//

رسالة المذاكرة - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-12








سلسلة كتب الإمام الحداد (6)
**********رسالة المذاكرة **********
مع الإخوان المحبين من أهل الخير والدين
********************************

تأليف
الإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
الحسيني الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
(1044-1132هـ)



الناشر دار الحاوي للطباعة والنشرو التوزيع
الطبعة الأولى سنة 1413هـ
الطبعة الثانية سنة 1418هـ



بسم الله الرحمن الرحيم

{ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
[البقرة:32].

                                 المقدمة
الحمدلله رب العالمين، الذي خلق الإنسان من طين، وجعل نسله من ماء مهين، و أخرج المؤمنين المتواصلين بالصبر و الحق من زمرة الخاسرين، باستثنائه إياهم بعد أن عم بالخسران نوع الإنسان الذي هو سائر الآدميين. وأمر عباده الذين آمنوا بالتعاون على البر و التقوى، وأخبرهم أن أكرمهم عند الله أتقاهم، و أنه وليّ المتقين. وأنه ما خلق الجن و الانس الا ليعبدوه، لا ليعمروا الدنيا ويجمعوا الاموال، بل قد حذرهم ذلك على لسان رسوله الأمين القائل: ((ما أوحي إليّ أن أجمع المال وكن من التاجرين، ولكن أن سبّح بحمد ربك وكن من الساجدين، و أعبد ربك حتى يأتيك اليقين)). فإذاً سعادة كل أحد و كماله في إلتزام الأمر الذي لأجله خُلق، و التفرغ له بقطع ما يمنع منه و يصد عنه من ترهات الحمقاء المغرورين، وتهويسات الاغبياء الباطلين.
(1/9)


و صلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين و خاتم النبيين، الذي أرسله رحمةً للعالمين، و على آله و أصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن جِماع الخير الخير و ملاكه تقوى الله في السرّ و العلانية، في الغيب و الشهادة؛ و التقوى هي الخصلة التي تجمع لصاحبها خير الدنيا و الآخرة. و لعظم موقعها من الدين وجلالة قدرها عند العلماء الراسخين صدروا بها الخطب و المواعظ و الوضايا. ولكونها جامعة للخير كله اكنفي بذكرها في الوصية الواجبة في الخطبة، وكثيراً ما يقتصر عليها الأكابر في وصيةِ مَن إستوصاهم.
و التقوى وصية الله رب العالمين للأولين و الآخرين. قال تعالى { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ }[النساء :131].
و قال سبحانه و تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً }[الأحزاب:70].
و قال عز و جل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}[آل عمران:102].
وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}التغابن16، أي افرغوا الطاقة والإمكان في ذلك: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7] ،
(1/10)


والآيات في الأمر بالتقوى كثيرة. و قد جمع الله للمتقين خيرات الدنيا و الآخرة، فمن ذلك المخرج من الشدة، و الرزق من حيث لا يحتسبون؛ قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3] .
و من ذلك الهدى، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2].
ومنها العلم، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ }[البقرة:282].
ومنها الفرقان و الكفارة للسيئات والمغفرة للذنوب، قال سبحانه و تعالى: { إن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ }[الأنفال:29]. قال بعض المفسرين: يجعل لكم فرقاناً هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق و الباطل.
ومنها الولاية، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ }[الجاثية:19].
ومنها المعية، قال الله سبحانه و تعلالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[البقرة:194]، أي بالنصر و الرعاية و الحراسة.
(1/11)


ومنها المناجاة، قال الله سبحانه و تعالى: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا }[مريم :72].
ومنها الوعد بالجنة، قال عز من قائل: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15]، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ }[القلم:34]، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ }[ق:31].
إلى غير ذلك من الخيرات الجميلة، والفضائل الجليلة، والمواهب الجزيلة. و يكفي في شرف التقوى ان الله ذكرها في أكثر من تسعين موضعاً من كتابه.
وفي الأمر بالتقوى وفضيلته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، و اتبع السيئة الحسنة تمحها، و خالق الناس بخلق حسن)). وقال عليه الصلاة و السلام: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع و الطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي)).. الحديث.
وقال عليه الصلاة و السلام: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدو فبكلمة طيبة)).
وكان عليه الصلاة و السلام يقول في دعائه: ((اللهم اني اسألك الهدى و التقى و العفاف و الغنى)).
وقال عليه الصلاة و السلام: ((لا فضل لأبيض على أسود ولا لعربي على عجمي إلا بتقوى الله، أنتم من آدم وآدم من تراب)).
(1/12)


وقيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: ((أتقاهم)).. الحديث.
وروي أنه عليه الصلاة و السلام قال: ((لا تأكل الا طعام تقي، ولا يأكل طعامك الا تقي)).
وقالت عائشة رضي الله عنها: ((ما عجب رسول الله شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد إلا أن يكون ذا تقى)).
وقال علي كرم الله وجهه: "إنَّه لا يَهِيجُ على التقوى زرعُ قوم"، ومعنى يهيج يهلك.
وقال قتادة: "مكتوب في التوراة: اتق الله ومت حيث شئت".
وقال الاعمش: "من كان رأس ماله التقوى كلت الألسنة عن وصف ربحه".
وكان بشر الحافي ينشد:
موت التقيِّ حياةٌ لا نفاذَ لها ... قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ
وفضائل التقوى و المتقين أكثر من أن تُحصر، و قد بسط الكلام في التقوى الإمام الغزالي في منهاجه. و قد لخصنا من كلامه بعض ما ذكرناه.
(1/13)


فصل: ( في معاني التقوى)
قال الامام الغزالي: التقوى في القرأن تطلق على ثلاث معاني:
أحدها : بمعني الخشية و الهيبة
والثاني: بمعنى الطاعة و العبادة
و الثالث: بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، و هذا هو الحقيقة ... انتهى مختصراً.
وعلى الجملة، فالتقوى عبارة عن اتِّقاء سخط الله و عقابه ، و بامتثال ما به أمر، واجتناب ما عنه نهى و زجر. و حقيقة التقوى أن لا ياراك مولاك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
(1/14)


فصل : (في جزاء الأعمال)
وقد علمت أولو القلوب السليمة والعقول المستقيمه أنهم يجزون ما يعملون، و يحصدون ما يزرعون، و كما يدينون يُدانون، وعلى ماقدّموه يقدمون. و كيف لايعلمون ذالك ويوقِنون بما هنالك وهم يسمعون ما به يؤمنون، ويصدقون من تزيل الله المحكم وحديث نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يوجب العلم واليقين القطعي لمن نوَّر الله قلبه وشرح صدره. فأحضر قلبك وأصغ بأُذنِك إلي طرفٍ من ذلك لعلك بسماعه تستيقض من غفلتك وتتنبه من نومتك فتعمل لنفسك صالحاً تنجو به {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }[الشعراء: 88- 89].
قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى }[النجم:31].
وقال تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}[النجم39:-42].
وقال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً}
[النساء:123-124].
(1/15)


وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[الزلزلة:7-8].
قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286].
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}[فصلت:46].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:30].
و قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[البقرة:281].
و يقال أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( إن روح القدس نفث في روعي: عش ما عشت فإنك ميت، و أحبب ما أحببت فإنك مفارقه، و أعمل ما شئت فإنك مجزى به)).
وقال عليه الصلاة و السلام: (( البر لا يُبلى، و الذمب لا يُنسى، و الديان لا يُفنى، كما تدين تُدان)).
وقال عليه الصلاة و السلام فيما يرويه عن ربه: (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
(1/16)


وقال عليه الصلاة و السلام: (( لا تسبوا الموتى فقد أفضوا إلى ما قدموا)).
و ورِدَ: "إن العبد قد يرفع على سيده في درجات الجنة .. فيقول السيد: أيا ربِّ هذا كان عبدي في الدنيا، فيقول سبحانه إنما جزيته بعمله".
وقال علي كرم الله و جهه: "الدنيا دار عمل ولا جزاء فيها، و الآخرة دار جزاء و لا عمل فيها. فأعملوا في دار لا جزاء فيها لدارٍ لا عمل فيها". و قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يقول الله لأهل الجنة: ادخلوا الجنة برحمتي وأخلدوا فيها بنياتكم الصالحة، و اقتسموها بأعمالكم".
و ما ذكرته من الأدلة على وقوع المجازاة أردت به التنبيه؛ و إلا فهو أمر معلوم للخاص و العام؛ معروف لا يكاد يخفى منه شيءٌ على الأغبياء من العوام.
(1/17)


فصل: (في رضا الله و سخطه)
وقد جعل الله بمشيئته رضاه في طاعته، و سخطه في معصيته. و وعد من أطاعه دخول جنته برحمته، و أوعد من عصاه دخول ناره بعدله و حكمته، فقال تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[النساء:13-14].
و قد أمر سبحانه عباده الذين آمنوا بالمسارعة الى مغفرته و جنته. وأن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً بامتثال أمره و إجتناب معصيته. فقال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }[آل عمران:133].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم:6].
(1/18)


فَصْل: (في ذِكْرِ شَيءٍ ممّا يُكرِمُ الله به مَنْ أطاعَه وَ عَمِل الصَّالِحاتِ لوَجْههِ)
قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}الآية [النحل:97] .
وقال سبحانه: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً}[النور:55].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً، أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}[الكهف:30-31].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}[مريم:96]، قال (فيها) ابن عباس -رضي الله عنهما-: " يُحِبُّهُمْ و يُحَبِّبُهُم إلى المؤمنين".
(1/19)


وقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها؛ وإن سألني لأعطينه، و لئن استعاذني لأعيذنه".
أكرِمْ الله بهذه المحبة العظيمة التي تصير معها حركات العبد و سكناته كلها بالله و لله من أدَّى ما إفترضه عليه و أكثر من نوافل الطاعات تقرباً إليه.
وقال عليه الصلاة و السلام: ((إذا تقرّب إليّ عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتى يمشي أتيته هرولة)).
فتَقَرُّبُ العبدِ إلى ربِّه بطاعته و خدمته، و تَقَرُّبُ الربِّ من عبده بفضله و رحمته.
و قال عليه الصلاة و السلام -فيما يحكي عن ربِّه سبحانه-: ((أعدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)).
وفي الزبور: ((ابن آدم أطِعْنِي أملأ قَلْبَكَ غنى، ويديك رزقاً، وجسمك صحة)).
و أوحى الله إلى الدنيا: ((يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه)).
(1/20)


وقال بشر بن الحارث رحمه الله: "ذهب أهل الخير بالدنيا و الآخرة".
و قال يحيى بن معاذ: "أبناء الدنيا تخدمهم العبيد، وأبناء الآخرة تخدمهم الأحرار.
فإن أردت يا أخي أن يكون لك عزٌّ لا ينقضي، وسؤدد لا ينقطع، وشرف لا يذهب، و مجد لا يبلى؛ فأَطِعْ ربَّك؛ فإن الله قد جعل ذلك كلِّه في طاعته، يكرم به من أطاعه من عباده، وقد أكرم الله عباداً أطاعوه فحرَّرهم من رقِّ الشهوات ، و طهَّر قلوبهم من دنس الالتفات إلى الفانيات، وأجرى على أيديهم خوارق العادات وعجائب الكرامات؛ من الإخبار بالمغيبات و إدرار البكرات و إجابة الدعوات؛ فأصبح الناس يقتبسون من أنوارهم، و يقتدون بآثارهم، و يتوجهون بهم إلى الله في كشف مهماتهم، ويسألونه بحقهم في دفع ملماتهم، و يَسْتَشْفِعُون بمواطئ أقدامهم، و يتبركون بتربة ضرائحهم.
و قد أكرمهم سبحانه بما هو أجلُّ من ذلك ، قذف في قلوبهم من نوره، وحشاها من خالص معرفته و محبته، وآنسهم في خلواتهم بذكره ؛فاستوحشوا من خليقته، و أعدّ لهم النعيم المقيم في جنات النعيم، و و وعدهم النظر إلى وجهه الكريم، و رضاه عنهم أكبر: { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[الدخان:57]، {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ}[الصافات:61]
(1/21)


فَصْل: في ذِكْرِ شَيءٍ ممّا يترَتّب على المعَصيَة مِنَ الخِزي وَالدَّمار وَالهَوَان وَالبَوار في الدّنيَا وَالآخِرَةِ
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى}[طه:74].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4]، ومعنى يسبقونا: يعجزونا و يفوتونا.
وقال تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }[الأحزاب:36].
و قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
وقال عليه الصلاة و السلام: ((إذا أذنب العبد ذنباُ كانت نكتة سوداء في قلبه، وإن عاد زاد ذالك حتى يَسْوَدَّ قلبه. فذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين:14])).
(1/22)


وقال عليه الصلاة و السلام: ((قسوة القلب من كثرة الذنوب)).
وقال -صلى الله عليه و سلم-: ((إن العبد ليحرم الرزق لذنب يصيبه))... الحديث.
وأوحى الله إلى موسى -عليه السلام-: "يا موسى أوّل من مات من خلقي إبليس -لعنه الله- لأنه أوّل من عصاني، ومن عصاني كتبته ميتاً". وقال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: "ما أكرمت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانتها بمثل معصية الله، ويكفي المؤمن من نصر الله له أن يرى عدوّه يعمل بالمعاصي".
وقال محمد بن واسع: "الذنب على الذنب يميت القلب".
وقال بعض السلف: "إن كنت تعصي الله وأنت ترى أنه يراك فأنت مستهزىء بنظر الله، وإن كنت تعصيه وترى أنه لا يراك فأنت كافر". وقيل لوهيب بن الورد: "هل يجد لذة العبادة من يعصي الله؟ قال:لا، ولا من يهمّ بالمعصية".
وكان السلف الصالح يقولون: "المعاصي بريد الكفر، أي رسوله".
وعلى الجملة فعلامة السقوط من عين الله والكون في مقت الله العمل بمعصية الله. فالمصرّ عليها مقيت الرحمن ووليّ الشيطان و بغيض أهل الإيمان. فإياك يا أخي و التعرُّضَ لسخط الله و عقابه بارتكاب معصيته.
(1/23)


ومهما دعتك نفسك إلى ارتكابها فذكرها بإطلاع الله عليك و نظره إليك، وخوِّفها بما توَعّد الله مَن عصاه من أليم العذاب و عظيم العقاب. ولو لمن يكن في ارتكابها إلا فوات منازل الصادقين وحرمان ثواب المحسنين لكان كافياً .
كيف ؟ و في ارتكابها العار والنار ، وسخط الجبار وغضبه الذي لا تقوم له السماوات و الأرض، نسأل الله العافية بمنّه.
(1/24)


فَصْل: ( في العمل الصالح و التوبة )
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)).
فإذا وفقك الله أيها المؤمن للعمل بطاعته فلْيَعْظُم فرحك ولتبالغ في شكر الذي أكرمك بخدمته و اختارك لمعاملته، وأسئلة أن يقبل منك بفضله ما يسره عليك من صالح العمل.
قال عليّ -كرّم الله وجهه-: "كونوا بقبول العمل أهمّ منكم بالعمل، فأنه لا يقلّ عمل مقبول".
ولا تزل معترفاً بتقصيرك عن القيام بواجب حق ربك عليك ،و إن عظم في طاعته جدك وتشميرك، فإن حقه عليك عظيم. أوجدك من العدم و أسبغ عليك النعم وعاملك بالفضل والكرم، و بحوله و قوَّته أطعته، و بتوفيقه و رحمته عبدته.
وإياك أن تدنس قميص إيمانك، وتسوّد وجه قلبك؛ بإتيان ما نهاك عنه مولاك.
(1/25)


ومهما وقع منك ذنب ولو على سبيل الندور فعليك أن تبادر بالتوبة و تحسن الأوبة وتكثر الندم و الاستغفار، ولا تزال خائفاً وجلاً. فإن المؤمن لا يزال في غاية من الخوف والوجل وإن أخلص الطاعة وأحسن المعاملة وأنت تعلم ما كانت عليه الأنبياء مع عصمتهم و الأولياء مع حفظهم من الخوف و الإشفاق مع صلاح أعاملهم و قلة ذنوبهم أو عدمها، فأنت بذلك أولى وأحرى.
فقد كانوا أعرف منك بسعة رحمة الله و أحسن منك ظنّاً بالله وأصدق منك طمعاً في عفوه، وأعظم منك رجاءً في كرمه وفضله. فاقتد بآثارهم تنج و تسلم، واتبع سبيلهم تفز و تغنم، واعتصم بالله و من يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم.
(1/26)


فَصْل: ( في أهم أسباب الانصراف إلى الدنيا )
فلما كانت هذه الدار قد أسست على المحن والآفات و عجنت بالمنغصات و المكدرات وحُشِيت بالمشغلات و الملهيات، كثرت لذلك الصوارف عن الطاعات وتوفرت الدواعي إلى المخالفات، ثم إنها وإن كثرت تلك الصوارف وتوفرت تلك الدواعي، تكاد تحصر في أربع أشياء: أحدها: الجهل؛ الثاني: ضعف الإيمان؛ الثالث: طول الأمل؛ الرابع: أكل الحرام و الشبهات.
ونحن إن شاء الله نشير إلى كل واحد من هذه الأربعة بكلمات وجيزة تنبه على ذمها وضرورة التثبط عنها، و سبيل الخلاص منها، وبالله التوفيق.
(1/27)


فَصْل: ( في التحذير من الجهل )
أما الجهل : فهو أصل كل شرٍّ و منشأ كلِّ ضرر، وهو وأهله داخلون في عموم قوله -صلى الله عليه و سلم-: ((الدنيا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ ما فيها إلا ذكر الله و عالمٌ و متعلم)). ويروى: "إن الله لما خلق الجهل قال له اقبل فأدبر، فقال له أدبر فأقبل، فقال له: و عزتي ما خلقت خلقاً أبغض إليّ منك، و لأجعلنك في شرار خلقي)). وقال علي -كرم الله وجهه-: "لا عدوّ أعدى من الجهل، والمرء عدوَّ ما جهل؛ و ذمُّ الجهل معلوم بالنقل و العقل، لا يكاد يخفى على أحد". والجهل واقع في ترك الطاعات وفعل المعاصي شاء أم أبى فإنه لا يدري أي شيء الطاعة التي أمره الله بفعلها، ولا أي شيء المعصية التي نهاه الله عن ارتكابها، ولا يخرج من ظلمات الجهل الا بور العلم، ولله درُّ الشيخ علي بن أبي بكر، حيث يقول:
الجهل نار لدين المرء يحرقه ... والعلم ماء لتلك النار يطفيها
(1/28)


فعليك أن تعلم ما أوجب الله عليك علمه، وليس بواجب عليك أن تتسع في العلم، بل عليك أن تتعلم ما لا يصلح إيمانك بدونه من علوم الإيمان. وعليك أن تتعلم كيف تؤدي ما افترض الله عليك من طاعته، وكيف تتجنب ما نهاك عنه من معصيته. وجوباً فورياً في الفوريات، و موسعاً في المُوَسَّعَات.
وقد كان مالك بن دينار -رحمه الله- يقول: "من طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفيه، ومن طلب العلم للناس فحوائج الناس كثيرة".
(1/29)


فَصْل: (في التحذير من ضعف الإيمان)
وأما ضعف الإيمان : فهو بلية عظيمة، وخلة ذميمة تنشأ عنها أمور مذمومة: مثل ترك العمل بالعلم، و ترك الأمر و الاهتمام بالرزق و خوف الخلق إلى غير ذلك من الأخلاق المشؤومة، و على قدر إيمان العبد يكون امتثاله للأمر واجتنابه للنهي. وأول دليل على ضعف إيمانه تركه للموافقات و ارتكابه للمخالفات. فعلى كل مؤمن أن يسعى في تقوية إيمانه. والأمور التي يقوى بها الإيمان و يزيد ثلاثة:
أحدها: أن يصغي بسمعه إلى الآيات و الأخبار التي فيها ذكر الوعد و الوعيد و أمور الآخرة، وإلى قصص الأنبياء وما أُيِّدوا به من المعجزات، وما حلَّ بمعانديهم من المثلات. وإلى ما كان عليه السلف الصالح من الزهادة في الدنيا و الرغبة في الآخرة؛ وإلى غير ذلك من الأدلة السمعية.
الثاني: أن ينظر بعين الاستبصار و الاستدلال إلى ملكوت السموات و الأرض و ما بينهما من عجائب الآيات و بدائع المصنوعات.
(1/30)


الثالث: أن يواظب على العمل بالصالحات و يحترز من الوقوع في المعاصي و السيئات، فإن الإيمان قول و عمل، يزيد بالطاعة و يقلُّ بالمعصية. وكلُّ هذه المذكورات يزيد بها الإيمان ويقوى بها الإيقان، والله المستعان.
(1/31)


فَصْل: ( في التحذير من طول الأمل )
وأما طول الأمل : فهو مذموم جداً، بل هو الذي يدعو إلى خراب الآخرة و عمار الدنيا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: (( ينجو أوَّلُ هذه الأمة بالزهد في الدنيا و قصر الأمل، ويهلك آخرها بالحرص و طول الأمل)).
و قال عليه الصلاة و السلام: ((من الشقاء أربع: جمود العين، وقسوة القلب، والحرص، وطول الأمل)).
ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: ((أعوذ بك من كل أملٍ يلهيني)).
وقال علي كرم الله وجهه: " أخوف ما أخاف عليكم اتِّباع الهوى و طول الأمل.
أما اتِّباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة".
ومن المأثور: من طال أمله ساء عمله .
فطول الأمل عبارة عن استشعار طول البقاء في الدنيا. وهو دالّ من صاحبه على فرط الحماقة و نهاية الغباوة ؛ فإنه قد ضيَّع الحزمَ و تَمَسَّك بالوهم، ولو قِيلَ له مساءً : هل تثق بالبقاء إلى الصباح ؟ أو صباحاً : هل تثق بالبقاء إلى المساء ؟ لقال : لا.
(1/32)


ثم هو يعمل لدنياه عمل من لا يموت حتى لو أنه أُخبر أنه يخلد في الدنيا لم يجد موضعاً للزيادة على ما هو عليه من الحرص و الرغبة في الدنيا.
فمن أعظم حماقة مِمَّن هذه صفته ؟
ثم ان طول الأمل أصل لجملة من سيئات الأخلاق و الأعمال التي تثبط عن الطاعة، وتدعو إلى الوقوع في المعصية، مثل الحرص و البخل و خوف الفقر. ومن أعظمها قبحاً الاستئناس بالدنيا ، و الأخذ في عمارتها، و السعي لجمع حطامها، وقد قال عليه الصلاة و السلام: (( بُعِثْتُ لخراب الدنيا، فمَن عمرها فليس مني)).
و عن طول الأمل يكون التسويف، وهو العقيم الذي لا يَلِدُ خيراً قطُّ. يقال إن أكثر صياح أهل النار من سوف، فلا يزال المسوّف يتثاقل عن الطاعات و يؤخر التوبة عن السيئات حتى ينزل به الموت؛ فيقول: { رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }[المنافقون:10]، فيقال له: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا}[المنافقون:11]، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}[فاطر:37]. فيخرج من الدنيا بخسارة لا آخر لها، و ندامة لا انتهاء لها؛ فقصّر يا أخي أملك ! وليكن أجلك نصب عينيك، وأملك وراء ظهرك.
(1/33)


واستعن على ذلك بالإكثار من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات، وتفكر فيما اندرج أمامك من المعارف و القربات. واستشعر فرب الموت فإنه أقرب غائب ينتظر، وكن مستعداً له متخوّفاً هجومه في جميع الحالات. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((والذي نفسي بيده ما رفعت طرفي وظننت أني اخفضه حتى أقبض، ولا أكلت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بها من الموت)) ... الحديث، وربما ضرب عليه السلام بيده على الحائط للتيمم، فيقال له: إن الماء منك قريب، فيقول: لا أدري لعلي لا أبلغه.
وكان الصديق رضي الله عنه ينشد:
كل امرىء مصبح في أهلِهِ ... والموت أدنى من شِراكِ نعلِهِ
قال حجة الإسلام -رحمه الله-: اعلم أن الموت لا يهجم في وقتٍ مخصوص ولابُدَّ من هجومه، فالاستعداد له أولى من الاستعداد للدنيا.
(1/34)


فَصْل: (في التحذير من أكل الحرام و الشبهات)
وأما تناول الحرام و الشبهات فهو لا محالة يصرف عن الطاعة، و يدعو إلى المعصية، وقد رُوِيَ مرفوعاً إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: ((من أكل الحلال أطاعت جوارحه شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى)).
وفي الخبر أو الأثر: "كُلْ ما شِئتَ فمثلُهُ تعمل".
وقال بعض العارفين: ما قطع الخلق عن الحق وأخرجهم من دائرة الولاية إلا عدم تفتيشهم عن هذه اللقمة .
وآكل الحرام و الشبهة وإن أطاع الله فطاعته غير مقبولة؛ لأن الله إنما يتقبل من المتقين، و الله طيب لا يقبل إلا طيباً؛ فأمسك أخي عن تناول الحرام وجوباً، و عن تناول الشبهات ورعاً، و عليك بطلب الحلال، فإن طلبه فريضة بعد الفريضة، فإذا ضفرت به فكل منه قصداً ، والبس منه قصداً ، ولا تسرف فإن الحلال لا يحتمل السرف ، وإيَّاك و الشبع فإنه من الحلال مبدأ كلِّ شرٍّ، فكيف من الحرام ؟
(1/35)


وقال عليه الصلاة و السلام: (( ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة ؛ فثلث لطعامه و ثلث لشرابه وثلث لنفسه)) ، و السلام .
(1/36)


فَصْل : ( في الحثِّ على الإخلاص )
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56].
و قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }[العنكبوت:56].
فعليك أيها المؤمن -وفَّقك الله- بالتفرغ لعبادة ربك بقطع ما يقطع عنها من القواطع، وصرف ما يصرف عنها من الصوارف و الموانع.
واعلم أن العبادة لا تصح بدون العلم، و العلم و العبادة لا ينفعان الا مع الإخلاص. فعليك به فإنه القطب الذي عليه المدار والأصل الذي عليه المعوّل. وهو كما قال أبو القاسم القشيري -رحمه الله-: الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن تقصد بطاعتك التقرُّب إلى الله دون شيء آخر مِنْ تصنُّعٍ لمخلوق أو اكتساب مَحْمَدَة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله". قال: "ويصحُّ أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة الخلق". انتهى، وهو القصد في هذا الباب.
(1/37)


فَصْل : ( في التحذير من الرِّيا )
و إيَّاك و الرياء فإنه يحبط العمل و يبطل الثواب ، و يوجب المقت والعقاب ، وقد سمَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الشركَ الأصغرَ .
و في الحديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم : (( اول خلق الله تُصلى بهم النار يوم القيامة ثلاثة : رجل قرأ القرآن ليُقالَ أنه قارئ ، و رجل استُشْهِدَ و ما قاتل إلا ليُقالَ إنه جري ، ورجل له مال تصدَّق منه صدقة ليقال إنه جواد)) الحديث مختصر بمعناه .
و الرياء عبارة عن طلب المنزلة عند الناس بعمل يُتقرَّب بمثله إلى الله تعالى، كالصلاة والصيام ، فإذا احسستَ من نفسك بالرياء فلا تطلبنَّ الخلاص منه بترك العمل ، فتكون قد أرضيت الشيطان ؛ بل عليك أن تنظر، فكلُّ عمل لا تستطيع أن تعمله إلا حيث يراك الناس ؛ كالحج والجهاد و طلب العلم وصلاة الجماعة و ما جرى مجرى ذلك ؛ فعليك أن تفعله ظاهراً كما أمرك الله ، و جاهد نفسك و استعن بالله ، و أما ما لا يكون من الأعمال بهذه المثابة؛ كالصيام و القيام والصدقة و التلاوة ؛ فعليك في مثل هذه الأعمال بالمبالغة في كتمانها ؛ فإنَّ فعلها في السَّرِ أفضل مطلقاً ، إلا لمَن أمِنَ الرياء و أمَّل الاقتداء واكن من أهله .
(1/38)


فَصْل: ( في التحذير من الإعجاب بالنفس )
وأحذر العجب فإنه من المحبطات.
قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: ((العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
وقال -صلوات الله عليه وسلامه-: ((ثلاث مهلكات: شُحٌّ مُطَاع، وهوىً مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
والعجب عبارة عن نظر الإنسان إلى نفسه بعين التعظيم و إلى ما يصدر منه بعين الاستحسان. وعنه نشأ الإدلال بالعلم و التعاظم على الناس و الرضى عن النفس.
وهو كما قال ابن عطاء الله -رحمه الله-: " أصل كل معصية و غفلة وشهوة الرضى عن النفس" انتهى.
ومن رضي عن نفسه عمي عن عيوبها، ومتى يفلح من يجهل عيوب نفسه؟
وعين الرضى عن كل عيبٍ كليلةٌ ... و لكنَّ عينَ السخط تبدي المساويا
(1/39)


فَصْل : ( في التحذير من حبِّ الدنيا )
قال رسول الله -صلى الله عليه و سلم-: ((حب الدنيا رأس كل خطيئة)).
فإذا كان حبُّها رأسَ كل خطيئة، وأصل كل بلية، وأساس كل رذية ،ومعدن كل فتنة ، ومنبع كل محنة، وهو أمر قد عمَّ في هذا الزمان ضرره و طار شرره وعظم خطره و أطبق عليه الخاص والعام و تظاهر الناس به بلا احتشام كأنه لا عار فيه ولا ملام. وقد تمكن من قلوبهم كل التمكن، فأتمر لهم الحرص البالغ على عمارة الدنيا و جمع الحطام، فغدوب وراحوا بشبكاتهم لاصطياد الشبهات و الحرام. كأن الله قد فرض عليهم عمارة الدنيا كما فرض الصلاة و الصيام.
ولذلك دَرَسَتْ معالمُ الدِّين وطُمِسَتْ أنوارُ اليقين وخُرِّسَت ألسنة المذكِّرين، وعَفَتْ سُبلُ الهدى واقتُحِمَت سُبلُ الردى. وهذه والله هي الفتنة العمياء الصماء المدلهِمَّة السوداء التي لا يُجاب فيها من دعا ولا يُسمع فيها من نادى. حقٌّ ما أخبر به سيد الأنبياء -صلى الله عليه و سلم- إذ يقول: ((لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال، ولكل أمة عجل و عجل أمتي الدينار و الدرهم)). معناه -والله أعلم-: أن لكل أمة شيئاً يشتغلون به عن عبادة الله تعالى كل الاشتغال كما اشتغلت بنو إسرائيل بعبادة العجل عن عبادة الله تعالى.
(1/40)


وبعد فمن الحسن أن نختم هذه النبذة بشيء مما ورد في ذمّ الدنيا وذم مؤثرها. وينبغي أن نصدّر ذلك بقاعدة يعوّل عليها ويرجع إليها. فنقول و بالله التوفيق:
الدنيا على ثلاث طبقات:
فدنيا فيها الثواب، وأخرى فيها الحساب، وثالثة فيها العذاب.
فأما التي فيها الثواب: فهي التي تصل بواسطتها إلى الخير و تنجو بواسطتها عن قلع الشر، وهي مطية المؤمن ومزرعة الآخرة، وهي الكفاف عن الحلال.
وأما التي فيها الحساب: فهي التي لا تشتغل بسببها عن أداء مأمور ولا ترتكب في طلبها أمراً محظوراً، وهذه الدنيا فيها الحساب الطويل وأربابها هم الأغنياء الذين يسبقهم الفقراء إلى الجنة بنصف يوم وهو خمس مائة عام.
وأما التي فيها العذاب: فهي التي تقطع عن أداء المأمورات و توقع في إرتكاب المحظورات، وهي زاد صاحبها إلى النار و مُدْرِجَته إلى دار البوار، وإليه الإشارة بما روي: ((إن الله يأمر بالدنيا إلى النار فتقول: أشياعي و أتباعي؟ فيقول سبحانه و تعالى: ألحِقُوا بها أشياعها و أتباعها، فيُلْحَقُون بها)).
(1/41)


وأعلم أن طلاب الدنيا على أنواع:
فمنهم من يطلبها على نية صلة الأقربين و مواساة المقلين، وهذا يُعدُّ من الأسخياء وله ثوابٌ إن وافق عمله نيته. ولكنه لاحكمة عنده لأن الحكيم لا يطلب أمراً لا يدري ما ذا يكون الحال عند حصوله؛ وليعتبر من كان يطلبها على هذه النية بقصة ثعلبة المُشار إليه في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ }[التوبة:75]... الآيات.
وكم من طالب نيته نيل الشهوات و التمتع باللذات، وهذا يُعدُّ في جملة البهائم ويدخل في حيز الأنعام. وإلى نوعه الإشارة بقوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }[الفرقان:44].
وكم من طالب يطلب الدنيا ليفاخر بها و يكاثر بها و يباهي بها، وهو معدود من الحمقى المغرورين، بل من المثبورين، و {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}[البقرة:60 ]، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }[القصص:69].
فانصح يا أخي لنفسك، وإياك أن تغشها فتدَّعي أمراً ليس من نيتك، فتكون قد جمعت بين الإفلاس، و الدعوى؛ فتخسر الدنيا و الآخرة: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:11]. إذا تقرَّر هذا فلنشرع في الخاتمة و نقول:
(1/42)


خَاتِمَة
تحتوى على آيات من كتاب الله وأخبار من سنة رسول الله ص وآثار من حكمة أولياء الله تدل على حقارة الدنيا وسرعة زوالها وعلى حماقة من اغتربها وركن إلى محالها وتحمل على الزهد في الدنيا من نظر فيها ، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
قال الله تعالى، وقوله الحق وكلامه الصدق:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس:24] .
وقال تعالى:( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف:7-8].
وقال تعالى:( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه :131].
(1/43)


وقال تعالى:( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ)[الشورى:20].
وقال تعالى:( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد :20].
وقال تعالى:( فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:37-39] .
وقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم- :((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وعالم ومتعلم ، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)) .
((الدنيا جيفة قذرة)) .
((إن الله تعالى جعل ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا )) .
((ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يضع أحدكم إصبعه في اليم فينظر بماذا يرجع)) .
((ليَوَدَّنَّ كلُّ أحد يوم القيامة أنه ما أعطي من الدنيا كان قوتاً)) .
(( إنَّ بين أيديكم عقبة كئوداً لا يجوزها إلا المُخفُّون)).
(( وقال رجل : هل أنا من المُخفِّين يا رسول الله ؟ فقال : هل عندك قوت يومك؟ قال : نعم ، قال: عندك قوت غد ؟ قال: لا ، فقال رسول الله -صلى الله عليه و سلم -: لو كان عندك قوت غد لم تكن المخفين)).
(1/44)


وقال عليه الصلاة والسلام:((الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))
((إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح لكم من زينة الدنيا وزهرتها ))، ((احذروها فإنها أسحر من هاروت وماروت ))
((الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر))
((إن الله يذود الدنيا عن عبده المؤمن كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة))
((ذنبٌ لا يُغفَرُ حبُّ الدنيا))
((من أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه ، ومن أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى))
((مُرَّة الدنيا، حلوة الآخرة، حلوة الدنيا ، مُرَّة الآخرة ))
((الأكثرون هم الأقلُّون يوم القيامة إلا مَن قال هكذا وهكذا))
(1/45)


((ليُجاءَنَّ بأقوام يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة فتجعل هباء منثوراً ويؤمر بهم إلى النار، كانوا يصلون ويصومون ويأخذون هينة من الليل، فإذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه))
وقال صلوات الله عليه وسلامه: ((مالي وللدنيا إنما مثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف فقال تحت شجرة ساعة ثم راح))
((من أصبح آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت إليه الدنيا بحذافيرها ))
((بعثت لخراب الدنيا فمن عمرها فليس مني))
((من كانت نيته الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، من كانت نيته الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له ))
((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور))((إزهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس )). وقال عليه الصلاة والسلام :((الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له وعليها يحزن من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له وبها يفرج من لا يقين له)).
(1/46)


((ما يسكن حب الدنيا قلب عبد إلا التاط منها بثلاث: شغل لا ينفك عناه، وفقر لا يدرك غناه، وأمل لا ينال منتهاه)).
((إن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستوفي رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه)).
((ألا وإن السعيد من آثر باقية يدوم نعيمها على فانية لا ينفد عذابها، وقدم لما يقدم عليه مما هو الآن في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه وقد شقي هو بجمعه واحتكاره))
(( تعس عبد الدنيا وانتكس فإذا شيك فلا انتقش)).
وقال عليه الصلاة والسلام:((الزهادة في الدنيا تريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، واالبطالة تقسي القلب)).
((إن النور إذا دخل القلب انشرح له وانفسح، قيل : فهل لذلك من علامة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله)).
(1/47)


و أوحى الله إلى موسى: يا موسى ، إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين. وأوحى الله إلى داود: يا داود، من آثر هوى دنياه على لذة آخرته فقد استمسك بالعروة التي لا وثاق لها، ومن آثر هوى آخرته على لذة دنياه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها .
وأوحى الله إلى عيسى: يا عيسى، قل لبني إسرائيل يحفظوا عني حرفين: قل لهم ليرضوا بدنيِّ الدنيا لسلامة دينهم، كما رضي أهل الدنيا بدنيِّ الدين لسلامة دنياهم.
وفي بعض كتب الله المنزلة: أهون ما أنا صانع بالعالم إذا ركن إلى الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه.
ويروى عن الله تعالى أنه قال للدنيا: ((يا دنيا ، مُرِّي لأوليائي ولا تحلِّي لهم فتفتنيهم )).
وقال علي-كرم الله وجهه-: مثل الدنيا والآخرة مثل المشرق والمغرب على قدر ما تقرب من أحدهما تبعد عن الآخر، ومثل الضرَّتين إذا أرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأخرى، ومثل إناءين أحدهما فارغ والآخر ممتلئ بقدر ما تصُبُّ في الفارغ ينقص الملآن.
(1/48)


وقال رضي الله عنه: وجدت الدنيا ستة أشياء: مطعوم وأطيبه العسل وهو مذقة ذباب، ومشروب وأحسنه الماء وهو الذي يستوي فيه البرُّو الفاجر، و مشموم وأذكاه المسك، وهو دم فأرة، وملبوس وألينه الحرير وهو نسج دودة، ومركوب وأنفسه الفرس وهي التي يُقتَلُ عليها الرجال، ومنكوح وهو مبالٍ في مبالٍ، وحسبك أن المراة تزين بأحسن ما عندها ويُقصَدُ منها أخسُّ ما فيها.
وقال رضي الله عنه: طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والدعاء والقرآن شعاراً ودثاراً، فرفضوا الدنيا على منهاج عيسى، عليه الصلاة والسلام، وفي المعنى أنشدوا:
أن لله رجالاً فطنا ... طلَّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
وقال سعيد بن المسيب ، رحمه الله: الدنيا نذلة، وهي بكل نذل أشبه ، وأنذل منها من يأخذها من غير وجهها.
وللمتنبي في المعنى:
وشبهُ الشيءِ منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغامُ
ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيشُ وانحطَّ القتامُ
(1/49)


وقال الحسن البصري رحمه الله: فضح الموت الدنيا؛ فلم يترك لذي لبٍّ فيها فرحاً، رَحِمَ اللهُ أمراً لبس خَلَقاً، وأكل كسرة، ولزق بالأرض، وبكى على الخطيئة، ودأب في العبادة.
وقال رحمه الله: إذا دخل القلبَ حبُّ الدنيا ذهب منه خوف الآخرة، و إياكم ما سشغل من الدنيا فإنه لم يفتح عبد على نفسه باباً من الدنيا إلا سدَّ عليه عدَّة أبواب من عمل الآخرة.
وقال رحمه الله : مسكين ابن آدم يستقل ماله و لا يستقلُّ عمله، يفرح بمصيبته في دينه، و يجزع بمصيبته في دنياه، على الأسقام والأمراض أسست هذه الدنيا، هَبْكَ تصحُّ من الأسقام ، وتبرأ من الأمراض، هل تقدر أن تنجو من الموت ؟ ولله در القائل:
هَبِ الدُّنيا تواتيكا ... أليسَ الموتُ يأتيكا
ألا يا طالبَ الدنيا ... دَعِ الدُّنيا لشانيكا
فما تصنعُ بالدنيا ... وظلُّ المِيلِ يكفيكا
كما أضحككَ الدهرُ ... كذاك الدهرُ يُبكيكَ
(1/50)


وقال محمد الباقر رضي الله عنه: ما الدنيا وما عسى أن تكون، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟
وقال وهب بن منبه رحمه الله : للجنة ثمانية أبواب، فإذا حصل الناس عليها قال لهم الخزنة: وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا والعاشقين للجنة.
وقال محمد بن سيرين : اختصم رجلان في الأرض فأوحى الله إلى الأرض : أن كلميهما، فقالت لهما : يا مسكينان، قد ملكني قبلكما ألف أعور فضلاً عن الأصحاء.
وقال أبو حازم المدني رحمه الله : ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد لصق به شيء يسوؤك، الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وموطن شقاء لا موطن رخاء، وقالت له امرأته: إن الشتاء قد يهجم ولا بد لنا من الطعام والثياب والحطب، فقال: من هذا كله بُدٌّ، ولكن لا بُدَّ لنا من الموت، ثم البعث، ثم الوقوف بين يدي الله. ثم الجنة والنار.
وقال رحمه الله: ما تضرب بيدك إلى شيء من الدنيا إلا وتجد فاجراً قد سبقك إليه .
(1/51)


وقال رحمه الله: نعمة الله عليَّ فيما زوى عني من الدنيا أفضل من نعمته عليَّ فيما صرفه إليَّ منها .
وقال : ما مضى من الدنيا فحُلُمٌ ، وما بقي منها أماني.
وأنشدوا في المعنى:
كعبور طيفٍ أو كظلٍّ زائلٍ ... إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ
ولأبي طيب المتنبي:
وكم من يعشق الدنيا قديماً ... ولكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبُكَ في حياتك من حبيب ... نصيبُكَ في منامك من خيال
وقال لقمان عليه السلام: من باع دنياه بآخرته ربحهما جميعاً، ومن باع آخرته بدنياه خسرهما جميعاً.
وفي وصيته لابنه: إنَّ الدنيا بحر عميق قد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتك فيه تقوى الله، وحشوها الإيمان، و شراعها التوكل؛ لعلَّكَ تنجو ، و ما أراك ناجياً !
وقال مالك بن دينار رحمه الله: إذا سقم البدن لا ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة، وكذلك القلب إذا غلبه حب الدنيا لم تنفعه الموعظة، وقال لأصحابه: أنا أدعو وأمنوا أنتم: اللهم لا تدخل بيت مالك من الدنيا لا قليل ولا كثير،
(1/52)


وكان إذا خرج من منزله يشد بابه بحبل ويقول : لولا الكلاب تركته مفتوحاً.
وكان يقول : لا يبلغ العبد منازل الصديقين حتى يدع امرأته كأنها أرملة ويأوي إلى الكلاب.
ومرَّ على رجل يغرس فسيلاً فغاب يسيراً، ثم مرَّ وقد أثمر الفسيل ، فسأل عن غارسه، فقيل له : مات، فأنشأ يقول:
مؤمِّلُ دنيا لتبقى له ... فمات المؤمِّلُ قبل الأملْ
يُرَبِّي فسيلاً ويُعنى به ... فعاش الفسيل ومات الرجلْ
ولأبي العتاهية:
كم عامرٍ داراً ليسكن ظِلَّها ... سَكَنَ القبورَ ودارَه لم يَسكُنِ
وفي بعض الآثار:((لا تزال لا إله إلا الله تنفع قائليها ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم ، فإذا فعلوا ذلك وقالوها قال الله : كذبتم لستم بها صادقين)).
وكان بعض السلف يقول : يا من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه أمسك عني الدنيا. ودخل إبراهيم بن أدهم على المنصور، فقال : يا إبراهيم، ما تقول: فأنشده:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقِّعُ
(1/53)


وقال إنسان لداود الطائي: أوصني ، فقال له: صُمْ عن الدنيا وأجعلْ فطرَك الآخرة، وفِرَّ من الناس فِرارك من الأسد.
ورآه رجل في المنام وهو يعدو فقال له: يا أبا سليمان، ما لك ؟ فقال: الآن أفلتُ من السجن، فلمَّا استيقظ قيل له : مات داود الطائي.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله : جُعِلَ الشَّرُّ كلُّه في بيت وجُعِلَ مفتاحُهُ الرغبةَ في الدنيا، وجُعِلَ الخيرُ كلُّه في بيت وجُعِلَ مِفتاحُه الزهادةَ في الدنيا، وقال رحمه الله: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى والآخرة خزفاً يبقى لكان ينبغي لنا أن نؤثر خزفاً يبقى على ذهب يفنى، فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى؟.
وقال رحمه الله: لو أتيت بالدنيا وقيل لي خذها حلالاً بلا حساب، لكنت أستقذرها كما يستقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: لو كنت الدنيا تباع في السوق لما اشتريتها برغيف. لِمَا أرى فيها من الآفات، وقال رحمه الله:
ومن يجهل الدنيا فإني طعمتها ... وسِيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها عِشتَ سلمًا لأهلها ... وإن تجذبها جاذبتك كلابها
(1/54)


وقال بشر بن الحارث رحمه الله: من سأل ربَّه الدنيا فقد سأله طول الوقوف بين يديه، يعني: للحساب، وكان ينشد هذه الأبيات:
أقسم بالله لرضخ النوى ... وشرب ماء القلب المالحهْ
أحسن للمؤمن من حرصه ... ومن سؤال الأوجه الكالحهْ
فاستغنِ بالله تكنْ ذا غنىً ... مغتبطاً بالصفقة الرابحهْ
اليأس عزٌّ والتقى سؤددٌ ... ورغبة النفس لها فاضحهْ
من كانت الدنيا له برَّةً ... فإنها يوماً له ذابحهْ
وكان ينشد هذين البيتين لبعض السلف، رضوان الله عليهم:
مكرم الدنيا مهان ... مستذل في القيامهْ
والذي هانت عليه ... فله ثَمَّ الكرامهْ
وقال ضِرَارُ بن ضَمُرة يصف علياً، كرم الله وجهه:
كان يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، قابضاً على لحيته قائلاً: يا دنيا غُرِّي غيري: إليَّ تعرَّضتِ ، أم إليَّ تشوَّفت قد بَتَتُّكِ ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرُك قصير، ومجلسك حقير ، وخطرك كبير.آهٍ آهٍ من قلة الزاد ، وبعد الطريق، و وحشة السفر .
(1/55)


وقال بعض السلف: مسكين ابن آدم رضي بدار حلالها حساب وحرامها عذاب، إن أخذه من حِلِّه حُوسِبَ بنعيمه، وإن أخذه من غير حِلِّه عُذِّب به.
وقال المأمون رحمه الله: ما أحسب أحداً يصف الدنيا -يعني من الشعراء- بمثل ما وصفها به الحسن بن هانئ في قوله :
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديقُ
وما الناس إلا هالكٌ وابنُ هالكٍ ... وذو نسب في الهالكين عريقُ
وقال يحيى بن معاذ - رحمه الله -: ليكن نظرك في الدنيا اعتباراً، وزهدك فيها اختياراً، وأخذك منها اضطراراً.
وقال - رحمه الله -: تركت الدنيا لكثرة عنائها، ولقلة غنائها، ولسرعة فنائها، ولحسد شر كائها.
وقال أيضاً: الدنيا حانوت إبليس، من أخذ منه شيئاً تبعه حتى يأخذه. الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة، فكيف بغم عمرك مع قلة نصيبك منها؟
وقال بعض الصالحين:
ومن يحمد الدنيا لعيش يسرُّه ... فسوف لعمري عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ... و إن أقبلت كانت كثيراً همومها
(1/56)


ودعا الرشيد بشرية ماء، فأتي بها ـ وكان ابن السماك عنده ـ فقال له: أرأيت لو حيل بينك وبين هذه الشربة، أكنت تشتريها بملكك؟ قال : نعم. فقال ابن السماك: أفٍ لدنيا لا تساوي شربة ماء.
وقيل لبعض المتقدمين ممن طال عمره: صف لنا الدنيا، فقال : بيت له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، ورأيت سنيات بلاء وسنيات رخاء، ومولود يولد وهالك يهلك، فلولا من يلد مابقي منهم أحد، ولولا من يهلك ما وسعتهم الدنيا.
وقال بعض الحكماء : الدنيا خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها. والآخرة عمار، وأعمر منها قلب من يطلبها.
وقيل لحكيم آخر: الدنيا لمن؟ فال: لمن تركها، قيل:
فالآخرة لمن ؟ قال: لمن طلبها.
وقيل لبعض الزهاد: كيف رأيت الدنيا ؟ قال: تخلق الأبدان، و تجدد الآمال، وتقرب المنية، وتبعد الأمنية، قيل: فما حال أهلها ؟ قال: من ظفر بها تعب، ومن فاتته نصب.
ولله دَرُّ من يقول:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلَّما كَثُرَتْ عليهِ
تهين المُكْرِمِينَ لها بصُغْرٍ ... وتُكرِمُ كلَّ من هانت عليهِ
إذا استغنيتَ عن شيء فَدَعْهُ ... وخُذْ ما أنتَ محتاجٌ إليهِ
(1/57)


قال الإمام حجة الإسلام في الإحياء: أما بعد ، فإن الدنيا عدوَّةٌ لله ، و عدوَّة لأولياء الله ، و عدوَّة لأعداء الله .
أمَّا عداوتها لله : فإنها قطعت الطريق على عباد الله ، و لذلك لم ينظر إليها مذ خلقها .
وأمَّا عداوتها لأولياء الله : فإنها تزينت لهم بزينتها ، و عمَّتهم بزهرتها و نضارتها ، حتى تجرَّعوا مرارة الصبر في مقاطعتها .
وأمَّا عداوتها لأعداء الله : فإنها استدرجتهم بمكرها و مكيدتها ، و اقتنصتهم بشبكتها ، حتى وثقوا بها و عوَّلوا عليها، فخذلتهم احوج ما كانوا إليها ، فاجْتَنَوا منها حسرة تتقطَّع منها الأكباد ، ثمَّ من السعادة أبدَ الآباد ، فهم على فراقها يتحسرون ، و من مكائدها يستغيثون فلا يُغاثون ، بل يُقَالُ لهم :(اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون:108]، (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)[البقرة:86]. انتهى .
و على الجملة فالآيات و الأخبار و الآثار في هذا الباب أكثر من أن تُحصى ، و أبعد من أن تستقصى ، و فيما أشرنا إليه كفاية، و عبرة لمن يعتبر ، و تذكرة لمن يتذكَّر ؛(وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ) [غافر:13].
(1/58)


و لنختم هذه الخاتمة بذكر شيء من كلام رأس الزاهدين و حجة الله عليهم عيسى ابن مريم على نبينا و عليه أفضل الصلاة والسلام .
قال عيسى عليه السلام :
الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. يا طالب الدنيا لتبر بها تركك لها أبر وأبر.
لا يجتمع حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يجتمع الماء والنار في إناء وأحد.
وقال عيسى عليه السلام:الدنيا عرض حاضر حاضر، يأكل منه البر والفاجر. والآخرة وعد صادق، يحكم فيه ملك قادر.
وقال عليه الصلاة والسلام:((لاتتخذوا الدنيا ربّاً فتتخذكم عبيداً، اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه، فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليها الآفة، وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة)).وكان عليه الصلاة والسلام يقول:((إذامي : الجوع، وشعاري: الخوف، ولباسي : الصوف ، وصلاتي في الشتاء: مشارق الشمس، وسراجي : القمر، ودابتي: رجلاي، وطعامي وفاكهتي: ما أنبتت الأرض، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وما أجد على الأرض أغنى مني)).
(1/59)


وقال عليه الصلاة والسلام:((عجبت لغافل ليس بمغفول عنه، وبمؤمل دنيا والموت يطلبه، ولباني قصر والقبر مسكنه، إن خشية الله وحبَّ الفردوس يباعدان من زهرة الدنيا، ويورثان الصبر على المشقة، وإن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس)).
وكان يقول : يا معشر الحواريين: قد أكببت لكم الدنيا على وجهها، فلا تنعشوها بعدي.
وقالوا له: ما لك تمشي على الماء، ونحن لا نستطيع المشي عليه؟ قال: كيف منزلة الدينار والدرهم عندكم ؟ قالوا: حسنة رفيعة، قال: لكنها عندي بمنزلة الحجر والمدر.
وتوسد حجرا، فأتاه إبليس فقال له: يا عيسى، ركنت إلى الدنيا، فرمى إليه بالحجر، وقال: ما عندي منها غير هذا.
واشتد عليه المطر والبرق والرعد يوماً، فرفعت له خيمة فقصدها، فإذا فيها امرأة فتركها.
ورأى مغارة فأتاها ، فرأى بها سبعاً، فقال : اللهم جعلت لكل مأوى ولم تجعل لي مأوى، فإوحى الله إليه : مأواك في مستقر رحمتي، لأزوجنك آلافاً من الحور العين، ولأطعمن أهل الجنة في عرسك آلافاً من السنين.
(1/60)


وقال عليه الصلاة والسلام:" يا ابن آدم، إن كنت تطلب من الدنيا ما يكفيك، فالقليل منها يكفيك. وإن كنت تريد منها فوق ما يكفيك، فجميع الدنيا بأسرها لا يكفيك. فلا تهلكوا أنفسكم بطلب الدنيا، واغلبوا أنفسكم عليها بترك ما فيها، فعراةً دخلتموها، وعراةً تخرجون منها، واسألوا الله رزق يوم بيوم، واعلموا أن الله قد جعل الدنيا قليلاً، وما بقي منها قليل من قليل، قد شرب صفوه وبقي كدره.
واعلموا أن الدنيا دار عقوبة وغرور، فكونوا فيها كرجل يداوي جرحه، يصبر على شدة الدواء لما يرجو من الشفاء وعافية الداء، فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة.
وقال عليه الصلاة والسلام:((عجباً لكم تعماون للدنيا، وأنتم ترزقون فيها بغير عمل. ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل)).
وتمثلت له الدنيا في صورة امرأة، عليها من كل زينة، فقال لها: ((هل لك من زوج))؟ قالت: أزواج كثيرة، فقال:((فكلهم طلقك أم مات عنك، أم كلهم قتلت)) ؟! قالت: كلُّهم قتلتُ، قال: (( هل حزنت على أحد منهم ؟)) قالت: هم يحزنون عليَّ ولا أحزن عليهم، ويبكون عليَّ ولا أبكي عليهم، قال:((عجباً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين)) !!
(1/61)


ومرَّ على قوم يعبدون الله، وفيهم رجل نائم، فقال:(( يا هذا، قم فاعبد ربك مع أصحابك))،فقال له: قد عبدته بأفضل من عبادتهم ، زهدت في الدنيا ، فقال له: (( نم هنيئاً فقد فُقْتَ العابدين )). أو كما قال.
وقال عليه الصلاة والسلام: - وقد سئل عن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - قال :((الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها، وأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، ، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، فما عرض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فما يجددونها، وخرجت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، بل يهدمومها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، فلا يرون أماناً دون ما يرجون، ولا خوفا دون ما يحذرون )).
(1/62)


آخر الخاتمة
وبه تكمل ((رسالة المذاكرة مع الإخوان والمحبين من أهل الخير والدين))، وما سميتها بهذا الاسم إلا لكوني وضعتها على سبيل المذاكرة معهم.
ألهمني الله وإياهم رشدنا، ووقانا شرَّ أنفسنا.
وكلُّ ما أوردته في هذه الرسالة من الأخبار والآثار نقلته من الكتب الصحيحة المعتمدة، وقد تركت الفصل بين الأحاديث التي أوردتها في صدر الخاتمة وصيَّرتها كأنها أربعة أحاديث أو خمسة وهي نحو من عشرين، وما فعلت ذلك إلا لكوني رأيته أو جز وأخصر وأقرب إلى حصول الأثر.
و( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ* يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)[سبأ:1-2].
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلَّم إلى يوم البعث والنشور، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ من إملاء هذه الرسالة: يوم الأحد قبيل وقت الظهر سلخ جمادى الأول أحد شهور سنة 1069 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين.
(1/63)


مباحث الرسالة :
المقدمة
فصل: ( في معاني التقوى)
فصل : (في جزاء الأعمال)
فصل: (في رضا الله و سخطه)
فصل: (في ذكر شيء مما يكرم الله به من أطاعه و عمل الصالحات لوجهه)
فصل: في ذكر شيء مما يترتب على المعصية من الخزي والدمار والهوان والبوار في الدنيا والآخرة
فصل: ( في العمل الصالح و التوبة )
فصل: ( في أهم أسباب الانصراف إلى الدنيا )
فصل: ( في التحذير من الجهل )
فصل: (في التحذير من ضعف الإيمان)
فصل: ( في التحذير من طول الأمل )
فصل: (في التحذير من أكل الحرام و الشبهات)
فصل : ( في الحث على الإخلاص )
فصل : ( في التحذير من الريا )
فصل: ( في التحذير من الإعجاب بالنفس )
فصل : ( في التحذير من حب الدنيا )
الدنيا على ثلاث طبقات:
طلاب الدنيا على أنواع:
خاتمة
(/)


Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "رسالة المذاكرة - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-12"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip