//

الحكم للامام الحداد -Kitab Alhaddaad



سلسلة كتب الإمام الحداد (8)
***************************
******** كتاب الحكم ********
***************************

تأليف

الإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
الحسيني الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
(1044-1132هـ)


الناشر دار الحاوي للطباعة والنشرو التوزيع
الطبعة الأولى سنة 1413هـ
الطبعة الثانية سنة 1418هـ




بسم الله الرحمن الرحيم

(قَالُوا سُبْحانَكَ لا عِلمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيمُ)
[سورة البقرة : 32 ]

الحمد لله الحنَّان المنَّان، دائم الإحسان والامتنان، الذي تقدست مواهبه عن التخصيص بمكانٍ أو زمانٍ، وعن الحصر في فلانٍ دون فلانٍ، جلَّ عن التَّقييد ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً فسُبحانه كل يومٍ هو في شأْنٍ.
…أحمده حمد من غرق في بَرِّه، فاعترف بالعجز عن القيام بشكره، وعن أن يقدره حق قدره بعد الإتيان بحسب الطاقة والإمكان، وصلاته وسلامه على خيرته من خلقه والمبعوث بخير الأديان، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه في كل حينٍ وأوانٍ.
…أما بعد: فإني بعون الله قد عزمت بعد أن استخرت ربي على تقييد كلماتٍ وأمثالٍ وأبياتٍ، تَرِدُ عليَّ عند التَّذَكُّرِ والمذاكرة،
(1/7)


أرجو الانتفاع بها في الدنيا والآخرة، وقد جردت العزم على هذا الأمر مراراً، فلم تتم العزمة، ولم تنفذ الهمة، والسبب في ذلك بعد سابق القدر احتقار النفس، والاتكال على الحفظ والدرس، ثم إني لما رأيت أني نسيت من ذلك الشيء الكثير، ولم يبق منه إلا القليل اليسير، ورأيت الحاجة في بعض الأحيان تدعوني إلى ما دخل تحت دائرة النسيان، ووقفت على كلام للشيخ ابن عربي حاصله: أن الإنسان ترد عليه الأشياء في نهاية الطلب، ينبغي له أن يعتني بحفظها، لأنه سوف يحتاج إليها فيما بعد، وما وردت إلا لذلك، فعند ذلك صمَّمت على تقييد ما يخطر في البال، وإليه، أضيف إن شاء الله تعالى ما يكون في الاستقبال مُستثنياً بمشيئة الله تعالى النافذة، ومفوضاً إليه، ومتوكلاً عليه، وراغباً فيما لديه، ومعتصماً به:
(وَمَن يَعْتَصِم بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ) [ آل عمران : 101]
ثم إني أُعْلِمُ أخاً وَقَفَ على ما هنا؛ فرأى فيه مُقاربةً لكلام أحدٍ لفظاً أو معنىً ، أنَّ ذلك وقع بطريق الموافقة؛ إذ ليس بخافٍ أن من أثبت كلام أحدٍ، ولم يعزُهُ إليه أنه سارقٌ أو غاصبٌ، وكلاهما قبيحٌ، وهذا أوان الابتداء، أصلح الله النية، وصفَّى الطوية.
(1/8)


بسم الله الرحمن الرحيم
قال رضي الله عنه ونفع به:
... الخلق مع الحق، لا يخلو أحد منهم من أن يكون في إحدى الدائرتين: إمّا دائرة الرحمة، أو دائرة الحكمة. فمن كان اليوم في دائرة الرحمة، كان غداً في دائرة الفضل. ومن كان اليوم في دائرة الحكمة، كان غداً في دائرة العدل.
... وقال: ما ترك من الكمال شيئاً مَن أقام نفسه من ربه مقام عبده من نفسه.
... وقال: النائمُ يُوقَظ، والغافلُ يُذكَّر، ومن لم يُجْدِ فيه التذكيرُ والتنبيهُ فهو ميًّت. إنما تنفع الموعظة من أقبل عليها بقلبه. ( وما يَتَذَكَّرُ إلا من يُنِيبُ) .
وقال: كيف يكون من المؤمنين مَن يُرضي المخلوقين بسخط رب العالمين؟
... وقال: العادةُ إذا رَسَخَتْ نَسَخَتْ.
(1/9)


... وقال: لا تدوم مع الكلفة ألفة.
... وقال: من لم يدفع عنه الفقرَ قليلُ المال، لم يُحصِّل له الغنى كثيرهُ. كذلك من لم ينتفع بقليل العلم، فهو من الانتفاع بكثيره أبعد.
... وقال: نازعَ الأقدارَ من استقبح من أخيه ما لا يدخل تحت الاختيار.
... وقال: الرضا بالقضاء ينتفي معه الاعتراض على الله. ويبقى معه الطلب لِما ينبغي أن يطلب، والهرب مما منه يهرب.
... وقال: الدنيا المحمودة هي التي يصل بها إلى فعل خير، أو ينجو بها من فعل شر.
والدنيا المباحة هي التي لا يقع بسببها في ترك مأمور ولا ركوب محظور، والدنيا المذمومة على لسان الكتاب والسنة، هي التي يقع بسببها في ترك طاعة أو فعل معصية.
... وقال: من الناس من يكتفي بالإشارة عن التعيين، ومنهم من يحتاج إلى التصريح مع الرفق واللين، ومنهم من لا يجدي فيه إلا التعنيف والتخشين،
(1/10)


ومن لم ينتفع بذا ولا بذاك، فهو من الشياطين، ولهؤلاء الأربعة أمثال من البهائم :
فمَثلُ الأول: مَثلُ الدابة المذلَّلة، تستغني عن أن تلجمها أو تضربها.
ومَثلُ الثاني: مَثلُ الدابة التي تكتفي بالخطام دون الضرب.
وَمَثلُ الثالث: مَثلُ الدابة التي لا تستقيم إلا بالضرب والزجر.
ومَثلُ الرابع: مَثلُ الدابة التي إن خطمتها أو ضربتها ازدادت نفوراً.
... وقال: إن شئت أن تكون حُرّاً فاترك كل أمر، إن لم تتركه اختياراً تركته اضطراراً.
... وقال: ما عُرِف قدر الشيء بمثل ضده، ولا تسلى المصاب بمثل ذكر من أصيب بمثل مصيبته.
... وقال: من أشغله حقُّ ربه عن حقوق نفسه وحقوق إخوانه، فهو عبد الحضرة.
ومن أشغله القيام بحق نفسه عن القيام بحق ربه وحق إخوانه، فهو عبد الشهوة.
(1/11)


ومن أشغله القيام بحقوق إخوانه عن القيام بحقوق ربه وحقوق نفسه، فهو عبد الرياسة.
ومن أشغله القيام بحقوق ربه وحقوق إخوانه عن القيام بحقوق نفسه، فهو صاحب وراثة.
... وقال: عجباً لمن يطلب الدنيا وهو من تحصيلها على وَهْمٍ، ومن الانتفاع بما حصله منها على شك، ومِن تَركِها والخروج منها على يقين.
... وقال: من تعوَّد نقض العزائم حيل بينه وبين الغنائم.
... وقال: إذا دعتك نفسك إلى شهوة، فإياك أن تقول أجيبها في هذه، وأفرِّغ القلب من مطالبتها، فإنك إن أجبتها إليها دعتك إلى أعظم منها.
... وقال: لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يجد في معاملة الحق ما يجد أهل الشهوات في شهواتهم من اللذة والحلاوة.
... وقال: المؤونة في كتمان السر أقل من المؤونة في تخوُّفِ إفشائه، ممن تطلعه عليه.
(1/12)


... وقال: أدلُّ دليلٍ على كمال عقل الرجل، ثناؤُهُ على أقرانه،
وأَدلُّ دليل على تواضعه رضاه بالتأخير في موطن يستحقُّ فيه التقديم، وأَدلُّ دليل على إخلاصه عدم المبالاة بإسخاط الخلق في جنب الحق.
... وقال: الدنيا شيئان لا ثالث لهما، أحدهما: حُبُّ المال، والآخر: حُبُّ الجاه. فمن زهد في المال والجاه، فهو صِدِّيق. ومن زهد في المال دون الجاه، فهو مُراءٍ. ومن زهد في الجاه وأحب المال، فهو لئيم. ومن أحبَّ المال والجاه كان أصغر عقوبته حرمانهما.
... وقال: الأراضي ثلاث:
* أرض إذا سُقِيَت أنبتتِ العشب والكلأ.
ومَثلُها من الناس؛ الذي يتعلم ويفهم في العلم. فكما أن النبات ليس عين الماء، ولكن الماء سبب حصوله. فكذلك الفهم ليس عين العلم، ولكن عن العلم يكون.
* والأرض الثانية تمسك الماء ولا تنبت الكلأ.
ومَثلُها من الناس؛ مَثَلُ الذي يحفظ العلم ولا يفهم فيه.
(1/13)


وإذا رأيت العالم لا يزيد على ما يسمع، فهو ذاك. وإذا رأيته يزيد عليه شيئاً يوافق ما سمع من العلم، فهو الأول.
* والأرض الثالثة أرض لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء.
وَمَثلُها من الناس؛ مَثلُ من لا يحفظ العلم، ولا يفهم فيه. فإلقاء العلم إلى من هذه صفته إضاعة للعلم. فكما أن رب الأرض التي هذه صفتها لا يسقيها. ويرى أن سقيها من الإضاعة، كذلك ينبغي أن لا يُلقى العلم إلى من يضيعه، بل أولى.
... وقال: لا تثبت الدعاوي بالأقوال حتى تقوم بإثباتها البيِّنة من الأفعال والأعمال.
... وقال: إذا ادَّعت نفسك أنها لا تفرق بين وجود الشيء وعدمه، فلا تقنع منها بذلك حتى تختبرها بالأمرين جميعاً.
... وقال: لولا العلامات لادَّعى كل واحد ما ليس عنده. ولكن بالعلامات والأمارات يُفَرَّق بين الصادق والكاذب.
... وقال: من تيسَّرت له مطالبه الأخروية، وتعسَّرت عليه مطالبه
(1/14)


الدنيوية، فهو من ورثة النبيين.
ومن تيسَّرت مطالبه الدنيوية والأخروية، فهو من أصحاب اليمين.
ومن تيسَّرت له مطالبه الدنيوية، وتعسَّرت عليه الأخروية، فهو من المستدرَجين.
ومن تعسَّرت عليه مطالبه الأخروية والدنيوية، فهو من الممقوتين.
... وقال: شر الفقراء من يودُّ أنه من الأغنياء، وخير الأغنياء من لا يكره أن يكون من الفقراء.
وقال: من أمسك عن تناول فضول الشهوات، ولم ينفق ما في يديه من فضول الأموال؛ فهو محروم.
والذي يتمتع بما في يده من الدنيا، وينفقه في شهواته المباحة أحسن حالاً منه.
وقال: لا يكمل حال الداعي إلى رب العالمين، حتى يصير قوله وفعله حجة على جميع المؤمنين.
وقال: إذا رأيت العالِم يفيد بقوله دون فعله، فاعلم إنه ناقص. وإذا رأيت المتعلِّم تفيده الأقوال، ولا تؤدِّبه الأفعال، فاعلم أنه عن التحصيل ناكص.
(1/15)


وإذا رأيت الطالب ينتفع بأقوال شيخه، ولا ينتفع بأفعاله، فانظر فإن لم تَرَ في أفعال الشيخ ما تحصل به الفائدة، فليس بشيء. وإذا رأيت أفعاله تفيد، ولكن لا يحسن الطالب أن يستفيد، فلا تعتد به.
... وقال: من أحبَّ أن يوصف بما ليس عنده من الخير، وكره أن يذكر بما فيه من الشر، فاعلم أنه مراءٍ.
... وقال: كثيراً ما يلتبس الحياء المحمود بالجبن المذموم، والفرق بينهما: أن كل حياءٍ حملك على ترك خيرٍ وَوَقعتَ بسببه في شرٍّ، فهو الجبن المذموم، وليس بالحياء، لأن الحياء لا يأتي إلا بخير. كما في الحديث.
... وقال: مَن أهمل الصدق حيث يٍخاف، استعمل الكذب حيث يرجو.
... وقال: من نظر إلى الدنيا بعينَي رأسه، رأى غروراً وزُوراً. ومن نظر إليها بعينَي قلبه، رأى هباءً منثوراَ.
... وقال: في الحرص على المال هلاكُ الدِّين، وفي الحرص على الجاه هلاكُ الدِّينِ والمالِ جميعاً.
(1/16)


... وقال: ليس واضع المال في غير حقِّه بأقل إثماً من ماسكه عن حقه.
... وقال: من أمسك شيئاً يرى أن إنفاقه خيرٌ من إمساكه، فهو من المؤثرين للدنيا.
... وقال: مشاهدة المؤثرين للدنيا تمحو حب الآخرة من القلب. فكيف بالمجالسة والمخالطة؟!
... وقال: كفى بفقدان الرغبة في الخير مصيبة! وكفى بالذل في طلب الدنيا عقوبة! وكفى بالظلم حتفاً لصاحبه! وكفى بالذنب عاراً للِمُلِمِّ به!
... وقال: من ترك الحزم للوهم، فهو أحمق! ومن أقام على الشكِّ مع إمكان المصير على اليقين، فهو أخرق!
... وقال: ينبغي أن يدور كلام العالم بالله مع عامَّة المؤمنين، على ثلاثة أمور:
الأول: التذكير بالنعم.
والثاني: إلزام الطاعة.
والثالث: اجتناب المعصية.
فكل عالم أخذ يتكلم مع العامَّة بغير ما يدخل تحت هذه الثلاثة؛ فهو فتَّان.
(1/17)


... وقال: رحمةٌ تطلبك، ورحمةٌ تطلبها.
فالتي تطلبك: رحمة الهداية بالبيان. ولأجلها كان إرسال الرُّسل وإنزال الكتب. والتي تطلبها: هي الجنة، تسعى لها بالعمل الصالح، على قانون العلم النافع.
... وقال: دواعي الحرص على الدنيا ثلاثة:
أحدها: النظر إليها بعين الاستحسان. وعنه يكون حُبُّ البقاء للتمتُّع.
والثاني: تعظيم الناس لأربابها، ومنه يكون التفاخر والتكاثر.
والثالث: تَوَهُّم أن لا قِوام بدونها. وعنه ينشأ البخل وخوف الفقر.
... وقال: أجهل الجاهلين من تزيده المعرفة بسعة رحمة الله جرأة على معاصيه.
... وقال: من حَدَّث نفسه بالتوبة من الذنب قبل الوقوع فيه؛ دعاه ذلك إلى فعله.
(1/18)


... وقال: مَثلُ الذي يُذْنِبُ لِيَتُوبَ، مَثلُ الذي يُدَنِّسُ بدنَهُ وثيابَهُ لِيغتَسِلَ! وما هكذا ينبغي. إنما ينبغي أن يحترز من الدَّنَسِ ما استطاع، ثم إن وقع بحكم الغفلة والسهو، كان الواجب عليه التَّنَظُّفَ في الحال.
... وقال: مَثلُ الأخوة في الله مَثلُ الشجرة، تُسقى بماء التزاور، وتثمر التعاون على البر والتقوى. فإذا لم تسقَ الشجرة يَبِسَت، وإذا لم تُثمِر قُطِعَت.
... وقال: إذا عملتَ الطاعة، فانظُرْ إن شِئتَ في بدايتها التي كانت بحول الله وقوَّته وحسن توفيقه، وبذلك ينتفي الإعجاب، ويبقى شهودُ المِنَّة لله تعالى.
وإن شِئتَ نَظَرتَ في نهايتها التي هي جزيل الثواب، وحسن المآب، وعنده تعظم الرغبة وتخفُّ المداومة. والأوَّلُ أتَمُّ.
وإذا وقعت منك المعصية، فإياك أن تنظر إلى بدايتها التي هي التقدير، فيدعوك ذلك إلى الاحتجاج على الله، وهو أعظم من المعصية. ولكن ينبغي أن تنظر في نهايتها التي هي أليم العقاب، وعنده تبادر إلى التوبة، وتعظم الرهبة.
(1/19)


... وقال: من مكارم الأخلاق: التواضع في الرفعة، والتجمل في القلة، والاقتصاد في الثروة.
... وقال: العاقل الذي لا علم له؛ كالرَّشيد الذي لا مال له!! والعالم الذي لا عقل له؛ كصاحب المال الذي لا رشد له!!
... وقال: سخِّر عقلك لعلمك، وسخِّر نفسك لعقلك.
... وقال: ما الشأن شهود التقصير في التقصير، إنما الشأن شهود التقصير في التشمير.
... وقال: يكون الخير في الأكثر شاقاً في الحال، حلواً في المآل، ومَثَلُ فاعله مَثَلُ الذي يصعد في العقبة الكئود، لا يجد الراحة حتى ينتهي إلى أعلاها.
والشرُّ يكون في الأكثر حلواً في الحال، وشاقاً في الاستقبال، ومَثَلُ فاعلِهِ مَثَلُ الذي يقع من ذروة جبل أو بيت لا يجد الألم حتَّى يَقَعَ على الأرض.
... وقال: لا ينبغي أن تعتدَّ بأخوَّة أخٍ يستطيع أن ينفعك فلا يفعل.
... وقال: إذا أردتَ أن تصطفيَ إنساناً لنفسك، فلا بأس أن تَمْتَحِنَهُ بما لا يصحُّ الاصطفاء بدونه.
... وقال: لا تَصْحَبْ إلا مَن تستطيع القيام بحقوقه، ولا يُحْوِجُكَ لطلب حقوقِكَ، لكمال قيامه بها.
(1/20)


... وقال: من عول في إسقاط حقوق إخوانه على قبول العذر، كان أقل ما يلقاهم به الغش والمكر.
... وقال: أكرم إخوانك إكراماً تستطيع الدوام عليه، وإلا كان مآل الأمر إلى الوحشة والقطيعة.
... وقال: التأويل على ضربين:
أحدهما: يدل على الكمال، وهو ما يُؤوَّلُ ليصل إلى الأفهام. وهذا النوع كثير في الكتاب والسنة.
والثاني: ما يُؤوَّلُ ليصح كونه حقاً أو غير باطل. وهذا يدل على النقص.
فكل شيخ يحتاج في صحبته إلى التأويل على الوجه الثاني، لا يكمل الاقتداء به، لأن التأويل لا يحصِّل كمالاً، وإنما يدفع نقصاً.
... وقال: من أفرط في حب شهوة من شهوات الدنيا المباحة، وقع لا محالة في موجب النار أو العار.
... وقال: تَخاصَم العجزُ والحرمانُ: أيُّهما أضَرُّ على صاحبه؟! وترافَعا إلى العقل، فقضى بينهما: أنَّ العجزَ أصلٌ، والحرمانَ فرعُهُ.
(1/21)


... وقال: ما من طويِّة إلا وفيها خفيِّة.
... وقال: إذا صلحت المقاصد لم يَخِبِ القاصد.
... وقال: الشيطان على إضلال العالِم أحرص منه على إضلال الجاهل، لأن العالم إذا ضلَّ يضلُّ بضلاله غيره، والجاهل ليس كذلك.
... وقال: من أصلح نيته بلغ أمنيته.
... وقال: يصعب سلوك سبيل النجاة على مَن غلب على قلبه حب المال والجاه.
... وقال: الخوف الصادق يعمل في محو الشهوات النفسانية والهمم الدنية عمل النار في إحراق الأشجار.
قال الله تعالى: (فَأَصابَها إِعصَارٌ فِيهِ نارٌ فاحتَرَقَت) [البقرة:266 ]
والرجاء الصادق يعمل في استخراج النِّيَّات الطيبة والأعمال الصالحة عمل الماء في الأرض الهامدة الخاشعة.
قال تعالى: (وَتَرى الأَرضَ هامِدةً فَإِذا أَنزَلْنَا عَليها المَآء اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهيج) [الحج:5].
... وقال: ينبغي أن توقِدَ لك سراجاً من العلم النافع والعمل الصالح، تستضيء به في ليل ظلمات الدنيا، حتى يطلع عليك فجر الموت، أو شمس الساعة ، فإنك إن بقيت في ليلها بلا سراج،
(1/22)


تنتظر طلوع هذا الفجر، أو سطوع هذه الشمس، حَقَّ عليك قول الله تعالى: (ومَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعمَى فَهُوَ في الآخِرَةِ أَعمى وَأَضَلُّ سَبيلاً) [الإسراء:72]
... وقال رضي الله عنه: كفى بالنجاة من النار مثوبة، وكفى بحرمان الجنة عقوبة.
... وقال: العالم بأسره متلاشي، وهو في الحقيقة لا شيء.
... وقال: من رحمة ربك بك أن حجبك عنه.
... وقال: الإفراط في الأمر آية على المصير فيه إلى التفريط.
... وقال: مَن مَدَحَك عند رضائه بما ليس فيك، ذمَّك لا محالة عند غضبه عليك بما ليس فيك.
بَيتَا شِعرٍ:
إذا آنستُ من خِلٍّ جَفاءً ... فلا أجفُو وإن هو قد جفاني
ولكني أفارقه برفقٍ ... وأُمسِك عن تناولِهِ لساني
... وقال رضي الله عنه: الذكر لله مغناطيس القلوب، يجذبها بخاصيته من مواطن الغفلة إلى عوالم الغيوب.
... وقال: لا يطمعُ في بلوغ الآمال والأوطار؛ من لم يوطِّن نفسَه على ركوبِ الأهوال والأخطار.
(1/23)


... وقال: لا ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل، الذي يظن بنفسه العقل أصلاً. فإنه إن خاطبه على مقتضى عقله، كان مضيِّعاً للعقل ومستهيناً بفضله. وإن خاطبه بحَسَب جهله، كان متشبِّهاً به ومعدوداً مثله. قال الله تعالى لنبيه: ( خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وأَعرِض عَنِ الجاهلينَ ) [الأعراف : 199] .
... وقال: من أرضاك بما يضرُّك في دينك - كالمداهنة لك وعدم النصح والتبصير بالعيوب- فهو لك عدوُّ، وإن كانت نفسك تميل إليه من حيث طبعها وهواها. وهو كالطعام اللذيذ الملائم، وفيه السُّمُّ الناقع.
وَمَن أسخطك بما ينفعك في دينك- مثل التنبيه على العيوب والنقائص التي هي فيك- فهو لك وليٌّ وإن كرهته بطبعك. ومَثَلُه كالدَّواء المُرِّ الذي يكون في ضمنه العافية والشفاء.
... وقال: من احبَّ أن يذكره الناس ويثنوا عليه بشيء من الكمال، وهو يعلم من نفسه خلافه. وكره أن يذموه بأمر يعلم من نفسه انطواءَ هُ عليه، حتى يصير يفرح ويميل إلى من يمدحه، وينفر ويكره من يذمه، فقد عظمت حماقته وتمت غباوته.
... وقال: الإيمان شجرة ثابتة في أرض القلب، والاعتقادات والمعارف الإيمانية بمنزلة الأصول والعروق لتلك الشجرة، والأخلاق المحمودة
(1/24)


والأعمال الصالحة بمنزلة الفروع والغصون لها.
ومثال الموت، وما يعرض عنده من الفتن، ويحصل بواسطته من شدة الألم، كالسيل القوي الذي يجري على أصول هذه الشجرة، أو الريح المزعزعة التي تحرك فروعها، وتميل بها يميناً وشمالاً.
فإن لم تكن هذه الشجرة الشريفة، في نهاية القوَّة، والنمو، والرسوخ، فروعاً وأصولاً، خِيفَ عليها الانقلاع في ذلك الوقت.
ومن أجل ذلك، اشتدَّ خوفُ الأكابر من سوء الخاتمة، وزيغِ القلب عند الموت.
ثمَّ إن القوادح والعوارض التي تعرض لأصولها، من البدع والشكوك، والاضطراب في أمر الآخرة، يجري مجرى ما يعرض في أصول الشجر من الآفات والأخلاق المذمومة، و المعاصي تجري منها مجرى ما يقع لفروع الشجرة وأغصانها من العوارض.
فلا جَرَمَ أنْ كان الذي يقدح في الأصل ويوهنه، أضرَّ على الشجرة كثيراً من الذي يقع على الفروع.
(1/25)


ولهذا عَظُمَ أمر البدعة والشكِّ في اليوم الآخر. وكان على صاحبه أضرُّ من المعاصي والمحرمات.
نسأل الله العافية، والوفاة على الإسلام.
... وقال رضي الله عنه ونفع به: الدنيا تنادي على نفسها بلسان الحال، خطاباً للراغبين فيها: احذروني فإنني فتنة، وخذوا مني زاد الآخرة. وامتثلوا أمر الله لكم، في ترككم إياي. واعتبروا بمن مضى من قبلكم، من الزاهدين فيَّ والمتمتعين بي. وانظروا في سِيَرِهم، وكيف ذهبوا وانقلبوا إلى الآخرة. الزاهدون منهم بنعيم لا ينقضي، وأهل الحرص بحسرة لا تنقطع.
... وقال: الكمال أربعة أجزاء:
العلم، وبه يُعرَف حق الله تعالى. والعمل بالعلم، وهو القيام بأمر الله.
والإخلاص في العلم والعمل، وهو تصفية ما لله.
والبراءة من الحول والقوة، وهو الاعتماد على الله.
فمن عرف حقَّ الله، وقام بأمر الله، وصفى ما لله، واعتمد على الله، فهو الإنسان المرتَضى، الولي لله المجتَبى.
(1/26)


... وقال رضي الله عنه: السماع يشفي السقيم، ويحيي الرميم، إذا وقع من أهله مع أهله في الوقت القابل لذلك، والمحل اللائق به. وهو فتنة على المستمع بالحظ والهوى، وعلى المسمِّع على هذا الوجه.
... وقال: لا بدَّ للإنسان في الوصول إلى سعادات الآخرة من أمرين:
أحدهما: الهداية والتوفيق من الله. وهو بمنزلة الغيث الذي يصيب الأرض.
والثاني: السعي إلى الله على منهاج الاستقامة، وهو بمنزلة الحرث للأرض، وتعهدها بما تحتاج إليه من البذر، والتربية والحفظ، وتنحية المؤذي، إلى غير ذلك.
فحرث الأرض دون أن يصيبها السيل عناءٌ وتعبٌ بلا حاصل. وإصابة السيل لها مع ترك الحرث إضاعة.
فالتوفيق من الله كالغيث، ليس للعبد فيه مدخل، وذلك هو الحقيقة. والسعي والاجتهاد الذي هو بمنزلة حرث الأرض وتعهدها إلى العبد، وهو كسبه، وعنه يُسأل، وعليه يُجزى، وذلك هو الشريعة.
(1/27)


وقال رضي الله عنه: الدنيا بمنزلة البادية المخوفة، الكثيرة السُّرَّاق والغُصَّاب. والآخرة بمنزلة المدينة الخصيبة الآمنة. والإنسان خرج إلى الدنيا ليأخذ مما فيها، فيقدِّمه للآخرة.
فالعاقل كلما حصل في يده شيء من أمتعتها قَدَّمه أمامه، ليُحفظ ويأمن عليه، وينتفع به إذا وصل إلى محل استقراره وهي الآخرة.
والجاهل يحتبس ما معه عنده بخلاً به، فإما أن يأخذه الغُّصَّاب من يده؛ وهي أمثال آفات الدنيا. وإما أن يسافر هو من البادية التي لا قرار له بها على القهر منه، ويُكَلَّف ترك ما معه، فيأخذه من يبقى في المحل الذي انتقل عنه.
هذا مثالٌ عجيب، فليَفْهَمْهُ العاقلُ اللبيبُ. قال الله تعالى:
(وَتِلكَ الأَمثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُها إلاَّ العالِمونَ) [العنكبوت:43].
... وقال رضي الله عنه: الخوف لا ينتفي، ولا يذهب عن المؤمن، وإن كان قوي الإيمان صالح العمل. بل كلما كان الإيمان أكمل والعمل أصلح، كان الخوف أعظم. مثال ذلك:
الإنسان يكون معه الذهب، والفضة الكثيرة، والأقمشة المليحة، وهو
(1/28)


مسافر في خبت مخوف، أو بحر مغرق. فالمال الذي يتوصل به إلى الغنى والشرف معه، ولكنه لا يَنْتفِعُ به، ويشتد خوفه على فوته، ولا يخاف من ليس معه شيء.
ثم إنه لا يتم سرور صاحب هذا المال بماله، وينتفي عنه الخوف حتى يصل البندر، ويتيقن السلامة.
فالآخرة هي بندر الأمن، والدنيا هي البحر المغرق، والخبت المخوف، والمسافر هو الإنسان، والنقود والأقمشة التي تكون معه هي المعارف الإيمانية والأعمال الصالحة، والأمور التي يَخشى منها في هذا السفر على هذه الأمتعة الشريفة هي الشكوك والآفات التي تعرض للإيمان والأعمال الصالحة فتفسدها. نسأل الله العافية.
... وقال رضي الله عنه ونفع به: تذهب الدنيا شيئاً فشيئاً، حتى لا يبقى منها شيء.
... وقال: كلام أهل الإخلاص والصدق نورٌ وبركةٌ، وإن كان غير فصيح. وكلام أهل الرَّياء والتَّكلُّف ظلمةٍ وخيبة، وإن كان فصيحاً.
... وقال: من لم تكن له بصيرة تهديه، طال تعبُ المعلِّمين والمؤدِّبين فيه.
(1/29)


... وقال: من تكبَّر على الحق وأهله، ابتلاه الله بالذل والباطل وأهله، فيجتمع عليه عند ذلك مصيبتان وعقوبتان، وتفوته منقبتان ومثوبتان.
... وقال: المؤمن يتجوز في العادات ولا يتجوز في العبادات. والمنافق يتجوز في العبادات ولا يتجوز في العادات.
... وقال: من لم يتهم نفسه في كلِّ وردٍ وصَدَر، وقع منها كُلُّ البلايا الكُبَر.
... وقال: رُبَّ داعٍ إلى الهوى والطبيعة، وهو يدَّعي أنه يدعو إلى الدين والشريعة.
... وقال: العلم عليك حتى تعمل به، فإذا عملت به كان العلم لك.
... وقال: ما أظَلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أشد حماقةً ممن يعلم حُسن شيء وهو له تارك، ويعلم قُبحَ شيء وهو له فاعل.
... وقال: دبِّرْ ثم افعل. فكِّرْ ثم قُل.
... وقال: كفى أهل الآخرة شرفاً أنَّ كل أحدٍ يُحِبُّ أن يُنْسَبَ إليهم، وإن لم يكن منهم. وكفى أهلُ الدنيا ضَعةً أن كلَّ أحدٍ يكره أن يذكر في جملتهم، وإن كان من أكابرهم.
(1/30)


... وقال: من أكبر الكبائر الباطنة والظاهرة، أن تلتمس من أصحابك الدنيا، وهم يلتمسون منك الآخرة.
... وقال: قيمة الإنسان عند أهل الدنيا، ما يأخذه منهم.
... وقال: إن أردت أن تستشير إنساناً فَقَدِّر أنه يشير عليك بمخالفة ما تحب، فإن رأيت امتثاله، وإلا فدع.
... وقال: رأي الإنسان فرع علمه وعقله، فلا ينبغي أن يضعه عند من لا يأخذ به.
ولَحِقَ بعدُ من الكلام المنثور، هذا المسطور:
... وقال: مَن سَلكَ مَلكَ، ومن حَادَ هَلكَ.
... وقال: من حَفظ الفؤاد، حُفظ من الفساد.
... وقال: من حفظ الجوارح، أمِنَ الجوارح.
... وقال: كاد العاقل أن لا يكون له عدو.
... وقال: كاد الأحمق أن لا يكون له صديق.
... وقال: في أسفار الأرباح راحة الأرواح والأشباح، وفي أسفار الأخطار تعب الظواهر والأسرار. والله أعلم
وصلَّى الله سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.

* * * * * * *
(1/31)


Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "الحكم للامام الحداد -Kitab Alhaddaad"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip