؤانسة والملاطفة والدعاء آخر مجلس لي معه من مجالس المؤانسة، وإلا فقد دخلت عليه بعد ذلك مراراً كثيرة وهو مستغرق بالمرض، ولم يصف الوقت كما صفا له في هذا المجلس المذكور، فخلَفه الله علينا وعلى كافة
(2/345)

المسلمين بخلف صالح، وجمعنا وإياه في دار القرار، كما جمعنا به في هذه الدار، وقد رأيت ليلة رابع من شوال، وذلك حين اشتد بسيدنا المرض، وكنت قد نمت على وضوء وأتيت بأذكار النوم: كأني جالس في الصف الأول من مصلى الحاوي وهو ملآن من الناس والصفوف متضايقة جداً، منتظرين لخروج سيدنا الحبيب نفع الله به، يصلي بهم صلاة عشاء ليلة الجمعة، فبينما الناس جلوس إذ جاء طائر يشبه الغراب، يطير فجاء حتى وقع على كتفي الأيسر، ومكث ساعة وعييت من ثقله، فلما أحس أني عييت طار، ووقع على الأرض بين يَدَيَّ لحظة حتى رأى أني استرحت من ثقله، فطار ووقع على كتفي الأيمن، وبقي ساعة، حتى عييت منه ثم طار ووقع في الأرض بين يدي، وإذا به قد انقلب صقراً وله خرطوم طويل كخرطوم الفيل، مُعْوَجَّا، وإذا له صوت يسمع كصوت الذي يتكلم، فتسمعت له فإذا به يتكلم بكلام عربي فصيح، فقلت له: أو تعرف أسماء الناس، فقال: نعم، فقلت له: ما اسمك أو ما اسم هذا الرجل لرجل كان حاضرا أشك في أيهما كان، فقال: محمد ابن فلان فسماه باسمه واسم أبيه وجده، فقلت له: وأنا من؟ فنظر إلي وظننت أن يقول فلان الفلاني، [أي أحمد الحساوي] أو فلان بن فلان [أي بن عبدالكريم] فقال: أنت أحمد الشجار وما أُعْرَف بحضرموت بهذا اللقب، وإنما ذلك في الاحساء فقط وفي حضرموت (الحساوي)، فقلت: أترى أن أحملك إلى أولاد الحبيب يكلمونك ويعجبون منك فسكت قليلاً، ثم قال: ما أقول لك إلا: ما لي بأحد حاجة، ثم أردت مفارقته، فقلت له: ادع الله لي بصلاح القلب والدين والجسم، فقال: أصلح الله قلبك ودينك وجسمك، فعند تمام هذه الكلمة انتبهت فظهر لي من تأويلها معنيان، أحدهما: أن كلام ما لم يتكلم كالطير أنه هول عظيم، وأن الغراب غراب البين المشعر بالوفاة، ولا أهول ولا أشنع من وفاته رضي الله عنه، على ما سمعت من ذكر وصف بعض الحال وركوبه على كتفي حتى أعياني
(2/346)

مرتين، مما يحقق ما يخصني من زيادة العنا بوفاته، المبين لقوله نفع الله به: أكثر ما أنا خائف على فلان، يعنيني لمحبته وغربته، يعني من ألم التعب على فراقه وشدة الحزن على المصيبة به، هذا ما ظهر لي من تعبير هذه الرؤيا .
وذكر أيضا السيد علوي بن شيخ البيتي، من أهل الخريبة من دوعن، أنه رأى وهو في طريق صنعاء مقبلا منها إلى حضرموت، وذلك ليلة 27 سبع وعشرين من رمضان، وهي ليلة ابتداء المرض بسيدنا كأن الحبيب عبد الله توفي، وكأنه موضوع في محفة، ورجال حاملين المحفة طائرين بها إلى السماء، فكتم الرؤيا ولم يحك بها إلا يوم الثلاثاء، سابع ذي القعدة وهو يوم وفاة سيدنا: حكى بها لأحد خواصه قبل أن يعلم هو ولا أهل بلده بوفاته، ولم( ) يبلغهم الخبر بوفاته إلا يوم الجمعة في 11 ذي القعدة، ومن العجيب أن اتفقت له هذه الرؤيا حين ابتدأ بسيدنا المرض، وإخباره بها يوم وفاته، وكل هذه المرائي دالة على وفاته رضي الله عنه .
وسمعت عن بعض السادة، إنه رأى سيدنا وكأنَّ بيده أوراقاً صغاراً مطوية، يقسمها على كل من حضر جنازته، يعطي كل واحد واحدة، قال: فأعطاني أنا أيضا ورقة، ففتحتها فإذا هي بيضاء لا خط فيها، فأولت ذلك محو الذنوب وستر العيوب .
وقد رثى سيدَنا جماعة كثيرة من جملتهم، أولاده الأجلاء كابنه السيد الحسين رثاه بقصيدة طويلة، وابنه السيد علوي رثاه بقصيدة، عدد أبياتها 142 وفق عدد حروف اسم سيدنا عبد الله، مطلعها :
أتراني أسلو بعد فقد عمادي أو أهن يوما عيشتي ورقادي
وأرسلها إليَّ من حضرموت إلى الاحساء، فنقلتها ثم أرسلتها إلى صنوه الحبيب زين العابدين بالبصرة، فجاءني جوابه مع قصيدة جوابا لأخيه ومرثية لأبيه عددها 40 بيتا ومطلعها:
كرر على سمعي حديث الوادي ... فلِنازليه منيزل بفؤادي
ورثاه السيد الشريف علوي بن جعفر مدهر، ساكن غيل باوزير بقصيدة عددها 29 بيتا أولها :
(2/347)

يا عين سحي بدمع الوابل الرذم ... ... على فراق جليل القدر والشيم
وكذلك رثاه أخوه السيد الفاضل عبد الله بن جعفر مدهر، نزيل مكة المشرفة بقصيدة عددها 61 بيتا أولها :
ما للمكارم آذنت بنفاد ... ... والكون مشتمل بثوب حداد
ورثاة جماعة من أهل حضرموت وأهل الحساء، وأرخوا وفاته في قصائدهم، وقد جمعت ما بلغني من مرثياته، مع ما معي من مدائحه التي أنشئت في حياته، وقد سَمِعَ أكثرها، وأُنْشِدَ بها في حضرته، وتكلم عند سماع بعضها بما يتعلق بالمدح، كقوله: ( من مُدِح بفضيلة فان مدحه يعود إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم لأن فضيلته إنما جاءت عنه، وصدرت عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فمدحه يعود عليه) في كلام كثير قدمنا ذكره في هذا النقل، وجعلْنا الجميع مع ترجمته التي من المشرع الروي مع ما زيَّد عليها السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي، ومع راتبه وجملة أوراده وأذكاره في الصباح والمساء وبعد الصلوات وفي أوقات أخر وفي أحوال مختلفة، كل ذلك في مجموع، وأضفت اليه شيئا من كلام مجالسه، وشيئا لخصته من مكاتباته، فصار مجموعا مجلدا ثمرا مجنيا ورطبا جنيا فيه خالصُه وزُبْدُه وعيونُه، يسهل على المطالع ويستحظ منه السامع . والحمد لله على ما وفق وأعان، وأمد بالعناية والبيان .
(2/348)

وحيث بلغ بنا النقل إلى ذكر وفاته رضي الله عنه ونفع به فما بعد الوفاة من كلام، فلنقتصر منه على ما يسره الله، وكفى به وإلا فلا نقدر على استيعاب جميع ما نقلناه من كلامه، وهذا نزر يسير من بحر كبير، يكفي عن كثير، والغرض الآن أن نختم هذا النقل بفائدة حسنة، وهي في ذكر ما كان يقرؤه في الصلوات، من السور والآيات، مما واظب عليه إلى أن انتقل إلى رحمة الله وقربه، دون ما تكرر منه في أوقات دون مواظبة، لأني أرى من نفسي ومن كل محب أن يتأثر بآثاره، ويستضيء بأنواره، ويتبعه في إيراده وإصداره، لأن في اتباعه والاقتداء به، الإتباعَ لسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، فمما كان رضي الله عنه مواظبا عليه إلى الوفاة المعوذتين في أولتي المغرب ليلة الأربعاء وليلة السبت، ما سمعته قرأ فيهما بغيرهما قط، وفي أولتي صلاة العشاء من ليلة الجمعة، وأولتي عصر يومها (ألم نشرح) و (إذا جاء نصر الله) وصبح يوم الجمعة (بسبح) و (الغاشية) وقال: إن قراءتهما في صبح يوم الجمعة تنوب عن قراءة (السجدة) و(هل أتى)، وقد كان نفع الله به أيام نشاطه يقرؤهما فيهما، وتنوب في العيد عن (ق) و (اقتربت) وكذلك فيما تعيَّن في شيء من الصلوات من السور المطولات، فيكفيان عن ذلك، وأما الآيات المداوم عليها إلى الممات فآية: { رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ }( )، { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }( ) بعد الفاتحة في ثالثة الظهر والعصر مطلقا، وفي رابعتهما كذلك أي مطلقا: { رَبَّنَا ءَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }( ) وفي الجهرية في السكتة التي بعد الفاتحة وقبل السورة في الأولى: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ
(2/349)

وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }( ) وفي الثانية: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ }( ) وقد قال يوما: لا سكوت في الصلاة، ويقرأ في أخيرة المغرب بعد الفاتحة: { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }( ) وربما قرأ فيها: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ }( ) وفي ثالثة العشاء بعد الفاتحة: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وِلاِ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ ءَآمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }( ) وفي الأخيرة منها بعد الفاتحة الآية المتقدمة في المغرب: { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إلخ، وفي سُنَّة الفجر (الكافرون) و ( الإخلاص): أو( ) { قُولُوا ءَآمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا }( ) الآية في الأولى و: { قُلْ يَاأَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا }( ) الآية في الثانية، وفي سنة الوضوء (الكافرون) و(الإخلاص) وكذلك في أولتي المغرب ليلتي الجمعة والإثنين، وفي صبح يوم الأربعاء ( لم يكن) و (الزلزلة) كثيرا، وما عدا ذلك فقد يتكرر بلا مواظبة فيما نعلم .
(2/350)

ونختم هذه المجالس الشريفة بما كان سيدنا رضي الله عنه يدعو به في خاتمة مجالسه بعد الفاتحة وهو: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وحولنا وقوتنا أبدا ما أبقيتنا، واجعلها الوارث منا، وانصرنا على من عادانا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وأرنا في العدو ثأرنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا ولا يخافك ولا يخشاك ولا يتقيك يا رب العالمين، فإذا نهض قائما قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب اليك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، هكذا حفظته عنه من كثرة ما أسمعه يدعو به إذ ذاك فإن كان زاد أو نقص شيء أو تبدل شيء، فهو من طول العهد بذلك، لأني نقلته هنا من حفظي الآن، وأرجو من فضل الله تعالى وكرمه حسن الختام، والوفاة على الإسلام والإيمان والإحسان، إنه الكريم المنان، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا الحبيب النبي المرتضى، والرسول المصطفى، محمد وآله وصحبه أهل الفضل والوفاء، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الفصل والجزاء، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين .
% % % % %
وبفضل الله سبحانه وتعالى كان هذا نهاية الجزء الثاني من كتاب تثبيت الفؤاد . فله الحمد أولاً وآخراً .
وتتميماً للفائدة ننقل ماوجدناه مكتوباً على ظهر بعض النسخ التي تمت المراجعة عليها:-
1 - الموجود على النسخة الأم، نسخة الحبيب أحمد بن حسن الحداد :
(2/351)

وكان الفراغ من نساخة تحريره بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء 19 جمادى الأولى سنة 1170 على يد العبد الفقير إلى الرب القدير، المعترف بالقصور والتقصير، الراجي لعفو الله الكريم الجواد، الشريف أحمد بن الحسن بن عبد الله بن علوي الحداد عفا الله عنه وعن والديه وأحبابه والمسلمين، ( أي وعمره - أي الحبيب أحمد بن حسن - إذ ذاك 44 سنة، حيث كان وجوده في شوال سنة 1127هـ ) . وأفيدك أيها القاريء الكريم: أن الإمام المدقق الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، قد قرأ هذه النسخة وراجعها وحققها، فقد وجد بخطه مايلي :- قرأ في هذا الكتاب، تثبيت الفؤاد بذكر مجالس الحبيب عبدالله الحداد - علوي بن أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد باعلوي أول قراءة فيه، وثانية، وثالثة، على جده القطب العارف بالله الحسن بن سيدنا الغوث عبدالله، جعل الله في ذلك البركة والعاقبة الحسنة آمين . ثم قرأ فيها الحبيب عبدالله بن علي الحداد، وكتب مايلي :- بلغ مقابلة على الأم المنقول منها التي هي بقلم الحبيب أحمد بن الحسن بن الحبيب عبدالله الحداد حسب الطاقة والإمكان نحن والمحب المنور أحمد بن عبدالرحمن عقبة الشبامي بتاريخ 13 شهر رجب الأصب سنة 1313 هجرية . قال ذلك وكتبه الفقير إلى ربه عبدالله بن علي الحداد عفا الله عنه آمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . ثم طالع في تلك النسخة الحبيب علوي بن محمد الحداد، وكتب مايلي :- طالع في هذا الكتاب الفقير إلى ربه الجواد، علوي بن محمد بن طاهر بن عمر الحداد، رزقه الله الإنتفاع بما فيه، وغمر بفيوض المعارف واديه، وجعله وذويه من المتبعين للحبيب الأمين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الميامين . وأسأل من الواقف على هذا الكتاب أن يدعو لي بصلاح ظاهري وباطني، وكمال الإتباع للحبيب وآله، وكمال اليقين والتمكين، والإنتظام في سلك الصالحين، وبحسن الختام، والوفاة على الإسلام .
(2/352)

فأعظم بها من نسخة، كتبها وحررها الحبيب أحمد بن حسن الحداد، ثم راجعها وقرأها مراراً الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد على جده الحبيب الحسن بن عبدالله الحداد، فأكرِمْ بهم من قاريء ومستمع . ثم الحبيب عبدالله بن علي الحداد، ثم طالع فيها الحبيب علوي بن محمد بن طاهر الحداد .
2 - الموجود على نسخة الحبيب أحمد بن عبدالرحمن الحداد :
وقد تمت المراجعة على الجزء الثاني منها ومكتوب على ظهرها :- كان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الخميس 20 من شهر جمادى الآخرة سنة 1252هـ . بقلم الفقير الحقير، راجي عفو ربه الجواد، أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن حسن بن عبدالله بن علوي الحداد . عفا الله عنه ووالديه، آمين . وأيضاً مكتوب عليها :- بلغ بقراءة الفقير إلى مولاه، علي بن حسن بن حسين بن أحمد الحداد، على والده في مصلى الحاوي، بعد صلاة العصر آخر جمادى الآخرة سنة 1254 هـ . وهي ملك الحبيب حسن بن حسين بن أحمد الحداد .
3 - الموجود على ظهر نسخة الحبيب الإمام، حجة المتأخرين: عيدروس بن عمر الحبشي :
(2/353)

... ... وكان الفراغ من نساخة تحريره، ضحوة يوم الثلاثاء 11 خلت من شهر رمضان المعظم من سنة 1293هـ . على يد العبد الفقير الحقير إلى مولاه، أقل العباد: علي بن حسن بن حسين بن أحمد بن حسن بن القطب الغوث عبدالله الحداد علوي، عفا الله عنه وعن والديه وأولاده وأجداده وأحبابه ومحبيه، آمين . وذلك بعناية محبه وخلاصته، الموفق عمر بن أحمد عبادي بنذياب، كان الله له عونا ومعينا، ووفقه لما يرضيه ويرتضيه ربُّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . ثم انتقل هذا الكتاب إلى ملك إبراهيم بن عمر بن أحمد بن عبدالله عبادي بنذياب، خاص له . وابراهيم بن عمر المذكور قد وهب هذا الكتاب بالهبة الصحيحة لسيدنا وبركتنا الحبيب القدوة البركة عيدروس بن عمر بن عيدروس الحبشي، وصار ملكاً من أملاكه، تقبل الله ذلك بمنه وكرمه،آمين. وذلك بتاريخ يوم الاثنين 26 خلت من شهر جمادى الأولى سنة 1301هـ . ثم صار إلى ملك الفقير إلى مولاه محمد بن عيدروس بن عمر الحبشي، عفا الله عنه .
... وعلى النسخة المذكورة أيضاً: تشرف وسعد إن شاء الله تعالى بمطالعة هذا السفر الجليل وسماعه، العبد الحقير علي بن محمد بن عيدروس الحبشي، وأنهى قراءته في شهر ربيع الأول سنة 1365هـ، رزقه الله كمال محبة قائله، والانتظام في سلكه، آمين . ثم انتقل إلى ملك الفقير عبدالله بن عبدالقادر بن أحمد الحداد، مشترى من الأخ علي بن محمد بن عيدروس الحبشي . اهـ.
...........................
(2/354)

... ونحمد الله سبحانه وتعالى أن مَنَّ علينا ووفقنا لقراءة هذا السفر المبارك، وبذل الجهد لمراجعته على النسخ التي ذكرناها، وانتهى بنا المطاف على أن يكون الضبط والتحقيق على نسخة الحبيب أحمد بن حسن بن عبدالله الحداد (النسخة الأم)، وهي النسخة التي حققها الحبيب علوي بن أحمد بن حسن الحداد، حيث وجدناها في قمة الضبط، ومهمشة بفوائد وتدقيقات من قبل الحبيب أحمد بن حسن نفسه، وعليها عناوين المقالات . وتلك النسخة هي التي وجدت عند الحبيب البركة أبي بكر العطاس بن عبدالله بن علوي الحبشي، حيث تكرم بها علينا في آخر أيام حياته، فجزاه الله خير الجزاء، وقد كان انتقاله [ أي الحبيب أبي بكر العطاس ] إلى الدار الآخرة يوم الأربعاء 29 من شهر رجب عام 1416 هـ . فرحمه الله رحمة الأبرار .
... كما قام بتخريج بعض الأحاديث، وتوضيح معنى بعض الألفاظ الدارجة، وإسناد بعض الأبيات التي يستشهد بها إلى قائلها - السيد عبداللاه بن علي الحبشي، فجزاه الله خيراً .
... كما تشرف وقام بنساخة السفر، ومزيد المراجعة السيد عدنان بن يحيى بن أحمد العيدروس .
... وكان الوقت المخصص للمراجعة والقراءة، هو مابين صلاة الصبح إلى الإشراق من كل يوم إلا يوم الجمعة . وكانت المراجعة بمساعدة ومجهود كل من الشيخ المحب محمد بن سالم بن عبدالله الخطيب، والشيخ المحب أبي بكر بن زين بن أبي بكر الراقي بافضل . وقد استغرقت المراجعة قُرابة الخمس سنوات .
... ومن الجدير بالذكر: أن بعض الألفاظ تم إيرادها كما وجدت بالأم، لا كما ينبغي من حيث حركات الإعراب . كما أن هناك جُمَلاً تعد بالأصابع لم يتوضح لنا معناها، فأثبتناها كما هي بالأم . ونلتمس من كل من يجد ملاحظة نحو المراجعة من كل ما ينسب إلينا أن يفيدنا عنها مشكوراً .
(2/355)

... نسأل الباري جلَّتْ عظمته: أن يتقبل منا وأن يعفو عنا بمحض الفضل والجود والكرم، وأن ينفعنا ويدخلنا في دائرة الإمام الحداد، وأن يكفر عنا السيئات، ويرزقنا كمال الاتباع للرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يشمل بالمغفرة والدينا وأحبابنا وذريتنا وجميع المسلمين، وأن يعم نشر هذا الكتاب في أرجاء المعمورة ليعم به النفع إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .
المشرف على المراجعة الفقير إلى الله الملك القدوس: يحيى بن أحمد بن عبدالباري العيدروس، عفا الله عنه . حرر في جدة صبح يوم الخميس السابع من ذي القعدة من عام 1418هـ. ومن يُمن الطالع أن هذا اليوم يوافق يوم وفاة الحبيب عبدالله بن علوي الحداد، حيث كان انتقاله في السابع من ذي القعدة من عام 1132 هـ - أي قبل حوالي 286 سنة - نفعنا الله به في الدارين آمين . والحمد لله رب العالمين . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(2/356)

فهرس الجزء الثاني حسب العناوين
ذكر بداية قراءة الحبيب عبدالله ... 2
انظر إلى هذا الدعاء الجامع ... 7
فائدة جليلة ... 8
آ يات تقرأ للعين ... 8
ما يقال عند شرب القهوة ... 8
ذكر إبتداء تدريسه نفع الله به ... 9
ما قال فى رؤية النبى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم ... 17
حكاية أصحاب السرير والمروحة ... 21
قف على ما قال في الكتب المعتمدة ... 22
انظر ما قال في الشاهد العدل وتساهل أهل الزمان في الشهادة ... 24
تأمل هذه القاعدة الكلية الجامعة ... 24
انظر ما قال في الصبر ... 25
انظر ما قال في لعب الصبي ... 29
ذكر تاريخ ولادته وإبتداء أمره نفع اللّه به ... 32
انظر ما قال في الولاة الظلمة وشؤم الظلم ... 44
ذكر دوعن وآل العمودي ... 51
انظر ما قال فيما يتعلق بالرحمة ... 58
ما قال في الإلباس رضي الله عنه ... 62
انظر ما قال في حسن الخلق ... 70
انظر ما قال في الغضب ... 71
(2/357)

انظر ما قال في البر وقطيعة الرحم ... 74
انظر بعض مكا شفا ته رضي الله عنه ... 75
انظر ما قال في موت الفجاءة ... 78
ما قال في عقيدة أهل شبام ... 79
قف على تقسيم الرزق ... 84
قف على درجات العقل ... 85
قف على من يتجاوزون الحد ... 86
ما قال في التطفيف في الكيل والوزن ... 88
أنظر تعريف الأخلاق الحسنة ... 89
تأمل أيضاً ما قاله في القضاء والقدر رضي الله عنه ...
قف على الفرق بين الإيثار والمواساة ... 92
ما قال في الخوف والرجاء ... 94
انظر ما قال في أهل القرن الثاني عشر ... 95
كلامه رضي الله عنه فيما يسهّل أمر المعاش ... 95
قف على الأحرف النورانية ... 96
انظر إلى هذه الرؤيا ... 98
قف انظر هذه المقالة ... 102
ما قال في ضرب الأمثال ... 102
ما قال في الغزل ... 104
ماقال في الوجد ... 104
ما قال في الوسواس ... 104
انظر إلى عَتْبِه على من لم يحضر ضيافته ... 106
ما قال في الذي يأخذ من أيدي الناس ... 107
ما قال في مدح الخمول ... 108
انظر إلى هذه التورية به عن نفسه نفع الله به كما هي عادته ... 111
فائدة ... 112
ما قال في المحبة ... 114
ما قال في أدب السائل ... 114
ما قال في انتظار النفحات ... 115
ما قال في التوبة ... 115
ما قال في خداع الشيطان ... 115
انظر إلى هذا التأويل البديع ... 115
ماقال في كتب ابن عربي ... 118
ما قال في كلام الحقائق والحذر منها ... 119
ما قال في أقسام الصُّحبة ... 120
ماقال في الفتن ... 120
قف على دعاء الحبيب بعد الجمعة ... 121
ما قال في طريق الشط ... 121
ما قال في سبب الجذب ... 122
ما قال في ذكر السيد علي بن عبدالله العيدروس ... 122
قف وانظر ما أخبر به عن نفسه الشريفة ... 125
انظر إلى هذه الحكاية فيمن يتبع رأي النساء ... 127
انظر ما قال في البناء ... 127
انظر ما قال في ذم طول السفر ... 127
قف على ما قال في سيدنا عمر رضي الله عنه ... 128
(2/358)

انظر هذا التأويل العجيب ... 129
قف على هذه المقالة ... 129
انظر ما قال في من يحفظ من كلامه المنظوم شيئاً ... 130
ما قال في شرب التنباك ... 131
ذكر نفع الأموات للأحياء ... 133
ما قال في عاشور ... 134
ما قال في أموال أهل البادية ... 134
ما قال في خلافة الخلفاء الراشدين والرافضة والأباضة ... 135
ما قال في مسير الهند ... 138
ما قال في البركة وقصة صاحب الدينار ... 138
ذكر الهارات ... 139
قف على هذه المقالة ... 141
ما قال في الجنون ... 143
ذكر مرضه الذي في سنة 1130 ... 144
ما قال في ذم محبة الجاه والترفع ... 155
قف على هذه الفائدة الجليلة ... 156
قف على تسمية مساجده الشريفة ... 158
أنظر بركة آبار مساجده وجوابيها ... 158
ما قال في الخروج للمحلة في الخلاء أيام الخريف ... 159
ما قال في خمول السادة ... 160
ما قال في إخبار الولي بالمغيَّبات ... 160
ما قال في معاملة النفس ... 161
ما قال في جُرْأَة أهل الزمان على المعاصي ... 161
انظر ولايته في الأيتام والمساجد ... 162
قف على سرِّ ثِقَلِ الطاعات ... 164
قف على هذا الدعاء ... 166
انظر قدر صلاته نفع الله به ... 168
ما قال في شرب الماء البارد في الشتاء، والحجامة ... 171
مناقب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه ... 172
ما قال في البحر ... 174
ما قال في بلدة قَسَم ... 175
ما قال في الجن ... 177
كلامه في ذكر زيارة النبي هود عليه السلام ... 178
ما قال في كلام بامخرمة ... 180
ما قال في قراء القبور ... 181
أنظر إلى مرائيه المباركة الصالحة ... 181
انظر إلى تهليل زبيدة ... 183
ما قال في العشق ... 183
سيرة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ... 184
قصة الرجل من آل بافضل مع أهله ... 186
أنظر ما قال أيام الخريف ... 186
ما قال في مسجد آل أبي علوي وليلة ختمه ... 187
ما قال في الوفاء ... 188
ما قال في التجربة ... 189
ذكر زيارته التربة وابتداء الحضرة ... 190
(2/359)

ما قال حيث يحل الشيخ أحمد بن عيسى وأولاده ... 1
ما قال في الشيخ عبدالقادر والغزالي ... 193
ما قال في التعزية ... 194
ما قال في الإجتهاد في رمضان ... 194
ما قال في عيد الأضحى ... 195
ما قال في عقيدة أهل الجهة ... 196
ما قال في اعتياد النفس ... 196
ما قال في البَرْد وما يليق له ... 197
ما قال في حديث سيدتنا فاطمة رضي الله عنها حين أتته عليه السلام بالكسرة من الخبز ... 197
( ذكر ابتداء مرض وفاته نفع الله به ) ... 198
ذكر انتقال روحه الزكية قدس الله سره ونفعنا به في الدارين آمين ... 206
(2/360)

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10e"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip