//

النفائس العلوية في المسائل الصوفية - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-6




سلسلة كتب الإمام الحداد (9)
***************************
النفائس العلوية في المسائل الصوفية
***************************


تأليف:
الإمام شيخ الإسلام قطب الدعوة والإرشاد
عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد
الحسيني الحضرمي الشافعي
رحمه الله تعالى
(1044-1132هـ)


الناشر: دار الحاوي للطباعة والنشرو التوزيع
الطبعة الثانية سنة 1418هـ




                   بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وبه نستعين
الحمد لله الواحد الأحد، الأول الآخر المتعالي، الصمد البديع، الكريم الجواد الذي ليس لعجائب صنعه نفاد على طول الأمد، ولا لتوالي نعمه وتواتر مننه حصر ولا عداد.
أحمده حمداً يوافي نعمه ويكافيء مزيده، وأسأله توفيقي لرضاه وأمناً في عافيته وتأييده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أنتظم بها في سلك ذوي الأحوال الصادقة والنفوس المطمئنة والمذاهب السديدة.
وأشهد أن سيدنا محمداً النبي الأمي، عبده ورسوله،المبعوث بالشريعة المطهرة والصراط المستقيم على القواعد المشيدة، العبد الكامل المكمل لمن اقتفاه من أمته المحمودة صلى الله عليه صلاة وسلاماً دائمين بدوام الدهور الأميدة وعلى آله وأصحابه خزائن العلوم وطوالع النجوم، والفرسان القروم في الساعات الشديدة، وعلى السالكين على هديهم السائرين من بعدهم الوارثين سيرهم السديدة، لا سيما من سما شأنهم،
(1/9)

وعلا مكانهم رتبة علوية، ذوي التحقق بالاتباع التحقيق في الاستتباع، المعروفين إسماً ومعنى بالسادة الصوفية، وخصوصاً من زاد بشرف الذات وبما شاع وذاع بما بهر العقول من التتابع والتناسق، على توارث الأحوال والمقامات والسير المرضية. أعني بهم السادة الحسينيين أولي الكرامات الخارقة والآيات الباهرة والسنة المحمدية. وخصوصاً مسك ختامهم ونور أعيانهم وبُهلُولَ أقرانهم من عمت الوجود بركاته وبهرت العقول معارفه الدالة عليها كلماته، شيخ الإسلام وبركة الأنام الوارث المحمدي المتولى من الله الكريم الجواد، شيخنا وبركتنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن علوي بن محمد بن أحمد بن عبدالله الحدَّاد باعلوي الحسيني الأشعري أمدنا الله تعالى بمدده وأمتع المسلين بطول مدده وزاد من تضاعف ترقيه بأعلى مقاماته، على طول أمده إنه على كل شيء قدير، وما ذلك على الله بعزيز.
فصلِّ اللهم على نبيك محمد وعليهم كذلك أضعاف ذلك وأنظمني في سلكهم وحققني بحقائق علومهم، مصحوباً بالعافية والسلامة الكاملين حتى ألقاك على أتم ما ترضى به عني راضياً عني أكمل الرضوان، في فسيح الجنان ووالديّ ومشايخي. ياالله يارحمن، ياأرحم الراحمين.
(1/10)

وبعد، فهذه (( النفائس العلوية في المسائل الصوفية )) من فتاوى شيخنا السيد عبدالله بن علوي السالف ذكره. أمرني أن أجمعها وأن أسمي هذا المجموع بهذا الاسم المرفوع تقبل الله الكريم ذلك وهذا أوان الابتداء.
فمنها:
(1) ما سأله عنه السيد الشريف العالي المنيف،
أبوبكر بن السيد شيخ السقاف العلوي، نفع الله بهم.
وهو ما حكم الخواطر في حق الواصل إلى الله تعالى هل يرميها ويعتمد على الخاطر الرباني فقط أم كيف يصنع؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وجزاه خيراً يعلم السائل أولاً أن الواصل إلى الله تعالى: من وصل من العلم بالله سبحانه وتعالى، إلى حدٍّ ينتهي إليه علم العلماء به من خلفه.
وأهل هذه المرتبة يتفاوتون فيها تفاوتاً لا ينحصر وللواصل إلى هذا المقام حالتان، تسمى إحداهما بالجمع والأخرى بالفرق، فإذا وردت عليه حالة الجمع، فني عن نفسه وعن غيره من جنسه، واستغرق بربه وذهب فيه بالكية، فلاخاطر هناك يخطر ولا موجود ثَمَّ يظهر إلا الموجود الحق جلا وعلا.
وفي وصف هذا الوارد قال بعض المتحققين به:
ولو خطرت لي في سواك إرادةٌ ... على خاطري سهواً قضيت بردتي
يعني حكمت بعدم استغراقي بك واستهلاكي فيك. والله أعلم.
(1/11)

وقال آخر:
كانت لقلبيَ أهواءٌ مفرقةٌ ... فاستجمعت مُذْ رأتك العينُ أهوائي
وأصل وجود الخواطر وتشعبها: تفرق الهم وكثرة العلائق وما عند الواصل إلى الله تعالى من هذا الأمر خبر، لأنه قد جعل الهموم هماً واحداً. وهو الله تعالى وإلى الجمع الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لي وقت لا يسعني فيه إلا ربي). ثم إن دوام وارد الجمع عزيز جداً وعند دوامه تظهر أمور عجيبة وتبدو شؤون غريبة. وقد دام هذا الوارد على بعض مشايخ العراق سبع سنين. ثم أفاق يسيراً ثم عاد إليه فاستغرق سبعاً أخرى. وكان في هذه المدة لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يصلي بل كان واقفاً في البرية شاخصاً ببصره إلى السماء.
وبلغنا عن بعض مشايخ مصر، أنه توضأ ثم اضطجع وقال لنقيبه: لا توقظني حتى أستيقظ بنفسي فمرت سبع عشرة سنه وهو في نومته. ثم استيقظ وصلى بوضوئه ذلك.
والعارفون يشتاقون إلى الجمع والحق ينقلهم عنه لطفاً بهم. وليقوموا بالتكاليف ولئلا تضمحل أجسامهم وتتلاشى عظامهم، لأن الواردات الإلهية إذا قويت واستولت لم تثبت لها القوى البشرية. كف وقد احترق الطور وصار دكا لما أشرق عليه ذلك النور.
(1/12)

ولا يصح دعوى حصول الجمع لأقوام تخبطهم الشيطان فتراهم يتركون العبادات ويضيعون الفرائض من الصوم والصلاة، ومع ذلك يتناولون الشهوات ويرتكبون المحرمات، لو كانوا من أولياء الله تعالى لحفظهم ولو كانوا مستغرقين به لغابوا عما سواه.
ولا نطيل الكلام وإن كان طويلا ًعرضاً في هذا الموطن، الذي طالما زلت فيه الأقدام، لأنه من الأمور الذوقية التي يصعب على العقول إدراكها فضلاً عن الأوهام.
وأما حالة الفرق فالواصل فيها محفوظ وبعين العناية ملحوظ، وعندها يبق الخاطر الرباني ويسمى عند الصوفية بالإذن والخاطر الملكي، ويدعى عندهم بالإلهام وهم لا يقدمون عليه إلا ما كان من كتاب أو سنة.
وأما الخاطر الشيطاني فلا وجود له، لأن اللعين لا يستطيع دنوا من قلب واصل إلى الله تعالى مشرق بأنوار معرفته، وربما أسلم شيطان الواصل إلى الله تعالى، على سبيل الوراثة منه لنبيه صلى الله عليه وسلم. إذا يقول صلى الله عليه وسلم: (لي شيطان، إلا أن الله سبحانه وتعالى أعانني عليه فأسلم لا يأمر إلا بالخير).
وأما الخاطر النفساني فيبعد إمكان وجوده، لأن نفس الواصل قد اطمأنت إلى ربها وصارت في حيز القرب متابعة مطيعة، دعاها مولاها فرجعت إليه فأدخلها في عباده وجعلها معهم في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
(1/13)

(2) وسأله السيد المذكور أيضاً: عن حكم سيئة العارف؟
فأجابه رضي الله عنه وأمدنا منه: العارف في اصطلاح الصوفية شخص آمن بالله عل بصيرة وعلى ما افترض الله عليه من طاعته وما حرم عليه من معصيته فامتثل واجتنب، ثم أخذ يكثر النوافل المقربة إلى الله تعالى ابتغاء الزلفى إليه سبحانه، حتى أشرقت عليه أنوار السعادة وصار الغيب في حقه كالشهادة وهداه الحق سبيله وجعل له فرقانا وعلمه من لدنه علما.
ثم إن العارف وإن وصل إلى هذه الرتبة فجائز صدور السيئات عنه وجائز عقابه عليها شرعاً وعقلاً، لأن غاية العارف أن يكون وليا ونهاية الولي أن يكون محفوظاً، وقد ثبتت المؤاخذة لجماعة من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام على أمور صدرت منهم، من ذلك ما حل بآدم صلى الله على نبينا وعليه وسلم حين صدرت منه تلك النظرة أو الخطرة وبسليمان صلى الله على نبينا وعليه وسلم حين وقع منه ذلك الميل، الذي لم يظهر عليه من العمل به ولا ذرة.
ومع هذا فجمهور المحققين قائلون بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الكبائر والصغائر. والذي وقع من بعضهم إنما وقع على سبيل الخطأ والنسيان.
(1/14)

وقد علم وتقرر أن الأعمال الصالحة التي تصدر عن العارف، يزيد ثوابها على غيره وتتضاعف أضعافاً كثيرة. وكذلك ما يصدر منه من السيئات تعظم المواخذة عليها وتفحش المعاقبة وربما عوقب على الصغائر معاقبة غيره على الكبائر وذلك لأنه في حيز القرب، ألم تسمع إلى قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة ضاعف لها العذاب ضعفين) الآية. والتي تليها.
وقد بلغنا عن العارف ابن الجلاء، أنه نظر إلى أمرد جميل فقيل له: لتجدن غبها ولو بعد حين فنسي القرآن بعد ذلك.
وخطر لبعضهم خاطر المعصية وهو في الصلاة، فأسود جميع بدنه وبقي مدة حتى شفع فيه بعض المحققين.
ورأى الجنيد فقيراً يسأل الناس. فقال في نفسه: لو اشتغل هذا بالكسب كان أحسن له فلما قام إلى ورده بالليل، لم يجد نشاطا ولا حلاوة فغلبته عيناه فرأى الفقير قد جيء به ممدودا فقيل له: كل لحمه فإنك اغتبته، فقال: سبحان الله إنما كان خطرة، فقيل له: مثلك لا يسمح له بهذا.
وقد عوقب بعضهم على طلبه شيئاً من الشهوات المباحة لتركه حسن الأدب اللائق بهم مع الله تعالى فيها.
من ذلك أن أبا تراب النخشبي رحمه الله تعالى اشتهى خبزاً وبيضاً، فعدل إلى بعض البلدان ليظفر بشهوته فتعلق به بعض أهلها، وقال: كان هذا مع اللصوص فضربوه ضرباً وجيعاً. ثم عرفه إنسان فذهب به إلى بيته وقدم إليه شهوته، فقال لنفسه: كلي بعد كذا كذا ضربة.
وعزم بعضهم على ترك أكل السمك فغلبته نفسه فمد يده إليه: فدخلت في يده منه شوكة تلفت بها يده.
وبلغنا عن الشيخ أبي الغيث رحمه الله تعالى: أنه قبل زوجته من غير نية، فحط عن مقامه ولم يصل إليه إلى سنة.
وحكاياتهم في هذا الباب كثرة ولو بسطنا الكلام على تبيين هاتين المسألتين لخرجنا عن غرضنا من الإيجاز وفيما ذكرناه بلاغ إن شاء الله تعالى.
(1/15)

(3) وسأله الشيخ العلامة عبدالرحمن بن عبدالله الخطيب بارجا رحمه الله تعالى: عن القطب أهو الغوث أو غيره؟ وكذا عن الأوتاد والأبدال وغيرهم، من أهل الله تعالى.
فأجابه جزاه الله أفضل الجزاء ونفعنا به:
اعلم يا أخي أن في الباب أخباراً ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاراً تستند إلى أولياء الله تعالى. وسأقتصر من ذلك على ذكر خبر وأثر وأطراف أخر.
روى اليافعي رحمه الله تعالى في روضه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله تعالى في أرضة ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم، وأربعون قلوبهم على قلب موسى، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، وله واحد قلبه على إسرافيل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام فإذا مات الواحد جعل الله تعالى مكانه من الثلاثة وإذا مات من الثلاثة جعل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة جعل الله مكانه من السبعة، وإذا مات من السبعة جعل الله تعالى مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين جعل الله مكانه من الثلاثمائة، وإذا مات من الثلاثمائة جعل الله مكانه من العامة، بهم يرفع الله عز وجل البلاء عن هذه الأمة).
قال الإمام اليافعي رحمه الله تعالى:وهذا الواحد الذي على قلب إسرافيل هو القطب وهو الغوث. ومكانته من الأولياء نفع الله بهم، بمنزلة النقطة من الدائرة التي هي مركزها. به يقع صلاح العالم.
وعن الخضر عليه السلام قال: ثلاثمائة هم الأولياء وسبعون هم النجباء، وأربعون هم أوتاد الأرض، عشرة هم النقباء، وسبعة هم العرفاء، وثلاثة هم المختارون، وواحد هو الغوث.
وعن الشيخ عبدالقادر الجيلاني، رحمه الله تعالى: أن الأبدال سبعة.
وعن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: أن الأوتاد أربعة.
(1/16)

وعن الشيخ محمد بن عربي رحمه الله تعالى: يكتنف القطب رجلان يقال لهما: الإمام، أحدهما عن يمينه ونظره إلى عالم الملكوت والآخر عن شماله ونظره إلى عالم الملك، فإذا مات القطب جعل مكانه الذي عن شماله، انتهى بمعناه.
وذكر أيضاً رحمه الله تعالى أن الأولياء رجالاً يقال لهم: الأفراد لا يدخلون تحت دائرة القطب وربما لم يطلع عليهم، انتهى. وفيه احتمال.
وفي كلام الشيخ عبدالقادر رحمه الله تعالى ما يدل على أن الأفراد وغيرهم من الأولياء، كلهم داخلون بأمر الله سبحانه تحت أمر الغوث.
ثم إن أولياء الله تعالى غير محصورين في هذا العدد.
وقد اجتمع في وقت الشيخ عبدالقادر رحمه الله تعالى، من الأولياء اثنى عشر ألفاً، (وما يعلم جنود ربك إلا هو).
وأما القطب الغوث فليس إلا واحداً في كل زمان، وهو الفرد الجامع ويدعى عند القوم بالخليفة وبالإنسان الكامل، وينعت بصاحب الصديقية الكبرى والولاية العظمى.
وقد ذكر سيدي محيي الدين عبدالقادر رحمه الله تعالى، نبذة من أوصافه ومواجيده في كلام نقله عنه اليافعي رخمه الله في آخر حكاية من المائتين فانظروه إن شئتم.
والقطبانية بمعنى السيادة وكذا يطلق اسم القطب مجازاً على من له سيادة خاصة على أهل مقام أو حال، فيقال: قطب المتوكلين، وقطب الراضين إلى غير ذلك، ولعله إنما قال لصاحب الصديقية الكبرى: القطب الغوث مع الاكتفاء بلفظ القطب في تعريفه، احتراز عن هذا المجاز.
فهذا القدر من البيان كاف في هذا الباب، وبين القوم خلاف في أسماء أهل هذه المراتب وأعدادهم، وإذا اعتبرته وجدته لفظياً.
(1/17)

وبسط الكلام على تحقيق هذه المسألة يستدعي ذكر مواجيد أهل دائرة الولاية وذكر علامتهم الدالة عليهم، وتفاوت أهل كل رتبة في رتبتهم إلى غير ذلك. وهذا أمر لا يستقل بتحقيقه إلا القطب الغوث، لإحاطته بجميع مراتبهم واندراج مقاماتهم وأحوالهم في حاله، وأما غيره من الأولياء فلا يحيط إلا بمن هو رتبه أو دونه، وله إشراف على من هو أعلى منه من غير إحاطة.
وعلى الجملة فهذه المسألة من الأمور التي لا يقنع فيها بدون الكشف والعيان، فمن أراد ذلك فعليه بتهذيب أخلاق نفسه وتلطيف كثافتها بالرياضة البالغة، الماحقة للرعونات النفسانية القاهرة للحظوظ الشهوانية المزينة بالحضور الدائم مع الله تعالى، بوصف حسن الأدب على بساط الذلة والإنكسار والإضطرار والإفتقار، تحقيقاً للعبودية ووفاء بحق الربوبية.
فإذا أحكم العبد هذين الأصلين اللذين أحدهما حسن الرياضة والآخر كمال الحضور إنهتكَ حجاب قلبه وأبصر غيب ربه. فعند ذلك يشاهد الأولياء عل مراتبهم ومناصبهم القدسية أوراحا مجردة فحينئذ يستغني عن الوصف ويرتفع من حضيض التقليد إلى أوج الكشف.
وأما نحن معاشر المحجوبين فليس لنا من هذا الأمر وما يجري مجراه إلا مجرد الوصف وليس بقليل إذا لم يقع الجمود عليه، لأنه ينتج المحبة وعنها يكون الشوق، وعنه يكون الطلب ومن طلب وجد، ولكل نبأ مستقر، ولكل أجل كتاب. ولنا في هذا المعنى:
بصرت بركب الحي للحي سائراً فقلت لهم ما حال ذات الغدائر
محجبة الحسن البديع الذي غدا بها كل صب واله القلب حائر
ألا فاشرحوا لي حسنها وجمالها فأوصافها تحلو لسمعي وخاطري
فقالوا نرى في ذكرها بعض سلوة لعاشقها دون الشهود بناظري
هَلُمَّ نَجِدَّ السيرَ نحو خبائها لنحظى بها مابين تلك المسامر
فقلت لهم في أوصاف حسنها تيقظ محجوب وتنشيط سائر
رعى الله أياما تقضَّى نعيمها وتذكارها ما زال نصب سرائري
خليليَّ هل من عودة لليالي تولت فإني بعدها غير صابر
(1/18)

وسأله الشيخ المنور عبدالكبير بن عبدالله باحميد بما حاصله: ما حكم من يخالط أهل المعاصي؟ (4) والأكل من طعام من معاملته فاسدة؟ وحكم معاملته؟
فأجابه رضي الله عنه، ونفع به:
اعلم أنه ينبغي للمؤمن الشفيق على دينه الحريص على آخرته، أن لا خالط ولا يعاشر ولا يجالس إلا أهل الخير والطاعة المتقين لله تعالى التاركين المعاصي إما بالإجتناب رأساً أو بالتوبة الصحيحة منها إن وقعوا فيها.
ثم إن من يخالط أهل المعاصي عند الحاجة بقدرها، وهو مع ذلك يكره معاصيهم وينكرها عليهم ويدعوهم إلى التوبة منها، سالم في دينه لا تضره مخالطتهم، وربما تندب له إذا كان يرجو تأثرهم بنصحه، واستجابتهم لدعوته ولو على تراخ.
وأما الذي يخالطهم ولا ينكر عليهم معاصيهم مع القدرة، غير أنه لا يشاركهم ولا يساعدهم على جنايتهم فهذا لا يسلم من الإثم، وربما يصيبه ما أصابهم لا سيما إن كان يخالطهم لغير ضرورة أو حاجة.
وأما الذي يخالطهم، أعني العصاة وهو مع ذلك يثنى عليهم، ويحسِّن لهم أهواءهم وربما فتح بعض الأبواب في التوصل إلى أغراضهم الفاسدة فهذا عند الله تعالى أشر منهم وعذاب الله تعالى إليه أسرع ومقته له أحق، والكلام في العصاة المصرين المتظاهرين بالمعاصي المعروفين بها.
وبالجملة، ينبغي للعاقل أن لا يخالط أحداً من المصرين على شيء من المعاصي ولا يجالسهم ولا يجتمع بهم, إلا إن وقع ذلك مصادفة من غير قصد أو ضمه هو وإياه شيء من الإجتماعات أو الأماكن العامة كالمساجد والأسواق.
وذلك لأن مخالطة من هذا وصفه يقسي القلب وضعف العزم على الطاعة ويجرُّ إلى المعصية بواسطة السريان الذي جعله الله تعالى بحكمته بين المتحابين والمتخالطين ومن جرب هذا عرفه.
(1/19)

وأما الأكل من طعام إنسان له شيء من المعاملات الفاسدة، وكذلك معاملته فإن كان له معاملات صحيحة أيضاً أوله شيء من الأثمار، الصحيح ملكه لها، وكان الحلال من ماله أكثر من الشبهات والحرام الذي في يده فقد قال العلماء رحمهم الله تعالى. يجوز أكل طعامه ومعاملة من هذا وصفه، والورع اجتناب ذلك ما أمكن، والله تعالى أعلم.
وسأله الرجل المذكور ما حاصله: ما دواء من يتثاقل عن الخيرات ويميل إلى الشهوات (5)
مع حبه للخير وأهله وبغضه للشر وأهله؟
فأجابه رضي الله عنه تعالى عنه وعن سلفه:
اعلم أن لهذا الأمر أسباباً أربعة: الأول: الجهل، وإزالته بالعلم النافع.
الثاني: ضعف الإيمان، وتقويته بالنظر في ملكوت السموات والأرض وملازمة الأعمال الصالحة.
الثالث: طول الأمل،ومعالجته بذكر الموت واستشعار هجومه في كل حال وحين.
الرابع:أكل الشبهات، والخلاص منه بالورع مع التقلل من الحلال.
فمن عالج نفسه حتى أماط عنها هذه الأسباب بأضدادها المذكورة، صار لا يمل من فعل الطاعات ولا يسأم من تعاطي الخيرات في جميع الأوقات ولا يميل ولا يأنس بالشهوات واللذات الفانيات، ولا ينبغي أن يطلب ذلك في البدايات فإنه لا يحصل إلا بعد المجاهدات، بذلك جرت سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(1/20)

فإن الإنسان في أول الأمر يجانب المخالفات ويفطم نفسه عن الشهوات ويكلفها العمل بالطاعات تكلفاً مع الاستثقال والمشقات، حتى يعلم الله سبحانه وتعالى صدقه في إقباله ورغبه في عمارة قلبه واستقامة حاله فعند ذلك ينظر إليه ويشمله بلطفه الخفيّ، فيجد في الطاعات والعمل بالصالحات مالا مزيد عليه من النعيم واللذات في غير شغل عن الله ويجد في الشهوات غاية المرارات، ويجد في نفسه النفور عنها أمراً لا يتصور معه خطورها على باله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قال الله تبارك وتعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا)، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) الآية.
(6) وسأله الرجل المذكور أيضاً بما حاصله أيما أفضل للعبد: إخفاء العبادات أو إظهارها؟ وأيما أفضل له الخوف والرجاء؟
وعمن أراد أن يجعل لنفسه ورداً، هل الأحب كونه قرآناً أو تسبيحاً أو تهليلاً؟ وأيما الأفضل طول القيام والركوع والسجود أو قصر ذلك، ليكثر عدد الركعات في النوافل وعن أفكار تطرقه بالليل وفي بعض الأوقات.
وعما وقع له مرة، أنه سمع شخصاً يذكر الفرس وما يحتاج إليه من الرياضة والمؤدب وأنه نزّل ذلك على نفسه.
وكذلك سمع شخصاً يذكر الربيع وما تحتاج إليه الأرض عند إصابة السيل لها وقلبه من الإصلاح والتعهد، وأنه نزّل ذلك على قلبه، يعني فهل هذا الفهم صحيح أولا؟.
وعن رؤيا وقعت له: يأتي ذكرها في الجواب.
فأجابه، زاده الله من فضله وأعد علينا من بركاته بما لفظه:
اعلم أن الإظهار أفضل لمن لا يخشى على نفسه الرياء ويرجو أن يقتدى به فيما يظهره أحد من أخوانه المؤمنين، والإخفاء أفضل لمن يخشى الرياء ولا يرجو الإقتداء، فإن أمن الرياء ولم يرج الإقتداء أو عكسه فالإخفاء أفضل أيضاً.
(1/21)

وأما الأفضل من الخوف والرجاء، فاعلم أن الخوف أفضل لمن قويت نفسه وعظم مليها إلى المعاصي حتى تستقيم والرجاء أفضل لمن أشرف على الموت، حتى يموت على حسن الظن بالله تعالى.
وأما الصحيح في جسمه المستقيم في دينه فالأفضل له استواء الخوف والرجاء حتى يكونا كجناحي الطائر.
(7) وأما سؤالك عمن يريد أن يجعل له ورداً، هل الأحب أن يجعله قرآنا أو تسبيحا أو تهليلا؟
فاعلم أنه لا شيء أفضل من قراءة القرآن، مع الحضور والتدبر والترتيل، ولكن في طبع الإنسان السآمة والملالة،فينبغي له أن يتنقل في الأوراد، فتارة يقرأ وتارة يصلي وتارة يذكر وتارة يتفكر في الموت وما بعده، إلى غير ذلك من وظائف العبادات.
(8) وأما الأفضل من طول القيام والركوع والسجود أو قصر ذلك، ليكثر عدد الركعات في النوافل.
فأعلم أن المنقول من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامه من الليل طول القيام وطول الركوع والسجود جداً، وكان لا يزيد في قيامه على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة.
ووقع خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى في أن الأفضل طول القيام أو طول الركوع والسجود فبعضهم قال بالأول وبعضهم بالثاني، واختار الإمام الغزالي وغيره، أن الذي يتفق فيه الخشوع والحضور أكثر، هو الأفضل وهذا يختلف باختلاف الأحوال.
وأما ما ذكرته من أفكار تطرقك بالليل وفي بعض الأوقات.
فأعلم أن الفكر أصل كبير في إصلاح القلب واستقامته وإثارة النيات الطيبات والأعمال الصالحات ولكن ليس هو كل فكر، بل هو الفكر في آيات الله تعالى الباهرة وعجائب صنعه الباطنة والظاهرة ونعمه وآلائه المتكاثرة. وفيما وعد به أولياءه من أنواع كرامته في دار المثوبة وتوعد به أعداءه من فنون إهانته في دار العقوبة، ومنه الفكر في الدنيا، من حيث زوالها، وتشويش أحوالها وكثرة أكدارها وأقذارها.
(1/22)

وأما الفكر في شهواتها ولذاتها التي تميل النفس إليها، فإن كان من حيث إنها منغصة مكدرة منقضية، تساق إلى الأعداء وتصرف عن الأحباء فهو من الأفكار النافعة.
وإن كان من حيث ملاءمتها للنفس وموافقتها للطبع، وما فيها من الإستراحة والحلاوة عند من غفل قلبه عن ربه، حتى ربما غبط المتفكر فيها حال تفكره من مكن من العباد من تناولها، فالفكر فيها على هذا الوجه مما لا ينبغي ولا يحسن، بل هو مذموم قبيح لما فيه من تهييج الرغبة والحرص على الدنيا والسعي لجمعها.
وأما الذي سمعته يذكر الفرس، وما يحتاج إليه من الرياضة والمؤدب، وأنك نزّلت ذلك على نفسك في احتياجها إلى من يروضها ويؤدبها بأقواله وأفعاله من أهل الله تعالى.
وكذلك ما سمعته من الشخص الذي يذكر الربيع، وما تحتاج إليه الأرض عند إصابة السيل لها وقبله، من الإصلاح والتعهد وأنك نزلت ذلك على القلب في احتياجه عند إصابة مطر الحكمة له، إلى إصلاح الشايخ له أوتعهدهم بالنظر والتأديب.
فهذا الذي وقع لك هو من السماع المستقيم والفهم المنور، والقوم رضي الله عنهم يسمون هذا الفن من السماع بالسماع المطلق وهو أن يلوح له من كل ما يسمعه أي شيء كان، معنى يفهمه، فيما هو بصدده من سلوك الطريق وموافقة الرفيق الأعلى ، كل على حسب حاله ومقامه، ولكن شرك ذلك عندهم وقوع ذلك فجاءة وبديهة، من غير تفكر ولا تعمل، ولهم في ذلك حكايات مشهورة.
منها: ما يحكى أن ثلاثة منهم سمعوا منادياً ينادي: ياسعتر بري، فتواجدوا وربما غابوا فلما سُئِلوا عن الموجب لذلك، قال أحدهم سمعت مخاطبة من الحق: إِسْعَ تَرَ بِرِّي وقال الآخر سمعت: ما أوسع بري، وقال الثالث سمعت: الساعة ترى بري، فانظر ـ رحمك الله تعالى ـ كيف غابوا عن القائل وعما يقول، وكيف لاح لهم من تلك الحضرة ذلك الخطاب الجليل.
(1/23)

وأما ما رأيته في منامك، من قراءتك كتاب العوارف السهروردية، على ذلك الشريف الذي لم يكن معروفاً بالإقراء فتعتبر رؤياك خيراً يحصل لك في هذه الطريق، أعني طريق الصوفية من حيث لا تحتسب إن شاء الله تعالى.
وأما الكتاب الذي رأيته مناماً على يد ذلك الإنسان، الذي لا ينسب إلى الإستقامة، وأن فيه ذكر الرحمة وأسم يوسف.
فتأويله: أن الرجل مرحوم ويكون سبب ذلك: إما تهمة الناس له في شيء هو بريء منه، وإما عفوه ومسامحته لمن يجتني عليه، ونحو ذلك مما اتفق مثله لنبي الله تعالى يوسف عليه السلام.
والشأن في صحة الرؤيا وكونها من المنامات الصحيحة، المحفوظة عن تسويلات النفس ووساوس الشيطان.
وأقل ما يشترط لصدق الرؤيا صدق لسان الرائي في اليقظة، وسلامة قلبه ودماغه من تصور الأمور الفاسدة، والتحدث بالأمور البعيدة عن الصحة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).
خاتمة
في التوبة وقد وقع التعريض بذكرها في المكتوب
اعلم أن التوبة باب الله تعالى الواسع المفتوح وفضل الله سبحانه المبذول لكل مقبل، ومعناها: أن يرجع الإنسان عن فعل كل شيء يحب الله تركه ويكره فعله كالمعاصي والمحرمات، ويدخل في فعل كل شيء يحب الله فعله ويكره تركه كالفرائض والواجبات.
فمن ترك شيئاً من الفرائض، أو وقع في شيء من المحارم وأراد التوبة منه، فعليه أن يترك ذلك المحرم أو يفعل ذلك الواجب، مع الندم على ما كان منه من التفريط، والعزم على أن لا يعود إلى مثله ما عاش،وتجوز التوبة من بعض الذنوب.
(1/24)

ومن تاب ثم عاد، لم تنتقض توبته الأولى بعوده، ويعود إلى التوبة وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، فله الحمد، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه وفي الحديث: إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وإن قِبلَ المغرب بابا مسيرة الشمس أربعين يوما مفتوحا للتوبة لا يغلق، حتى تطلع الشمس من مغربها، وإن الله سبحانه وتعالى يقبل العبد مالم يغرغر، ومعنى الغرغرة أن يبلغ الحلقوم من الموت، وذلك في آخر رمق.
فقد علمت بهذه الكلمات حكم التوبة ومكانها من الدين، وبقي أن من تاب من ظلم أحد من العباد يلزمه رد ما أخذه، إن كان مالا، والتمكين من القصاص وطلب الإحلال إن كان نفسا أو عرضا لا بدله من ذلك، فإن تعذر عليه من كل وجه، أتى بما قدر عليه، والمرجو من فضل الله أن يرضي خصماءه عنه في الآخرة.
ويلزم التائب أيضاً، إن كان قد فرَّط في ترك شيء من الواجبات، كالصلاة والصيام والزكاة، أن يقضي ما فرط فيه لا بدله من ذلك، يكون ذلك على التراخي والإستطاعة، من غير تضييق ولا تساهل فإن الدين متين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا).
وقد بلغنا عن بعض السلف الصالح: أنه مكث مدة طويلة، يسأل الله تعالى أن يتوب عليه توبة نصوحاً، لم ير أثر الإجابة فطرقة لذلك تعجب فرأى في منامه أنه يقال له: أتحسب أن الذي تطلب أمر سهل؟ إنما تسأل الله تعالى أن يحبك، ألم تسمع قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) تاب الله علينا وعليكم توبة نصوحاً في خير وعافية، وتوفانا على ذلك.
(9) وسأله الشيخ المنور محمد بن أحمد صلعان، عن قول الشيخ العارف بالله تعالى أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه ونفعنا به: (أبْعَدُ الخلق عن الله تعالى أكثرهم إليه إشارة)
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به:
(1/25)

إن أراد الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: أبعد الخلق عامة الناس، فالمشير منهم إلى الله سبحانه وتعالى كثير بقوله: هذا لله، ومن الله ، ونحو ذلك يدل على ريائه وتشبهه بأهل الخصوصية تزينا بذلك للناس،ولا شك أن هذا يكون أبعد عن الله تعالى ممن يكون في مثل حاله من العامة.
وإن أراد الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: الخلق خصوصَ العارفين فذلك شائع في اللغة، فمعناه أن العارف الذي يكثر الإشارة إلى الله تعالى، أبعد من غيره من العارفين عن الحضر الإلهية، لأن الإشارة تقتضي البعد والغيبة عن المشاهدة.
(11) وسأله الرجل المذكور أيضاً عن قول بعضهم، النفس تقول للقلب: احضر معي في العادات حتى أحضر معك في العبادات.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: هذا يكون من قول النفس المطمئنة للقلب المنير فإذا حضر القلب معها في عاداتها التي لا بد لها منها، كالأكل والشرب ونحوهما، حصل لها بحضوره الإستقامة في العوائد والأخذ فيها على الوجه الأحسن الأفضل.
وأما حضور النفس مع القلب في العبادات فلكي يحصل له النشاط فيها والإجتماع بالباطن والظاهر عليها، فأن الباطن إذا كان مع الظاهر في تصرفاته والظاهر إذا كان مع الباطن في تطوراته، كان الباطن والظاهر على الغاية من الإجتماع على المطالب.
وسأله المذكور أيضاً عن الشيخ هل يُحَبُّ لذاته؟ أو لصفاته؟ أو لمواساته؟ (12)
فأجابه: أعلم أن المحبة للصفات الحسنة الجميلة محبة معقولة، وكذلك للإنتفاع الذي يحصل منه في الدين والدنيا ولكن المحبة للصفات أرفع وأنفع، وأما للذات فليست تعقل إلا في حق الحق عز وجل، وهي مع ذلك دقيقة وغامضة وفيها إشكال على غير أهل البصيرة، وليس شيء لذاته على الإطلاق سوى الله تعالى.
وأما قول بعضهم في شأن من خَلَّطَ من أهل البيت النبوي، إنا نبغض صفاتهم دون ذواتهم، فذلك لما في ذواتهم الجسمانية من البضعة النبوية، وهذا من غير ذلك الوجه الذي ذكرناه.
(1/26)

(12) وسأله أيضاً عن قوله عليه الصلاة والسلام، في دعائه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل).
فأجابه الفقه في الدين هو الفهم في علومه والبحث عن حكمه وأسراره حتى يكون العمل منه على الفهم والبصيرة.
وأما علم التأويل فهو علم تأويل القرآن والسنة، فقد كان ابن عباس رضي الله عنهما من ذلك في الغاية القصوى، وكان يسمى ترجمان القرآن بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وقد يُدعى بهذه الدعوات ويزاد عليها، واهدنا إلى سواء السبيل والسبيل هي الطريق الموصلة إلى رضوان الله تعالى وجنته مع اليسر والعافية. فمن دعا بهذه الدعوات فليقصد بها ما ذكرناه من الفقه في الدين وعلم التأويل والهداية إلى سواء السبيل، فيعطى من ذلك إذا استجاب الله تعالى له الذي هو له مكتوب، مما يصلح له وينفعه.
(14) وسأله أيضاً: عن قوله عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: من شغله ذكري. الحديث.
فأجابه الذي يظهر أن المراد حال المستغرق في الذكر الذائق فيه المستهتر به الذي صار شغله وديدنه فإن لم يكثر الدعاء في خلال ذلك، لم يفته بذلك شيء مما يحصل للداعين المكثرين من الدعاء، بل يعطى أفضل ما يعطاه السائلون، لأنه مشغول بالله تعالى وبذكره ليس بالأغيار ولا بالحظوظ.
وأما أن الإنسان في حاله دعائه يعدل عن الدعاء إلى الذكر ويترك الدعاء، فلا أرى لذلك وجهاً ولا أستحسنه، ولا أقول إنه المراد من الحديث؛ لأن الدعاء من الأذكار وفيه من الافتقار إلى الله تعالى والخشوع له والتذلل بين يديه ما ليس في غيره من العبادات، ولذلك ورد: (الدعاء مخ العبادة).
وسأله الشيخ عبدالله باسعيد العمودي، عن قول الشيخ الكبير سعيد بن عيسى العمودي (15) رضي الله عنه ونفعنا به: لا يكون الشيخ شيخاً حتى يعلم أصول الدين وفروعه، ثم قال: والأصول سبعة والفروع سبعون.
فأجابه رضي الله عنه. ونفعنا به:
(1/27)

أعلم أن قول الشيخ هذا قول صحيح محقق، فأما قوله: حتى يعلم أصول الدين وفروعه، فمعناه لا بد أن يكون للشيخ الداعي علم بأصول الدين وفروعه على الإجمال أو على التفصيل، من طريق الكسب والتعلم، أو من طريق الوهب والإلهام، كما وقع مثل ذلك لهذا الشيخ، أعني الشيخ سعيد فإنه قد كان أميّاً، وكذلك جماعة من الأشياخ مثل الشيخ أحمد الصياد والشيخ علي الأهدل والشيخ أبي الغيث وغيرهم، رحمهم الله تعالى.
وأما قول الشيخ رحمه الله تعالى: الأصول سبعة والفروع سبعون. فلا يمكن التنصيص على ذلك بالتعيين، لأنه ربما يكون الشيخ قصد بقوله هذا شيئاً من معاني الدين الباطنة تتأصل وتتفرع على ما ذكره، كما قال بعضهم: لا بد للشيخ من إقامة الفريضة والسنة، ثم قال: الفريضة محبة المولى والسنة الزهد في الدنيا، أو كما قال:
فحاصل كلام الشيخ: أنه لا بد للشيخ من علم بأمور الدين على الوجه الأكمل في الباطن والظاهر وقد ورد: (ما أتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلّمه).
(16) وسأله الشيخ المذكور: عن الأولياء أرباب الدوائر. وعن أعدادهم إلى آخر ما سال مما يأتي ضمن الجواب.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمدنا بمنّه منه: قد ذكر طرفاً من ذلك الشيخ الإمام عبدالله بن أسعد اليافعي في أوائل روض الرياحين فراجعوه، وقد سئلنا عن هذه المسألة فأجبنا عنها بما تقدم الجواب في هذا الكتاب وفي بعض الرسائل.
وأما أول من أقيم في رتبة القطبانية فقيل: إنه الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقيل: أبوبكر رضي الله تعالى عنه ثم على ترتيب الخلفاء ثم الحسن ثم الحسين ثم زين العابدين، هكذا قيل.
وأما آخر من يقام فيها فالمهدي الفاطمي عليه السلام، الذي يكون في آخر الزمان. والقطب: عبارة عن أفضل رجل من أهل الإيمان في كل زمان. وبقية ما سألتم عنه مذكور في روض الرياحين على الإجمال، وأما تفصيل هذه المسألة، فيستدعي بسطاً كثيراً وبعض ذلك من العلوم التي لا يجوز إيداعها الكتب.
(1/28)

وسأله أيضا ًعن قول بعضهم: إن إنكار كرامات الأولياء رضي الله عنهم كفر، وبُعد قول (17) العلماء فيه إنه بدعة إلى آخر ما سأله عنه مما يأتي ضمن الجواب.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأخلى قلوبنا بحقه عما سواه: كلام العلماء في ذلك، هو المعتمد. والمذكور في لطائف المنن عن الشيخ أبي تراب النخشبي رحمه الله تعالى، محمول على كفر دون كفر، أو على من أنكرها استبعاداً لوقوعها، من حيث القدرة الإلهية أو على وجه آخر.
وأما عد الكرامات من المعجزات فذلك بحكم التبعية لا الإستقلال فليست هي هي، وليس لها حكمها من كل الوجوه ولا من أكثرها، إذ المعجزة تدل على صدق الرسول والكرامة الصادرة من الولي المستقيم على الشريعة تدل على صدقه في حسن متابعته لنبيه، ثم يدل ذلك على أن الشرع المتبع له حق وصدق. فمن هذه الحيثية قالوا: إن كل كرامة لولي فهي معجزة للنبي الذي يكون ذلك الولي من أتباعه، فكم من فرق على هذا بين الكرامة والمعجزة فافهم.
(18) وسأله أيضاً عن سؤال الملكين الكريمين لأهل القبور وهل السؤال منهما أو من أحدهما وبأي لغة؟ وهما اثنان أو ثلاثة وهل يتطورون ويتصورون بحسب تطور أحوال الموتى.
فأجابه رضي الله تعالى عنه: أما سؤال الملكين فهو صدق وحق لا شك فيه وذلك كله لا يحتاج إليه بعد اليقين بكون السؤال حقا، وقد ورد في بعض ما سألتم عنه آثار ضعيفة والمعتمد هو الإيمان بسؤال الملكين فقط، وقد نقل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه: (شرح الصدور في أحوال أهل القبور) من ذلك ما فيه كفاية فراجعوا ذلك إن أردتموه.
(19) وسأله أيضاً ـ أعني العمودي ـ عن الجنة هل هي في السماء؟ وعن النار هل هي في الأرض السابعة؟ وعن أحوال الأرض والسماء وحكمهما يوم القيامة هل تبدلان؟ أو يأتي الله سبحانه وتعالى بغيرهما؟ وعن درجات الجنة، وكم هي جنات؟ وما الذي يقوى به المؤمنون على رؤية الله عز وجل وعلا في الآخرة؟
(1/29)

فأجابه رضي الله عنه، ونفعنا والمسلمين ببركته:
اعلم وفقك الله تعالى وجعلك من أهل البصائر المنيرة الناظرة بنور الله تعالى: إن هذه العلوم وردت مجملة ومفصلة وفي تفصيلها إجمال، لا تحتمل العقول غيره فحسب الإنسان منها الإيمان اليقيني. على حسب ما ورد من ذلك في صريح الكتاب والسنة.
فأما الجنة فظاهر القرآن يقتضي أنها في السماء وأنها درجات، وفي بعض الروايات: مائة درجة، وفي بعضها بأن درجاتها بعدد آيات القرآن وهي أكثر من ستة آلاف، وأما الجنان فثمان وفي كل جنة جنات كثيرة، وأعلاها الفردوس الأعلى وسقفها عرش الرحمن تبارك وتعالى.
وأما أهلها فهم النبيون والمرسلون وعباد الله الصالحون من المؤمنين والمسلمين. ودرجاتهم يها على حسب إيمانهم وأعمالهم، فمِن رفيع وأرفع، وعليّ وأعلى، وليس فيهم وضيع ولا دنيّ البته.
وأما ما يقوى به المؤمنون على رؤيته تعالى في الجنة فإنه سبحانه يمدهم بقوة من قوته، ويركِّبهم عند إعادتهم تركيبا يحتمل ذلك ويقوم له وتلك أرواح وأجساد باقية، لا يحوم بها الضعف ولا يلم بها عوارض الفناء فبذلك تقوى على ما هنالك.
وأما أحوال الأرض والسماء يوم القيامة فالظاهر أنهما تتبدلان وتتغيران، ويشملهما ما قضى الله سبحانه به من عموم الفناء على هذا العالم الدنياوي والملكي. يدل على ذلك قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض) الآية وقوله تعالى: (فإذا انشقت السماء) الآية، ثم تعاد الأرض والسماء فتكونان هم السماء والأرض اللتين كانتا ولكن قد شملهما الفناء وتحولتا من حال إلى حال، كما وقع ذلك للنبي آدم صلى الله على نبينا وعليه وسلم، قيل وغيرهم، هذا ما ظهر والله أعلم بحقيقة الحال.
(1/30)

وأما النار ـ أعاذنا الله تعالى وإياكم منها ـ فقد قيل: إنها الآن تحت الأرض السابعة، وقيل: تحت البحار وهي دركات بعضها تحت بعض وعددها سبع أعلاهن جهنم لعصاة الموحدين. وأسفلهن الهاوية وهي التي لا قعر لها ولا قرار، فإذا كان يوم القيامة وبرز الملك الديان لفصل القضاء بين خلقه، جيء بعرش الرحمن ثم جيء بالجنة فجعلت عن يمينه ، وجيء بالنار فجعلت عن يساره، ودعُي الخلق لفصل القضاء والحساب ففريق في الجنة وفريق في السعير. (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين).
وفي الكتاب والسنة تفصيل ما ذكرناه في نص الآيات الكريمات والأحاديث النبويات، فتتبعوا ذلك وتدبروه وتمسكوا بما ذكرناه من هذه الجملة فإن فيها خلاصة المقصود، ومن يؤمن بالله يهد قلبه ومن يهد الله فهو المهتد.
وسألته نفع الله به عن الإيثار هل هو عام في أمور الدنيا والآخرة؟ أم هو خالص بأمور الدنيا، (20) مما للنفس في حظ ورغبة؟ هذا حاصل السؤال.
فأجابني: اعلم ان الإيثار بحظوظ الدنيا وشهواتها من الفضائل العظيمة. وقد درج على ذل السلف الصالح والخلف المقتدون بهم، ولهم في ذلك الحكايات الكثيرة العجيبة، وقد ذكر الإمام الغزالي نفع الله به ورضي عنه في كتاب ذم المال من الإحياء طرفاً من ذلك ، وذكره غيره أيضاً.
وأما الإيثار بأمور الآخرة من القربات الدينية فلا نعلم أحداً ممن يؤخذ بقوله يقول بذلك ولا يراه، لأن ذلك يشبه الزهد في القرب من الله تعالى وفي طلب مرضاته، وهذا شيء أعني العمل بالقرب، ينبغي المسابق فيه ويطلب المسارعة إليه والمزاحمة عليه.
وفي نوادر حكايات لأرباب الأحوال من أهل التصوف، مما يومي إلى شيء من ذلك، ولكن صاحب الحال يسلم له حاله، مهما كان صادقاً فيه، ولا يقتدى به في حاله.
(1/31)

نعم ومن القربات أشياء فيها أخطار، ويكون البعض أصلح لها من البعض وأحق فقد يتأخر عنه بعضهم لخطرها، وليقوم بها من هو أحق وأقوم بها منه وذلك مثل إمامة الصلاة ومثل إمامة الخلافة، ومثل الفتيا في العلم ومثل تدريسه. وأشياء كثيرة تشبه هذه الأمور.
وإذا دققت النظر في أحوال المؤثرين فيها لغيرهم على أنفسهم، رجع فعليهم ذلك إلى طلب القرب من الله تعالى والتوقي من سخطه بالتعرض للأخطار. وما لا تؤمن السلامة معه في الدين.
(21) وسألته أيضاً عن وقت أذكار الصباح والمساء، متى يدخل ومتى يحسن العمل بما ورد في ذلك؟. هذا حاصل المقصود من السؤال.
فأجابني رضي الله تعالى عنه ونفع به: أما وقت الصباح والمساء، فعلى حسب ما ذكروه من أن المساء يدخل بالزوال والصباح بما بعد نصف الليل أو الثلث الأخير منه، وأما إقامة الأذكار الواردة في الوقتين فكلما كان في المساء إلى الليل أقرب مثل وقت الإصفرار ومن أول الليل كان الإتيان فيه بالوارد أحب وأقرب إلى مطابقة الحال، وكذلك الصباح من قبيل الفجر فما بعده إلى الإشراق. وعلى هذا السبيل نعمل في إقامة ما نأتي به من هذا الورد الشريف.
وسألته أيضا ً: عن المسح الوارد عنه عليه الصلاة والسلام عند النوم بعد القراءة والنفث، (22) وهل ينبغي للإنسان أن يعم جميع جسده ولو مع التكلف في بعض الجسد، لأن في لفظ الحديث: وما استطاع من جسده.
فأجابني رضي الله عنه ونفع به: الظاهر أنه مهما مسح بيديه مجتمعتين على جسده حسبما يقرأ وينفث، لم يستطع أن يمسح بذلك جميع جسده فليمسح ما ستطيعه، كذلك يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من الجسد.
وسألته أيضاً عن معنى السير إلى الله تعالى ماهو؟ (23)
فأجابني رضي الله عنه:
(1/32)

اعلم أن السير حقيق ومعنوي، بتزكية النفس والجوارح عن منكرات الأخلاق والأعمال ثم بتحليتها بمحاسن الأخلاق والأعمال، بذلك يقرب العبد من حضرة الله تعالى قرباً معنوياً، وكلما كان أزكى وأطيب كان أدنى وأقرب، وثم سير آخر إلى الله تعالى ألطف من هذا وأدق، ولكن لا يصلح ذكره، إلا مع من قد انتهى في السير المذكور أولاً أو قارب الإنتهاء.
(24) وسألته أيضا ًنفع الله به: عما رأيته في كلام بعض أهل الطريق من أنه لا ينبغي الكلام في الأحوال والمقامات الشريفة، لمن لم يبلغها.
فأجابني رضي الله تعالى عنه: كذلك، ولكنه مخصوص بالمريد السالك للطريق، الذي لم يتحقق بعد بتلك الأحوال والمقامات فإن كلامه فيها وسؤاله عنها، ربما يدخله في شيء من التصنع والإعجاب والتكلف والتزين للناس. وما في معناه مما يحط السالك عن حد السلوك أو يشوشه عليه ولم يجيزوا له من ذلك، إلا السؤال عما نازله من المقامات أو ورد عليه من الأحوال وأشكل عليه حكمه، فله في ذلك السؤال من شيخه إن كان، وإلا فمن أهل الطريق مطلقاً أو من كتبهم إن لم يظفر بأحد منهم هذا حكم هذه المسألة على الإجمال.
(25) وسألته أيضاً نفع الله به عن الواقف بين يدي الله جل وعلا في صلاة ونحوها، إذا خاف على نفسه أنه إذا استحضر الحضرة الإلهية أن يغلب عليه من التعظيم ما يشوش عليه ما هو فيه من الصلاة ونحوها، أو خاف على نفسه من سوء الأدب عند استحضار تلك الحضرة، بشيء من خواطر التكيف أو التشبيه.
فأجابني رضي الله تعالى عنه: أما من خاف المعنى الأول فعليه أن يستحضر بقدر ما يحتمل قلبه من ذلك، حتى يخرج الأمر عن اختياره فيعذر إذ ذاك. وأما الثاني فيستحضر أن الله تعالى يراه وأنه محيط به ومطلع عليه، ويأمن بذلك إن شاء الله من وقوع أمثال تلك الخواطر التي تعرض في التمثيل والتشبيه، لمن ضعفت معرفته بجلال الله تعالى وتقديسه سبحانه، بطرق الذوق والمشاهدة لا بطريق الإعتقاد والنظر.
(1/33)

وسألته أيضاً نفع الله به: عن مااستقبحوه من المريد من طلب الكرامات والمكاشفات (26) كما ذكر ذلك في رسالة المريد؟.
فأجابني رضي الله عنه: ذلك من مخافة أن يصير يجتهد ويدأب في العبادة لطلبها، فيكون من جملة طلبه الحظوظ الدنيوية والأعراض النفسانية هذا إذا كان يطلب الكرامات الصورية من طيّ الأرض والإخبار عن المغيبات وأشباه ذلك، فإن كان يطلب الكرامات الحقيقية كزيادة الإيمان واليقين، والتحقق بالزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة وأمثال ذلك كانت رغبته فيه محمودة، لأن ذلك من الحق والدين الذي يطلبه ورغب فيه.
وسألته أيضاً نفع الله به عن قول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، في باب الشكر من الإحياء (27) إن الملائكة المقربين أكثر قياماً بالشكر لله تعالى، من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو كلام نحو هذا قريب بما يقتضي أو يوهم تفضيل الملائكة عليهم؟.
فأجابني رضي الله تعالى عنه:
اعلم أن ذلك قول لبعض أهل السنة وقد قيل: إن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى منهم والجمهور على خلاف ذلك القول.
وأقول: إن كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في هذا المحل وفي غيره، مما يوافقه هو قول بالأفضلية من بعض الحيثيات وأحسب أن ذلك كما يقول رحمه الله تعالى، ولا أستجيز أن أنبه عليه لأنه من العلوم الإلهية السرية، والذي عليه العمل هو قول جمهور أهل السنة وعليه الإمام الغزالي كما يدل عليه كلامه في مواضع يقصد منها تحقيق ذلك.
(28) وسألته أيضاً نفع الله به: عن الذكر والدعاء بالأسماء العجمية من لا يعرف معناها، والذكر بياهو يا هو إلى آخر ما هذا حاصله.
(1/34)

فأجابني رضي الله تعالى عنه: إنا قد ذكرنا لكم شفاها أن مثل ذلك إذا وقع في خلال أدعية المحققين من العارفين الجامعين بين العلم واليقين، مثل الإمام الغزالي والشيخ السهروردي والشيخ أبي الحسن الشاذلي وأضرابهم نفع الله بهم ورضي الله عنهم. فما على الذاكر بذلك والداعي به من بأس. وهم مقلدون فيه وهم أهل التقليد والأمانة.
وأما إذا وقع في كلام من ليس بهذه المثابة فلا ينبغي أن يذكر به حتى يعرف معناه، فإنه ربما كان ذلك كفراً أو قريباً منه كما قاله بعض المحققين.
وأما الذكر بياهو ياهو، فلا ينبغي إلا للمستغرقين كما قاله الشيخ زروق رحمه الله تعالى، إلا إذا وقع في كلام أهل التحقيق، فالإنسان فيه متبع غير مدع ولا مبتدع.
وسألته نفع الله به: عن معنى قول الشيخ القطب السيد أبي بكر ابن الغوث الأعظم (29) السيد عبدالله بن أبي بكر العيدروس علوي رضي الله عنهما ونفع بهما، في قصيدته التي أولها: سَكِرَ المحب وما به سُكْرُ، إلى أن قال في أثنائها: الله يفعل ما يشاء من ممكن أو مستحيل، وقد رأيت في ذلك كلاما لبعضهم لم يتحرر؟.
فأجابني رضي الله تعالى عنه: كان الذي أشكل منه قوله: أو مستحيل. بعد أن علم وتقرر من اصطلاح علماء الكلام في التوحيد أن المستحيل ما لا يتصور وجوده ولا يجوز.
والذي يظهر لنا في معنى كلام الشيخ هذا: أن مشيئة الله تعالى لو تعلقت بالأمر المستحيل لوجد وكان، ولم تعجز قدرته الغالبة عن إسناده ولكن لا تتعلق المشيئة الإلهية بالأمر المستحيل أبدا.
وقد أفهم الشيخ رحمه الله تعالى هذا المعنى بقوله: يفعل ما يشاء فلو شاء لفعل ما يشاء ولكنه لا يشاء المستحيل فلذلك لا يكون وعلى هذا السبيل يفهم قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) إلى آخر الآية والولد مستحيل في حقه تعالى. فلذلك لا يريده عز وجل.
(1/35)

ويحتمل قول الشيخ رحمه الله تعالى معنى آخر، هو أن يكون أراد بالمستحيل هاهنا: الأمر الذي تستبعد العقول وجوده، من الجائزات. واللسان العربي منطلق بتسمية ذلك محالا، كما يقال كثيراً لبعض الأمور المستبعدة هذا محال وهذا من المحال ومثل ذلك سائغ في اتساعات العرب ومجازات كلامهم.
ويحتمل قول الشيخ رحمه الله تعالى معنى ثالثاً لا يجوز ذكره إلا بإذن إلهي لأهله لأنه يدق فهمه وتكل أكثر العقول عن إدراكه، هذا ما ظهر لنا في معنى كلام الشيخ نفع الله به.
(30) وسألته نفع الله به: عن معنى قول سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه ونفعنا ببركته: أحيوا مجالس الطاعات بمجالسة من يستحيى منه، فإن ذلك أشكل إلى آخر السؤال
فأجابني رضي الله عنه وزاده من فضله بما معناه: كأن الإشكال نشأ من معنى الحياء والرياء. وأنه مهما كان الحامل له على فعل الطاعات الحياء من الناس، يكون في طاعته شيء من معاني الرياء، ولكن ليس الرياء من الحياء في شيء، فإن الرياء أن يعمل الإنسان الطاعة يطلب بها المنزلة عند الناس والمكانة لديهم لطمع في مالهم وجاههم، وأما الحياء فهو انقباض يجده صاحب الطبع الكريم عند موجبه، ينبعث به لفعل الخيرات وترك الأمور المستقبحات. وكثيراً ما يحصل عند مجالسة الصالحين.
وفي الحديث: استح من الله تعالى كما تستحي من رجل صالح، وفي ضد ذلك يقول ابن سيرين رحمه الله تعالى: رأيت الشر كله في مجالسة من لا يستحيا منه.
وبلغنا عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال لمن قال له في استتاره عن الناس لما رآهم منصرفين عن الجمعة وقد فاتته: لا يستحيي من الله تعالى من لا يستحيي من الناس، وربما أنه رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني شككت في ذلك الآن فلذلك لم أجزم برفعه لخطر الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة الوعيد الوارد على فعل ذلك.
(1/36)

(31) وسألته نفع الله به عما إذا راءى الصبيُ هل يَحْبَطُ ثوابه؟. وما حكم ذلك؟
فأجابني رضي الله عنه:
أعلم أن الصبي ممن رفع عنه القلم حتى يبلغ، فليس يأثم إذا راءى. ولكن إذا راءى بطاعة حبط ثوابه وبطل أجره؛ لأنه مع الإخلاص يثاب عليها. وقد قيل: إن الإثم في ريائه يتعلق بمن يجب عليه إرشاده من أب أو ولي ونحوه، حيث لم يرشده إلى الإخلاص لم يبعد فإنه يجب عليهم أن يأمروا صبيانهم بفعل الواجبات من الصوم والصلاة، ويمنعوهم من المخالفات، كالزنا وشرب المسكر. وللشرط حكم المشروط. ويطول النظر في أمثال هذا السؤال. وفيما ذكرناه كفاية.
(32) وسأله نفعنا الله به الشيخ العفيف عبدالله بن أحمد الزبيدي: عن حكم من يعمل على رجاء الثواب.
فأجابه رضي الله تعالى عنه: بأن ذلك رجاء محمود وسعي مبارك مشكور. وعليه يعمل السلف والخلف من صالحي المؤمنين، فإن العبد خلق ضعيفاً لا غنى به عن فضل ربه الغني الكبير.
هذا جملة الجواب والكلام يطول في تفصيله، ولكنا نذكر من ذلك طرفا يسيرا. فنقول: العاملون لله تعالى على ثلاثة أقسام فمنهم من يعمل خشية العقاب وهم الخائفون. ومنهم من يعمل على رجاء الثواب وهم الراجون. ومنهم من يعمل امتثالا للأمر وهم العارفون، ولا بد للعارفين من الرجاء والخوف. وللخائفين من الرجاء والمعرفة. ولكن ينسب العبد إلى ما هو الغالب عليه من المقامات والأحوال.
(1/37)

وما وقع في كلام بعض أهل التصوف، مما يوهم نقصا أو انحطاطا في حال من يعمل على رجاء الثواب أو خوف العقاب، فذلك محمول على قصد التنبيه به على أن الذي يعمل لمجرد امتثال الأمر أفضل من الراجي الخائف والأمر كذلك. ولكنها مقامات بعضها فوق بعض، وليس للعبد أن يقيم نفسه في الذي يختار منها بل الأمر لله تعالى يقيم من يشاء من عباده حيث يشاء ولا بد أن يقيم الحق تعالى في كل مقام من المقامات الثلاثة طائفة من المؤمنين لا تصلح أحوالهم ولا تستقيم قلوبهم إلا بالعمل على وفق ما أقيموا فيه.
وربما أشار بعض أهل المعرفة في تنزيل مقام من يعمل على الرجاء والثواب، إلى حال من لو لم يرغب بثواب أو تخوف بعقاب لكان لا يعمل أصلا وليس في قلبه من تعظيم الحق وإجلاله، ما يحمله على امتثال أمره واجتناب نهيه والمسألة في نفسها غامضة، وقد رأيت فيها ما يشبه الغلط والشطح لبعض أهل الطريق.
ثم أقول: العمل على امتثال الأمر وابتغاء الرضا والقرب حسن جميل. والعمل على رجاء الثواب والرهبة من العقاب حسن جميل، والجامع من أهل الله تعالى هو الذي يعمل على المقامات الثلاثة بالتمام والكمال. ولكنه عزيز.
فليعرف الإنسان ما أقيم فيه وليعمل عليه. ولا يكون كالأجير السوء إن لم يعط الأجر لم يعمل، ولا كالعبد السوء لولا خشية الضرب لم يتأدب. ولكن يعمل لله تعالى لأنه سيده ومولاه ولأنه أمره ونهاه، ويرجو الثواب من باب الفضل والمنة، ويخاف العقاب لسوء أدبه وتقصيره في عبادة ربه، ويرجو العافية منه عفواً من الله تعالى وتفضلا. فهذه هي الطريقة السمحة والمحجة البيضاء، وعليها مضى الصالحون والعلماء. ومن تأمل كلامهم وسيرهم، وكان ذا بصيرة علم ما ذكرناه وعرفه تحقيقا، ونستغفر الله تعالى ونحمده كثيرا.
(33) وسأله أيضاً عن الإسرار بالذكر والجهر به أيهما أفضل.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه:
(1/38)

أعلم أن للعلماء العارفين في ذلك كلاما. وحاصله أن الذكر السِّر أفضل لمن يخشى الرياء،أو يخشى التشويش بجهره على مُصَلٍّ ونحوه. فإن أمن ذلك كان الجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر. ويتعدى نفعه إلى الغير، وهو أقوى تأثر القلب وجمعيته ولكن قلب الضعيف الذي لم يكمل حضوره ولم يتم استغراقه وفي الحديث، (خير الذكر الخفي). وفي القرآن (واذكر ربك في نفسك). وفي الجهر أحاديث أخر.
فبان أن في كل فضلا وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فليكن الذاكر مع ما يراه منهما أصلح وأجمع لهمه وأوفق لحاله. والله أعلم.
وسأله الشيخ الزبيدي المذكور أيضاً عن قوله عليه الصلاة والسلام: (إن واديا في جهنم (34) تستعيذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة، أعده الله تعالى للقراء المرائين من هذه الأمة) الحديث.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وجزاه عنا وعن المسلمين خيراً: إن أراد صلى الله عليه وسلم بالمرائين من هذه الأمة من أظهر الإيمان الطاعة، من غير أن يكون في قلبه شيء من ذلك البتة. وإنما أظهره رياء وسمعة وتقية فهذا وصف منافق منخلع عن الإيمان مخلد في النار، وكونه في هذا الوادي الذي تستعيذ منه جهنم زيادة في نكاله وتعذيبه لمكان وتزويره ورياءه وتلبيسه.
وإن أراد صلى الله عليه وسلم بالمرائين من القراء من يرائي بعبادته وقراءته، مع اعتقاده الإيمان، غير أنه يغلب عليه حب الجاه والمنزلة عند الناس، حتى أظهر ذلك رياء لهم. فيكون حبسه في ذلك الوادي محتملا لمعنيين: إما أنه يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله تعالى فيخلد في العقاب. ويكون حاله كحال الذي قبله.
والمعنى الثاني أن يجعل في ذلك الوادي تعليظا ًعليه وتشديداً. ثم يخلص منه ويخرج برحمة الله على القاعدة الثابتة: أنه لا يخلد في النار من في قلبه أقل شيء من الإيمان. والرياء عظيم من عظائم الكبائر وهو الشرك الأصغر.
(1/39)

(35) وسأل أيضاً عن شخص يذكر كثيراً ولا يجد شيئاً من مواجيد الذكر التي يجدها الذاكرون الذائقون ما سببه؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: سببه عدم صلاح قلبه وعدم طهارته من الأخلاق المذمومة، وعدم عمارته بالأخلاق المحمودة، وعدم تنقية الخواطر والوساوس التي تكون في نفسه حال الذكر، وعدم قطع العلائق الظاهرة الشاغلة عن التجرد لذكر الله تعالى، وعدم سلوكه على يد شيخ عارف بالله تعالى وبالباطن والظاهر إلى غير ذلك.
فمن عجز عن الإتيان بهذا الأمر على وجهه كأمثالنا، فليكثر من ذكر الله تعالى باللسان مع تكلف الحضور بالقلب، ويتعرض بذلك لنفحات الله تعالى. ولا يستبعد أن يأتيه الله تعالى بفرج من حيث لا يحتسب، ولا يتعجب من عدم حصوله على شيء من مواجيد أهل الطريق التي يجدونها في الذكر فإنه لم يستوف شرائط ذلك.
وسأله أيضاً عن شخص يجد عند الذكر ما ذكروه من ذكر اللسان والقلب ثم ذكر القلب (36) وعجز اللسان عن الذكر، ثم عجز القلب عن الذكر مع بقاء معناه فيه، وسريانه في جميع باطنه وظاهره، وإنما استوحش من هذه الحالة الثالثة، التي هي عجز اللسان والقلب عن الذكر؟.
فأجابه رضي الله عنه: هذا شخص معدود من الذاكرين الواجدين.
والحالة الثالثة التي استوحش منها هي أشرف حالاته الثلاث وأعلاها قدرا. ولم يبق على هذا الشخص من حالات الذاكرين إلا الحالة الرابعة وهي لب اللباب: شهود المذكور والفناء به عن نفسه، أعني الذاكر عن غيره من الكائنات حتى عن فنائه. وتلك الغية القصوى والمنزلة العليا. وهذا الشخص على خير كثير. وهو في طريق الذاكرين لله الذائقين لذوقه يمضي ويسير، حققنا الله تعالى وإياكم بحقائق الإيقان، ورفعنا إلى مقام الإحسان بعد التحقق بمقامي الإسلامي والإيمان.
وسأله الشيخ عبدالله الزبيدي المذكور أيضاً عن الغيبة التي تحصل للذاكر؟ (37)
(1/40)

فأجابه رضي الله عنه ونفع به وجزاه خيراً: هي غيبة عما سوى الله تعالى، حتى يغيب الإنسان عن نفسه وعن ذكره استغراقاً بمشاهدة المذكور تعالى، وهذه الغيبة هي غاية الحضور ومنتهاه وحصولها نادر، ودوامها أعز من حصولها.
(38) وسأله أيضاً عمن حصل مرض في قلبه ولم يدر سببه؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمتع به: إن عرف المرض ما هو؟ فمعرفة المرض تُعَرِّفُ بسببه عند العارفين. وإن لم يعرف المرض ما هو فليداوِ قلبه بالأدوية العامة النافعة من جميع أمراض القلوب، مثل قراءة القرآن بالتدبر وملازمة الذكر لله تعالى بالحضور، والإكثار من ذكر الموت ومجالسة الصالحين ومطالعة الكتب النافعة، مثل الكتب الغزالية ونحو ذلك من الأدوية.
(39) وسأله أيضاً: عمن وجد شيئاً من ثمرات أعماله الصالحة في الدنيا، كالحلاوة وطيب المناجاة مع الله تعالى فرغب في العمل لذلك، فهل يكون ذلك علة قادحة في كمال عمله؟
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به: نعم هي من العلل التي ينبغي للإنسان أن يحترز منها بأن لا يعمل لأجلها، وبأن لا يغتر بها ويسكن إليها، مخافة الإستدراج. بل عليه أن يحمد الله تعالى على ما فتح له من ذلك، ويشتغل بالله تعالى سواه، كائنا ذلك السِّوى ما كان.
وسأله المذكور أيضاً: عمن ذكر ذنوبه فأحزنته فأحبّ أن يأتيه الموت على ذلك، مخافة (40) أن يقع في ذنوب أخرى، أو استحسانا لحالته تلك من الحزن على ارتكاب الذنوب، وآخر مثله، ولكنه أحب تأخير الأجل للتوبة وإصلاح العمل فأيهما يكون أفضل؟
فأجابه رضي الله تعالى وأمتع به: كلتا الحالتين مليحة وفاضلة ومن أقيم في واحدة منهما وغلبت عليه، فهي الأفضل والأليق به.
(1/41)

وقد بلغنا حكاية تقرب من هذا الذي ذكرتموه وإن لم تكن عين المسألة. هي أن ثلاثة من السلف الصالح اجتمعوا. فقال أحدهم: إني أحب الموت خوفاً على ديني من الفتن. وقال الثاني: أحب البقاء رجاء أن أوفق لتوبة أو عمل صالح. وقال الثالث: أنا لا أحب الموت ولا أحب البقاء بل أحب من ذلك ما أحبه الله تعالى واختاره. فأعجبهم قوله، واستحسنوه وحالاتهم الثلاثة كلها حسناة وفاضلة وقد أقيموا فيها.
وصاحب الحالة الثالثة في حالته تلك أكمل لقناعه باحتيار الله تعالى، وقد أقيم في ذلك، وهذه أمور ذوقية لا تدرك بالتكلف والأماني، حتى يتخير الإنسان منها ما يحبه ويوافقه.
(41) وسأله المذكور أيضاً: عن مبدأ الإرادة هل هو اختيار متكلف؟ أو هو غالب اضطراري؟
فأجاب رضي الله عنه ونفع به: المريدون والسالكون مختلفون في ذلك على قسمين:
أحدهما: سالك مع الإختيار والتكلف، وهو السالك قبل الجذب.
والثاني: سالك بالغلبة والإضطرار، وهو المجذوب قبل السلوك.
وبعض أهل الطريق يقول بأفضلية السالك قبل الجذب، وبعضهم يقول بأفضلية المجذوب قبل السلوك.
(42) وسأله أيضاً عن حرارة يجدها بعض الذاكرين المتوجهين في باطنه، ثم تنتشر في أعضائه الظاهر وعقبها فترة.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه ونفعنا به: هذه الحرارة من واردات الذكر، وهي تحرق بقايا تكون في باطن العبد وعلى ظاهره. وفيها خير ولها نفع ولكن إن خشي الذاكر من غلبتها فلينتقل من الذكر الذي يذكر به إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
(43) وسأله أيضاً عن تقييده عليه الصلاة والسلام بعض المنافع المرتبة على قول: لا إله إلا الله بقولها صادقاً مخلصاً ونحو ذلك، ومن المعروف أن المسلم صادق ومخلص بها.
(1/42)

فأجابه رضي الله عنه وجزاه خيراً ونفع به: الأمر كذلك، ولكن قد ورد تفسير إخلاصها والصدق فيها المشار إليه في بعض الأحاديث، وهو أن الصدق والإخلاص فيها يحجز قائلها عن المعاصي.
وفي بعض الآثار: أن لا يكون مؤْثراً للدنيا على الآخرة وكأن المراد بالصدق والإخلاص فيها حقيقتهما وغايتهما اللذان لا يصحان إلا من أهل اليقين الكامل والإيمان البالغ الصادق. فينبغي للمؤمن أن يكون قوي الرجاء قوي الخوف متطهراً من دنس الغرور.
وأما حديث صاحب السجلات والبطاقة، فالتي في البطاقة شهادة مخصوصة مقبولة وإلا فلا بد أن يكون للمسلم من لفظ هذه الشهادة شيء كثير، وقد قالوا في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أنه شرط المجيء بها دون مجرد العمل، أي أنه عامل لا يأتي بالحسنة إلى الآخرة بمعنى أنه لم يعملها كما أمر فيوافق القبول والرضا. فلابد من بقاء الخوف ووجود الرجاء، وهما دواءان إذا غلب أحدهما عولج بالآخر. وما ورد في الشريعة يعم ويخص ويخص ويعم فهي مورد عام لخلق كثير كل يأخذ منها على قدره وعلى حسب حاله، ولهم فيها مقامات شتى وكل مراد بشيء والتفصيل يطول. و(قد علم كل أناس مشربهم، كلوا واشربوا من رزق الله) (واشكروا له إن كنتم إياه تعبدون).
(44) وسأله أيضاً أعني عبدالله بن أحمد الزبيدي: عن العزلة وحكمها إلى آخر ما سأل به مما يأتي في الجواب.
فأجابه رضي الله تعالى عنه: وذكرتم مسألة تتعلق بالعزلة وحكمها في هذا الزمان الفاسد المعكوس، الذي غلبت على أهله الغفلة ونسيان عمل الآخرة، مع الحرص على الدنيا وكثرة الاشتغال بها والتهالك على جمعها والاغترار بزخارفها وكما ذكرتم أن مجالستهم ومخالطتهم صارت مخطرة لذلك، ولأن أكثر حديثهم وخوضهم في الغيبة والفضول وما لا يعني من الكلام فالأمر على ما ذكرتم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(1/43)

فلا ينبغي للمشفق على دينه أن يختار مجالسة ومخالطة من هذا وصفه من أهل الزمان؛ فإن مخالطتهم نقص وخسران. وإذا ابتلى بهم فينبغي أن يصمت ويمسك عن الخوض معهم وينصحهم باللطف إن استطاع وينبههم على ما فيه صلاحهم ونجاتهم إن أمكنه. ولا أرى للمتنسك عذراً في ترك الجمعة والجماعة، تعللا بفساد الزمان. ولا أن يترك صلة أرحامه وقرابته بالزيادة في بعض الأحيان.
ولكن أرى له إذا خالط أهل الزمان أن لا يخالطهم إلا فيما لا بد منه له في صلاح دينه أو دنياه، ثم يكون عند خوضهم فيما لا ينبغي صامتا وناصحا إن أمكن. وإن أخذوا في خير وصواب ساعدهم وشاركهم فيه هذا هو الصواب للمقيمين من أهل الصلاح بين ظهران المسلمين ومن أراد غير ذلك، فليس إلا أن يخرج من بين أظهرهم إلى البراري والقفار، فراراً بدينه وإيثاراً لصلاح قلبه.
وقد شرح هذه المسألة شرحاً وافياً سيدنا وإمامنا حجة الإسلام الغزالي رحمه الله ونفعنا به، في منهاجه، وعقد لها في الإحياء كتاباً مستقلاً.
وسأله الرجل المذكور أيضاً عن حكم المحب مع من أحب إذا لم يعمل بعملهم: هل يكون معهم (45) على الإطلاق كما يفهم من ظاهر الحديث: (المرء مع من أحب).
فأجابه رضي الله عنه ونفع به: الذي يظهر لنا مما يقتضيه أقوال المحققين، من المتكلمين على معنى هذا الحديث: أن هذه المعية تكون من بعض الوجوه، لا من جميعها.
ولابد أن يكون المحب موافقاً لمن أحبه في كليات الأمور، مثل التوحيد وحفظ الفرائض اللازمة واجتناب المحرمات الموبقة، وفعل ما يتيسر من الخيرات. فإن من أحب أحداً أحب مشابهته والإقتداء به حسب ما يقدر عليه، ولا تصح المحبة بدون ذلك، وهي بدونه لغوية لا حقيقه لها.
وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: لا يغرنكم حديث المرء مع من أحب، مع الغفلة والإغترار وترك صالح الأعمال، فإن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وليسوا معهم يقيناً. انتهى بمعناه.
(1/44)

قلت: وكذلك أرباب البدع من هذه الأمة، يحبون بعض الصحابة رضوان الله عليهم إلى الغاية ويتولونهم، حتى إن أحدهم قد يبذل روحه فما دونها في محبتهم، وليسوا معهم يقيناً، لأنهم خلفوا طريقهم وهديهم ببغضهم غير من تولوه من الصحابة وتبريهم منه، وبغير ذلك من بدعهم في الدين، وهذا ما لا يختلف فيه.
وإذا لزم هذا في البدعة، فليزم مثله أو قريب منه في الفسق، ثم يلزم مثله أو قريب منه في التخليط وكثرة العصيان.
وعلى ذلك فليقس لأنها مراتب في الخير والشر، فأقبح القبائح وأشر الشرور الكفر، وهو على مراتب ثم البدع وهي متفاوتة، ثم الفسق وهو كذلك ثم التخليط وهو كذلك.
وعلى الضد في الخير يقال، فافهم ما أشرنا إليه وتأمل ما أوردناه، فإنه نفيس والحاجة داعية إليه، وبالتأمل، يظهر المقصود ويتضح المعنى، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وسأله أيضاً عن مسائل، وافتقد المجيب نفع الله به الكتاب. (46)
فذكر ذلك للسائل ثم قال: وأحسب أن في الكتاب المذكور مسائل حاصلها ما الأفضل من كذا وكذا إشارة إلى بعض أشياء، من الأمور التي يقيم الله تعالى فيها بعض عباده بسابق تقديره وحسن تدبيره.
فاعملوا أن أفضلية من أقامه الله سبحانه في شيء من الأمور التي لا اعتراض عليها شرعاً مثل: الفقر والغنى، والظهور والخفاء، وأشباه ذلك أن يقوم بحق الله سبحانه وتعالى اللازم له في ذلك المقام، ويتأدب بالآداب المطلوبة منه في مقامه وبعد ذلك ليس له أن يتطلع إلى مقام آخر غير الذي أقيم فيه، فيكون ذلك من سوء الأدب منه مع ربه عز وجل.
أما السائل الذي سأل عن المقامات، ليعلم أيها الأفضل منها من غير أن تكون له إقامة في شيء منها، فيطول الكلام معه جداً لأنا إذا سئلنا مثلاً: هل الخمول أفضل أم الشهرة أفضل؟
(1/45)

قلنا: يختلف ذلك باختلاف الناس، فمن كانت صفته كذا وكذا، فالخمول له أفضل. ومن كانت صفته كذا وكذا، فالشهرة له أفضل، أي من الخمول لأنه أفضل من الرجل الخامل، وكذلك الذي قبله، وبين ذلك فرق فتأملوه.
ثم إن الخامل لا يمكنه أن يجعل نفسه مشهوراً، ولا المشهور أن يجعل نفسه خاملاً، فلم يبق إلا ما ذكرناه من النظر إلى إقامة الله تعالى والتأدب معه كما ينبغي ويجب.
(47) وسأله أيضاً: عن أحوال في أمر النفوس وفي أمر الذكر؟
فقال في جوابه له: وتذكرون فيه ما النفوس منجبلة عليه من الغفلة والإعراض والتمادي، والاغترار مع نسيان الموت والتزود للمعاد، وهي مع ذلك تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.
فالحال أن النفوس على ما ذكرتم وعلى مثل الحال الذي وصفتم، ولذلك أسباب، وقد ذكر الإمام حجة الإسلام في بعض رسائله عن نفسه الشريفة ما يشبه ما يشبه هذا الحال، وذلك على سبيل التواضع منه رحمه الله تعالى ونفعنا به.
والحاصل: أن على الإنسان أن يجاهد هذه النفس، ولا يغفل عن رياضتها وتنبيهها وتذكيرها وتنوير ظلماتها، بأنوار العبادات الخالصة والأوراد المتواصلة.
وما ذكرتم عن الفقير الذاكر من الأحوال، فالحال الآخر منها الذي أوله الفترة وآخره الغيبة حال شريف ليس بعده من أحوال الذكر الحقيقي إلا حالة واحدة وهي حالة المشاهدة.
والذي يشار به عليه: أن يداوم ويلازم مع الصدق والإخلاص وطلب الحق الأعلى، من غير علة ولا غرض، بل لإقامة مجرد العبودية للربوبية، فإنه لا يصلح في مثل ذلك الحال إلا إفراد الوجه والقصد على مثل ذلك المعنى، وربك الفتاح العليم المنان الكريم.
وسأله عبدالله بن الهيثم عن معنى البديهة وقول العامة: بحق الإثنين مفتاح البابين. (48)
(1/46)

فأجابه رضي الله تعالى عنه فقال في جوابه: وأنت يا عبدالله قد سبق إليك كتاب جواب كتابك الأول، وفيه شرح الكلمة التي تسأل عنها من دعاء الحبيب عليه الصلاة والسلام ولعله لم يبلغك، فمعنى العتبى الرجعى، أعني فإليك الرجوع في طلب الرضا حتى ترضى.
وأما البديهة، فهي كل فعل أو قول يباشره الإنسان من غير سبق فكرة، فإذا أصاب الصواب فيه على علم، قيل: فلان حسن البديهة، وإن لم يصب الصواب أو أصابه على غير علم، كان مذموما بسوء البديهة، ملوما على ترك الفكر والنظر. فاعلم.
وأما قول العامة: بحق الإثنين مفتاح البابين فاعلموا أن أكثر كلمات العامة الجارية على ألسنتهم خارجة عن موازين الشرع والعقل.
وإذا أراد الحكيم أن يتكلف لكلماتهم تأويلاً مناسباً بوجه ربما وجده. والإثنين يوم تعرض فيه الأعمال، فلعل أحد البابين الباب الذي ترفع منه فيفتح لها. والباب الثاني: باب المدد النازل على العالمين المقبولين، فيفتح له، أو يكون أحد البابين خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، والآخر خروجه منها، فقد ولد وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، ووجوه التأويل كثيرة.
(48) وسأله أيضاً عيسى بن أحمد باحضرمي: عن حكم الفقر والغنى وما بينهما من التفاضل، وما ورد فيهما من الأحاديث، مما يوهم التنافي.
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به وأعاد علينا من أسراره وبركاته، فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل الفقر زينة لعباده الصالحين وحلية لخاصته المفلحين، وذلك إذا قارنه منه الرضا والتسليم، والشكر والصبر على ما ابتلاهم به العزيز العليم، فأما إذا قارنه الجزع والضجر والاعتراض على القضاء والقدر فهو من البلاء العظيم، المؤدي إلى العذاب المقيم، فالمدح الواقع على الفقر كتاباً وسنة، المراد به الفقر المقرون بالصبر والرضا وحسن الأدب مع الله تعالى وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس).
(1/47)

والذم واقع على الفقر المراد به فقر مقرون بتسخط المقدور وضيق الصدر بمواقع القضاء، حتى ينتهي بصاحبه إلى الإعتراض على الله تعالى في تدبيره. وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: (كاد الفقر أن يكون كفرا).
ولما كان الفقر أقرب إلى السلامة والفلاح من الغنى، دنيا وأخرى، تخيره أجلاء الخليقة من الأنبياء والأولياء سلفا وخلفا.
فالفقير الراضي الشاكر على فقره، من الله سبحانه بمكان لا يبلغه الغني وإن بذل نفسه وماله في سبيل ربه تعالى.
والفقير المتسخط شر من شرار الأغنياء، لأن بليته في الاعتراض على الله تعالى وهو أمر فظيع. وأما بلية الغنى فنهايتها الاغترار بالدنيا والتمتع بها على وجه غير مرضي، هذا جواب مسألتك فتفقه فيه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
(50) وسأله المذكور أيضاً: عن معنى الزيادة في العمر الواردة في بعض الأحاديث؟
فأجابه رضي الله عنه ونفع به: قد صح أن العمر لا يزيد ولا ينقص كتاباً سابقاً.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى الزيادة الواردة، فذهب بعضهم إلى ظاهر الأحاديث. وقال: تكون الزيادة والنقص مشروطة بأسباب، مثاله: أجَلُ فلان كذا وكذا، فإن فعل كذا زيد له كذا، وكذلك يقال في نقصه، فإنه قد ورد.
وقال بعضهم وهو ابن عباس رضي الله عنهما: إن للإنسان أجلاً في الدنيا من مولده إلى موته، وأجلاً في البرزخ من موته إلى بعثه. وكل مسمى فإن أطاع الله تعالى زيد من أجله البرزخي على أجله الدنيوي، وإن خالف وعصى نقص من أجله الدنيوي فزيد على أجله البرزخي، فلم يكن زيادة من خارج، ولم يبدل الكتاب السابق، وهذه هو الصحيح عندي.
وقال بعضهم: معنى الزيادة الواردة بركة تكون في عمره، حتى يزن عمره القصير عمر غيره الطويل، من غير أن تكون زيادة حسية.
(1/48)

والمطلوب من طول العمر: إنما هو اتساعه لتتسع دوائر العمل الصالح، وقد حصل ذلك لهذا العبد الموفق، وكان طولاً حقيقياً وزيادة معنوية فتأمل هذا الجواب، وخذه بحقه.
وسأله الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله عباد الشبامي عن قول الشيخ أبي عبدالله القرشي (51)
رضي الله عنه: النفس تفزع إلى العوائد عند ورود الشدائد إلى أخره.
فأجابه رضي الله عنه وأمتع به وأرضاه:
اعلم أن المراد بالنفس في هذا الموطن وفيما يجري مجراه: اللطيفة النازعة إلى التمتع بشهوات الدنيا، ولا تكون النفس على هذا الوجه، إلا لسالك لم يرسخ قدمه في السلوك أو عالم رسمي أو عامي غافل، ولا شك أن نفوس هؤلاء تفزع إلى العوائد، عندما تصدمهم الشدائد بنظرهم إليها وقصورهم عليها، وإنما يكون رجوعها إلى الله آخرا، مهما لم تجد إغاثة من قبيل الأكون.
أما السالك الراسخة قدمه في سلوكه، والعارف الواصل إلى الله تعالى. فليس لهم نفوس تذكر؛ لأنها إما مطمئنة مذعنة للحق مندرجة تحت استيلاء سلطان الروح. وإما مسجونة مقهورة لا تصرف لها ولا حركة. فافهم.
وأما مزايلة الضعف البشري للإنسان، فهو يبدو ويخفى ولا يضمحل؛ لأن لله تعالى سرّا لطيفاً في إبقائه؛ تدل على ذلك وقائع تقع للأكابر وتؤذن بوجوه. وكثيراً ما يخفى، حتى ربما يوهم الذهاب في مقام التوكل ومقام المحبة ومقام الرضا. ومن الأحوال حق اليقين وعينه، وما يندرج فيهما منهما.
وأما علم اليقين فصاحبه في الأكثر تفزع نفسه إلى العوائد أولاً ثم يرجعه علمه إلى الله سبحانه وتعالى آخراً.
وإنما الشأن أن يرجع الإنسان عندما تفجؤه الشدائد إلى الله تعالى بديهة، من غير فكر ولا نظر ولا تعريج على شيء من الأكون، فإن عرج على شيء منها عن الأمر الإلهي، كان مع ذلك بظاهره وقلبه، وسره مع الله تعالى الذي إليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله وهو على كل شيء قدير.
(1/49)

فتأمل هذا الجواب فإنه نفيس، وفيه على وجازته تنبيهات، تفتقر في إيرادها إلى مزيد إيضاح وتطويل. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
(51) وسأله الفقيه محمد بن عبدالرحمن مزروع رحمه الله تعالى: هل يجوز لمن لم يصلْ بعد المقامات الشريفة، كالرجاء والمحبة والرضا أن يعمل عليها تكلفاً إلى آخره.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وجزاه خيراً:
اعلم ـ علمك الله تعالى ـ أن العمل عليها، بدون أن يكون للإنسان منها حال صحيح أو مقام مكين غير مقدور عليه، ولا هو في اختيار العبد. وإن توهمه فذلك من حيث الأماني، ويخشى عليه أن يقع في شؤم الدعاوي.
وإنما الممكن والذي في الإختيار أن يقصد الإنسان إلى تحصيلها ويسير إليها على السبيل التي فتحها الله تعالى إليها.
وقد شرحها وأحسن وأجاد حجة الإسلام رحمه الله تعالى ونفعنا به في الإحياء وغيره. فيمكن الإنسان أن يستجلب الرجاء والرضا مثلا باستخصار ما ورد فيهما من الشواهد، فإن حصل له منها حال فله أن يعمل عليه.
ومن الأحوال واردات ترد على القلوب من غير تسبب ولا تعرض، فإن وردت أيضاً عمل الإنسان على مقتضاها شاء أم أبى. فاعلموا ذلك ، وله تفصيل لا تسعه الأوراق.
وسأله المذكور أيضاً: هل يجوز السكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لمن (53)
يخشى على نفسه الرياء في ذلك؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: لا يجوز له بحال، ويجب عليه أن يجاهد نفسه في نفي الرياء عنها مع العمل، ولا يجاهدها بتركه. أعنى ترك العمل. فذلك أمنية الشيطان، وقد سماه الفضيل رحمه الله تعالى ونفعنا به بالرياء فقال: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك.
وما دام الإنسان يخشى على نفسه الرياء، فالغالب عليه أنه بعيد عنه. وما لا يدخل تحت الإختيار، من خواطر القلوب، فكفارته أن يكرهه، مهما كان من خواطر الآثام
(1/50)

(54) وسأله رضي الله تعالى عنه الشيخ الفاضل عبدالرحمن بن عبدالله عباد رحمه الله تعالى: هل ذكر حجة الإسلام رحمه الله تعالى، علم اليقين، وعينه، وحقه، على الوجه الذي يشير إليه القوم؟
فأجابه أمتع الله بحياته وزاده من هباته: لم أقف عليه ولكن يوجد في الإحياء وفي غيره من مؤلفاته، إشارات إلى هذه الأسامي في مواضع مفرقة.
والمثال الذي ذكرتموه من كلامه من تمثيله بمن يبلغه: أن زيداً في الدار إلى آخره، تصريح بالمراتب الثلاث وإن لم ينص على أسمائها هناك، وعلم اليقين هو الأول من مراتب المثال، والله أعلم.
(55) وسأله المذكور أيضاً: هل يجوز للإنسان أن يستجلب المقامات والأحوال الشريفة، بالتفكر فيها المحصل لها من بعض الوجوه.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفع به: نعم له ذلك والتفكر فيها طريق إليها ولكن مع العمل بما يقتضيه الفكر أو تفتقر إلى مقاربته له. مثال ذلك: أن الرجاء من المقامات، ويمكن العبد تحصيله بالفكر في الآيات والأخبار والآثار الواردة فيه، والعمل بالطاعات التي جعلها الله تعالى شرطاً لحصول المرجو، هذا مثاله هذا في المقامات فقس عليه.
وأما الأحوال، فالتفكر فيها وما يقاربه طريق إلى الاستعداد لها لأنها مواهب. وقد تحصل مع الإستعداد وقد لا، وقد ترد على من لم يستعد من باب الفضل فضلاً.
وسأله الشيخ المذكور أيضاً عن قول الشيخ أبي عبدالله القرشي رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: (56)
السماع ثم الفهم ثم المنازلة ثم الذوق.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: محل المنازلة من الذوق محل السماع من الفهم. ومثال ذلك من المشاهدة أن يصف لك إنسان بلدا وما فيها من العجائب، فحديثه إياك سماع، وتعقلك معاني ما حدثك بهم فهم، ووصولك إلى البلد الذي وصفه لك منازلة، ومشاهدتك لعجائبها وتأنسك بها ذوق، فاستدل بالشاهد على الغائب.
وسأله المذكور أيضاً عن ما ذكره أيضاً في بعض رسائله، من أنه قد يكون للمريد شيخ (57)
(1/51)

يربيه من حيث لا يشعر المريد.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفع به: هو كذلك، والمراد ها هنا شيخ الفتح الذي يربي المريد بحسن عنايته وسديد نظره وثم شيخان غيره أحدهما: شيخ الرياضة والتهذيب، والثاني وهو دونه: شيخ التعليم والإفادة ولا بد في هذين من المعرفة في الجانبين مع اعتقاد التعظيم والأهلية في الشخص المعين .
وأما شيخ الفتح، فقد يكون على المعنى الذي ذكرناه فمن ذلك قول الشيخ أبي الحسن الشاذلي لتلميذه الشيخ أبي العباس المرسي، أول ما أتاه: قد رُفعتَ إليّ منذ عشرة أو قال: تسعة أعوام.
ومن ذلك ما وقع للسيد يوسف الفاسِي، من المتأخرين مع سيدي الشيخ أبي بكر بن سالم علوي رضي الله تعالى عنهم وأمدنا بهم، من طوافه عليه، وهو في بلاد المغرب ووصفه له ومعرفته له قبل أن يقدم إليه حضرموت حتى إن السيد يوسف رحمه الله تعالى، كان يطوف على مشايخ المغرب، من عدم تمييزه لشيخه الذي يلاحظه من هو؟ إلى أن حلف له بعضهم: أن شيخك ليس في غربنا هذا وحكاياتهم في ذلك كثيرة.
وقد تجتمع المراتب الثلاث من مراتب المشيخة، لبعض الشيوخ على الندور. وذلك هو الشيخ المطلق، بل هو الإكسير العزيز والكبريت الأحمر يتحدث به. وقل ما يوجد. ولكن فضل الله واسع وجوده شامل.
إن اندرست الطريق وغابت نجومها، فالقدرة صالحة والإمكان واسع. وغير مستحيل أن يوجد في هذا الزمان المبارك، من يجمع الله تعالى له هذه المراتب ويرشد إليه من يريد به السعادة من عباده، ويوقف عليه من يريد إيصاله إلى مراتب الولاية من خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فعليك ـ وفقك الله سبحانه ـ بإمعان النظر في هذا الكتاب فإنه نفيس. وكن في حين إشرافك عليه ممتلئاً بالتعظيم، متحققاً بالتسليم وخالياً من دعوى العلم، متحلياً بالإعتراف بالإفلاس عن ثاقب الفهم، فبذلك ييئس الشيطان منك.
وسأله الشيخ عبدالرحمن عباد المذكور أيضاً: عن المحو المذكور في قول الشيخ السودي (58)
(1/52)

رحمه الله تعالى ونفعنا به:
وامح العلوم وما قد كنت تكتبه فمحوه واجب من كل مكتتب
وبيت للفقيه عمر بامخرمة نحوه، هل هو موافق لما ذكره الإمام حجة الإسلام رحمهم الله تعالى في كتاب عجائب القلب من الإحياء، عند ذكر ما ينحجب به القلب عن المكاشفة بصريح الحق؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه ونفع به: ليس هو أعني المحو المذكور، موافقاً لمعنى ما ذكره الحجة.
وبيانه: أن العلوم عبارة عما يشعر به القلب من الأشياء ويتصور، والمحو للعلوم الجاري على ألسنة القوم، يقع على معنيين: أحدهما محو كل ما يشعر به القلب ويتصوره ويخطر فيه، مما يشغل عن التجرد للسير إلى الله تعالى، وذلك في حالة البداية، ولا يتم سلوك السالك إلا به.
والثاني: يكون عند مقاربة الوصول إلى حال الفناء، وهو محو جميع الأذكار والأفكار والتصورات، وكل شيء يتصور أن يكون للقلب به تعلق أو إليه التفات وذلك ليجتمع الهم على الله سبحانه وتعالى، وينفرد في القلب ذكر الله عز وجل وقصده سبحانه والتوجه إليه تعالى.
والمحو ها هنا عبارة عن عدم السكون إلى الأشياء والإعتماد عليها مع الإجتهاد في محو علائقها المتعلقة بالقلب تكلفا في أول الأمر، إلى أن يصير ذلك حالاً وهو حال الفناء. ومن شأنه محو مالا يدخل تحت الإختيار من الصوارف عن الله تعالى.
وفي هذه الحالة، يغيب الإنسان ويذهل عن كل شيء سوى الله تعالى، حتى عن نفسه وعن فنائه، وذلك بطريق الذوق لا بطرق العلم، ومن وراء ذلك حال البقاء لمن شاء الله تعالى له الإمامة وأهله للخلافة وفيه يقع الإثبات بعد المحو، على وجه لا يشغل عن الله تعالى ويمنع من إفراد القلب له تعالى.
وأما ما ذكره الحجة رحمه الله تعالى فيما ينحجب به القلب، وذلك قوله: إن القلب قد ينحجب يعني عن المكاشفة بصريح الحق بالتقليد فإن كان رحمه الله تعالى أراد بالتقليد ها هنا تقليد من لم يصب الحق في اجتهاده فهو واضح.
(1/53)

وإن أراد به تقليد من أصاب الحق من المجتهدين، فله محامل كثيرة منها: أن المتكلم بالحق قد يتكلم ببعض وجوهه ويسكت عن البعض، لاستغنائه عن ذكرها في حين كلامه. ومنها أن المحق قد يتنزل فيما يقول إلى حدٍّ لا يخفى على أحد من عامة المؤمنين الذين جعله الله تعالى إماماً لهم.
والتقليد على هذين الوجهين، يمنع من جمد عليه عن المكاشفة بجلية الحق. أعني به، معاينة الأشياء على ما هي عليه عند الله تعالى. وذلك خاصية النبوة والولاية. وما تعبد الله تعالى أحداً، أعني بطريق التكليف. والتقليد على ذلك الوجه لا يقدح في الإيمان ولا يقطع عن النجاة، ودخول الجنة من مات على الإيمان. وكل مجتهد مصيب. والمقلدون من المؤمنين لأئمة الدين على هدى من ربهم.
ولكن ينبغي أن يعرف الفرق بين الإيمان والعلم، وبين الكشف والبصيرة، وبين النجاة والثواب، وبين السعادة والرؤية. وفي المسألة أغوار بعيدة وتحتها أسرار غامضة. ومن شأن المتكلم في بيان هذه العلوم، مع من لم يصل إلى شيء منها بطريق الذوق أنه لا يزيدها بيانه لها إلا عموضا، ويحصل حل الإشكال بما ذكرناه إن شاء الله تعالى فتأملوه حقه.
(59) وسأله السيد الجليل عيسى بن السيد محمد الحبشي: عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، فهل ذلك مطلق حتى يحصل لمن لم يوافق محبوبه في أعماله وأقواله وغيرهما من تقلباته؟
فأجابه رضي الله عنه:
اعلم ـ علمك الله تعالى ـ أن الحديث فيه ترغيب وترهيب، حيث يكون الإنسان مع من يحبه، سواء كان من الأبرار أو الفجار، فكيف حال من يحب الدنيا الملعونة، حيث يصير معها.
ثم إن المعية الحاصلة بالمحبة، تحصل مطلقا. ولكن لا يصح وجود المحبة إلا بموافقة المحبوب فيما يأتي ويذر، حسب الإستطاعة.
(1/54)

والمحبة دعوى لا تثبت حتى تقوم بها بينة الموافقة. فالذي يدعي محبة شخص، وهو مع ذلك يخالفه في أغراضه ومراداته التي يقدر عليها، ولا يوالي من يواليه، ولا يعادي من يعاديه يقضي العقل بتكذيبه.
نعم لا يشترط لحصول هذه المعية، المساواة للمحبوب في جميع أعاله. فإن ذلك يقتضي المماثلة فيمن يستطاع مماثلته، فقد علمت أن المحبة لا تصلح بدون الموافقة أبداً.
وسأله السيد المذكور أيضاً عن قول المحاسبي رحمه الله تعالى، ونفعنا به: لكل عابد فترة (60)
إما إلى سنة، وأما إلى بدعة.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمدنا بمدده:
اعلم أني أحسب أني قد سمعت هذا الكلام، فيما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعناه: أن العابد يكون له في ابتداء أمره حدة في العبادة تتجاوز حد الإقتصاد والوسط المشروع لعامة المسلمين، وذلك كمال في حقه إن ثبت عليه، ولم يخرج به إلى ما يضر بعقله أو جسمه ضررا ينكره الشرع.
ثم يكون للعابد فترة بها عن تلك الحدة، فإن رجع منها إلى الإقتصاد المشروع فقد رجع إلى السنة، وإن رجع منها إلى التفريط الذي هو التضييع والإهمال والإعراض عن العبادة فقد رجع إلى البدعة، ونضرب لذلك مثلا ليعرف. فنقول: إذا وجد بالإنسان باعث العبادة والتبتل إلى الله تعالى فقد يقوم الليل كله. ثم إنه لا بد أن يفتر، من حيث البشرية التي خلق عليها، فإن رجع من قيام كل الليل إلى قيام النصف أو الثلث، فقد أصاب السنة. وإن ترك القيام فقد وقع في البدعة، ومعنى البدعة ها هنا: مخالفة هدي السلف الصالح.
والذي يظهر أن الفترة لا تكون لكل عابد، ولكن ذلك هو الأكثر. ولا ينبغي للإنسان أن يترك الدخول في الأوراد مخافة الفتور، فإن ذلك من الحمق والغرور.
(61) وسأله المعلم أحمد بن علي بن دفعه، المقيم بالشحر: عن حكم العزلة والخلوة، إلى آخر ما سأله عنه؟.
فأجاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأمتع بطول حياته، ونفع به:
(1/55)

اعلموا ـ علمكم الله تعالى ـ أن العزلة أعم من الخلوة، ويقصد بها السلامة من الشر والأشرار. ولها شرائط أجلها: أخذ ما لا بد منه من العلوم الإيمانية والإسلامية ومنها: أن لا يكون الحامل عليها سوء الظن بالمسلمين، بل الحرص على سلامة الدين، مع اتهام الإنسان نفسه، وخوفه على المسلمين من شرها. ومنها: أن لا يدع المعتزل صلاة الجمعة وكذا الجماعة، ولا يقصر عن واجب فرضه الله تعالى عليه في نفس ولا عيال، ولا يترك مخالطة أهل الخير الذي تنفعه مخالطتهم في دينه.
وقد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ونفع به في كتاب منهاج العابدين، كلاماً مقنعاً في العزلة فانظروا فيه.
وأما الخلوة، فهي أخص من العزلة، ويقصد بها تهذيب النفس، وتصقيل مرآة القلب، لينكشف الحجاب بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وتنقطع عنه علائق الخلق، حتى لا يبقى له التفات إلى غير الله تعالى.
وشرائطها شرائط العزلة وتزيد عليها بأنه لا يتم دخولها إلا بشيخ محقق. فإن لم يوجد، وكان المريد ذا بصيرة منيرة وهمة عالية وقوة نفس، وثبات جأش بالغ، جاز له دخولها.
وأما مدتها فالغالب والأكثر إلى الأربعين، ولهذا سميت بالأربعينية، وقد تكون عشراً أو سبعاً أو ثلاثاً، ورأيت بعض المحققين أخلى بعض المريدين إلى مائة وعشرين يوما.
والظاهر أنها تختلف باختلاف الأشخاص، لطاقة وكثافة، وباختلاف الشيوخ. وقد ذكر السهروردي رحمه الله تعالى ونفع به في العوارف، فيها أبواباً وكلاماً واسعاً. فانظروا إن شئتم.
وكان سيدي الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس رحمه الله تعالى ونفعنا به، يشير كثيراً إلى خلوة مختصرة، وهي أن يختلي المريد ليلة الجمعة ويومها مع ملازمة الجوع والسهر والصمت وترك المخالطة للناس، مع إدمان التوجه إلى الله تعالى، والعكوف على الذكر والتلاوة.
(1/56)

فإن رأيتم أن تعملوا على ذلك فدونكم إياه فإنه مبارك نافع والشيخ نفع الله تعالى به، من أجلاء المحققين، المطلعين من أسرار طريق الله تعالى على أشياء كثيرة خفيت على المتقدمين.
(62) وسأله الرجل المذكور أيضاً عن مواجيد العارفين ومكاشفاتهم، هل هي على الدوم؟ أم تكون في بعض الأحوال؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا ببركته: الظاهر أن المكاشفات بالجلال والجمال لا تدوم أبداً، وإن دامت على العبد أخرجته عن التميز، وغيبته عن شعوره بنفسه وبشريته، كما قد يقع ذلك لبعضهم مدة ثم يذهب.
وإذا فات بسبب هذا الإستغراق شيء من الفرائض اللازمة، كالصلاة والصيام، فقد كانوا يقضونه، ومن شأن السالك أن تبدوا له الحقائق وتستتر عنه، ولا يزال حاله كذلك حتى يصير من المتمكنين، فإذا صار منهم، بقي على حال لا يشغله الخلق عن الحق، ولا تخرجه الحقيقة عن الشريعة ولا تحجبه الشريعة عن الحقيقة، وتكون بعض الحقائق مكشوفة له على الدوام، ويحتجب عنه بعضها في بعض الأوقات ، وتنكشف له في وقت آخر.
وقد يباشر من هذا وصفه أحواله معيشته من تسبب أو صناعة، ولا يضره ذلك، ولا يحجبه عن ربه.
وسأله الرجل المذكور أيضاً هل الأحسن والأتم للمريد أن يلازم الشيخ، ويقف عنده، (63)
أو يبقى يتردد عليه وقتاً دون وقت؟.
فأجابه رضي الله عنه اعلم أنه يجب عليه إن أشار عليه الشيخ بأحد الأمرين، أن يلزمه ويثبت عليه، فإن وجد بسبب ما أشار عليه به من الوقوف عنده أو البعد عنه شيئاً في نفسه، أطلعه عليه.
وإن كتمه إياه فقد خان ونكث، وكذلك يطلعه على جميع أموره، خصوصاً ما يتعلق منها بالطريق وأحوال القلوب، ولا تمنعه الهيبة ولا الحياء من ذلك.
فإن لم يشر عليه شيخه بالإقامة عنده ولا بتركها، فليكن مع ما هو الأصلح لقلبه والأتم في حسن ظنه بشيخه وتعظيمه له، ومن رجع إلى اختيار الشيوخ وآثره على هوى نفسه، من غير اعتراض أفلح وأنجح.
(1/57)

وإن ظهر للمريد من شيخه ما يقدح في الإعتقاد، وجب عليه أن يسأله عنه، فإن علم من حاله أنه لا يستحسن السؤال عن مثل ذلك، أولَ له تأويلاً مستقيماً يليق بأحوال أهل الله تعالى.
وأما من ظهر عليه من المنسوبين إلى طريق الله تعالى ما لا يحتمل التأويل كالزنا وأخذ أموال الناس بالباطل، فيجري عليه الأحكام التي أجراها الله تعالى على سائر المسلمين، ظاهراً وباطناً.
وإن تصور أن يكون لمثل هذا المنتسب مريد قد أخذ عنه على بصيرة، فليعتقد أن ذلك مما جرى به القلم على هذا العبد، وأنه يرجع إلى الله تعالى بالتوبة النصوح والندم الخالص، الذي يمحق آثار المعاصي ويغسل أدناسها.
فإن ظهر له من غير شك ولا ريب إصراره على الذنوب، وجرأته على الله تعالى فقد تبين سلبه وطرد الله سبحانه له عن بابه فليفارقه ويبغضه في الله تعالى، فليس بقليل من طرد عن باب الله تعالى بعد التقريب وسلب بعد العطاء وحجب بعد الكشف، ويفعل الله تعالى ما يشاء.
ولكن لا ينبغي لأحد أن يقدر صدور هذه الأمور القبيحة عن أهل الطريق المنسوبين إلى الله تعالى الذين ظهر واشتهر تولية الله تعالى لهم وموالاته وتقريبه واصطفاؤه فإن الله تعالى يحفظهم عن مثل ذلك، ويحول بينهم وبينه، فضلاً وكرماً.
بل ينبغي للمعتقد فيهم أن يعتقد أن في قلوبهم وسرائرهم من الخير والنور والكشف والعلوم والحكم، ما لا يقدره قدر ولا يتناوله حصر، وإن الذي ظهر على ظواهرهم من ذلك ذرة من رمل، وقطرة من بحر، فبذلك يعظم نفعه بهم ويتسع له المدد منهم، وفقهنا الله تعالى وإياكم لإصابة الصواب في النيات والأعمال وعصمنا وإياكم من الشك والإرتياب في جميع الأحوال، ورزقنا كمال المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه بالغدو والآصال.
وسأله نفع الله به الشيخ الفقيه عبدالرحمن بن عبدالله بارجاء، عن أبيات للشيخ (64)
أبي علي الروذبادي رضي الله تعالى عنه ونفع به، أعني يتكلم على معانيها.
(1/58)

فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا ببركته وقال في جوابه، ونحن نقول شيئاً يسيراً جداً:
فأما قوله نفع الله به: قالوا غداًالعيد ماذا أنت لابسه، فيحتمل أن يكون الضمير من قالوا، راجعاً إلى إخوانه في طرقه وقولهم له: غدا العيد بشارة بحصول المشاهدة.
وقوله، فقلت: خلعه ساق، لعل الخلعة خلعة الخلافة، والساقي هو الرجل العارف يسقي عباد الله تعالى، بأمر الله تعالى العلوم والمعارف.
وقوله:حبه جرعا إشارة إلى تحمل المشاق في طريق الله تعالى، وإن من عظم أربه في تحصيله نصبه.
وقوله:أحرى الملابس إلى آخره، يوجد معناه في قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: (ما تقرب المتقربون إليّ بمثل أداء ما افترضت عليهم) الحديث، وتكون العين التي في قافية البيت منصوبة.
وقوله: فقر وصبر هما ثوباي تحتهما، فأما ثوب الفقر فهو خلعة العبودية المحضة وأما ثوب الصبر فهو خلعة يلبسها كل من عرف الدنيا، وهي خلعة يخلعها صاحبها عند الموت.
وقوله: قلب يرى إلفه الإعياد والجما، هذا يحتمل معنيين:
أحدهما وهو الأولى: أن يريد حفظ الشريعة في عين الحقيقة وتكون الجمع والأعياد هي المعروفة بين المسلمين.
والثاني: أن يريد ساعات المشاهدة ومواقف الحضور التي يقول فيهن بعض العارفين: وقفه مع الله تعالى على الصفا أفضل من ألف حجة مقبولة.
وأما قوله: العيد لي مأتم إلى آخره، فقد شرحه الشيخ ابن عطاء الله تعالى في الحكم بقوله: النعيم وإن تنوعت مظاهره إنما هو لشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره إنما هو لوجود حجابه.
وقال الشيخ أبو يزيد رضي الله تعالى عنه ونفعنا به: في الجنة رجال لو احتجب الحق عنهم طرفة عين، لاستغاثوا من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار، وليس هذا شرحاً مستوفياً ولو أذن لنا في الكلام لأطلقنا أعنة الأقلام، ولكل شيء قدرا.
ومن عجيب الإتفاق، أن مما كتبنا به إلى بعض أوليائنا في الله تعالى، قبل وصول كتابكم بأيام.
(1/59)

اعلم يا أخي أن لله سبحانه وتعالى عبادا، لا تنقضي أعيادهم ولا تنقطع أمدادهم، لم يجدون في قلوبهم من أنوار قرب ربهم، وروح الأنس بجنابه المقدس وإنما العيد عندهم لزوم الموافقات والتطهر من دنس المخالفات ودوام الحضور مع الله تعالى في جميع الأوقات، ومنهم القائل:
العيد لي مأتم ما غبتَ يا أملي والعيد ما كنتَ لي مرأى ومستمعاً
انتهى.
(65) وسأله الفقيه محمد بن عبدالرحمن مزروع عن بعض خواطر تعرض له، وذكر أنه يخشى على نفسه منها؟.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به:
اعلم أنك لن تداويها بشيء أنفع من الإعراض عنها والتناسي لها وبأن تقول كثيراً عند ورودها: (سبحان الملك الخلاق، إن يشاء يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز).
واعلم أن الخواطر القهرية، من أنواع البلاء التي يثاب عليها المؤمن، إذا قام بالأدب الواجب للحق فيه، وقد سلطها الله على العبد، ليرجع إليه فاراً بانكساره واضطراره، فيجيبه إذا ذاك: (من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء).
وقد تكون الخواطر آثار أمور تعاطاها الإنسان، من أكل طعام غير طيب أو مخالطة لأحد من أهل الشر، فيجب عليه أيضاً أن يفتش على نفسه ويتوب عما يطلع عليه من ذلك، وإن كان يتهم به نفسه، ولم يقف على عيبه فليتب من الذنوب كلها، ما علم منها وما لم يعلم. وإن تصور انفكاك الخواطر عن الأسباب فهي من البلايا المجردة فليصبر عليها الإنسان حتى ينقضي زمان وجودها، يثيبه الله تعالى على ذلك.
(66) وسأله الرجل المذكور أيضاً: عن القعود بعد صلاة الصبح في المصلى إلى الطلوع، هل الثواب الوارد فيه موقوف عليه؟ أم يحصل لمن قام عن مصلاه وخرج إلى بيته أو غيره، مع المحافظة على الذكر والتسبيح؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وعنا به:
(1/60)

اعلم أن الثواب الوارد في الذكر لله تعالى، من بعد صلاة الفجر إلى الطلوع، ورد في بعض الأحاديث مقيداً بالقعود في المصلى، وفي بعضها مطلقاً، فإن كان عليه الصلاة والسلام ذكر القعود، لأنه أجدر للمحافظة وأبعد عن التفرقة، فيحصل الثواب لا محالة لمن حافظ واجتمع، ساء كان في مصلاه أو قائما عنه، لا سيما إن كان الداعي له على القيام الحرص على زيادة الإجتماع على الذكر لعارض يعرض في محل القعود، من خوف رياء أو ارتفاع أصوات.
وكذلك إذا كان المخرج له أمراً فيه زيادة خير وبر، وهو باق على محافظته ومواظبته.
فأما إن كان المخرج له شهوة من صلاح أمر دنيوي أو تناول شهوة كالقهوة، فالظاهر أن ذلك الثواب لا يحصل له، وكذلك إذا كان القعود المنصوص جاء ذكره لخاصية في عينه، وأسرار النبوة ولطائف معانيها وخواص مداركها يعسر إدراكها من كل الأوجه، إلا على من أقيم فيها وقد أغلق بابها بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفهم بحر واسع وكل يسبح فيه على قدر نصيبه، وما قسم له من ربه، وفقنا الله تعالى وإياكم لإصابة الصواب في جميع الأحوال.
(67) وسأله الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله عباد: عن الفرق بين العجز والضعف؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه ونفعنا به آمين:
اعلم أن العجز، عبارة عن اضمحلال الإستطاعة عن فعل الأمر أو عن تركه، بحيث لا يبقى له قدرة عليه بحال.
فإن قدر على بعضه دون سائره قيل: عاجز عما عجز عنه، قادر على ما قدر عليه، والعجز ضد القدرة، والضعف ضد القوة، والقوة من معاني القدرة.
فإذاً يكون الضعف قدرة غير تامة، فالقادر على الشيء من بعض الوجوه الذي لا يحسن القيام به من كل وجه يقال له: ضعيف، والله تعالى أعلم؟
وقد يطلق العجز كثيراً في اللغة المعروفة على الكسل الذي هو ضد النشاط، وهو أن يتقاعد الإنسان مهانة وتثاقلا عن الأمر وهو يستطيع فعله أو تركه، هذا ما ظهر لي ولم أراجع فيه كتاباً والسلام.
(1/61)

(68) وسأله رضي الله عنه السيد الفاضل أحمد بن عوض باحسين علوي: هل الشيخ عبدالقادر الجيلاني أفضل؟ أم الشيخ الإمام الفقيه المقدم محمد بن علي علوي؟ نفع الله بهما آمين، وحققنا بحقائق علومهما، ورضي عنهما وعن سائر الصالحين إلى آخر ما ساقه في سؤاله.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وجزاه عنا وعن المسلمين خيرا:
اعلم ـ علمك الله تعالى ـ أن الشيخ عبدالقادر رضي الله تعالى عنه، ممن جمع الله تعالى له بين علمي الظاهر والباطن وسلوك الطريقة وشهود الحقيقة وتربية المريدين، فصار قطب زمانه وغوثه، كما ذكره المحققون، وكانت وفاته قبل السنة التي ولد فيها سيدنا وإمامنا ومن عليه بعد الله تعالى ورسوله معتمدنا، شيخ الطريقة والحقيقة، وإمام أهل الظاهر والباطن، القطب الرياني المقدم محمد بن علي علوي رضي الله تعالى عنه بسنين.
فهما أعني الشيخ المقدم، والشيخ عبدالقادر رضي الله عنهما إمامان كبيران، قطبان جامعان شريفان سُنّيان كل منهما فاضل سابق مقرب.
وانتفاعنا واعتمادنا على السيد المقدم أكثر وأظهر، لأنه الأب والشيخ الذي تدور عليه الدوائر في هذه الجهة لنا ولغيرنا.
وكذلك الشيخ أبو مدين رضي الله عنه إمام عظيم جامع، وممن قُطِّب أيضاً على ما ذكره العارفون فانتقلت القطبية من الشيخ عبدالقادر إلى الشيخ أبي مدين إلى الشيخ الفقيه المقدم، على الترتيب لإتساع المدة، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور.
قال سيدنا الشيخ الإمام عبدالرحمن بن محمد السقاف رضي الله تعالى عنه: ما نفضل على الفقيه المقدم بعد الصحابة إلا من ورد بتفصيله نص، كأويس القرني رضي الله تعالى عن الجميع، ورضي عنا بهم وأمدنا بهم.
(69) وسأله السيد المذكور أيضاً: عن المريد ما هو؟ وعن الصوفي والتصوف، وما الذي إذا فعله الإنسان يصير صوفياً؟
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به:
(1/62)

اعلم أن المريد هو من تمحضت فيه إرادة وجه الله تعالى والدار الآخرة، بجميع حركاته وسرائره وظواهر لمعاده ومعاشه، وهذا أمر عظيم إذا صح واستقام فتأمله.
وأما الصوفي، فهو كما قال بعض العارفين: الصوفي، من صفى من الكدر وامتلأ من العبر، واستغنى بالله تعالى عن البشر، واستوى عنده الذهب والمدر.
وأما التصوف فهو كما قال بعضهم أيضاً: التصوف هو الخروج من كل خلق دنيّ والدخول في كل خلق سَنيّ.
وقد وقع خلاف كثير بين أهل الطريق في التصوف ما هو؟ والصوفي من هو؟ وهذا الذي ذكرنا من أحسنه وأجمعه.
فمن صفى أعماله وأقواله ونياته وأخلاقه، من شوائب الرياء وأخلصها عن كل شيء يسخط المولى، وأقبل بباطنه وظاهره على الله تعالى وعلى طاعته، مع الإعراض عمن سواه، وقطع العلائق الشاغلة له، عن التجرد لهذا الأمر، من أهل ومال، وشهوة وحظ وهوى نفس،وكان جميع ذلك مقرونا بالعلم، واتباع الكتاب والسنة، وهَدْي السلف الصالح، فهو الصوفي الكامل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسأله السيد المذكور أيضاً: عن السلوك ما معناه؟ وعن المنازلة والإصطلام، الجاريين على لسان أهل الطريق.
فأجابه رضي الله عنه وأرضاه وأمدنا من مدده: أما السلوك فهو عبارة عن سير القلب في تحقيق أخلاق الإيمان وتصحيحها، وتحقيق مقامات اليقين وإحكامها، والسير في ذلك من منزل إلى منزل، والترقي من مقام إلى مقام، من البداية إلى النهاية وهو سير باطن في طريق باطن.
وأما المنازلة فيعبرون بها عن الواردات الربانية، التي يفتح الله بها على الأسرار والقلوب.
وأما الإصطلام فيعبرون به عن وارد رباني قوي، يستولي على العبد، فيأخذه عن إحساسه وشعوره بالكلية، وهذا إنما يكون وروده على الندور، وإذا ورد فلا يبقى طويلا، وإن بقي التحق صاحبه بأهل الوله والتأله من المجاذيب، وهم من أقسام هذه الطائفة، والله أعلم.
(1/63)

(71) وسأله ـ نفع الله به ـ السيد العلامة عبدالقادر بن أحمد الأهدل اليمني الحسيني: عن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان برفع الصوت إلى آخر ما سأل به: مما يأتي حاصله في الجواب.
فأجابه رضي الله تعالى عنه فقال في جوابه: وصل كتابكم وذكرتم أنه جرت عندكم مذاكرة في شأن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان من المؤذنين برفع الصوت على النحو المعروف المعتاد، وأنكم نقلتم في تقرير ذلك، ما ذكره الشيخ صفي الدين بن حجر في (شرح العباب) له، وأنه حصل بعد ذلك إنكار من بعض الناس فألحقتم في الرد عليه ما ذكرتم من البحث المبارك الواقع في محله، فجزاكم الله خيرا.
ثم صورتم سؤالاً في ذلك مستقيماً إلى الشيخ الصفي مفتي الإسلام أحمد بن عمر الحبيشي وأجاب على ذلك وقد أصاب وأفاد وأجاد، شكر الله تعالى سعيه.
وقد بعثتم بجميع ذلك إلينا في صحبة الكتاب أعني ما نقلتم عن الشيخ بن حجر، والبحث الواقع على أثره والرد على المنكر، والسؤال والجواب المذكورين آنفاً، وطلبتم منا أن نبرز لكم ما عندنا في ذلك إيناسا وتأكيدا، وإن كان ما بحثتموه في ذلك وأجاب به الشيخ أحمد الحبيشي شافياً كافياً.
فنقول على سبيل التبرك والتيامن بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنويه بشيء من معرفة حقه الذي لا يجهل ولا ينكر.
أما حقه على أمته صلى الله عليه وسلم فهو أعظم الحقوق وأوجبها وألزمها بعد حق الله عز وجل، ولا يقدر أحد منهم على القيام بما عليه من ذلك، ولو فعل ما عساه أن يفعل ولو بذل ما عساه أن يبذل، وما في قدرتهم من القيام بواجب حقه إلا المتابعة لسنته والنصرة لدينه، والإكثار من الصلاة والسلام عليه، وكمال المحبة والمودة له ولأهل بيته وأصحابه مع التوقير والتعظيم.
(1/64)

وأما الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله تعالى بها عباده في كتابه العزيز، بقوله تعالى، بقوله تعالى: (إن الله تعالى وملائكته) الأية الكريمة.
وورد في فضلها وفي الحث عليها من الأحاديث الصحيحة الحسنة ما اشتهر وانتشر، ومن كلام السلف والخلف الصالح، ما لا يعد ولا يحصر وشهرة ذلك تغني عن ذكره.
وقد ألف الشيخ ابن حجر الثاني في ذلك كتابا فريدا سماه: (الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود) وسبقه السخاوي إلى وضع كتاب في ذلك سماه (القول البديع في الصلاة على النبي الشفيع) وكتب الأئمة من المتقدمين والمتأخرين، سيما كتب الحديث طافحة بذلك.
وأما ما اعتيد فعله من المؤذنين بعد الأذان لسائر الصلوات أو بعضها في بعض الجهات، فهو من البدع الحسنة المرضية، التي لا يحسن إنكارها، بعد أن ورد الأمر بالصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، من تقييد بوقت ولا حال ولا زمان ولا مكان. وإنما خصت بعض الأوقات والأحوال من حيث زيادة الثواب وجزالة الأجر، مع بقاء الأمر والفضل في عموم الأوقات والأحوال في الإسرار والجهر والإنفراد والإجتماع، لا يجوز إنكار شيء من ذلك لعينه، ولا يستقيم حتى يدل عليه دليل، ولم ينقل ذلك فسقط قول المنكر ولم يبق في يده شيء، لأن هذا الموطن الذي هو بعد الأذان من المواطن المطلوبة فيها الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الأحاديث الصحيحة.
وكون ذلك من المؤذن وبرفع الصوت تذكيرا بذلك للمستيقظين والغافلين من أمته صلى الله عليه وسلم، زيادة من الخير والبر.
(1/65)

وهذا التذكير بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الأذان على النحو مما ذكرتم من شعائر أهل الحرمين الشريفين ومن دأبهم بعد الأذان لكل صلاة سوى المغرب لضيق وقتها وإلا الصبح فإنهم يجعلونه قبل الأذان، ويفعل عندنا بحضرموت ولكن في بعض الأوقات وفي بعض الأماكن ولو فعله أحد من المؤذنين بعد كل أذان عندنا ما كنت أحسب أن ينكر عليه منكر ولا أن يعارضه معارض.
فمن ينكر هذا الفعل المبارك أو يعترض عليه لعينه معاذ الله، وكذلك يقرأ الآية الشريفة التي ذكرتموها كثيرون من المؤذنين عندنا بعد الفراغ من الأذان: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية.
ولا شك ولا ريب أن ذكره عليه الصلاة والسلام وثناءه وتعديد مناقبه وفضائله التي يتضمنها تذكير المذكر، مع الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم جميع ذلك من أعظم القربات وأجل الطاعات.
وهي من المقويات للإيمان والمؤكدات له، والموجبات للزيادة في المحبة والتعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم في حق المُذَكِّر وفي حق غيره من السامعين من المؤمنين.
وهي مع ذلك من المغيظات والمخزيات لمبغضيه عليه أفضل الصلاة والسلام من المنافقين والكافرين.
فليت شعري أي عذر يبقى لمن ينكر العمل الذي يكون بهذه المثابة ويكون فيه جميع هذه الفوائد والمصالح وغيرها من الفضائل التي وعد الله سبحانه وتعالى بها المصلين والمسلين على رسوله صلى الله عليه وسلم، من أنه لا يصلي عليه أحد من أمته واحدة إلا ويصلي الله عز وجل عليه عشرا، وكذلك السلام.
فإن كان المنكر أنكر أصل هذا التذكير على الإطلاق، فقد جهل وأخطأ وهو أقل من أن يخاطب وأجهل من أن يعلم.
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
(1/66)

وإن كان أنكر وقوعه بعد كل أذان، وكان المعروف في البلد عندكم فعله في بعض الأوقات كالجمعة ونحوها كما هو العادة عندنا فإنكاره طبيعي، أنكر ما خالف المعتاد واستثقله وذلك يكون مثله كثيراً للمترسمين الذي تغلب عليهم أحكام الطبائع والعوايد.
وإن كان أنكره لا لعينه ولكن لأنه يشوش أعني الجهر بذلك على مصل ونحوه، فله وجه إن صح دعواه وفيه ما في جهر المصلى بالقراءة في الصلاة الجهرية، ولا يخفى عليكم ولم تذكروا في جملة ما ذكرتم لا تلويحا ولا تصريحا: من هو المنكر، شخصه وطبقته؟ وفي ذكره غرض ما.
ويختلف بسببه الكلام على الواقعة, لأن من الناس المتعصب ومنهم الحاسد للمتكلم حتى يذكر بسبب حسده ما لا ينكره لو صدر من غير فلان. ومنهم الجاهل ومنهم المتجاهل، ومنهم من لا يتوجه له بخطاب أصلاً وطبقات الناس كثيرة وفي التعيين بعض فائدة.
وكذلك لم تذكروا ما هو المعتاد عندكم من قبل من التذكير، أهو في بعض الأوقات؟ أم في سائرها بعد كل أذان؟ فإن لذكر ذلك شيئاً من الفائدة أيضاً.
ولعل هذا المنكر إنما اشتد إنكاره بعد أن رددتم عليه ذلك الرد، وهو حق ولكن فيه بعض بشاعة وشناعة عليه.
وإن كان صدر منكم ذلك الرد بعد التعريف له برفق ولطف، فلم يقبل وأفرط مع ذلك في النكير والتشنيع، حتى دل شيء من ظواهر إنكاره على ما ذكرتم في الإنكار فرضاً وتوزيعاً على تلك المراتب، فقد أصبتم وأجملتم وشكر الله سعيكم، وإلا فإني أوصيكم إذا أمرتم بمعروف أو نهيتم عن منكر، أن يكون ذلك في أتم ما يكون من اللطف والرفق فإنه أدعى إلى القبول وإحسم لمواد الفتنة وأسد لأبواب الخصومة والشقاق وقد ورد الأمر بذلك شرعاً.
وفي الحديث (ما كان الرفق في شيء إلا زانه. وما كان الخرق في شيء إلا شانه) وورد أيضاً (أن الله سبحانه وتعالى وفيق يحب الرفق). والرفق خير كله.
(1/67)

(72) وسأله الفقيه الشيخ أحمد بن أبي بكر باشعبان فضل، المقيم ببلدة بلقام من أرض الهند المتوفي بها: عن الغيبة لم كانت أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، مع أنهم يعدوها من الكبائر مطلقاً كالزنا؟
فأجابه رضي الله عنه وأمتع به ونفع: إنه ليس شدة الغيبة كالزنا من حيث الأمر الظاهر الذي هو فحش الزنا وما يؤدي إليه من اختلاط الأنساب وغيره من المفاسد، بل هو من حيث أن الباعث على الزنا مجرد الشهوة وذلك أوصاف البهائم، والباعث على الغيبة وهتك أعراض المسلمين خبث في القلب وغل وغش على ذلك المسلم وذلك من أوصاف الشياطين، وهو أشد وأقبح من أوصاف البهائم إلى الثلاثين ضعفاً كما ورد في الخبر إن صح إسناده.
وقد ورد أيضاً الغيبة أشد من الزنا من غير ذكر عدد، وفي شدة الغيبة على الزنا، من حيث تعلقها بحقوق الخلق معنى ظاهر لا يخفى، وقد ورد في بعض الآثار: (إن الفلس الواحد من مظالم العباد يؤخذ فيه سبعمائة صلاة مقبولة) وظلم العباد هو الظلم الذي لا يترك.
وأما الزنية فأحسبها بكسر الزاي، وقوله ، صلى الله عليه وسلم: (ولا طير إلا طيرك) فأحسبه أيضاً بفتح الطاء وإسكان الياء على وزن خير ولم يحضر لدينا شيء من كتب اللغة في هذا الوقت حتى نراجعه، فانظروه في النهاية لابن الأثير أو القاموس إن كانا أو أحدهما لديكم. ويصلكم بيان ذلك فيما بعد والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسأله الفقيه المذكور أيضاً عن مؤمني الجن: هل لهم حظ من المعرفة الخاصة؟ وفي الرؤية (73)
إذا دخلوا الجنة؟
فأجابه رضي الله عنه ونفع به:
اعلم أن الشيخ العارف عبدالوهاب الشعراني المصري رحمه الله تعالى ذكر أن للجن أعني المؤمنين منهم حظا في المعرفة الخاصة، وأنهم سألوه عن مسائل منها، وعقد لجوابهم كتابا سماه: (كشف الران عن وجه أسئلة الجان) وقد وقفت على هذا الكتاب له.
(1/68)

وأما الرؤية لله تعالى في الجنة فاعلم أنه قد وقع خلاف في مؤمني الجن: هل يدخلون الجنة أم لا؟ وأحسب أنه لم يوجد دليل صحيح خاص بهم في دخول مؤمنيهم الجنة. ووقع الإحتجاج بعمومات لم يسلمها القائل بعدم الدخول.
والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله عز وجل ـ أن المؤمنين منهم يدخلون الجنة ويرون الرب فيها إن شاء الله تعالى.
(74) وسأله الشيخ باشعبان المذكور أيضاً: عن من ليست له ذرية ما الذي ينبغي له أن يقصد بالذرية إذا دعا؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمتعنا بحياته فقال، أقول، الذرية تطلق على الأولاد ما تناسلوا وعلى الآباء وإن علوا.
ومن الثاني قوله تعالى: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)
فإذا دعا من ليست له ذرية بالإنطلاق الأول فيقصد الآباء والأولاد جميعا، وإن لم يكن له أولاد فإنهم في حيز الإمكان ولا يكاد يتصور أن يقطع الإنسان الحي الذي لا أولاد بعدمهم في حقه في الوقت المستقبل لأن الإمكان باق في حقه ولو كان عينيا، ولا يصير ذلك محالا في حقه إلا بالموت.
ولا بأس أن يقصد من لا أولاد له إذا دعا للأولاد والذرية أولاد أخوانه وأقاربه الأقربين، إذاهم في المعنى كالأولاد له وكذلك العالم الصالح في حق المتعلمين منه والمتقدين به، والله سبحانه أعلم.
وسأله المذكور أيضاً: عن نبات الخلق قبل البعث إلى آخر ما سأل به؟ (75)
فأجابه رضي الله عنه ونفع به: يكون خارج الأرض متصلا بها كالنبات فيما يظهر، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) فإنه أراد خروجاً بعد خروج بأرواح وأجسام مهطعين إلى الداعي. وذلك غير الخروج الأول.
وكذلك وقوفهم على الصراط عند تبديل الأرض، إن صحت به الرواية لا بُعد فيه، فإنه إذ ذاك موجود ويوسعه الله تعالى إذا شاء ثم يجعله بعد دقيقاً للمرور عليه للمحنة واختبار الصدق.
(1/69)

ويمكن تأويل الصراط بشيء آخر غير الصراط الذي هو الجسر على جهنم، أعاذنا الله تعالى منها وإياكم، والأمر واسع وملك الله تعالى أوسع والقدرة والعلم الإلهيان أوسع وأوسع.
وسأله الرجل المذكور أيضاً: عن كيفية دخول الإنسان من أبواب الجنة الثمانية؟ (76)
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمتع به المسلمين ونفعنا به: إن كانت الأبواب مفرقة في سور الجنة الشامل لها كلها فيدخل من أحدها ويكون فتح سائرها له على سبيل الإجلال وزيادة الإكرام، إذا فتحت له كلها ودخل من أيها شاء.
وقد رأيت من ذكر ذلك من العلماء رحمهم الله تعالى وفي حديث ما يقال بعد الوضوء فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء فانظروه والمعنى ظاهر فيه، وهو الأقرب إلى الفهم وإن كانت الأبواب على طبقات الجنة وهي ثمان، طبقة فوق طبقة، فيكون معناه: أنه صار في أعلى الجنان ودخل من الأبواب الثمانية، التي هي أبواب طبقات الجنان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(77) وسأله الرجل المذكور أعني باشعبان أيضاً: عن حشر المتكبرين في صور الذر، كما ورد فيهم وفي غيرهم على صور أخرى توازي أوصافهم القبيحة التي كانوا عليها في دار التكليف، وهل ذلك على ظاهره، أوله معنى آخر؟
فأجابه رضي الله عنه ورضي عنا به فقال، أقول: لا مانع من وقوعه على ظاهره أبدا، ولا ينبغي أن يعدل به إلى معنى آخر مع إمكان وقوع ما وردت به الأخبار. ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الأشقياء: كيف يستطيعون المشي على وجوههم إلى النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم) فخذ المعنى من المعنى في سعة الإقتدار الإلهي ما لم يؤد الأمر إلى محال ممتنع عقلاً وشرعاً.
وسأله المذكور أيضاً: عن قول سيدنا الإمام الغزالي رحمه الله ونفعنا به وبكتبه، ليس (78)
كل أحد له قلب.
(1/70)

فأجابه رضي الله عنه بقوله: يريد رحمه الله تعالى ونفع به، القلب الحقيقي الذي يفقه ويعقل عن الله تعالى، وهو معنى شريف قائم بهذا القلب الصنوبري اللحمي الموجود لكل أحد، وعلى ما ذكر يتنزل قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) أي قلب يفقه عن الله تعالى، وفي آية أخرى أثبت لهم القلوب الصورية ونفى عنهم الفقه الذي هو المراد والمقصود، فقال تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها).
وهذا ما تيسر إيراده في الوقت الحاضر من غير تفكر سابق ولا روية، بل هو وارد الوقت وفيض الفضل، ومن أثر نَفَسِ مَدَدِ تَرجَمَةِ طَلْسَمِ مَعْنَى. (وعلمناه من لدنا علماً).
وكل ما معناه ولدينا فمن هذه الحضرة جاء، ولو أردنا أن نقول لقلنا شيئاً كثيراً ولكنا صادفنا وقتاً وزماناً تعرفه وتراه، وإن وجد مخصوص فينبغي على حسب خصوصه، ولا تجري لأجله الأمور العامة الكلية.
ولا يمنعكم من السؤال ـ وإن كثر ـ شيء من عوارض الأوهام، فإنا نجيب على الفسحة وكما ينبغي، وعلى الوجه الذي يكون هو الأصلح والأولى. فنكون معكم وتكونون معنا في حضرة الإطلاق أحسن وأوفق.
(79) وسأله الشيخ المذكور أيضاً، عن رد روحه عليه الصلاة والسلام عليه كلما سلم عليه مسلم من أمته ليرد عليه، كما ورد في الحديث.
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأمدنا منه: لا إشكال في ذلك فإن معنى الرد ها هنا رد معنى للروح، من حيثية يشعر الرسول صلى الله عليه وسلم بسلام من يسلم عليه من أمته فعبر بالبعض عن الكل، ومثله كثير.
وقد قال بعض العلماء يلزم من هذا الرد أن تكون روحه عليه الصلاة والسلام مستمرة على الإقامة في جسده الشريف، لأن الوجود لا يخلو من مسلم عليه من أمته، وهذا قول صحيح ولكنه قريب المدرك بالنسبة إلى مدارك أهل العلوم اللدنية الواسعة المستمدة من الحضرات الإلهية، وفيما أشرنا إليه إيضاح ما أشكل عليكم إن شاء الله تعالى.
(1/71)

(80) وسأله باشعبان المذكور: عن خلق أهل الجنة وأهل النار، متى يتغير إلى الحسن والقبح وغيرهما مما ورد؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه وأرضاه ورزقنا به رضاه: أحسب ـ والله أعلم ـ أن ذلك يكون عندما تجب لهم الجنة أو النار بالحكم الإلهي المرتب عل إقامة الأمر في حق أهل الجنة وإضاعته في حق أهل النار، وذلك عند انصراف كل من الفريقين إلى مستقره، وإن قيل: يكون ذلك عند دخولهما إلى الجنة أو النار لم يكن بعيداً.
وسأله هل يجوز تعدد المشايخ في حق شخص واحد إلى آخر السؤالات، وتأتي مفردة بأجوبتها. (81)
فأجابه رضي الله تعالى عنه فقال في جوابه: وأما المسائل التي سألتم عنها فيحتاج الكلام عليها إلى بسط يضيق الوقت عنه الآن، فنتكلم عليها بأوجز لفظ، يحصل به المقصود والإيضاح.
نعم يجوز ذلك بشرط أن لا يكون بين طرائقهم منافاة ولا مضادة ولا يكون بينهم شيء من الخلاف، ويكونون كلهم من أهل الصدق والإنصاف، والإعتماد على واحد يكون هو المعول عليه، ولا بد منه في الغالب وحيث صدر منه النهي عن الإجتماع بغيره والأخذ منه، لزم وكان الهلاك في خلافه، لأنه قد يكون صلاح المريد متوقفا على ذلك، ولا يليق بالمريد في حال ضعفه وأوائل دخوله في الطريق سوى ذلك، عناية باجتماع القلب وتوافر الرغبة، وقد ذكرنا من ذلك طرفا في أواخر رسالة المريد فانظروه.
(82) وسأله السائل المذكور أيضاً: عن حكم في السماع يتضح في الجواب.
فأجابه رضي الله عنه تعالى عنه ونفع به: السماع إذا حضره الشيخ المتمكن وحضر الجماعة بحضوره عن إذنه وعل موافقة الشروط التي يشترطها في الحضور،وكانوا كلهم معتقدين لذلك الشيخ غير منكرين عليه، كان الحاضرون كذلك محفوظين بحاله وعلو همته وحيطة عنايته.
(83) وسأله السائل المذكور أيضاً عن أول قدم يضعه المريد في طريق الله تعالى؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه: هو قدم التوبة ولها سوابق ولواحق، وفي أول رسالة المريد إشارة إلى ذلك .
(1/72)

(84) وسأله السائل المذكور أيضاً عن حكم ما إذا رمى المريد نفسه على الشيخ؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفع به: إلى الشيخ النظر في أمره وعليه أن يأخذ بما رآه الأصلح والأنفع والأرفع في حقه، فإنه أمانة الله تعالى عنده.
وتختلف أحوال المريدين في ذلك اختلافاً كثيراً، والذي على المريد اعتماد ما يشير به الشيخ عليه ويقيمه فيه ظاهراً أو باطناً من غير زائد.
وسأله أيضاً: عن الفرق بين عالم الغيب والشهادة، إلى آخر ما سأله به؟ (85)
فأجابه رضي الله عنه: عالم الشهادة ما من شأنه أن يدرك بالحواس الخمس، وعالم الغيب ما وراء ذلك من أمر الله تعالى الذي تقبله العقول السليمة، وتؤمن به القلوب الموقنة ويرى منه أنبياء الله تعالى وأولياءه بأبصار البصائر ما يشاء الله تعالى.
وأما عالم اللاهوت والناسوت والجبروت، فعالم اللاهوت طور من أطوار عالم الغيب تظهر فيه الأمور الإلهية المحضة الصرفة.
وعالم الناسوت طور يقابله، تظهر فيه الأمور الإنسانية اللطيفة الروحانية.
وعالم الجبروت طور من عالم الغيب، تظهر فيه من الأمور الإلهية ما يدل على حقائق القهر وشدة البطش وسرعة الإنتقام ونهاية العز الإستعناء وما يناسب ذلك.
وهذا ملخص ما فهمناه واقتبسناه من كلام الأئمة في هذا الشأن، فافهموه حقه وتأملوه كما ينبغي، والله الموفق والمعين.
(86) وسأله الشيخ الفقيه أحمد بن عبدالله شراحيل: ما وجه الإقتداء في المعصية في قول أبي محمد سهل بن عبدالله رحمه الله تعالى ورحمنا به وهو قوله: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش للنفس، وكل فعل يفعله بالإقتداء فهو عذاب على النفس. انتهى.
فأجابه رضي الله عنه، وجزاه عن المسملين خيراً وعنا:
(1/73)

اعلم أولاً أن النفس اصطلاح الصوفية ـ نفعنا الله بهم ـ هي لطيفة في الإنسان من طبعها إيثار الراحات العاجلة، وهي مجبولة على الميل إلى الحظوظ الفانية وتعذيبها عندهم بالرياضة على موافقة الكتاب والسنة شرط في صحة السلوك، ويكون تعذيبها هو معنى مجاهدتها على اتباع لحق واجتناب الباطل والإعراض عن كل فضول، وهذا التعذيب عندهم هو عين النعيم حالا ومآلا، وإطلاقهم التعذيب عليه تنزل منهم للعامة ليفهموا عنهم.
ولما كانت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي الخصلة الجامعة لهذا المعنى، كان القوم رضي الله عنهم ونفعنا بهم ـ من بين سائر الطوائف ـ لهم أعظم العناية بها وأتم المحافظة عليها، وهم نفع الله بهم لا يقيمون وزنا لمن لم تكن حركاته وسكناته في ظاهره وباطنه واقعة على موافقة الكتاب والسنة. فقول سهل رحمه الله تعالى: كل فعل إلى آخره نبه به على أن ترك الإقتداء ولو في أمر لا تميل النفس إليه بطبعها كالطاعة، مما يقويها ويهيج شهوتها، وإن كل فعل يكون مع الإقتداء، وإن كان مما تميل إليه النفس بطبعها كالمعاصي والملذوذات من الفضول في أعظم المشقة عليها، وذلك لأن الإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والحق ضد الهوى، والنفس مأسورة في قبضة هواها، فهي تستروح إلى موافقته وتميل إلى متابعته.
وأيضاً فالنفس مجبولة لسر خفي على كراهية الإنقياد
والإنقهار تحت حكم أحد، وعلى حب الإستقلال بالأمور والإستبداد بها، حتى إنها لا تحب أن يكون لأحد عليها سلطان، فهي لذلك تكره الإقتداء ولو فيما يوفقها طبعا وتميل إلى تركه ولو فيما ينافرها كما تقدم.
وأما معنى الإقتداء في المعصية فلا بد أن نذكر قبله معنى الإقتداء في الطاعة مجملاً التزاما للأدب، فمعناه في الطاعات: إخلاصها لله تعالى، وفعلها على وفق العلم والأدب باطناً وظاهراً.
(1/74)

وأما وجهه في المباحات فهو أن يتناول ويستعمل ما يستعمله مهما معتقداً حله وناويا به الإستعانة على القيام بحقوق الله تعالى.
وأما وجهه في ترك المعصية فهو أن يتركها حياء من الله تعالى وإجلالا له ورهبة من عقابة.
وأما وجهه في فعل المعاصي إن جرى عليه القضاء بإتيانها فهو بأن لا يختارها ولا يفرح بها ولا يصر عليها، وأن يستر عن الخلق، ويبادر منها إلى الملك الحق، مع الخوف من المعاقبة عليها والمؤاخذة بها.
وليس هذا بيان شافيا لكلام سهل نفع الله به، بالنسبة لما يحتوي عليه من المعاني الجامعة والآداب النافعة، ولكن يكون فيه إن شاء الله تعالى بلاغاً وكفاية وخير الكلام ما قل ودل وكلمة من كلامهم لا يستوفي المطَّلع على علومهم شرحها إلا في مجلد وأكثر فاعتبروا يا أولي الأبصار، وفقنا الله تعالى وإياكم لإصابة الصواب.
(87) وسأله الفقيه محمد بن عبدالرحمن مزروع، رحمه الله تعالى: عن سبب الميل إلى الخلق، وما سبيل الخلاص منه؟
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به:
اعلم أن سببه ضعف اليقين، ودواؤه الذي يحصل به الخلاص منه، قوة اليقين، ويحصل من وجهين: أحدهما النظر في الآيات الناطقة وهي آيات الكتاب وفي الآيات الصامتة وهي عجائب الوجود العلوية منها والسلفية، وهذا يسمونه المحققون بالفكر.
والثاني منها تهذيب النفس وتصقيل مرآة القلب بحسن الرياضة وصدق المجاهدة، حتى يتجلى فيها الحق وهذا الثاني هو الذي آثره الصوفية رحمة الله عليهم أجمعين ونفعنا بهم.
ولا تظن أن اليقين هو الإعتقاد الجازم فإنه موجود لعامة المؤمنين، ولم يضمحل معه الميل إلى المخلوقين، إنما اليقين المشار إليه نور رباني يستغرق القلب ويستولى عليه فحينئذ لا يرى الموقن غير الله تعالى، فينقطع عن نفسه فضلاً من غيرها من الأكوان.
(1/75)

ومن الأدوية النافعة للقلب من داء الميل إلى الخلق: أن يتذكر على الدوام أن أحدا من الخلق لا يقدر على أن ينفع نفسه ولا أن يدفع عنها ضراً ومن أعجز ممن هذا وصفه وهل يحسن بالعاقل أن يميل إلى من هذا نعته كلا إنما هي أوهام تترجم عن ضعف اليقين فاشتغل بتقويته لعلك تنجو منها.
وسأله الفقيه المذكور: ما بال الإنسان يحب الصالحين مع تقاعده عن موافقتهم وعن (88)
سلوك سبيل صلاحهم.
فأجابه رضي الله عنه، وحققنا بحقائق علومه:
اعلم أن الوعد المرتب على الإنتفاع بحبهم ليس موقوفاً على موافقتهم من كل وجه حتى يعمل بجميع أعمالهم، فإن المتصف بذلك من الصالحين أنفسهم والمحب له معدود من محبيهم، ولا يفوز بالخير المشروط بمحبتهم كل أحد حتى يلوح عليه أثر من التشبه بهم .
وأما سبب التقاعد عن سلوك سبيلهم فليس إلا فقد الهمة وهي قالب التوفيق، والتوفيق في خزانة الله تعالى فليطلب منه تعالى.
(89) وسأله السائل المذكور أيضاً: ما بال الإنسان يحب المادح له ولو بما ليس فيه. ويبغض الذام له ولو بما يعمله من نفسه؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه ورضي عنا به:
اعلم أن هذا الأمر معجون في جبلة ابن آدم لا ينجو منه إلا من خرج عن مقتضيات البشرية والتحق بأفق الملائكة الروحانية، وطريق الوصول إلى ذلك مذكور في جواب المسألة الأولى والخلاص منه عند أهل الإخلاص: أن يسوي المخلص بين المدح والذم، وبين الذام والمادح.
وأما كراهته الذم والفرح بالمدح، فقد يكون ذلك مباحاً وقد يكون محرماً، حسب المستند الذي لأجله فرح أوكره.
فمن فرح بالمدح لأنه يدل عل وجود الجاه عند المادح، وكره الذم لأنه يدل على فقده عند الذام، فهو محبوب ناقص الحظ من التوجه الخاص.
(1/76)

وقد يفرح الإنسان بالمدح ويكره الذم، من حيث إن ألسنة الخلق أقلام الحق، ومن حيث إنه سبحانه أظهر الجميل وستر القبيح، وهذا يكون في المدح إذا ظهرت محاسنه وذكر بالخير يفرح رجاء أن يعامله مولاه بمثل ذلك، وفي الذم إذا ظهرت مساويه يحزن مخافة أن يعامله ربه بمثل ذلك في الآخرة.
وبسط الكلام على تحقيق هذه المسألة يستدعي بسطا، وقد أشبع الكلام على المسألة الأخيرة حجة الإسلام في كتاب ذم الجاه والرياء من الإحياء.
وسأله بعضهم عن معنى: من عرف نفسه عرف ربه؟ (90)
فأجابه رضي الله تعالى عنه، وأمدنا به منه فقال:
اعلم أن هذه الكلمة حديث يروى عن رسول الله صلى لله عليه وسلم، وقد تضمنت على وجازتها من المعارف والعلوم شيئاً كثيراً وهو الذي أيد بجوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
ثم اعلم أن لهذه الكلمة معاني كثيرة، نقتصر منها على ذكر معنيين بأوجز عبارة قال الله تعالى: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) وقال تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
المعنى الأول:من كون المعرفة بالنفس طريق إلى المعرفة بالحق، أنك إذا نظرت إلى نفسك وإلى عجزها وافتقارها وقصورها وانقهارها، وأنها لا تستطيع أن تجلب نفعاً لنفسها ولا أن تدفع ضراً عنها، تعلم بذلك أن لها رباً وخالقاً هو المنفرد بإيجادها وإمدادها والقائم عليها بما كسبت والمجازي لها بما عملت، له الغنى المطلق والوجود المحقق.
قيل لبعض العارفين: بم عرفت ربك؟ فقال بنقض العزائم يعني بذلك أنه قد يعزم على الأمر ليبرمه فينتقض ويعزم على نقضه فيبرم، فاستدل بذلك على كونه مربوبا وأن أمره في يد غيره، ذلك هو العزيز الحكيم.
(1/77)

المعنى الثاني: أنك إذا نظرت إلى نفسك ورأيتها مائلة إلى الشر والباطل ومعرضة عن الخير والحق، وراغبة في التمتع بالدنيا الفانية، غافلة عن الآخرة الباقية مجبولة على التمتع بالشهوات، والدخول تحت رق العادات، علمت أنه لا ينجيك من بأسها، ويعصمك من فتنتها إلا الخالق لها القادر على إصلاحها وهو الله تبارك وتعالى، فعند تفزع إليه مكتفياً به ومعتمدا عليه.
فإذا علم سبحانه من صدق الفرار، وصحة الرغبة في الخلاص أفاض عليك الأنوار وكاشفك بمصونات الأسرار، وألقى على النفس الأمارة بالسوء المقارنة للشر والأشرار، من الطمأنينة والإنقياد للحق والنفرة عن الباطل والرغبة في ملازمة الخير ومرافقة الأخيار، ما تقرُّ به عين القلب، ويمحي عنه وجود كل ما يشغل عن سلوك سبيل القرب، فعند ذلك تعرف لطف مولاك عز وجل وعنايته بك، وإقباله عليك وحسن نظره إليك.
وأصل هذه المعرفة معرفتك بشؤم النفس، الحامل لك على الفزع إلى الله تعالى فتنبه لما أشرنا إليه وتأمله حقه واقنع بهذه اللامعة فإنها من العلم المكنون المتلاطمة بحاره، ويكون فيما ذكرناه وشرحناه الغناء والبلاغ، وإلى الله ترجع الأمور.
وسأله الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله باعباد، عن سماع من جاوز الأحوال والمقامات إلى آخره. (91)
فأجابه رضي الله عنه فقال: وأما سماع من جاوز الأحوال والمقامات، وقد أشار إليه الحجة في الباب الثاني من كتاب السماع فالشيخ يريد به الفاني عن كل ما سوى الله تعالى حتى عن نفسه.
ومثال ذلك من الشاهد فيما يقع للمخلوق مع المخلوق، ما صدر من النسوة من تقطيع الأيدي عند مشاهدة الجمال اليوسفي فصح بذلك فناؤهن في مشاهدته حتى عن أنفسهن.
(92) وسأله أحمد بن محمد الغشم الزيدي عن ما حاصله: ما قولكم في أفعال العباد؟
فأجابه رضي الله عنه، ونفع به الإسلام:
(1/78)

اعلم وفقك الله تعالى أن مذهبنا والذي نعتقده وندين الله تعالى به،أن لا يكون كائن من خير وشر ونفع وضر، إلا بقضاء الله تعالى وقدره وإرادته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعندنا لذلك من النصوص السمعية الواضحة في الكتاب والسنة ومن البراهين العقلية المسلمة عند كل ذي بصيرة ما يجل عن وكتب أئمتنا التي ألفوها في علم أصول الدين طافحة بذلك وهي في أيديكم.
ومذهبنا برزخ بين مذهبين: أحدهما مذهب الجبرية القائلين أن العباد مجبورون على ما يأتون ويذرون مقهورون مضطرون في كل حال، تضاهي أفعالهم أفعال الناسي والمكره بل أفعال المجنون والنائم، وهذا المذهب يعرف بطلانه ببديهة العقل، لو لم يدل دليل على كونه باطلا.
والثاني: مذهب المعتزلة القائلين أن أفعال العباد الإختيارية، خلق لهم. وأنهم إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا.
وأما هيئة الكسب الذي نقول به فهو شيء يعرفه الإنسان من نفسه، إذ لا يعزب عن عاقل الفرق بين أفعاله الإضطرارية والإختيارية، وأنه في الإضطرارية منها مجبور، وفي الإختيارية غير مستقل.
والذي ذكرناه من مذهبنا أولا يجب عندنا اعتقاده والإيمان به. ولا يصح الإيمان بدونه. وهو أن كل شيء أي شيء كان، لا يكون إلا بقضاء الله تعالى ومشيئته سبحانه.
ومع ذلك فنحن نحب المطيع ونثني عليه ونحثه على التشمير في الطاعة،ونحذره الوقوع في المعصية. ونقول: بإثابة الله تعالى له.
ونبغض العاصي وننهاه عن المعصية، وندعوه إلى الطاعة ونقول: بمعاقبة الله تعالى له ونقيم الحدود ونرفع المظالم إلى الولاة. ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. ونعد قول العاصي منا إذا قال عندما يقال له: لم عصيب؟قال هذا بقضاء الله وقدره، من أعظم الذنوب.
والرضا بقضاء الله تعالى واجب عندنا ومحله: أن ترضى بأفعاله تعالى جملة، وأنها فضل وعدل.
(1/79)

ومن الرضا عندنا: سكون القلب عند ورود المصائب في الأنفس والأموال، وحصول الشدائد من المخاوف والفاقات. والرضا بالمعاصي معدود عندنا من كبائر الذنوب.
(93) وسأله الزيدي المذكور أيضاً: عمن حارب عليا كرم الله وجهه ونازعه من المسلمين؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه، ونفعنا به:
اعلم أن الذين باشر علي رضي الله عنه قتالهم بنفسه، بعد أن خرجوا عليه ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الجمل، الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وأهل البصرة خرجوا عليه بعد أن بايعوه يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه. ولم يكن رضي الله عنه قتله ولا أمر بقتله ولا رضيه. ولكنه قبل البيعة من قتلته ولم يسلمهم، لأمر رأى في صلاح الدين واجتماع المسلمين، في ذلك الحين فلم يفطن له الخارجون عليه.
الثانية: أهل صفينن معاوية وعمرو بن العاص وأهل الشام، ولم يبايعوا عليا وخرجوا عليه يطلبون بدم عثمان.
الثالثة: أهل النهروان، وهم الخوارج وقد بايعوه وقتلوا معه ثم خرجوا عليه ينقمون تحكيم الحكمين يوم صفين وما قاتل علي رضي الله عنه أحداً من هذه الطوائف إلا بعد دعاهم إلى الإجتماع والألفة والدخول في الطاعة فأبوا.
وكلهم بغاة عندنا ومنازعون وخارجون بغير حق صريح وصواب واضح. نعم من خرج منهم وله في خروجه شبهة فأمره أخف ممن خرج ينازعه في الأمر ويطلبه لنفسه. والله أعلم بنياتهم وسرائرهم وسلامتنا في السكوت عنهم. (تلك أمة قد دخلت).
وقال علماؤنا في شأن الزبير ومن معه ومعاوية ومن معه: إنهم اجتهدوا فأخطأوا فلهم عذر. وعلى كل حال فغاية من خرج على الإمام المرتضى من أهل التوحيد المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة أن يكون عاصياً والعاصي عندنا لا يجوز لعنه بعينه.
(1/80)

وليس الخروج على الأئمة عندنا كفراً بل لا يجوز عندنا لعن أحد إلا إذا علمنا أنه مات كافراً، وأن رحمة الله تعالى لا تناله بحل كإبليس. ومع ذلك فلا فضيلة في لعن من هذا وصفه، ويجوز عندنا لعن العاصين والفاسقين والظالمين عموماً.
وأما الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما أماما حق قد استجمعت فيهما شرائط الإمامة وكملت أهليتهما لها.
فأما الحسن فبايعه أهل الحل والعقد ممن كان في طاعة الإمام علي وذلك بعد مقتله. فلما سار إليه معاوية بجموع أهل الشام يقصد حربه. وسار هو إليه بجموع أهل العراق فحين تقارب الفريقان، نظر الحسن نظر الرحمة والشفقة على الأمة ليتم الله تعالى له ما قال جده صلى الله عليه وسلم فيه: (إن ابني هذا سيد. وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). الحديث.
فعند ذلك خلع نفسه وبايع لمعاوية على أن يكو له الأمر من بعده في شرائط اشترطها. فمات رضي الله تعالى عنه قبل معاوية فجعل الأمر معاوية إلى ولده يزيد، فبايعه الناس طوعاً وكرهاً وأبى الحسين رضي الله عن أن يبايع فعند ذلك كتب إليه أهل العراق أن يصير إليهم ليملكوه عليهم، فأجابهم رضي الله تعالى عنه إلى ذلك وسار يقصد العراق.
فكتب يزيد إلى عامله بها: عبيدالله بن زياد يحثه على حرب الحسين رضي الله تعالى عنه والوقيعة به فقام بذلك ووافقه أهل العراق عليه بعد أن بايعوا الحسين، ودخلوا في طاعته بزعمهم فقتل هنالك شهيداً في طائفة من أهل بيته رضوان الله عليهم.
والذي قتله والذي أمر بقتله والذي أعان على ذلك: عندنا من الفاسقين المارقين عاملهم الله بعدله أجمعين.
وليس يزيد عندنا بمنزلة معاوية فإن معاوية رضي الله عنه صحابي. وليس يترك الفرائض وينتهك المحارم مثل يزيد، فيزيد فاسق بلا شك لأنه كان يترك الصلاة ويقتل النفس ويزني ويشرب الخمر. وحسابه على الله تعالى.
وسأله الزيدي المذكور أيضاً. فقال ما حاصله: ما قولكم في هذه الجموع التي نراها (94)
(1/81)

في مساجدكم، تنشد فيها الأشعار الغزلية بالنغمات الطيبة والألحان الموزونة؟
فأجابه رضي الله تعالى عنه، وأمتع به.
اعلم أنها ليست عندنا من الذكر ولا هي مثله، ولكنها شيء مباح وتركها أفضل. وقد أنشد الشعر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنشده وربما تمثل عليه الصلاة والسلام بالبيت والبيتين منه. وأنشد في مسجده بحضرته أنشده حسان وغيره ويثبت الجواز بمرة إذا لم يقع النهي عنه.
وهو وإن كان لم ينشد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالألحان. فإنه مهما صح إنشاده بدونها لم يحرم إنشاده بها، حتى يدل على تحريمه دليل واضح من السنة ولم يرد ذلك.
وبعض الفضلاء الأخيار العارفين بالزمان وأهله وما هم عليه من الكسل عن العبادة، وقلة الرغبة في الخير يرى أن جمعهم على الذكر لله تعالى مع إدخال شيء فيه من الأشعار الصحيحة المعاني والمباني، مما لا بأس به لأن للنفوس ميلاً إليها، فيقودهم بواسطته إلى الإجتماع على ذكر الله تعالى ولكل امرئ ما نوى. والمطلع على السرائر هو الله سبحانه وتعالى.
ومن ساء ظنه وخبثت طويته رأى الحسن قبيحا والقبيح حسنا، ولا أقل من الإنصاف ولا أقل من التوقف في مواطن الإشكال.
ومن لم يعرف الحق وجب عليه طلب معرفته من أهله وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو رد وكل ما فارق هدي السلف الصالح فهو شر، إن كانت المفارقة على سبيل المضادة والمعاندة وإلا فالحق واسع. والجواز غير الفضيلة وليس الجائز كالمندوب ولا المندوب كالواجب. ونحن على بصيرة من أمرنا وهدى من ربنا وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرن، ولسنا جاهلين بأمر الدين ولا مبتدعين فيه ولا متبعين الأهواء المضلة ولا متحكمين بعقولنا في دين الله تعالى، ونقبل الحق من جاء به ونرجع إليه ولا نكابر ولا نقلد الرجال.
(1/82)

فافهم ما ألقيناه إليك وأمليناه عليك من الجواب على أسئلتك. فإنه ما من كلمة من الكلام الذي أوردناه إلا وعندنا لها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة الهدى أدلة واضحة حذفناها اختصارا. وخير الكلام ما قل ودل. و(من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا).
والظاهر أنك متعصب على مذهبك، لا تقبل إلا ما وافقه ولا ترى الحق إلا فيه. فإن صح هذا فليس للكلام معك فائدة. اللهم إلا إن كنت تعتقد في مذهبك أنه حق، وأن الحق ليس محصوراً فيه ومقصورا عليه، حتى تضلل وتخطيء من خرج عنه قيد شبر.
فإن كنت كذلك أعني لا تعتقد أن الحق مقصور على مذهبك، فللكلام معك فوائد ولأجلها وعلى رجاء حصولها أجبناك.
منها أن لا تعتقد خلو هذه الجهة عمن يعرف الحق، ويقدر على التعبير عنه ويناضل ويدافع من حاد عنه بلسانه وسيفه وسنانه وأنصاره وأعوانه حسب استطاعته وإمكانه. ولن يذم بالعجز والقصور من بذل الإستطاعة واستفرغ الطاقة.
ومنها: أنك أقمت في هذه المدينة مدة وتزعم أنك تحبها، وتحب أهلها وقد حان حين مفارقتك لها. فلا ينبغي أن تسير منها منطويا على سوء الظن بأهلها لما رأيت منهم بزعمك، وهم أهل البيت الذين طهرهم الله تعالى، وفرض عليك وعلى سائر المسلمين مودتهم وموالاتهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكان إملاؤها أي هذا الجواب يوم الإثنين رابع جمادى الأول سنة اثنتين وسبعين وألف من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
(95) وسأله بعض الأصحاب: عن تفسير قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري) إلى قوله تعالى: (وكذلك اليوم تنسى)
فأجابه نفع الله به ورضي عنه:
(1/83)

اعلم أن المفسرين في بعض معانيها اختلافا يكاد أن يكون لفظياً ونحن نذكر ما هو الأصح والأوضح إن شاء الله تعالى مع غاية الإيجاز.
قال الله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري) أي عن القرآن والهدى فلم يؤمن به. وهذا حال من كفر وجحد، فإن له معيشة ضنكا في الدنيا بالحرص الشديد عليها فلا يزال في ضنك، وإن كان متسعاً في الصورة وإما بالقلة المصحوبة بضيق الصدر وعدم الصبر وفي البرزخ بما يصب عليه من أنواع عذاب القبر ومن ضيق اللحد وتعذيب الملائكة أياه وتسليط الحيوانات المؤذية، إلى غير ذلك وفي الآخرةبأكل الضريع الزقوم وشرب الحميم والغساق، خالداً مخلداً في النار نسأل الله العافية.
(ونحشره يوم القيامة أعمى) أي أعمى القلب والبصر (وقال رب لم حشرتني أعمى) أنكر عمى البصر الحادث عليه وأما عمى القلب فإنه لم يزل فيه (وقد كنت بصيراً) أي في الدنيا.
(قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) أي أعرضت وتعاميت عنها، (وكذلك اليوم تنسى) أي تترك في العمى وسوء الحال وأليم العذاب والنكال، نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياكم على الإيمان ويعصمنا من الزيغ والضلال والحمد لله على كل حال.
وسأله بعض الأصحاب أيضاً: عن الكبش الذي يعتاد أهل الغيل تركه في بيوتهم ويسمونه (96)
مسايرا.
فأجاب رضي الله عنه ونفعنا به: أما الكبش الذي تركه أهل الغيل في بيوتهم ويسمونه مسايرا وكلما ذهب أبدلوه بغيره. فهذا والعياذ بالله من الشرك بالله والشرك ظلم عظيم وهو وأمثاله سبب تسلط الشيطان وجنوده على العاملين به. فإن الله تعالى قد سلط الشيطان على من يتبعه من بني آدم وهذا من الإتباع له، قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
فلا تفعل ذلك ولا تترك أحداً يطيعك من أهل البلد يفعله، وفي التحصن بالله ورسوله وآيات القرآن وإقامة الصلوات ما يكفي شر جميع الشياطين من الجن والإنس أجمعين.
(1/84)

وصدر إليك حرز أبي دجانة الأنصاري الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين شكا عليه ظهور الجن في بيته فلما جعله فيه هربوا منه، وولوا مدبرين.
أما النسخة الصادرة إليك من منا فعلقها في دارك، بعد أن تنقل منها نسخة تتركها ظاهرة تكتب منها لمن أراد من الراغبين فيها من المسلمين، بشرط أن تترك هذا المساير وتعتمد على الله الذي لا نافع ولا ضار غيره.
ولو أن هؤلاء الناس توكلوا على الله وتطهروا من النجاسات، وأقاموا الصلوات لما آذتهم الشياطين ولا ضرتهم الجن، بل كانوا يفرون منهم لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
وأما الأمراض والعاهات فقد يسوقها الله تعالى إلى عباده المؤمنين ليثيبهم وقد ينساق من البليات والآفات إلى الذين يتمسكون بهذه الأوهام ويتعلقون بالجن أضعاف ذلك، وهم مأثومون مأزورون لا مثابون ولا مأجورون.
فتمسكوا بالله وتحصنوا به واحذروا من التجربة على الله وهي أن الإنسان: اقرأ هذه الآية أو اكتب هذا الحرز أو اسمع شور فلان الصالح. وانظر كيف يكون الحال.
فإن مثل هذا شك وبسببه حرموا أكثر الناس بركات الصالحين وبركات إشاراتهم، حتى صاروا يقولون: ما بقي في الزمان أحد من أهل الأسرار والكرامات. وقد قطعت بهم هممهم الضعيفة وقلة صدقهم ويقينهم إنما ينتفع من كانت له همة وقوة يقين، حتى لا يتصور أن يخطر في نفسه خلاف ما يقول الرجل الذي يعتمد عليه وعلى إشارته من أهل الله.
(96) وسأله السيد الجليل أحمد بن عوض باحسين باعلوي: عن معنى الأدب الذي يشير إليه الصوفية، رضوان الله عليهم
(1/85)

فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به: قد اختلفت أقوالهم فيه اختلافا يرجع حاصله إلى وقوف الإنسان على حده من العبودية، وقيامه بحق الربوبية قياماً مقروناً بنهاية العظيم وغاية الإحترام مع الخروج والإنسلاخ عن دعوى القيام وشهوده من أنفسهم. إما لإستغراقهم بشهود قيام الحق في ذلك بهم وإما لإستغراقهم بشهود التقصير من أنفسهم، ورؤية معانيها التي لا يبقى معها نظر إليها ولا احتفال بها، فهذا المذكور نكتة ما قالوه في الأدب رحمهم الله تعالى.
وسأله السيد المذكور: ما يقصده الإنسان بسلامه على الصالحين في صلاته ومن هم الصالحون (98)
المرادون هنالك؟
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به:
اعلم أن الصلاح منزلة رفيعة وقد وصف الله تعالى الجلة من أنبيائه فقال في حقهم: من الصالحين. قال ذلك في حق إبراهيم وعيسى ويحيى عليهم السلام فتأمل الآيات المنصوص فيها ذلك وحسبك.
فينبغي للإنسان إذا سلم على الصالحين هنالك: أن يقصد مراده رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فيما علمه أمته من التشهد.
وسأله السيد المذكور أيضاً: عمن قرأ في سنة العشاء الأخيرة ألم السجدة وتبارك الملك: هل (99)
يجزيه ذلك عن قراءتهما عند أو قبله؟
فأجابه: نعم يجزيه ذلك كما ورد.
(100) وسأله المذكور: عن أذكار النوم هل تحصل لمن أتى بها عند إرادة النوم التهيؤ له.
فأجابه رضي الله عنه: أما جميع أذكار النوم من التسبيح وغيره، فتحصل لمن أتى بها عند النوم والتهيؤ له. ومنها ما لا يحصل إلا عند الاضطجاع ووضع الجنب حسب المنصوص في الأحاديث الواردة في ذلك.
(101) وسأله عن المسبعات: هل تقضى؟
فأجابه: نعم تقضى وتتم بعد الطلوع والغروب كغيرها من الأوراد المؤقتة.
(102) وسأله عن حضور شيء من المجالس التي يكون فيه السماع بالدفوف أو العود.
(1/86)

فأجابه نفع الله به: أما حضور شيء من المجالس التي يكون فيها السماع بالدفوف أو العود. فالحضور فيها يكون من الخطر إلا مع الرجال الكمل من العارفين بإذنهم فميلوا عن ذلك ما وجدتم إليه سبيلا وفي السماع تفصيل يطول.
وقد أشبع القول فيها سيدنا الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، في الإحياء وأفرد له كتاباً.
(103) وسأله عن من يجد الميل إلى العلم الظاهر أكثر منه إلى العلم الباطن.
فأجابه نفع الله به ورضي عنه: أما الميل إلى العلم الظاهر أكثر من العلم الباطن فهو من تسويلات النفس ووسوسة العدو. والإحتجاج لذلك بحاجة الناس إلى العلم الظاهر غلط، فإنهم محتاجون إلى العلم الباطن كذلك وأرشد.
وإن خلو الباطن من معرفة العلم الباطن يقدح في الإيمان. وقلة المعرفة بالعلم الظاهر يقدح في الإسلام وهما متلازمان والأول أشرف.
فارغبوا في العلمين وشمروا لتحصيلهما واجتهدوا في الجمع بينهما وكونوا بالأهم منهما والأنفع أشد اهتماماً، وعليه أبلغ حرصاً.
والكلام على هذه المسائل يستدعي بسطاً كثيراً، ولو أفردت كل واحدة منها بالتصنيف لكانت جديرة به. وقد أسكت العلماء بالله وبدينه وألزمهم الصمت الإعراض عن الله وعن سلوك طريقه وقلة الرغبة في العلم وقلة الصبر على طلب الحق وطلب أهله، وعدم الإنقياد لهم والأخذ بما لديهم عند العثور عليهم وهذا قد غلب واستولى على أهل هذا الزمان، إلا من عصم الله وقليل ما هم.
وسأله: عما يفعله السائل في كتبه من فلان إلى فلان. (104)
فأجابه: الذي فعلته في كتبك الأخيرة من قولك في أولها: من فلان إلى فلان هو السنة والأدب وعليه عمل السلف والخلف الصالح. فالزمه.
(105) وسأله: أنه يقرأ شيئاً من أوراده وهو يمشي.
فأجابه: لا بأس بذلك ولا جناح فيه إذا وقع مع حضور القلب واجتماعه كحاله لو كان جالساً. نص على ذلك العلماء الأخيار في القراءة والأذكار.
(1/87)

(106) وسأله السيد المذكور أيضاً: عن ترتيب أحزاب الشيخ أبي الحسن الشاذلي ـ رحمه الله تعالى ـ المباركة الجليلة.
فأجابه رضي الله عنه: رتبوا منها حزب البر في أذكار الصباح، وحزب البحر بعد العصر.
وأما قول الشيخ حسين بلفقيه فيها فهو ظاهر، ولكن ينبغي أن يقدم ما ورد عن رسول الله في ذلك الوقت عليها.
مثال ذلك: إذا تقرأ حزب البحر بعد العصر قدمت التسبيح والتحميد والتكبير على الحزب. وذلك عند اشتراك الوقت تقدم النبوي وباقي الكلام واضح. والزيادات التي زدتموها في أذكار الصباح والمساء التي جمعناها اجعلوها بعدها. لا بأس بها.
وطالِعْ كتب القوم ما استطعت بفهم وبدون فهم، فإن فيها البركة والخير. ويكفيك من أحزاب الشاذلية هذان الحزبان. والاستكثار من حفظ الأذكار والأدعية النبوية أكمل وأتم.
والأمور الموهمة التي في الأحزاب ينبغي للإنسان أن لا يتفكر فيها ولا يعترض عليها، ويتدبر من الأمور الواضحة ويتفهمها. والواضح ما ظهر معناه وعرف وجهه والموهم والمشكل: ما بَعُد عن الفهم.
وقولك: إنك زدت في رضيت بالله الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورسولا بعد نبيا لا بأس به قد وردت الرواية برسولا غير أن الأخرى أصح والجمع مطلوب.
وسأله السيد الجليل العفيف عبدالله بن عقيل بن شيخ: عن معاني هذه الأبيات وهي (107)
قول القائل:
من كل معنى لطيف استقي قدحا وكل ناطقة في الكون تطربني
وقول الآخر:
ياقرة العين سل عيني هل اكتحلت بمنظر حسن مذغبت يا أملي
وقول الآخر:
إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا رأيت جميع الكائنات ملاحا
وإن ما ترى إلا مظاهر صنعه حجبت فصيرت الحسان قباحا
ما معنى هذه الرؤية وما حدها؟ وما حقيقتها؟ والله سبحانه وتعالى منزه عن اللونية والصورة والشخصية.
(1/88)

فأجابه نفعنا الله به ورضي عنه: ما سألتم عنه من معنى الأبيات التي ذكرتموها ومما لم تذكروها مما في معناها، فالمعنى منها واضح ولا إشكال فيه لأن الرؤية رؤية قلب بعين الإعتبار والإستبصار.
وقد تكون بعين المشاهدة الذوقية من بصر البصيرة السرية. وذلك لا يفتقد إلى تقدير كون ولا شكل ولا لون ولا شخصية ولا مقابلة ولا غير ذلك من ألوان الأجسام ومدركاتها المحسوسة.
وعلى مثل ذلك يرى المؤمنون ربهم في الجنة. وهي وإن كانت بالإبصار الظاهرة فالإبصار هناك في مثل البصائر والأسرار ها هنا.
فأما قول القائل في البيت الأول: من كل معنى لطيف إلخ، فهو يشير إلى أن الكون صار في حقه واسطة تقيده المعارف الإلهية بكل وجه وذلك أمر واقع صحيح لأهله.
وأما البيت الثاني: يا قرة العين إلخ، فهو يشير إلى إنه لا يشهد غيره وإنه إذا رأى الغير لم يره بل يرى من أظهره وأبداه رؤية حقيقة وفي قوله بعض توسع وهو سائغ للمحبين والمشتاقين.
وأما البيتان الأخيران: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلا إلى آخرهما، فهي رؤية آثار صفات الصانع في الصنعة فترى الأفعال من حيث فعل الفاعل ووجوه حكمته وعجائب إتقانه لها وما خلقها له وأراده منها وبها ولها وكل ذلك حسن جميل لا قبح فيه ولا نقص.
ومن عكس هذه الرؤية بحكم حظه وسوء اختياره فقد يرى القبيح في الكل أو في البعض. وليس من هذا الحال الإستسحان الشرعي فإن لذلك معاني أخرى جاءت من وجه آخر وهو الأمر الإلهي.
وأما تنزيه الحق وتقديسه وتعاليه عن صفات المخلوقين فهو الأمر المجمع عليه شريعة وحقيقة. وكذلك هو في الدنيا والآخرة إلا أن لأهل الطريق إطلاقات وتوسيعات.
(1/89)

ومنهم من قد يغلب فيشطح والكل معذور، وله فيما يأتيه مستند ووجه يعرفه أهله. ولا أوسع من الأمور الإلهية ولا أعظم منها وضوحاً لأهلها ولا أكثر منها خطراً لمن ليس من أهلها، سيما إن أخذ فيها بغير شيخ محقق يهديه في تلك المسالك ويجول به في تلك الممالك. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وسأله السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي باعلوي جامع الفتاوى: عما دلت عليه الآيات (108)
والأخبار من أن عذاب الكفار ـ والعياذ بالله من ذلك ـ دائم مؤبد مع ما ورد من رواية الإمام أحمد عن ابن عمر: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد. وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.
ونقل غير واحد نحو هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة ونقله ابن تيمية عن جماعة من الصحابة وغيرهم، فما الذي ينبغي أن يؤول به ذلك؟
فأجابه رضي الله عنه ونفعنا به: ما سألتم عنه فهي مسألة قد كثر فيها الكلام وقد اعترض فيها وبسببها بعض العلماء من أهل السنة على المنسوبين إلى طريق الله أخذوا بذلك الحديث ذكرتموه. وقالوا بانقطاع العذاب عن أهل النار الذين هم أهلها من المشركين والكفار وليس لهم حجة في ذلك الحديث مهما قُدِّرَ أنه صحيح، لأن النصوص من الكتاب والسنة البالغة مبلغ التواتر الغير القابلة للتأويل، لا تصادم بمثل ذلك الخيال.
وقد رأيت بعض أهل العلم ذكر في الجمع بين الأمرين وجها فقال: إن النار طبقات سبع وأن أعلاها تسمى جهنم، وهي التي تكون فيها العصاة من المؤمنين، ولا شك في أنهم يخرجون منها بإيمانهم على تفاوت في ذلك فتبقى بعد خروجهم منها فارغة. فهذا الذي ذكره فيه قرب ولست أسلمه له، لأن الإشكال لا يزول به ولا سبيل إلا الأخذ بما نطقت به نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف والخلف من الأمة.
(1/90)

واعلم أن من اتسع نظره في الكتب المؤلفة في أنواع العلوم وجد فيها كثيراً مما يشبه هذه المسائل، وربما أثارت عنده شيئاً من الأهام والإشكالات. ولا ينجيه من ذلك إلا أن تكون له بصيرة منيرة وقريحة صحيحة. وقد أحرز معتقده من قبل بأخذ عقيدة جامعة مما أجمعت عليه أهل السنة.
وقد رأينا مما ذكرناه في الكتب شيئاً كثراً فعافانا الله من الإغترار به ومن الإتباع لما تشابه منه، وعندنا في هذه المسألة التي ذكرتموها كلام طويل لكثير من المتصوفة، وفي غيرها من المسائل التي تجري مجراها.
وأظن أن الشيخ بن حجر أشار إلى هذه المسألة في بعض المواضع من الزواجر. وقد طال العهد بذلك الكتاب، وما هناك ما يقتضي الإشكال عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وسأله الشيخ الفاضل الفقيه الصوفي عبدالله بن سعيد بن عثمان العمودي، بم حاصله: (109)
ما قولكم فيمن لم تبلغه الدعوة وأتت منه أمور هداية من الله على قانون الشريعة، هل له ثواب الجنة ويكون كأهل الجنة؟. أوْلا يثاب أو في ذلك تفصيل؟ إلى آخر ما سأل عنه.
فأجابه رضي الله عنه، ونفعنا به: أما ما سألت عنه فاعلم أولاً أن للعلماء من أهل هذا الشأن اختلافاً في أهل الفترات الكائنة بين الأنبياء، وفي من لم تبلغه الدعوة ممن هو في أقاصي البلاد وأقطرها الشاسعة.
فمن قائل بتعذيبهم لأنهم لم يوحدوا الله، والله لا يغفر أن يشرك به.
ومن قائل: يقول بعدم تعذيبهم لأنهم لم تبلغهم دعوة ولم تقم عليهم حجة والله تعالى يقول: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) في آيات كثيرة.
ومن قائل: بالوقف وهو الأسلم والأحزم لأن الأدلة على الأمرين من النقليات والعقليات فيها ما يشبه التعارض، وإن كان لا تعارض في حقيقة الأمر.
(1/91)

فأما ما ذكرته من حال من لم تبلغه الدعوة ولكنه آمن وعمل بالصالحات المشروعة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم الهاما من الله له وهداية خصه الله تعالى بها، وهذا أمر لا يستحيل إمكانه وإن كنا لم نكن قد سمنا بوجوده.
ولكنا نقول: إن أمكن ذلك فيكون حاله أحسن بكثير ممن لم يؤمن ولم يعمل بالشريعة، ممن لم تبلغهم الدعوة وقد قيل: إنه يرحم ولا يعذب كما سبق.
ومن القائلين بذلك: الإمام حجة الإسلام في كتابه (التفرقة بين الكفر والزندقة) والله أعلم بحقائق الأمور وبعواقبها ومصائرها وبكل شيء من جميع وجوهه ومن جميع جهاته.
والناظر في هذه الأشياء إن كان ممن يخشى الله ويتقيه لا يمكنه القطع والجزم، إلا بم صرحت به الشريعة ونصت عليه نصا محققا لا معارض له وهذا في أمثال هذه الأمور كالمتعذر.
فتأمل ما ذكرناه حقه فإنه جامع ويتناول أكثر مما وقع السؤال عنه، والله الهادي إلى الصواب.
وسأله السيد أحمد المذكور بما لفظه: هل قد يكون المتعلق بشيخ من مشايخ الطريق (110) يترقى بواسطة شيخه من حيث لا يعلم المتعلق؟. فإن كان كذلك فما السبب في ذلك؟ هل هي المحبة للشيخ ولطريقه والميل إلى ما هو عليه من السيرة وشهود الكمال فيه؟ فإن كان كذلك فهل لهذا السبب من مُقَوٍّ ومعظم وما هو؟
فأجابه نفع الله به: نعم يترقى بنظره وبتعظيمه وحسن الظن فيه، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم وترقيه وانتفاعه بذلك أكثر من ترقيه بمجاهدته وأعماله فإذا اجتمعا في المريد كان أجدر بالترقي وأحرى بالانتفاع.
وأما الذي يقوى به ما ذكرتم فهو أن ينظر المريد فيما يؤكد اعتقاده وتعظيمه للشيخ من أعماله الصالحة وسيره المرضية.
وبالجملة فلا أنفع للمريد من انظوائه في الشيخ وكمال حسن الظن والإعتقاد فيه والقليل من التوجه والمجاهدة مع ذلك كثير. وبالعكس حكم العكس.
وفي بيان هذه المسألة على سبيل البسط طول. وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في رسالة المريد فتأملوه ففيه كفاية إن شاء الله.
(1/92)

(111) وسأله السيد الفاضل عبدالله بن محمد مساوى المقعد عن التعليم للصغار وغيرهم، وعن أشياء تظهر في الجواب.
فأجابه نفع الله به بقوله: أما التعليم للصغار وغيرهم فذلك مطلوب ومحبوب في الشرع، بشرط العلم والإخلاص لله تعالى. ومعنى العلم هنا أن تُعلِّم ما تعلَمْ وتسكت عما لا تعلم فإن الله لا يحب المتكلفين، وإثم المتكلم بما لا يعلم أعظم من إثم الساكت عما يعلم.
وأما المطالعة في الكتب الغزالية فذكرت أنك قد طالعت ما تيسر منها وإن في كتاب النصائح لنا كفاية.
فاعلم أن ذلك كذلك من بعض الوجوه وفي الكتب الغزالية نور وبركة ونفع وسر، ولها من التأثير ما ليس لغيرها فطالع منها مع النصائح ما تيسر، إما من الإحياء أو من الأربعين الأصل أو من منهاج العابدين والله يتولى هداك، ويأخذ منا ومنكم بمجامع القلوب إلى ما يحبه ويرضاه مع الخواتيم الحسنة، آمين.
وأما الزواج فلا بأس فيه وله فوائد ومنافع وفيه مؤن وأثقال فزن هذا بهذا وكن مع الأرجح. وأما كونه في الأشراف أو غيرهم:
فاعلم أن الجنس أطيب وأطهر وأوفق وما قدره الله وقضاه من ذلك، مما لا عبث فيه شرعاً ولا عرفاً. فما هو إلا حسن مليح.
وسأله الشيخ الصوفي عبدالله بن سعيد العمودي: عن حد الصدق والصادق، (112)
وحد الصديقية والصديق، وعن مسائل أخرى تظهر في الجواب.
فأجابه نفع الله به ورضي عنه وعنا به ومتع بحياته بقوله: فأما سؤالكم عن حد الصدق والصادق.
فاعلم أن الصدق حال شريف ويعبرون به عن اجتماع الباطن والظاهر على تحصيل الأمر المطلوب من طريقه على أكمل ما يمكن من وجوهه والصادق من قامت به هذه الحالة ولا بد أن يكون بين الصادقين في ذلك تفاوت من كامل وأكمل، إلى أن ينتهي الصادق إلى أوائل مراتب الصديقية وذلك نهاية.
(112) وأما سؤالكم عن حد الصديقية والصديق. فالصديق: هو المستجمع لجميع مراتب الصدق وأحوال الصديقين على الوجه الأتم الأمكن من غير تزلزل ولا تلون.
(1/93)

والصديق: من قامت به هذه الصفة ورسخت قدمه في هذه المرتبة وهو عبارة عن المؤمن الكامل في إيمانه ويقينه وإقباله على الله تعالى وعمله لله ودعوته إلى الله بلسان حاله ومقاله.
وأهل هذه المرتبة متفاوتون فيها من كامل وأكمل، إلى أن ينتهي الصديق إلى أوائل مراتب النبوة. فتلك نهاية الصديقية.
وهل بين النبوة والصديقية مرتبة أخرى؟
يتردد النظر في ذلك فذكر الشيخ العارف محمد بن عربي صاحب الفتوحات: أن بينهما مرتبة أخرى تدعى بمرتبة القربة. وله في ذلك مؤلف لطيف وقد رأيناه وقرئ علينا بتعز من بلاد اليمن، قرأه رجل من أهل العلم والتصوف يسمى يوسف الجاوي وهو من أصحابنا.
والذي نقول به: إنه ليس بين النبوة والصديقية مرتبة على انفرادها ولا مقام. وهذه المرتبة التي أشار إليها ابن عربي رحمه الله هي أعلى مقام في الصديقية، وهي من خصوصيات بعض أهل هذه المرتبة الشريفة كالخلة والكلام والروحية ونحوها في مقام النبوة والرسالة مخصوصة ببعض أهل هذه المرتبة الشريفة السامية وقد جمع الله كل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم فساد به جميع الأنبياء والمرسلين.
ويقول الشيخ ابن عربي: إن في هذه المرتبة التي هي مرتبة القربة الخضر ونحوه فإنه فوق الصديقين ودون الأنبياء ومن هو في مثل حاله كذي القرنين ومريم عليهم السلام.
والحق عندنا في ذلك ما ذكرناه وهو ظاهر في كلام حجة الإسلام وغيره من المحققين لمن تأمله ذكر ذلك في الأربعين الأصل وغيره. حتى إن الشيخ ابن عربي أشار إلى ما ذكر حجة الإسلام من ذلك وقال: إن هذه المرتبة يعني القربة قد تخفى حتى على بعض أكابر المحققين مثل الإمام الغزالي. فإنه لم يذكر مرتبة بين الصديقية والنبوة هذا ما ظهر لنا. والله أعلم.
وأما سؤالكم عن التمكين، وهل هو عام في المقامات؟ (114)
(1/94)

فنعم هو عام في جميعها، وقد يكون العبد من أهل التمكين في مقام دون مقام مثل: أن يكون متمكناً الإخلاص والزهد غير متمكن في مقام التوكل والمحبة. فإذا أعطي التمكين في جميع المقامات، فهو المتمكن حقاً.
والتمكين: عبارة عن كمال الثبات والرسوخ في المقام، حتى لا يتزلزل صاحبه ولا يتلون ولا تحكم عليه الأحوال ولا يتصرف فيه عموماً أو خصوصاً، على حسب ما تقدم من عموم التمكين وخصوصه.
(115) وأما سؤالكم عن أدنى يقين الصادق وأكثره، وعن أدنى يقين الصديق وأكثره.
فهذه مسألة لا يحسن السؤال عنها لان هؤلاء هم أهل كمال اليقين الصديق منهم والصادق. الغاية أن يقال: الصديق أتم يقيناً من الصادق وإن الصادقين يتفاوتون في اليقين على حسب تفاوتهم في الصدق. وكذلك الصديقون وإنما يسأل عن أدنى اليقين وأكمله في حق عامة المؤمنين.
وقد أشرنا إلى ذلك في أوائل رسالة المعاونة فانظروه هنالك، وإلى يقين الصديقين الإشارة بقول إمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله حيث يقول لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. فالغطاء لا بد منه في هذه الدار وهو عبارة عن حجاب ما، ولكنه قد يرق ويلطف جداً حتى يحسب بعض المكاشفين أنه لا غطاء ولا حجاب.
والحق أنه لا بد من الحجاب ما دام الإنسان في هذه الدار، لو لم يكن إلا وجود جسم المكاشف وقالبه البشري فهو من حجبه.
وأما سؤالكم هل في الصديقية روح للنفس في كل المقامات أو في شيء منها. (116)
فنعم لها روح وأنس ولكنه لا يسمى حظا، لأن النفس بأزاء ذلك الوصف الشريف.
والمرتبة المنيفة التي هي الصديقية لا تكون إلا نفساً مطمئنة قد فنيت حظوظها البشرية وانمحقت أغراضها الجسمانية فنعيمها في ذلك ومنه وبه يشبه نعيم أهل الجنة فيها، لا يشغل عن الله ولا يحجب عنه إن كان صاحبه بوصف أهل الفناء ويوصف أهل البقاء.
(1/95)

وتأمل تمام هذا المعنى في كلام ابن عطاء في أواخر الحكم حيث يقول فيها ينزلوا إلى سماء الحقوق أو إلى أرض الحظوظ إلى آخر ما ذكره هنالك.
وأما سؤالكم عن الإفراد هل هم خارجون عن دائرة القطب الغوث كما يقول (117)
ذلك بعضهم أو هم داخلون فيها؟
فاعلم أنا قد سُئلنا عن هذه المسألة قديماً وقد أجبنا عنها بما فيه كفاية بالنسبة إلى الزمان والمكان، ونقول الآن: إن لله في خلقه أسراراً خفية وخصوصيات وتصاريف لا يحيط بها غيره، وإن من أعطاه شيئاً من سره أو أطلعه على أمر من غيبه أو صرفه في شيء من ملكه فهو على ما أعطاه وقد تضيق مرآة بعضهم فيحسب أنه لا شيء وراءه، وقد تتسع فيعرف ويعلم أن الذي لديه قليل من كثير وصغير من كبير (ولا يحيطون بشيء من علمه إلام بما شاء). (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
والقطب الغوث: هو إمام الأولياء أهل الدائرة التصريف وهم المعدودون في الأخبار والآثار الواردة فيهم، فإن أطلع الله عبداً على أن له أولياء غير هؤلاء المعدودين فقد يكونوا من المعدودين كوشف بشيء من أسرارهم الخارجة عن أحكام الدوائر والتصريف فظن أنها رجال، وهي أسرار رجال من أهل الدوائر.
وإن كانوا رجالاً وصح له الكشف فيهم، سلمنا له ذلك إذا كان من أهله فإن أمر الله عظيم وملكه واسع وأسراره لا تحصر على حسب ما قدمناه، إلا أنا لا نسلم ذلك لكل قائل من أهل هذا الشأن حتى يكون عندنا هو صاحب المقام الجامع للمقامات وهو الإنسان الكامل أو من يقرب من مقامه مثل الإمامين والأربعة الأوتاد أو السبعة الأبدال.
وأما من كان من أهل الطريق وإن كان له ذوق وتحقيق، فقد تظهر منهم أمور وتفيض منهم كلمات تعد عند أهل التحقيق من التيهات والشطحات، وهم صادقون فيها بالنسبة إليهم ومعذورون لما غلب عليهم وقام بهم من الأمر الإلهي الذي لا يطاق ولا يستطاع منعه، إلا أن يقول القائل ما قال.
(1/96)

ولعل من هذا كلام الشيخ الصوفي أحمد باعبدالقادر الذي نقلته عنه إن كان هو القائل له وغير مسبوق إليه، وإن كان نقله عن غيره فذلك القائل من ذلك القبيل رحمهم الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأما ما أشرتم إليه في كتاب وصل منكم قريباً من أنكم فهمتم من جواب صدر منا إليكم وذكرنا فيه أن أهل الله ينقسمون على الجملة إلى ثلاثة أقسام، وأن في مقابلة كل قسم منها طائفة من الكاذبين يتشبهون بالصادقين وليسوا من الصدق وأهله في شيء فذلك صحيح.
وأما ما فهمته أنت وفهمه صاحبك فالكل من ذلك واسع، غير أن الكاذب الذي يقابل الصادق هو على ضد ما عليه الصادق في حقيقة الأمر، وإنما يلتبس الأمر بينهما من حيث الظاهر على من لا تحقيق عنده، ولا بصيرة ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأما قولكم في الفناء والبقاء إلخ.
فاعلم أن المعتبر في ذلك: ذوق هذه المعاني والتحقق بها دون مجرد العلم، فإنه قد يعلم بأحوال الفناء والبقاء من ليس من أهل الفناء ولا من أهل البقاء وقد يدخل عليه بسبب ذلك شيء من الدعوى من حيث عدم تفرقته بين الأمور العلمية والأمور الذوقية.
وأما قولكم: هل الفناء فناء وجود أو فناء شهود وكذلك البقاء.
فاعلم أن في ذلك تفصيلا فمن حيث بعض الأمور فناء وجود أو شهود وكذلك البقاء وفي بعض الأمور، يكون شهوداً فقط. والوجود على ما هو عليه.
وأكثر ما يكون الفناء وجوداً وشهوداً الصفات دون الذوات، وكذلك البقاء لأن الفاني قد يفنى عن الوجود والوجود باق على وجوده وإنا فني هو عن علمه به وشعوره له . وفي الأمر تفصيل يحتاج إلى تطويل فأمعن النظر فيما ذكرناه وأحسن التأمل فيه، يظهر لك المقصود ولو شيئاً فشيئاً.
(118) وأما ما ذكرت في الكتاب السابق: من وضعك التأليف وأن قصدك أن تذكر في بعض أبوابه من أخذت عنه من أهل هذا الشأن ، ثم إنك قد وصلت بهذا التأليف إلينا عندما وصلت للزيارة وقع منا النظر عليه.
(1/97)

فإذا كان من قصدك أن تذكر من أخذت عنه في ذلك الباب الذي رسمته من المؤلف فذلك من الصواب إن شاء الله. وإذا كان قصدك أن نذكر لك بعض من أخذنا عنه وبعض الأسانيد التي لن في الخرقة وغيرها.
فاعلم أنا قد لقينا وأخذنا عن خلق كثير، وجماعة يطول عددهم من السادة آل أبي علوي وغيرهم مم أدركناه بتريم وجهة حضرموت ونواحيها وممن لقياه في حال سفرنا إلى الحج بالحرمين الشريفين وباليمن.
والظاهر أنا لو عددناهم ربما يريد عددهم على المائة من بين عالم وعارف وأخ صالح.
وقد سئلنا مرات في أن نعدهم ونذكر شيئاً من مناقبهم فمنعتنا عن ذلك عوارض الزمان وقلة رغبة أهله في هذه الشأن وموانع أخر. وما كل عذر يتهيأ ذكره كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله، ولكنا نذكر لك من ذلك شيئاً يسيراً على سبيل الإجمال.
فاعلم أنا أخذنا العلم الظاهر عن جماعة من أهله واشتغلنا عليهم اشتغالاً معتبراً في أوقات صالحة لذلك ثم أخذنا علوم الطريقة عن جماعة من أهلها من ظاهر وخامل، وكانوا من البقايا في ذلك الزمان وقد صاروا إلى الله تعالى والدار الآخرة.
فمن أجلّهم أعني أهل الطريق السيد الصوفي المَلامَتيّ عقيل بن عبدالرحمن بن محمد بن عقيل السقاف باعلوي ترددنا عليه وأخذنا عنه ولبسنا منه الخرقة وذكر لي عند الإلباس أنه لم يلبس أحداً غيري.
ولقينا السيد القدوة العالم الجامع أبا بكر بن السيد القدوة عبدالرحمن بن شهاب، والسيد الصوفي عبدالرحمن بن شيخ مولى عيديد باعلوي، وولده السيد المجذوب العارف شيخ بن عبدالرحمن، والسيد المجذوب العارف عمر بن أحمد الهادي بن شهاب باعلوي، والسيد المجذوب الملامتي سهل بن محمد باحسن الحديلي باعلوي، والسيد الفاضل العارف المحقق الشيخ عمر بن عبدالرحمن العطاس صاحب حريضه اجتمعنا به مراراً وأخذنا عنه أخذاً تاما طريقة الذكر والمصافحة وإلباس الخرقة.
(1/98)

وأخذنا عن السيد المشهور العارف المذكور الشيخ محمد بن علوي باعلوي نزيل مكة المشرفة وذلك بالمكاتبة والمراسلة ولم نجتمع به ظاهراً، وقد لبسنا منه بالمكاتبة أيضاً رحم الله الجميع ونفعنا بهم وأعاد علينا من بركاتهم وأسرارهم وعلى كافة المسلمين.
وأما الإسناد فنذكر منه طرفاً قريباً ونبدأ بإسناد السيد محمد بن علوي فنقول: أخذنا البأس الخرقة عن السيد محمد بن علوي وأجازنا بها، وعن السيد العارف الشيخ عبدالله بن علي صاحب الوهط، وهو عن الشيخين الجليلين المحققين السيد شيخ بن عبدالله العيدروس صاحب (العقد النبوي) والسيد عمر بن عبدالله العيدروس المدفون بعدن.
فأما السيد شيخ فلبس من والده السيد الشيخ عبدالله بن شيخ.
وأخذ السيد عبدالله عن عمه الشيخ القطب الشهير أبي بكر بن الشيخ الأستاذ عبدالله بن أبي بكر العيدروس.
وأخذ السيد عمر عن والده السيد عبدالله، وأخذ عبدالله عن والده السيد علوي بن الشيخ عبدالله العيدروس.
وأخذ السيد علوي عن أخيه السيد الشيخ القطب أبي بكر بن عبدالله صاحب عدن فاجتمع إسناد السيد شيخ والسيد عمر إلى الشيخ أبي بكر على حسب ما ترى في هذا السياق إلى الشيخ أبي بكر.
وأما السيد العارف الشيخ عمر بن عبدالرحمن العطاس فأخذ عن السيد الشيخ الحسين بن الشيخ القطب المحقق أبي بكر بن سالم.
وأخذ الشيخ الحسين عن والده الشيخ أبي بكر.
وأخذ الشيخ أبوبكر عن السيد الشيخ عمر بن محمد باشيبان فيما سمعنا.
وأخذ السيد عمر باشيبان عن الشيخ القدوة السيد عبدالرحمن بن الشيخ الإمام الجامع علي بن أبي بكر .
وأما السيد الصوفي عقيل بن عبدالرحمن المتقدم ذكره، فأخذ عن والده السيد العارف عبدالرحمن بن محمد بن عقيل.
وأخذ السيد عبدالرحمن عن السيد العارف أوحد زمانه الشيخ أحمد بن علوي باجحدب.
واخذ السيد أحمد بن علوي عن السيد عمر بن محمد باشيبان المتقدم ذكره.
(1/99)

فأما سيدنا الشيخ أبوبكر بن عبدالله العيدروس صاحب عدن،فأخذ عن والده قطب العارفين عبدالله بن أبي بكر، وعن عمه الشيخ المحقق علي بن أبي بكر وأخذ الشيخان المذكوران عن والدهما الشيخ السكران أبي بكر بن الشيخ الأستاذ عبدالرحمن السقاف، وعن عمهما الشيخ الجامع عمر المحضار بن الشيخ عبدالرحمن.
وأما السيد عمر بن محمد باشيبان فقد قدمنا أنه أخذ عن الشيخ عبدالرحمن بن الشيخ علي والشيخ عبدالرحمن أخذ عن والده الشيخ علي وعن عمه الشيخ عبدالله بن أبي بكر العيدروس المتقدم ذكره فيمن أخذنا عنه.
وإذا أردت تمام هذه الأسانيد فانظر في (كتاب البرقة) لسيدنا الشيخ الأستاذ علي بن أبي بكر وهو كتاب ألفه في إلباس الخرقة وفي ذكر من أخذ عنه هذه الطريقة.
وانظر أيضاً في (الجزء اللطيف في التحكيم الشريف) الذي ألفه سيدنا الشيخ القطب أبوبكر بن عبدالله العيدروس فيمن أخذ عنه وفي ذكر أسانيدهم وألحق ذلك بما ذكرناه. واختصر إن شئت أو ابسط فإن للبسط مجالاً هنالك إن أردته لأنها خرق عديدة.
وهناك أسانيد كثيرة ترجع إلى سيدنا الأستاذ الأكبر الفقيه المقدم محمد بن علي علوي، وإلى سيدنا الأستاذ المعظم الشيخ محي الدين عبدالقادر بن أبي صالح الجيلي وإلى مشايخ آخرين مذكورين في التأليفين اللذين سمناهما: (كتاب البرقة) لسيدنا الشيخ علي بن أبي بكر، و(الجزء اللطيف) لسيدنا الشيخ أبي بكر بن عبدالله العيدروس.
فإن أردت الكتابين المذكورين فاطلبهما فإن وجدتهما عندكم بدوعن وإلا كتبت إلينا نرسلهما إليك، والله تعالى يأخذ بنواصينا إلى كل خير ويصلح منا النيات والمقاصد والسرائر والظواهر، وختم لنا بالحسنى والإحسان ولكم ولأحبابنا والمسلين.
(119) وسأله المذكور أيضاً بما لفظه: إذا قال قائل ذو ذوق وشهود، إن الأضداد تجمع على حال واحد في ملحظ شهود التوحيد فقلنا له:
(1/100)

نعم بشرط تأخذ الشريعة منك حقها والحقيقة حقها وتحكم بالعقل في المعقولات وبالنقل فيما يحتاج إليه. فهذا الجواب صحيح وتلك المقالة صحيحة أم يقال غير ذلك؟
فأجابه نفعنا الله به: أما السؤال الواقع أو المفروض وكذلك الجواب عليه فالسؤال قائم والجواب مطابق إلا قول المجيب فيه وتحكم بالعقل في المعقولات فإنه لا وجه له هناك يعتبر.
وأما قوله وبالنقل فهو داخل في قوله أن تأخذ الشريعة منك حقها، لان الشريعة هي المنقولات والحقيقة ثمرة العلم بها والعمل على السنن المشروع المسلوك. والله أعلم.
(120) وسأله الفقيه الفاضل عبدالله بن محمد بن عثمان العمودي عن قول الشيخ الأخضر لتلميذه الفقيه الصوفي عمر بن عبدالله بامخرمة وذلك مما ذكره مؤلف مناقب الشيخ الجليل معروف باجمال في خاتمتها: من أنه أعني الشيخ الأخضر قال لتمليذه من جملة كلام: وأجزتك في علوم لم يطلع عليها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلى آخر ما سأله عنه.
فأجابه نفعنا الله به:
اعلم أن هذا كلام صحيح من حيث المعنى ولا إشكال فيه، وأما صورته وظاهره فمستبشع ومستنكر وكثير من الأمور قد يكون كذلك فيحتاج أولاً في أمثال هذا إلى صحة إسناده عن القائل.
ثم إذا صح فينبغي النظر في حل إشكاله عند الحاجة الداعية إلى ذلك، وأنت تعلم ما قص الله عز وجل من قصة موسى والخضر في كتابه وموسى بلا شك أمكن وأفضل من الخضر عليهما السلام، على قول من يقول: بولاية الخضر وهم الأكثرون وعلى قول من يقول بنبوته أيضاً.
وقد انفرد الخضر بالإطلاع على علوم لم يطلع عليها موسى عليه السلام ولم يقتض ذلك أفضليته ولا أرجحيته على موسى.
فيكفيك هذا شاهداً والمراتب والمقامات غير العلوم المعارف.
وأنت تعلم أن بعض عبيد الملك من ملوك الدنيا قد يطلعه الملك على شيء من أسراره، التي لم يُطلع عليها عبداً آخر من عبيده.
(1/101)

ويكون هذا العبد الذي لم يطلعه على السر الذي أطلع عليه الآخر أرفع وأجل عند الملك من الآخر الذي أطلعه وهذا قد يكون كثيراً وله مقتضيات وحكم وأسرار. فانظروا الآن فيما ذكرتم فإنه يتضح لكم بما ذكرناه.
ويكون مثل ذلك حتى في أولاد الرجل الواحد وفي أصحابه وفي أخدامه. وقد يطلع بعضهم على بعض أسراره وغيره منهم أرفع وأكرم لديه من الذي يطلعه على هذا الأمر المخصوص.
فاجعلوا هذا دستوراً وسلماً لحل هذا الإشكال ولغيره مما في معناه ومما جرى مجراه، فإن الذي يطالع الكتب قد يقف على أشياء كثير من أمثال ما ذكرتم ومن أشباهه، واستعينوا بالله والله يتولى هداكم والسلام.
(121) وسأله المذكور أيضاً: عما سيتضح في الجواب.
فأجاب نفع الله به بقوله: فأما ما ذكرتم من وقوع المذاكرة من بعض الأصحاب في أبيات من التائية لنا التي فيها ذكر اليقين فذلك أمر واضح عند أهله ظاهر بأدنى تأمل لهم.
فقوله: عليك بتصحيح الأساس الذي هو اليقين. الأبيات.
فالمشار إليه أولاً فيها هو علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وهي كلمات متداولة بين القوم مذكورة في رسالة القشيري وغيرها.
وبقول الناظم: من صحة علم ا ليقين تتفرع صحة حقائق الإسلام. ومن صحة عين اليقين تتفرع صحة حقائق الإيمان. ومن صحة حق اليقين تتفرع صحة حقائق الإحسان.
وأما مقامات اليقين التسعة فهي المذكورة من قوله: وابدأ بتصحيح توبة، إلى قوله: مع الرضا بكل الذي يقتضيه في كل حالة فتلك هي التسع المقامات المنعوتة بمقامات اليقين.
وقد شرحها الشيخ أبو طالب المكي في كتاب القوت شرحاً طويلاً. وكذلك الإمام الغزالي في ربع المنجيات شرحها وشرح غيرها وذكرناها في آخر رسالة المعاونة. وشرحناها شرحاً مختصراً وكذلك في آخر النصائح الدينية ذكرناها هي وغيرها من ثمرات اليقين.
(1/102)

وأما ما ذكرتم في الكتاب الثاني من أنه أشكل عليكم شيء من المعنى في الجواب الصادر، عن قول الشيخ العارف عبدالرحمن باهرمز لصاحبه الفقيه عمر فذلك لا إشكال في ولا التباس.
وما توهمتم فيه من الإشكال بما أوردتموه لا يشكل عليه بوجه عند من يعرف الإجمالات والتفصيلات ويفرق بين الأمور المقيدة والأمور المطلقة وإن لم ينبه عليها عند كل ذكر لها، بما قد تقرر عنده من قواعد العلوم وإن منها كلي ومنها جزئي.
فاعلم أن قولنا: يجوز أن يطلع الله بعض المفضولين على شيء من أسراره، لا يطلع عليها من هو أفضل منه صحيح وواقع. وهذا لا يمنع عموم أقوالهم التي ذكرتم فإن الجائز غير الواقع أولاً.
والثاني: أن الواقع على الخصوص لا يغير في وجه الواقع على العموم وقصة الخضر مع موسى عليهما السلام كافية في الدلالة على ذلك فإن موسى أفضل من الخضر، وقد أطلعه الله من سره على أمور لم يطلع عليها موسى وأخبره تعالى أنه أعلم منه أعني بهذه الأسرار.
وأما أنه لا يصل إلى أهل الدائرة شيء إلا بعلم من القطب فذلك صحيح. أعني في الأسرار العامة. وما يتعلق بحكم ما أصدروا له من القيام بمصالح العالم. وكذلك قول من ذكرتم من الأقطاب لو تحركت ذرة الخ. فذلك أمر مقيد لأن ذلك لا يصلح على الإطلاق، والدوام إلا لله وحده لا شريك له.
فإذا سمعت شيئاً من أقوالهم يشبه ذلك فاعلم أنه مقيد ومخصوص وإن لم ينبه عليه قائله فقد عرف تقييده له من القواعد والأصول التي عليها المعول والإعتماد، ومثل ذلك كثير حتى في الكتاب والسنة، أعني أن أشياء مقيدة ترد مطلقة وبالعكس.
ولا يلتبس ذلك على المتسعين في العلم الراسخين فيه وقد التبس ذلك على بعض الضعفاء فزاغوا وضلوا عن سوء السبيل.
وأما قولكم: إن القطب يكون ملحظة حضرة اسمه الله وبه يسمى عبدالله الخ.
فذلك ذكره الشيخ ابن عربي وأطال فيه وهو صحيح عنده ومسلم له ولكن فيه تقييد وفيه تخصيص، وفيه شيء من الكلام المشكل.
(1/103)

والحاصل: أن النظر في حقائق علوم أهل هذه الطريق ودقائقها، لا يصح إلا لمن مهر في العلوم الظاهرة وتفنن فيها أولا، ثم راض نفسه وهذبها التهذيب الكامل، ثم حصلت له جذبة إلهية محقت منه البقايا البشرية التي لا يبلغها بالرياضة. وإلا لن لازم من نظر في دقائق علومهم وهو على غير ما وصفناه من الكمال أنه لا يخرج من إشكال، إلا ويقع في إشكال وقد يتحير فلا يدري ما يصنع وقد يكون أمراً آخر هو أشد من ذلك، فانظروا في علومهم الواضحة.
واذا ظهر لكم إشكال في شيء منها فكرروا النظر فيه، واعرضوه على القواعد والأصول تعرفوا منها أذلك مقيد أو مطلق عام هو، أو خاص كلي أو جزئي، واقع على الدوام، أو في بعض الأحوال.
وإذا قد ذكرنا لكم شيئاً فلا تعترضوا عليه بإشكال تستشكلونه أنتم وتقولون قالوا وقالوا، فأنا أعلم بما قالوا منكم وأعرف فاستمسكوا بما ذكرناه وتأملوه حقه، والله يفتح منا ومنكم بصر البصائر ويهدينا لما هو الحق عنده مما اختلف فيه ومن غيره. فإنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.
(122) وسئل نفع الله به عن قول الشيخ حسين بن عبدالله بافضل: وعليك بورد مختصر تقتصر عليه عند الضرورة ووسيط في وقت الحاجة وبسيط عند انشراح الصدر، وأقل المختصر الوجيز إمراره على البال إلى آخر ما ذكره السائل عنه وأشياء أخر تظهر في الجواب،
فأجاب نفع الله بقوله:
الحمد لله سألت عن قول الشيخ الصوفي حسين ابن الفقيه الإمام عبدالله بلحاج بافضل رحمه الله في الأوراد الخ، فمقصوده وحاصله أنه: ينبغي للإنسان المداومة على الأوراد والمحافظة عليها حسب الإمكان، وفي كل وقت على حسب ما يليق بذلك الوقت.
وقوله:ويكون لك ورد مختصر وورد وسيط وورد بسيط فذلك ظاهر ويختلف باختلاف الأوقات من الشغل والفراغ والمرض والصحة.
(1/104)

ومثال ذلك: ما ذكره الإمام الغزالي في البداية فيما يقال قبل طلوع الشمس فإنه ذكر أنه ينبغي أن يكون من الأوراد عشرة أذكار فذكرها، ثم قال: يقول كل واحد مائة أو سبعين أو عشر مرات وهو أقله، ولما ذكرها في الإحياء قال: أو يقولها ثلاثاً ثلاثاً فما ذلك إلا باختلاف الوقت والنشاط والفراغ.
وكذلك من الأذكار الواردة في السنة بعد الصلوات وعند الصباح والمساء وعند النوم وغيرها، يمكن الإنسان أن يجعل من ذلك بسيطاً ووسيطاً ووجيزاً إذا كان متسعاً في العلم بالوارد في السنة.
وأقل الأوراد إمرارها على البال عند الأشغال المهمة والأمراض الغالبة كما ذكروا مثل ذلك في صلاة المغلوب بالمرض.
وما قصد الشيخ من كلامه هذا إلا حث المريد على الإعتناء بالأوراد على أي وجه كان وأمكن.
(123) وسألت عن إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى من الوالدين والأقارب وغيرهم.
فاعلم أن إهداء ثواب الصدقات المالية إليهم من ماء وطعام ونحو ذلك مما ورد وصحت فيه الأخبار. وكذلك الاستغفار والدعاء لهم فإن الله ينفعهم بذلك ويصل إليهم بفضل الله من نور وسرور، وغير ذلك من أنواع الثواب.
وأما قراءة القرآن الكريم وإهداء ثواب ذلك إليهم فقد اختلفت العلماء في وصول ثوابه ورجح كثيرون منهم وصول ذلك إليهم، وحصول الإنتفاع لهم بذلك ونقلوا فيه آثاراً كثرة ومنامات صحيحة.
وأما الأخبار الواردة فيه فكلها ضعيفة فإذا كان هذا قراءة القرآن فيكون في مثل الصلاة والصيام، وإهداء ثواب ذلك إليهم أبعد.
فينبغي التصدق على الموتى والإكثار من الإستغفار لهم والدعاء والترحم عليهم ويجعل الإنسان بعض ثواب صدقاته لوالديه ونحوهم، ويستبقي الكثير أو الأكثر من ذلك لنفسه.
وللعلماء في هذه المسألة كلام كثير وتتشعب منه مسائل، وهذا حاصل القول فيها.
وأما ما سألت عنه من كلام الخطيب الأجلّ ابن نباتة من قوله: أعظم الله على (124)
(1/105)

المصيبة بطول الغفلة أجرنا، فأظنه مما لا وجه له إذ المصيبة بالغفلة قد يأثم عليها الإنسان ويعاقب، فضلاً عن أن يخلى ويترك، فكيف يثاب على ذلك ويؤجر؟
وفي كلام الخطيب رحمه الله مواضع كثرة من خطبه مما يشكل، خصوصاً في أوائل الخطب ومثل ذلك يقع في كلام العلماء، لأن الإنسان بشر يخطيء ويصيب وقد تضيق العبارة في بعض المواطن، سيما عند التعبير عن الأمور الدقيقة الغامضة.
وأما المصائب التي يؤجر عليها العبد فهي ما يصيبه في نفسه وماله وأقاربه من مرض وفاقة وموت ونقص، مهما صبر واحتسب.
وأما مصائب الدين فأكثرها معاصي يعاقب الإنسان عليها ويمقت لأنها إنما تقع في الغالب بمقصد العبد واختياره، ولو وقعت منه مصائب الدنيا بالقصد والإختيار لعوقب عليها.
مثال ذلك: لو جرح نفسه أو ولده باختياره أو تلف ماله كان على ذلك معاقباً ومأزوراً. وأما اسم المصيبة فقد يعم الدنيوية منها والدينية، لكن موضع الأجر منها ما وقع من الدنيويات بغير اختيار من العبد وصبر لله واحتسب.
وأما قول الله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقد ذكرت ذلك في سؤالك تستدل به، فقد ذكر الله ذلك حكاية عن أقوام لم يرض قولهم.
وذكر أهل التفسير أن المراد بالحسنة ها هنا: مثل الخصب والنصر والسيئة ضد ذلك من الجدب والهزيمة، ومثله قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
وأما قوله عز وجل: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) فإن للعلماء عن ذلك أجوبة من أحسنها قول بعضهم: إن بين الآيتين محذوفاً تقديره (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) يقولون: (ما أصابك من حسنة فمن الله) الأية، والحذف والإضمار في القرآن معروف.
(1/106)

هذا آخر الجواب، والله الهادي إلى الحق والصواب والله أعلم وأحكم. فانظر فيه وتأمله فإنه جامع بالغ وإن كان موجزاً مختصراً وخير الكلام ما قل ودل.
وسأله الشيخ الفاضل إدريس بن أحمد بن إدريس الصعدي المكي الشهير بالشماع (125)
عن إيمان المقلد.
فأجابه نفع الله به بقوله: وأما المسألة التي أومأت إليها من علم الإعتقاد والأصول.
فاعلم أن إيمان المقلد فيما نراه ونقوله إيمان صحيح لا يمترى في صحته، محصل له علم ومعرفة بأول هذا الدين وابتداء ظهوره، وما كان صلى الله عليه وسلم يقبله من أجلاف العرب وسكان البوادي منهم وهذا أمر واضح جلي وأما أنت وأمثالك فلسنا نرى أنك من التقليد بل أنت من أهل الإستبصار وممن شرح الله صدره للإيمان والإسلام.
وعندنا أن من قرأ القرآن وفهم فيه ولو بعض فهم، فهو من المؤمنين المستبصرين إذا أيقن وآمن بما بما فيه، لأن القرآن متواتر على القطع ومعجز على القطع، ولم يزل الحال كذلك من لدن رسول الله صلى الله عليه وسل إلى يومنا هذا. فكيف يكون مقلداً من كان إيمانه عن علم صح وثبت بالتواتر من غير نكير ولا منازع في ذلك بل يصح الإيمان مع الإستبصار بدون ذلك من العلم.
وأما ذكره السنوسي فحديث آخر. والرجل من علماء الكلام والمتعصبين عليه وكل يؤخذ من كلامه ويترك غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت الأئمة.
وإن أردت النظر في شيء من علوم الكلام، فلا تَعْدُ كتاب قواعد العقائد وهو الثاني من كتاب الإحياء، وعول على النظر منه في الفصل الأول وما ذكره في الفصل الثالث في الرسالة القدسية إن رأيت فيه مزيد طمأنينة وانشراح صدر إلا فدع النظر فيه. وكرر النظر فيما سواه.
وعلم الكلام إنما هو دواء لأهل الشكوك ومن انقدحت في نفسه شبهة فيأخذ منه عل قدر دائه، فإذا حصل الشفاء فليس للنظر فيه كثير فائدة ولا كثير منفعة.
(1/107)

وما ذكره الله في القرآن من ذلك غاية الكفاية، ونهاية النفع والفائدة ولست ترى هناك إلا الإجمال، وكذلك ما تراه في السنة وكلام السلف الصالح.
فعلم أن الإجمال من هذا العلم أنفع من التفصيل، إلا لأهل الشبه والإشكالات.
وقد ذكر الإمام الغزالي في كتاب قواعد العقائد ما أجملناه ها هنا، فانظر بحسب الحاجة وإلا فالإشتغال بعلوم الكتاب والسنة وإصلاح القلوب والأعمال أهم من ذلك، إذا قد صح المعتقد على نحو ما ذكرناه من قبل.
والذي أوردناه ها هنا كلام إجمالي، ففصله بفهمك وأحسن النظر والتأمل فيه والله تعالى يتولى هداك ويؤيدك بروح منه وإيانا. آمين.
وسأله الشيخ المنور عبدالله بن سعيد العمودي: عن المعرفة والمحبة ما الأفضل منهما؟ (126)
فأجابه نفع الله به: ما سألتم عنه من تفضيل المعرفة على المحبة، أو العكس فالذي نقول به: إن المعرفة أعلم وأوجب والمحبة أشرف وألطف والحال مثل ما ذكرتم أن المحبة من فروع المعرفة ومن نتائجها، فإنك لا تحب من لا تعرف وقد تعرف من لا تحب، ونقف عن تفضيل إحداهما على الأخرى فإن لكلٍ فضلا من وجه غير الوجه الذي منه فضيلة الأخرى.
وأما المعرفة التي تثمرها المحبة فتلك معرفة ولكنهم إنما يسمونها بالمشاهدة والمشاهدة غير المعرفة والمعرفة فقط تشعر بُبعد ما بخلاف المشاهدة.
وقد وقع بين أهل هذا الشأن في تفضيل المكاشفة على المشاهدة والعكس وبين الأخيرتين ما بين الأولين من العموم الخصوص والأصل والفرع فالمكاشفة أعم والمشاهدة أخص وقولنا فيهما كهو في الأولتين، والله أعلم.
(127) وسأله الفقيه الفاضل عبدالله بن محمد بن عثمان العمودي: عن طاعة الوالدين فيما يأمران به هل يجري ذلك في ما إذا أمرا بمباشرة أسباب الدنيا والتوسع في المباحات التي ربما أدت إلى المضرات؟
(1/108)

فأجابه نفع الله به ورضي عنه: ما سألتم عنه مما يجب على الولد من طاعة الوالدين. فذلك كذلك ولو أنهما أمراه بالتوسع في المباحات الدنيوية، والتلبس بأسباب الدنيا التي ربما تضر الإنسان في دينه أو تعرضه للوقوع في معصية ربه.
فالذي نراه ونقول به: إنه لا يطيعهما في ذلك ولكنه لا يشافهها، ولا يواجه بصريح الرد والمخالفة ولكنه يداريهما ويتلطف معهما لما يجب لهما من الحرمة ويتعين عليه من البر لهما والرفق بهما.
وإذا كان لا يطيعهما في معصية الله إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فتلك الأشياء المذكورة من مقدمات المعاصي ومن الوسائل إليها، وللوسائل حكم المقاصد ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
على أن مباحات هذا الزمان وأسبابه الدنيوية التي يقول فيها من لا رسوخ له في علوم الكتاب والسنة إنها مباحات قد صارت الآن محرمات وشبهات، بحكم غلبة التخليط واضطراب الديانة على أهل هذا الزمان، لا يمتري في ذلك من له بصيرة في الدين وقدم راسخة في علوم الكتاب والسنة من أهل اليقين والتقوى. فاعلم ذلك وتأمله تسعد وترشد إن شاء الله والأمر كله لله ولا حول ولا قوة إلا به وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وسأله الشيخ الصوفي عبدالله بن سعيد العمودي: عن ما إذا فعل الولي ما يبطل (128)
العدالة إلى آخر ما سأل عنه، مما سيتضح في الجواب.
فأجابه رضي الله عنه: ما سألتم عنه من أنه فعل الولي ما يبطل العدالة، أي من الذنوب الكبائر ولم يصر على ذلك، أي إنه تاب توبة معتبرة بشرائطها الباطنة والظاهرة، فهل يبقى على مقامه وحاله من الولاية؟
فاعلم أنك إن كنت تريد الولاية العامة الحاصلة لعامة المؤمنين، فاعلم أنه قد يكون ذلك وتدل ذلك أدلة كثيرة مستغنى عن ذكرها لشهرتها وظهورها.
(1/109)

وإن كنت تريد بالولاية الولاية الخاصة، التي يقال في صاحبها: إنه محفوظ عن المخالفات فاعلم أن الولاية على هذا الوجه أمر عظيم لا يمكن صاحبها أن ينهمك في المباحات والشهوات من الحلال فضلاً من الوقوع في صغائر الذنوب وإنما قالوا بجواز صدور أمثال ذلك عن الولي، احترازاً من مشاركة الأولياء للأنبياء في العصمة التي لا يجوز معها صدور الذنوب بحال.
واعلم أن الجائز غير الواقع وليس كل جائز بواقع. ولو فرض وقوع مثل ذلك عن الولي الخاص انحط به انحطاطاً عظيماً وربما سلب حاله ومقامه.
يدل على ذلك: أن بعض أهل هذه المقامات وقعت منهم أشياء من المباحات فحجبوا بها عن مقاماتهم وانحطوا بها عن درجاتهم كما يعرف ذلك من سبر سيرهم.
وقد أوضحنا هذه المسألة بسؤال بعض السائلين عن قريب من سؤالكم هذا وذلك في أوائل الفتاوى المجموعة مما سئلنا عنه، بجمع السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي.
فإن كانت عندكم فانظروا فيها، وإلا فما ذكرناه لكم في هذا الجواب المجمل يكفي ويغني.
والذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها أقذار وأدناس وأوساخ قد طهر الله منها أولياءه وحجزهم عنا ورفع أقدارهم عن أن تخطر لهم أو تميل إليها نفوسهم فضلا عن ملابستها والوقوع فيها. وإنما الذنوب التي يقع في كلام بعضهم أنه يقع في شيء منها، ذنوب في الطاعات وفي المقامات تعرض لهم فيسمونها ذنوباً على حسب درجاتهم الرفيعة وأقدارهم المنيفة، من حيث إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ولعلك وقفت على شيء من ذلك في كلام بعضهم عند اعترافهم بتقصيرهم وتواضعهم لربهم وسقوط أقدارهم عن مشاهداتهم.
فاعرف هذه الجملة فإنهما مهمة وقد يغلط فيها من لمن يحقق هذه العلوم وترسخ قدمه في مقامات أهل التحقيق وأين أين الثريا من الثرى! وأين أين المزابل من مجالس الملوك!!
خذ ما عرفت ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
والله يتولانا وإياكم بحسن ولايته. ويلحظنا دائماً بعين عنايته.
(1/110)

وسأله رضي الله عنه بعض الخواص في أثناء مكاتبته عما سيأتي. (129)
فأجابه فقال: وصل كتابكم المبارك الشامل للفنون من المعارف واللطائف، الشاهدة لكم باستقامة اللسان والجنان والجمع بين لطائف إيراد المعاني في قالب حسن البيان.
ومن جملة ما ضمنتموه كتابكم الإستشارة فيمن أذن له شيخ كامل، في أن يلبس الخرقة، فلم ير ذلك المأذون له أنه أهل لذلك، فهل له أن يلبس ثم أتبعتم ذلك بمسائل نفيسة تطلبون منا جواباً عليهم.
والحال أنّا نجيبكم في هذا الوقت الحاضر،على المهم منها، بجواب واضح وجيز ثم نسعفكم إن شاء الله من العام القابل بالجواب المبسوط المستوفي، لأن كتابكم لم يصل إلينا إلا قرب السفر ووافق في الوقت تفرقة، وعوارض صورية مؤثرة في عالمها التي هي مظهره.
إذا تقرر هذا، فلنشرع في الجواب الوجيز على المهمات من جملة المسائل فنقول: يجوز لمن أذن له الشيخ المعتبر أن يلبس الخرقة، وإن لم ير نفسه أهلا لذلك وعدم رؤيته الأهلية في نفسه زيادة في كماله، ويجبر ما يكون فيه نقص إن كان وعليه مراعاة الشروط التي اشترطها عليه شيخه في الإلباس وفي من يلتمس منه إن اشترط عليه شيئاً. وله أن يقيم من رأى أهليته لإلباس الغير ويتأكد عليه ذلك، أعني الإلباس والإقامة جدا، مهما خاف اندراس ذلك الطريق من تلك السلسلة.
وله أن يحكم لشيخه تأدباً معه، ويكون هو الواسطة بين الشيخ وبين اللابسين من يده.
وأما الذي يظهر لنا من كلام سيدنا القطب العارف أبي بكر بن عبدالله العيدروس علوي له تحكيمنا يعني والده أي أنه شيخنا المطلق المحقق الذي تحكيمنا منه وله وبه اقتدينا وانتظمنا في سلك طريقه، وليس كما ظهر للشيخ بحرق.
وأما لبس سيدنا المقدم من الشيخ أبي مدين فهو ليس من يده. والشيخ عبدالله الصالح وعبدالرحمن المغربي واسطتان بينهما. كذلك ذكر الأشياخ.
وأما قولكم: هل يجوز تعليم العلم لمن يخشى على نفسه الرياء في التعليم؟ (130)
(1/111)

فأقول: نعم يجوز له وربما تعين عليه في العلم العيني، يعني عند فقد من يقوم به وعليه مع ذلك أن يجاهد نفسه في ترك الرياء، والإتصاف بالإخلاص ويتوب ويستغفر من العوارض والخطرات التي تخطر له في ذلك.
ويود الشيطان اللعين لعنه الله: أن يترك المسلمون العلم والعمل والأمر والنهي بهذا التلبيس.
والغالب أن من يخشى الرياء لا يكون مرائياً. وأما المرائي المصر على الرياء فلا ثواب له وربما أثم مع فوات الثواب ولا يؤجر على التعليم ولا على الدلالة على الهدى والدعوة إلى الخير. إذ كل ذلك من التعليم.
نعم أرجو أن ينفعه الله بدعاء المتعلم واستغفاره إن دعا له واستغفر.
وقد اشبع الكلام في أحكام الرياء إمامنا وإمام أهل الإسلام سيدنا الغزالي في الإحياء في الكتاب الثامن من المهلكات. فتأملوه وضموا إليه النظر في كتاب الإخلاص السابع من المنجيات فهنالك الشفاء من كل داء.
(131) وأما قولكم في أجسام أهل الجنة وكلامهم: أيكون على المعهود من أجسامنا وكلامنا في هذه الدار؟ أو على وجه آخر؟
فأقول: نعم هو على المعهود من أجسامنا وكلامنا وطعامنا وشرابنا إلى آخر ما نتعاطاه، لا يجوز أن يعتقد غير ذلك على ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة من غير تأويل، إلا أن أجسام أهل الجنة تكون أعظم من هذه الأجسام كما ورد وتكون مدركاتها أوسع بكثير. حتى بلغنا أن الشخص من أهل الجنة ينظر ببصره إلى مسافة سبعين سنة من كل جهة، ولهم في النكاح والأكل وغيرهما اتساع عظيم يليق بذلك الموطن.
وأما من يعتقد أن أجسام أهل الجنة وكلامهم ولذاتهم، تكون من قبيل المعاني والمدركات الروحانية، فهو معتقد بمعتقد الفلاسفة. ذلك معتقدهم في هذا الأمر.
(1/112)

قال حجة الإسلام: جميع ما ورد في أمور الآخرة، يحمل على الظاهر المعهود من غير تأويل. وجميع صفات الله مما يوهم التشبه وينافي التنزيه فهو على المذهبين إما السكوت عن التأويل مع اعتقاد التنزيه وهو مذهب السلف. وإما الخوض في التأويل وحمل ما ورد على ماهو اللائق بجلال الله وقدسه، انتهى بمعناه ومذهبنا في ذلك مذهب السلف.
وأما قولكم في الأطفال:فأطفال المسلمين في الجنة. (132)
الذي نراه في أطفال المشركين، الوقوف وعدم الجزم بدخولهم الجنة أو النار، لإختلاف كثير وقع في شأنهم. لعله لا يخفاكم.
وحال أطفال المسلمين في الجنة على أكمل أحوال الطفولية وأتممها، إذ لا نقص في الجنة لأنهم كمثل البالغين العاملين، هذا ما ظهر لنا ولم أقف إلى الآن على شيء في ذلك.
وثواب أعمال أطفال المسلمين في صحائف آبائهم وهم في درجاتهم. وحيث لم يتأهل الآباء لذلك بسبب كفر أو نحوه. فيكون لمن فوقهم من الآباء كالجد وإن علا، أو القائم بتربية الطفل وتأديبه من قيِّم وسلطان عادل. إذ موجب الإستحقاق في جعل الثواب للآباء، أمران: أحدهما أمر الولادة. والثاني القيام بالتربية والتأديب.
وإذ أهدي للطفل شيء من قراءة ونحوها لحقه، فإما أن يكون زيادة له في حسن الوجه ونوره ونحو ذلك. أو يكون لمن ثواب أعماله له ممن تقدم وعائدة ذلك على الطفل.
وإذا أهدي ثواب شيء لإنسان حي صار إلى صحائف حسناته. وإن لم يتأهل المهدَى له حياً أو ميتاً للإهداء بسبب شرك ونحوه فيعود إلى المهدي كأنه لم يهده.
هذه الأمور التي ذكرناها منزعها الإجتهاد والرد إلى الأصول والقواعد وقل أن تجد في أمثال هذه الأشياء نصاً واضحاً من كتاب وسنة، وغاية ما تجد إن وجدت مقالاً لأحد من العلماء يكون مستنده ما ذكرناه من الإجتهاد.
(1/113)

(132) وأما قولكم في كلام الشيخ ابن الفارض في البيت من التائية وما في معناه من كلام جماعة من الطائفة الصوفية، ربما يوهم من القائل تفضيل نفسه أو غيره، من غير الأنبياء على الأنبياء عليهم السلام فغير خاف عليكم إن إجماع الأمة منعقد على تفضيل الأنبياء على غيرهم مطلقاً.
وهذه الطائفة أشد الناس تمسكاً بالحق وأعظمهم اتباعاً للكتاب والسنة. والذي ينسبهم إلى الإفراط والغلو أصدق من الذي ينسبهم إلى التفريط والإضاعة. وإن كانا أعني الناسبين مخطئين جميعاً فاعلم هذه الجملة حقها.
نعم فاضت على ألسنة رجال منهم من أرباب الأحوال الغالبة، كلمات توهم هذا الأمر الذي ذكرته وغيره، وهي محتملة للتأويل من وجوه كثيرة.
وأحسن وجوهه أن يحمل ذلك على الغلبة والإستغراق وسقوط التمييز وخروج الأمر عن الإختيار المنوط به التكليف.
ويكفي على ذلك شاهدًا من الحديث الصحيح، قوله عليه السلام: في مثل فرح الله المقدس بالتائب، وأنه كمثل الذي ضاعت راحلته حتى قال عليه السلام قال: من فرحه عند وجود راحلته بعد الإياس منها: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح. وهذا كفر صريح لو قاله معتقداً عن تمييز فلم يعدّ شيئًا لما غلب عليه من الفرح ما استولى على تمييزه.
والشواهد على ذلك كثيرة جدًا وهو أحسن المحامل لأهل الله في هذا الباب وهو واسع جدًا وإن قدر الله جوابًا أوسع من هذا، بسطنا الكلام على هذه المسالة فإنا بالأشواق والحاجة إلى ذلك وإن لم يقدر الله. ففي ما فتح به وأجراه في هذا المكتوب، تذكرة وتبصرة للنبيه واللبيب.
وأما البليد الأحمق والحاسد المنكر، فلا يزيد البيان فيهما إلا قساوة وجفاء هذا لحماقته لا يعقل وهذا لحسده وإنكاره لا يعترف ولا ينقاد. والتوفيق بيد الله.
(1/114)

(134) وسأله الشيخ الفاضل الفقيه الصوفي عبد الله بن محمد باعثمان العمودي عما وقع في كتاب لطائف المنن من انقسام الناس فيما إذا ظلموا إلى منتقم لنفسه وغير منتقم إلى أن ذكر القسم الرابع، وهم الطبقة العليا حتى قال: ومن هذا ما اتفق لإبراهيم بن أدهم.
ثم قال فقال الشيخ أبو العباس: ليس هذا عين الكمال، بل ما فعله الصحابي سعيد بن زيد أحد العشرة هو عين الكمال ادعت عليه امرأة الخ.
قال السائل: وظهر لي أن فعل إبراهيم بن أدهم هو عين الكمال. وفعل الصحابي عين الكمال أيضًا لأن الجناية مختلفة، إذ نسبت المرأة المرأة المذكورة أحد سادات الصحابة إلى الظلم على ملأ من الناس بين يدي أمير. فكان الكمال ما فعله رضي الله عنه ليظهر براءته وكذبها وأما الجاني على إبراهيم فقد جني على عضو منه مع جهلة بعين المجنى عليه هذا حاصل السؤال.
(135) وسأله أيضاً عن مسألة في الفناء ذكرها المصنف في كتابه المذكور، نقلا عن شيخه أبي العباس أيضاً ويظهر في الجواب.
فأجابه رضي الله عنه بقوله:وأما ما سألتم عنه وقد استشكلتموه هو ما وقع في كتاب لطائف المنن للشيخ ابن عطاء الله الشاذلي رحمه الله وقد ذكر شأن إبراهيم بن أدهم رحمه الله مع الذي ضرب رأسه فعفا عنه الواقعة.
وأن الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله يقول في ذلك: إن شأن سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أنه دعا على المرأة التي ادعت عليه، أنه اغتصب شيئاً من أرضها والرواية في ذلك مشهورة أكمل من حال إبراهيم في عفوه. فنعم الأمر كذلك والوجه منه على حسب ما قد فهمتموه وظهر لكم.
والحاصل أن فعل إبراهيم هو الأحسن والأولى على العموم والإطلاق، وبذلك جاءت أدلة الشريعة بالترغيب في العفو مطلقاً، حتى يعرض مثل ذلك العارض الذي وقع في شأن سعيد بن زيد وذلك قليل ومخصوص.
(1/115)

ووقع مثل ذلك أو قريباً منه لسعد بن أبي وقاص أحد العشرة أيضاً مع رجل من أهل الكوفة، قال فيه ما يقدح في دينه وأمانته رضي الله عنه فدعا عليه واستجيب له فيه، وكان مستجاب الدعوة، والوقائع في ذلك متعددة من الصحابة والتابعين ولكنها قليلة بالنسبة إلى ما روي في الصفح والعفو عن الأنبياء والأئمة وعباد الله الصالحين.
والوجه فيه ما قد ظهر لك، إن كان الواقع يرجع إلى نفس الإنسان ودنياه فالعفو فيه هو الوجه والأحسن.
وإن كان شيء يرجع إلى الدين وحرمات الله وما أشبه ذلك فالوجه فيه المؤاخذة، وقد روي ذلك عن رسول الله فالوجه فيه المؤاخذة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله، كما يعرف ذلك من تبحر في السنة النبوية.
وأما ما استكلتموه في الكتاب المذكور من قول المؤلف عن شيخه المذكور: أنه لا بد أن تبقى مع الولي في فنائه لطيفة علمية، عليها يترتب التكليف الإلهي فذلك كذلك ولكن ليس هو في كل فناء مطلقاً، بل يكون ذلك في أوائل الفناء وقبل استحكامه ويكون أيضاً في أواخر الفناء إذا شارف الإنسان حال البقاء.
وأما الفناء الذي يكون معه الإصطلام والإستغراق فليس يبقى معه شعور. ولكن هذا الفناء قلّ ما يدوم وليس هو بأفضل أحوال الفناء ولا يصح من الإنسان التعرض له، إلا إنه قد يقع من غير طلب له ولا قصد فيعذر من قام به من أهله.
وقد ذكر القشيري في الرسالة عن بعض المشايخ أنه دخل بيته في وقت مجاعة فرأى في البيت شيئاً من الطعام، فقال: يكون هذا في بيتي والناس بهذه الحال من الفاقة فغشى عليه واختلط عقله فلم يكن يعود إليه الشعور والتمييز إلا في أوقات الفرائض من الصلوات، ثم يعود إليه ذلك الحال فقال القشيري في شأن ذلك الشيخ: إن هذا من الحفظ الإلهي والذهاب في الله المحمود، هذا معنى الحكاية وحاصلها.
(1/116)

وجملة الأمر أن في الفناء أحوالاً فاضلة وليست بغالبة. وفيه أحوال تغلب وتستولي على العبد حتى يفنى عن نفسه أولاً ثم يفنى عن فنائه.
وليست هذه الأحوال بالأحوال الفاضلة على الإطلاق.والكلام في ذلك يطول.
وقد ذكر القشيري في الرسالة والسهروردي في العوارف من حال الفناء ما هو أبسط من هذا فانظروه وفيما ذكرنا كفاية لمن فيه كمال فطنة ونباهة مثلكم والله أعلم.
وذكرتم أنكم مشتاقون إلى الزيارة والإجتماع أنه يمنعكم من ذلك تعلق الوالدين وشجن يحصل عليهم بغيبتكم عنهم لاسيما الوالدة، فذلك عذر.
وقد أخر أويس القرني رحمه الله، عن الإجتماع برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحبة له قيامه على والدته براً بها وتعطفاً عليها. فكان ذلك مزيداً في فضله، من وجه غير الوجه الذي فضل به الأصحاب غيرهم.
والفضائل كثيرة ووجوهها متعددة. وفي الحديث: (ففيهما فجاهد) لمن استأذنه عليه الصلاة والسلام في الجهاد وفيه: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)، للذي قال له: أتيتك وتركت والديَّ يبكيان.
وفي الحديث أيضاً الذي ذكر له أمه فقال له: (الزم رجلها فثمَّ الجنة).
ومن الدين مهم وأهم وما يتمكن منه الحريص عليه مع البعد الجسماني. ومنه ما ليس كذلك، ومن علم وفهم واتقى وأحسن لم يخف عليه سبيل التفرقة بين المهمات والفضائل والأولى والأحسن، والله تعالى يشرح صدورنا وصدروكم للإسلام والإيمان ويجعلنا من المتحققين بالتقوى والإحسان لنفوز منه بمعيته ومحبته. (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح) إلى قوله تعالى: (والله يحب المحسنين).
(136) وسأله بعض أصحابه من السادة عن كلام للشيخ محيي الدين عبدالقادر الجيلاني نفع الله به. وهو قوله رضي الله عنه: كل طور بين الناسوت والملكوت فهو شريعة. وكل طور بين الملكوت والجبروت فهو حقيقة. وكل طور بين الجبروت واللاهوت فهو معرفة انتهى.
فأجابه رضي الله عنه:
(1/117)

اعلم أن الناسوت إشارة إلى عالم الإنسان الحسي والملكوت إشارة إلى عالم الغيب من الإنسان وغيره والطور الذي بينهما يسمى عالم الملك والشريعة من هذا العالم، لأنها عبارة عن القيام بالحق وإثبات الحركات والأسباب من حيث أثبتها الله تعالى.
والطور الذي بين الملكوت والجبروت حقيقة والملكوت هو كما تقدم : عالم الغيب والجبروت من ذلك العالم، غير أنها خصوصه والملكوت عمومة. والحقيقة عبارة عن شهود الأشياء كلها بالله ولله ذوقاً وكشفاً. والجبروت تقدم: أنه أخص من الملكوت. واللاهوت إشارة إلى السماء والصفات والذات الإلهية والمعرفة إشارة إلى المشاهدة له والمكاشفة بحقائقها.
فمن قام ظاهراً بالشريعة وتحقق باطنا بالحقيقة وشاهد بعده أنوار الأسماء والصفات والذات العلية، فهو الرجل الكامل.
فالشريعة إسلام وهي الإنقياد لله . والحقيقة إيمان ويقين وهي الإخلاص لله والمعرفة إحسان وهي الفناء بالله وفي الله.
وهذا بعض ما ظهر في الوقت من معنى هذا الكلام، مختصراً والعلم عند الله والله أعلم.
وسأله بعض الفضلاء من أهل المدينة الشريفة، عما ذكره الشيخ العارف بالله تعالى (137)
محمد بن عربي، في كتابه الفتوحات من التأويل لقوله عليه السلام، في حيث الدجال: (يوم كجمعة ويوم كشهر). الحديث.
يقول: أي الشيخ ابن عربي، في معنى ذلك: إن الغيوم تكثر في ذلك الزمان إلى أخر ما ذكره. وإن السائل استشكل تأويل الحديث بذلك.
فأجابه رضي الله عنه، ونفع به، بما لفظه بعد كلام سبق.
وذكرتم أن لكم عناية ورغبة في مطالعة كتب الشيخ العارف الصوفي محيي الدين محمد بن علي بن عربي وأنكم استشكلتم تأوليه الذي أول به معنى الحديث المذكور في مدة الدجال وخشيتم أن يكون ذلك مما دس على الشيخ في مؤلفاته، حيث قام عندكم الإشكال فيه.
(1/118)

فاعلموا أن المشكلات الواقعة في كتب الشيخ سيما الفصوص والفتوحات منها كثيرة. فإما أن تكون دست على الشيخ وإما أن تكون برزت منه في حين غلبة حال، واستيلاء سلطان حقيقة فيكون من الشطح الذي يعذر فيه من غلب عليه من أهله.
وإما أن يكون الشيخ أبداها، موريا بها عن أسرار ومعاني تدق عن العبارة فكانت القوالب والصور غير مستقيمة وهي لأرواح وحقائق صحيحة قويمة لا يعدو كلام الشيخ الذي أشكل أحد هذه الثلاثة المعاني إن شاء الله تعالى. والشيخ من أهل الأقدام الراسخة في العلوم والمعارف والتقوى لله والزهد في الدنيا.
فليس يسوغ لأحد يخشى الله يعلم من حال الشيخ ما ذكرناه، ثم يتهمه بزيغ عن الحق، كما وقع في ذلك بعض أهل الجرأة والإقدام على ما لا يجوز الإقدام عليه.
فإذا طالعتم كلام هذا الشيخ وعرض لكم ما تستشكلونه فسلموه ولا تبحثوا عنه، ولا تطلبوا لحل اشكاله التأويلات البعيدة فتحصلوا على التعب المجرد.
هذا ما نشير به عليكم وعلى كل من ينظر في كتب هذا الشيخ وكتب أمثاله من أرباب الحقيقة التي أبدوها في كتبهم. ومن لم يمتثل ويأخذ بما ذكرناه لم نأمن عليه من الوقوع في الغلط الأكبر أو الأصغر. والله تعالى يثبتنا وإياكم بالقول الثابت ويجعلنا ممن عرف الحق فلزمه وتمسك به، وعرف الباطل فاجتنبه واطرحه.
وتأملوا هذه الكلمات فإن تحتها تنبيهات مهمة يحتاج في إيرادها إلى تطويل يضيف عنه هذا المكتوب. وخير الكلام ما قل ودل.
(138) وسأله السيد أبوبكر بن علي بن إبراهيم البيتي عن قول الشيخ يحيى بن معاذ الرازي: أترك الدنيا كلها تجدها كلها وتركها في أخذها وأخذها في تركها.
فأجابه رضي الله عنه: هو كلام واضح وليس فيه أدنى غموض. ومعناه: أن من ترك الدنيا كلها زهدًا فيها، عوضه الله راحة في قلبه بترك الحرص والاهتمام وفي جسمه بترك السعي والطلب.
(1/119)

وقصد الإنسان العاقل من الدنيا في الدنيا أن يكون كذلك. ولطلبه وقصده يسعى الناس ويحرصون في ظواهرهم وبواطنهم ولكنهم يخطئون الطريق إلى ذلك فلا يظفر به منهم إلا الزاهدون. ويكاد يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن والرغبة فيها تكثر الهم والحزن).
وقد سُئِلَ بعض الحكماء عن الدنيا لمن؟ فقال: لمن تركها. وعن الآخرة لمن؟ فقال: لمن طلبها.
(139) وسأله السيد المذكور عن قوله سيدنا أبي بكر الصديق، في وصية لعمر رضي الله عنهما، حين أستخلفه على الناس: واعلم يا عمر أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل وعملاً بالليل لايقبله بالنهار.
فأجابه رضي الله عنه بقوله: هو واضح أيضًا لأن الأعمال تكون مؤقتة في الغالب فلا تُقبل إلا في أوقاتها. فإن تدوركت بالقضاء كان لها حكم آخر يحتاج إلى شرائط في قبولها. وكذلك من أعمال النهار ما بتعلق بالخلق وأكثر حوائج الناس إنما تكون بالنهار فإذا فوتها الإنسان في وقتها من غير عذر لم يتقبل ذلك منه.
وأما قوله: وإنها لا تقبل فريضة حتى تؤذي النافلة فذلك بيِّن، لأن الفرض حق لازم والنفل تطوع زائد. وأداء الحقوق مقدم على التبرعات في الحقوق الحقية والخلقية إلا أن في ذلك تفصيلاً هذا إجماله.
وسأله عن قوله عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس حفاة عراة غرلا)، أي غير مختونين. (140)
والحديث الآخر: (إن الأمة تحشر في أكفانها) وما وجه الجمع بينهما؟.
فأجابه أنه يؤخذ بالأصح من الحديثين أولاً فإن استويا في الصحة، فيكون الحشر في الأكفان مختصاً بهذه الأمة أو بخصوص منها. والأمة تأتي على معان كثيرة ولفظ الناس أعم من لفظ الأمة. وأظن أن حديث: يحشر الناس حفاة.... الخ أصح من الحديث الآخر، مع كونه عاماً.
وسأله عن قراءة سورة الإخلاص حال الختم: هل تقرأ ثلاثاً أو أربعاً أو واحدة. (141)
(1/120)

فأجابه رضي الله عنه: الوجه أنها إما أن تقرأ مرة واحدة، كغيرها من السور وإما أن تقرأ أربعاً، مرة لحقها من الختمة المتلوة وثلاثاً على رجاء أن تكون كختمة ثانية.
فإن يكن في الختمة الأولى المتلوة شيء من التقصير، كان في حسن الرجاء أن يكفر الله ذلك بهذه الختمة المرجوة. ويكون الذي يقرؤها هو القاريء لا غيره فذلك هو الأحسن والأصوب. أي ويستمع الباقون لقراءته ولا يقرءون معه.
وقد ورد وصح عنه عليه الصلاة والسلام أن قراءة قل هو الله أحد مرة تعدل ثلث القرآن فقراءتها ثلاثاً تعدل ختمة وهذا هو الذي نقول به. إما أن تقرأ مرة وإما أن تقرأ أربع مرات وأما ثلاثاً فقط فلا وجه له، والله أعلم.
(142) وسأله الفقيه عمر بن عبدالله بن العفيف الهجراني: عن قول الشيخ الصوفي حسن بن أحمد باشعيب في شرحه على قصيدة الشيخ العارف عبدالهادي السودي رحمه الله التي مطلعها: غُرَيب مُطِرَت بلادك، حيث يقول في شرحه عند ذكر التجريد: نعم المطية التجريد لو شرع في البروز عن الستة وترك العشرة وقطع الأربعة وتوجه إلى الواحد.
فأجابه رضي الله عنه بقوله: أما الواحد فهو الله تعالى. وأما قوله في الستة والعشرة والأربعة فهذه أشياء من الأعداد قصدها الشيخ، وأشار بها إلى أشياء يتجرد عنها السالك. وهي على الجملة من القواطع التي تكون أمامه أو العلائق التي تكون خلفه. ولا يمكن التخصيص لها إلا بالسماع من جهة الشارح لأنها كثيرة ولا يدري ما أراد منها. وعلى السالك الصادق أن يتجرد عن جميعها ويتوجه إلى الواحد الحق بمجموع باطنه وظاهره.
وأما قوله في شرحه على قوله من القصيدة: فارق العلائق. قال شيخنا وهو يقصد به الشيخ القطب أبا بكر بن سالم علوي بينك وبين الله عشرة حجب الناس تسعة، والنفس والشيطان. وكل مانع حجاب واحد. فهذا أمر يختلف فيه السالكون.
(1/121)

ولعل الشيخ قصد به المخاطب أو الحاضرين عنده، حال قوله ذلك خصوصاً فإن الناس مختلفون في ذلك اختلافاً كثيراً، حتى إن منهم من لا يكون له إلا حجاب واحد هو نفسه. ومنهم من يكون له سبعون حجاباً وأقل وأكثر فلا يستقيم الحكم على الكل فافهم ذلك. هذا ما ظهر لي والله أعلم.
وسأله الشيخ عبدالله بن سعيد العمودي: عن العارف هل ينكر شيئاً من حركات العباد؟ (143)
فأجابه رضي الله عنه: نعم ينكر منها ما أنكرته الشريعة المطهرة ويجب عليه ذلك كغيره من سائر المؤمنين والمسلمين،على وفق ما فصلته الشريعة وحققه العلماء في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما من حيث النظر إلى أفعال الله التي لا تذكر معها أفعال العباد، فليس ينكر العارف شيئاً منها حالاً ولا جوازاً وذلك عليه خصوصاً وعلى سائر المسلمين عموماً، لعلو مقامه وكمال حاله.
ومن لم يعرف المعروف الشرعي وينكر المنكر الشرعي، فقد عصى وأساء.وليس له قدم في شريعة ولا حقيقة. والفاني المستغرق الذي يكون مستوفي الباطن والظاهر بوارده له في ذلك حكم الذين رفع عنهم القلم من النائم ونحوه إلى أن يفيق ويرجع إلى تمييزه واحساسه.
فإياك أن تميل إلى قول من غلط وشطح. فإن بعض ذلك منهم أمر شنيع يكاد يقارب الزندقة والخروج من الدين.
(145) وسأله الفقيه الفاضل: عبدالله بن محمد بن عثمان العمودي: عن كلام أشكل عليه وهو قول بعضهم: لا تكمل المعرفة للكامل حتى يعلم ماله وما منه وما فيه وما عليه ويقوم بذلك، ويعلم ما قد كان قبل التكوين وما لم يكن، وما سيكون قبل تكوينه وبعده، وما لم يكن لو كان كيف يكون ومتى كل ذلك يكون انتهى.
قال السائل: فجعل العلم بذلك من كمال المعرفة.
والذي وقع عندي أن المعرفة التي تصح أن تطلق على صاحبها اسم العارف: أن يعلم ما يجب لله سبحانه وتعالى وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه لا عن دليل وبرهان. بل من طريق الكشف والمشاهدة.
(1/122)

وأما ما ذكره من قوله: حتى يعلم ماله الخ، فهو من باب الإطلاع على بعض المغيبات وليس من شرط المعرفة.
وأما ما ذكره من قوله: ويعلم ما قد كان إلى آخره. فإنه وقع عندي في ذلك إشكال جداً لأن ذلك لا يكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى وبتقدير وقوع شيء من العلم بشي من ذلك لبعض من اختصهم الله بأسراره، لا يكون ذلك شرطاً للمعرفة ولا لكمالها انتهى مقصود السؤال.
فأجابه رضي الله تعالى عنه ونفعنا به بقوله: وأما ما وقفت عليه من قول بعضهم لا تكمل المعرفة للكامل الخ. وإن ذلك قد أشكل عليكم فالحال أنه مشكل.
فإن كان القائل له ليس من الأئمة المعتمدين في هذا الشأن فكلامه ذلك رد عليه، لما فيه من الإشكالات والأغاليط غير الواقعة ولا الجائزة.
وإن كان عن أحد من الأئمة الجامعين فيحمل ذلك منه على الشطح والغلبة أو على ضرب من التجوز وإقامة بعضيات الأمور وجزئياتها مقام جملها وكلياتها وذلك قد يجري في كلامهم خصوصاً في كلام العرب عموماً، كما يعرف ذلك من له إمعان وتوسع في خصوص ذلك وعمومه.
والكلام الذي ذكرتموه في تعريف حال العارف كلام مليح مقنع. فتأملوا ما ذكرناه فإنه كلام مجمل وتحته تفاصيل تظهر بالتأمل الدقيق. والله أعلم.
(145) وسأله بعض المحبين فيمن يرى بعض الأولياء في المنام، ثم احتجب عنه ذلك هل ذلك لخلل في الرائي أم لسبب آخر؟ وما الذي يتدارك به ذلك الخلل ونحوه من العلاجات النافعة.
فأجابه نفع الله به: سألتم عن رجل كان يرى في المنام بعض الصالحين رحمهم الله ونفعنا وإياكم بهم. ثم انقطع عليه ذلك.
فاعلم أن الرؤيا من المبشرات كما في الحديث. وهي أيضاً من المنذرات الواعظات لمن اتعظ بها ونفعت فيه النذر.
فإذا كان يرى الإنسان ثم انقطع عنه ذلك فيدل على أنه نزلت درجته عن درجة من يبشر وينذر فينبغي له أن يتوب ويكثر من الإستغفار، ومن الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام.
(1/123)

فقد قال بعض العارفين: من أنفع الأذكار لأهل هذا الزمان بالخصوص: الإكثار من الإستغفار ومن الصلاة والسلام على النبي المختار صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين.
هذا ما ظهر للفقير من الجواب في هذا الحين الذي قد تشوشت فيه القلوب وتفاحشت فيه الذنوب والعيوب. فنستغفر الله لنا ولكم علام الغيوب.
وسأله بعض طلبة العلم: عن قول الشيخ العارف أحمد بن عبدالله بن أبي الخيار رحمه الله: (146)
محط حرف الزاي، وحضرة الدال حرف الكمال، والعز والفخار.
فأجابه رضي الله عنه بقوله:
بسم الله الفتاح العليم والحمد لله الجواد الكريم وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم.
هذه المسألة من علوم الإشارة والتعبير عنها بصريح العبارة، لا يزيدها إلا غموضاً حتى أنه لو عبر عنها المشير نفسه لم يكن الأمر إلا كذلك.
وإن كان المشير بها من أهل الحقيقة والتحقيق الجامعين بين العلم وسلوك الطريق، فليتبرك بسماع كلامه ويعتقد الحق والصدق فيه، يحصل له بذلك الإنتفاع. وإن لم يفهم ما أشار إليه وأومى له.
ومثل هذا وقع كثيراً في كلام أهل الحق وفي كلام غيرهم أيضاً. وفي التسليم السلامة والخير كله في التحقق بالتقوى ولزوم الإستقامة والله أعلم.
(147) وسأله أيضاً عن طلب العلوم النافعة: بأي شيء يكون صادقاً في طلبه ومحسناً فيه؟ أذلك بكثرة قراءة الكتب؟ أو و الإجتماع بالعلماء؟ أو بحسن الفهم والذكاء.
فأجابه أمتع الله به: بكل ذلك يكون صادقاً ومحسناً، بعد أن يكون على نية صالحة في طلب العلوم والإخلاص لله في ذلك، وقصد الإنتفاع والنفع.
ومن اجتمعت له في طلبه هذه الأسباب، كان طالباً نجيباً، يرجى له الفتح والتحصيل لما طلبه على وجهه.
ومن لم تجتمع له وكان حسن النية مخلصاً لله، كان له بطلبه نصيب. (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون).
(1/124)

(148) وسأله أيضاً عن الدعاء المستجاب: ما علامته. وعما سيتضح في الجواب.
فأجابه رضي الله عنه، ونفعني به بقوله: فليعلم أولاً أن كل دعاء يدعو به المؤمن المنيب المقبل على الله، مستجاب. غير أنه قد يعجل وقد يؤجل، وقد يعطيه الله بدل دعائه الذي دعاه به ما هو خير له منه نظراً من الله لعبده واختيارا. وعلى ذلك دلت الآيات والأخبار والآثار.
ثم إنهم ذكروا من علامات الإستجابة: قشعريرة يجدها الداعي، وبرودة في القلب عند طلب ما دعا به.
وأما من يستجاب له ومن لا يستجاب له لموانع وعوارض، قد تعرض له فمن ذلك أكل الحرام ولبسه والإصرار على ظلم العباد، والدعاء مع الغفلة عن الله، لقوله عليه السلام: (واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل). ومنها أن يكون قاطعاً لأرحامه مشاحناً لبعض إخوانه المؤمنين وهاجراً لهم بغير حق.
وأما سؤال السائل عمن سأل ربه في حاجات، فرأى الإجابة في بعضها: هل يدل ذلك على حصول الإجابة في الجميع؟.
نعم يدل ذلك على ذلك، من حيث الرجاء وسعة الجود الإلهي وحسن الظن بالله. وقد لا يدل لبعض أمور قد تقوم بالسائل أو بما سأل فيه. هذا ما ظهر من وجه الجواب في الوقت الحاضر، والله أعلم.
وهذه المسائل تحتاج إلى بسط لأنها مسائل مجملة، إذا فُصَّلَ فيها امتد وطال وخير الكلام ما قل ودل. والله المستعان.
(149) وسأله عما يتعلق بجلسة الإستراحة وقد أجاب عنها جماعة من العلماء رحمهم الله قال: والذي مال إليه الخاطر ممن أجاب عنها منهم ما أجاب به الشيخ أحمد بن عمر الحبيشي والسيد محمد البرزنجي لأنه أبعد عن الحرج والإستقصاء المكروه، في أكثر الأمور.
وليعلم السائل أن جلسة الإستراحة قد اختلف العلماء الأوائل في كونها سنة أم لا والذي يقولك إنها غير سنة يقول إنما فعلما رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر عهده حين ثقل جسمه وعسر عليه القيام من السجود.
(1/125)

ثم إن القائل بها يقول هي جلسة مختطفة، بقدر سبحان الله، حتى إن بعضهم يقول يطيل التكبير على اللام التالية مخففة من حين يرتفع من السجود إلى القيام منه. ولم يعَد ذلك تطويلاً لخفة هذه الجلسة.
فإذا كان الأمر كذلك فما عاد ينبغي للإنسان أن يطيل النظر بمثل تلك الوسوسة، ببطلان الصلاة وعدمه ومراعاة الخلاف إن كان ونحو ذلك.
وقد قال عليه السلام: (هلك المتنطعون). قالها ثلاثاً وليصرف المصلي معظم نظره وغاية اهتمامه، إلى حضور قلبه في صلاته وخشوعه لله فيها وتفريغ صدره عن وساوس الدنيا وأفكارها التي تستغرقه في صلاته وتصده عن الحضور والخشوع فيها، والله أعلم.
وسئل عما سيتضح في الجواب. (150)
فأجاب بقوله:
وأما ما سألتم عنه من وجه إهداء ثواب الصدقة من الأموال إلى الأموات من الوالدين وغيرهما فذلك مما ينبغي. وقد ورد به الحديث. وهو أن يقول الإنسان بعد الصلاة على الرسول اللهم اجعل ثواب ذلك. ويسميه إلى روح فلان فقط. أو فلان وفلان.
وأما القراءة فقد اختلف العلماء في وصولها ثوابها إلى الموتى.
والظاهر أن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله المنع وفي مذهب غيره كذلك. وقال بعض أصحابه: بوصول ذلك فليقل الإنسان: اللهم اجعل ثواب ما قرأت من الحزب الفلاني أو السورة الفلانية إلى روح فلان من والد وغيره.
وليكن ذلك في بعض ما يتصدق به وبعض ما يقرؤه من القرآن. وليدخر جل ذلك ومعظمه لنفسه. هذا هو الوجه عندنا والذي يدل عليه كلام العلماء في المسألة. وأما ما يقرؤه بالأجرة فيهب ثواب جميعه لمستأجره.
وأما ما سمعتموه من قول من يقول: واجعل مثل ثواب ذلك في صحائفنا فذلك دعاء يستجاب أو لا يستجاب.
وأما قول الملَك: آمين ولك بمثل ذلك فذلك خاص بدعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب فلا يقاس عليه غيره. والعامة يخطئون ويصيبون والخطأ في أقوالهم وأفعالهم أكثر من الصواب فيها. هذا ما نراه ونأخذ به. والله ورسوله أعلم.
(1/126)

(150) وسئل عن قول الصوفيه: نور العقل ونور العلم ونور الحق فهل هذه الأنوار أرواح مختلفة تحل في القلب أو لا شيء إلا نور العقل، ويكون هو كالمرآة ينتقش فيه أنوار العلوم والمعارف والواردات ويكون هو أصل الكل كناظر العين تنتقش فيه الأجرام فيفيد الناظر العلم بها.أفيدوا المشجون عن هذا السر المصون. انتهى كلام السائل على ما يتعلق بسؤاله.
فأجاب رضي الله عنه بقوله:
الحمد لله وقفنا على السؤال المبارك، وهو دال من سائله على النجابة والتعطش لمعرفة الصواب والإصابة والإجابة والإستجابة، فيعلم السائل وفقه الله: أن تعدد الأنوار غير مستغرب وقوعه كثيراً من كلام أهل التصوف وغيرهم وإيجادها كذلك.
والحاصل أن بين هذه الثلاثة المذكور تغاير ما يقتضي التعدد، وارتفاع بعضها على بعض. كما تقول: نور البصر ونور البصيرة ونور السريرة، فيظهر التعدد التغاير. وفي نحو هذا المثال يقول القائل: السريرة هي البصيرة أو بينهما تغاير. فنقول: بينهما عموم وخصوص فالسريرة أعم والبصيرة أخص.
ويطول الكلام في مثل ذلك. فقد ألف الإمام حجة الإسلام كتاباً سماه: (مشكاة الأنوار) ذكر فيه الأنوار ومراتبها وأشياء كثيرة دقيقة من علوم الحق والحقيقة. والله أعلم وأحكم.
وسئل عما سيتضح في الجواب. (152)
فأجاب:
سألتم ـ أصلح الله شأنكم ـ عما وقع في حزب النور لسيدنا الإمام العارف أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه: من ذكره السبعين والثمانية في مساق السؤال أولاً ثم في الإستعاذة ثانياً.
فالسبعون والثمانية المتوسل بها غير السبعين والثمانية المستعاذ منها لا محالة ثم إن للتأويل في الموضعين مجالاً رحباً. فيصح أن يكون العدد المذكور في محل السؤال من الأنبياء أو من الملائكة أو من أسماء الله الحسنى، إلى غير ذلك.
ويجوز أن يكون العدد المذكور في الإستعاذة من أخلاق النفس الأمارة. أو من الآفات الطارئة أو من الشياطين، إلى غير ذلك.
(1/127)

ونقول: ينبغي أن يكون قصد الداعي به على نية الشيخ صاحب الحزب وقصد مراده الذي أراه. وذلك أوسع وأتم لأن الشيخ من العارفين الأمناء أرباب العلوم اللدنية. والله أعلم.
(153) وسئل أيضاً كيف ينبغي أن يقرأ ويرتب أحزاب سيدنا الشيخ أبي الحسن المذكور؟
فأجاب ـ أمتع الله به ـ بقوله:
اعلم أنه ذكر بعض العارفين في حزب البحر: أنه ينبغي أن يرتب بعد كل صلاة.
وذكر بعضهم وأظنه ابن بنت الميلق وهو من مشايخ الشاذلية الجامعين: إنه ينبغي أن يقرأ حزب البر بعد صلاة الصبح. وهو الحزب الكبير للشيخ أبي الحسن وسماه الكيمياء الأكبر. وحزب النور بعد الظهر وحزب البحر بعد العصر وحزب التوحيد بعد المغرب وكلها للشيخ أبي الحسن. وحزب الحمد والشكر بعد العشاء وهو للشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ ووارثه.
نعم وينبغي أن يقرأ على أكمل الأحوال من الطهارة والإستقبال والخشوع وحضور القلب مع الله. فبذلك يحصل المقصود من الإنتفاع وتنوير القلب. وأيضاً فيقدم عليها ما ورد بعد الصلوات عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الآيات والأذكار والدعوات. فذلك ذكره المعتنون بهذا الشأن.
والسر: في صدق التوجه وعلو الهمة وصفاء القصد.
وسئل عما سيتضح. (154)
فأجاب: أما ما سألتم عنه من حال الثلاثة الذين جاءوا إلى حلقة الذكر فوجد أحدهم موضعاً فدخل فيها وجلس الثاني خلفه وأعرض الثالث.
وظاهر الحال أن الأول: محمود مستحسن الحال.
والثاني: غير بعيد منه لأن حياء الرب من عبده من وصف الكرم ولا ذمَّ معه.
والثالث الذي أعرض: مذموم منه الإعراض وقد ينتهي ذلك إلى الإثم، إن اقترن كبرا واستخفافا بالذكر وأهله.
فأما إن كان ذلك عن غفلة أو تساهل بالخير فما فوَّته على نفسه من ذكر الله له وثنائه وثوابه كافيه.
(1/128)

وأما حِلَق القرآن العظيم وكذا العلم النافع في الدين. فنعم هي من حِلَق الذكر بالمعنى الأعظم لأن كل مطيع لله مشغول بما يقرب إليه مريدا بذلك وجهه تعالى والدار الآخرة فهو من الذاكرين له تعالى. كذلك ذكر العلماء مثل الإمام النووي في الأذكار وغيره منهم.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سُلامَى من الناس صدقة) الحديث. فتلك صدقة ترجع إلى الشكر وحسن القيام به.
والظاهر لا إثم على من ترك ذلك ولكنه ينسب إلى الغفلة، ويصف بالتقصير عن الشكر لله تعالى ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في بعض طرق الحديث فمن فعل ذلك فقد زحزح نفسه عن النار وفي بعضها: ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى. وكل ذلك من الفضائل وفعل الخير الذي يقدم العبد لنفسه ويتقرب به إلى ربه لأن الخصال المذكورة في ذلك الحديث كلها من النوافل المقربة إلى الله. كما قال عليه السلام: فمن سبح لله وفعل وفعل وذكر أشياء من الخيرات المقربة إليه سبحانه عز وجل.
وأما قوله عليه السلام: (ابغوني في الضعفاء).
فهم المساكين والمستضعفون من صالحي المؤمنين وكان رسول صلى الله عليه وسلم يحبهم ويجلس معهم. ويقول:إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم وفيهم نزل قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الآية. وقوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعوهم ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الآية.
وفي صدر سورة عبس ما ينبه على ذلك وشرح الحال فيه هذا ما ظهر في الوقت الحاضر وهو يدل عليه أقوال العلماء رحمهم الله. والله ورسوله أعلم.
وسئل عن قوله عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله وبحمده عدد خلقه) إلى آخر الكلمات: (155)
هل يحصل من الثواب مثل ذلك، لمن قال في التكبير والتهليل كذلك.
(1/129)

فأجاب رضي الله عنه: المنصوص عنه عليه الصلاة والسلام لا يقاس بغيره. ولكن إن فعل ذلك عبد مخلص على وجه الرجاء ففضل الله واسع ولا بأس بذلك إن حصل الثواب الموعود على الأول. وإلا فلا يخلو ما قيس عليه من ثواب وأجر. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. والسلام.
وسأله بعض المحبين عن هذا المذكور. (156)
فأجاب رضي الله عنه: سألت عن الخبر والأثر عن كل آية أن لها ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً. والمطلع التشديد، هو المرتقي.
وللعلماء في ذلك كلام طويل أشار إليه الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء وفي الأربعين وأبو طالب المكي وصاحب العوارف فيما أظن وغيرهم. والكلام يطول في ذلك. والسؤال عنه غير مهم؛ لأن الكلام في الظاهر والباطن والحد والمطلع أكثره يرجع إلى العلوم الظاهرة.
وأما السؤال عن الذكر والدعاء الذي يقال عند التهجد، فنحن نفعله بعد الركعتين الخفيفتين وهو أحسن الأوقات له. وهو غير الذكر والدعاء الذي يقال عند الإستقياظ، ومسح الوجه ورفع الرأس إلى السماء، فأنا أقوله عند الإستيقاظ وقبل الوضوء.
وقد رأينا صاحب تحفة المتعبد ذكر الدعاء الذي أوله: اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض إلخ في أدعية الإفتتاح، فلا وجه لذلك فيما يرى فليكن بعد الركعتين الخفيفتين.
وأما السور التي وردت قراءتها كل ليلة. مثل يس والجن والدخان والملك والواقعة فإن قرئت من أول الليل كان أمثل. وإن منع من ذلك عذر فيكون عند الإستقاظ. وعلى مثل ذلك نعمل إذا حصل العذر من سرعة نوم أوعذر آخر.
هذا ما نقوله في جواب هذه الأسئلة ونرى في الحال. والله ورسوله أعلم.
(157) وسأله عمر بن سالم باحميد عن هذا المذكور.
(1/130)

فأجابه نفع الله به بقوله: أما ما سألت عنه من أنهم يعجلون صلاة المغرب في هذا الشهر المبارك رمضان ويخشى الإنسان أنه إن أفطر على أكثر من الماء من نحو التمر يحتاج إلى مضمضة ومبالغة فيها، لإزالة أثره. فربما يفوته بسبب ذلك التكبير للإحرام أو أكثر منه.
فأما تعجيل وتقديمه على صلاة المغرب. فإنه السنة التي عليها العمل سلفاً وخلفاً ويحصل ذلك بالماء سيما إذا خاف الإنسان من فوات مثل ما ذكرت بسبب ما ذكرت.
وأما الفطر بالتمر ونحوه فتلك سنة أخرى. فإن تأخرت إلى بعد الصلاة بسبب ذلك العذر فالأمر قريب.والعمل عندنا على الفطر بالتمر ثم بالماء بعده، ثم الصلاة مع إعطاء كل شيء من ذلك ما هو من حقه.
وأما ما سألت عنه من قول بعض العامة، عند سماعة لقول المؤذن آخر الآذان: لا إله إلا الله. (158)
فيقول السامع المجيب: نعم لا إله إلا الله، وأنك استحسنت ذلك. فهل ورد فيه شيء؟
فاعلم أنّا لم نسمع فيه من حيث الوارد بذكر، واتباع السنة هو الأحسن والأفضل. والعادات وإن استحسنت فلا عمل عليها مع خلافها للواردات من السنة.
وسألت عن قول الخطيب في الإستسقاء، حيث ذكر الثمار والزروع وادفع عنها كثر العاهات وكأنك توهمت أنه يدفع الكثير. فبقي البعض من العاهات، ولا سيما الكلمة ليس كما توهمت وإنما مجاز كلامه وادفع عنها العاهات الكثيرة. وقصد بالتكثير التكثير للعاهات لا التبعيض. ولكنه أخر العاهات وقدم كثيراً لموافقة السجع الذي هو أوقع في النفس سيما في الوعظيات. ولو قال: العاهات ولم يقل كثيراً ولا قليلاً كما قال في غيرها لكان مليحاً لكن هذا أملح من حيث الفصاحة والإيقاع. وله في بعض خطب رمضان قضيب فيك كثير الحاجات، يعني الحاجات الكثيرة فتأمله فإنه واضح.
(158) وسئل عما سيذكر في الجواب.
(1/131)

فأجاب بقوله رضي الله عنه: أما ما سألتم عنه من شأن المعاصي التي تقع من أهلها في شهر رمضان مع أن الشياطين مصفدون. فاعلم أنه ورد في بعض الأحاديث أن التصفيد خاص بالمردة منهم فإذا كان الحال كذلك فلا إشكال.
وإن كان عاماً فيهم فذلك من النفس؛ لأن النفس الأمارة بالسوء تعصي بمجردها وخصوصاً في بعض الأحوال وفي بعض الأمور المشتهاة لها. وقد ذكروا خاطراً مستقلاً عنه يكون مثل ذلك وقد أشار الشيخ ابن عربي إلى شيء من ذلك.
وأما قولكم: إنه لا يصلي الصلاة الكاملة على الإطلاق إلا الإنسان الكامل الذي هو القطب الغوث.
فيس الأمر كذلك. فإنا نقول: أهل دائرة الولاية والخواص من المؤمنين يصلون الصلاة الكاملة غير أنهم يتفاوتون في الكمال فيها وفي غيرها من العبادات والتوجهات الإلهية.
ولكن يكون الإنسان الكامل أكملهم وأتمهم في ذلك، لأنه يقابل بوجهه الحضرة القدسية الخاصة التي هي حضرة الأحدية.فافهموا المقصود من ذلك فإن من كمل إيمانه كملت لله صلاته وعباداته.
والحمد لله والفضل لله يؤتيه من يشاء ويختص به من يشاء وهو ذو الفضل العظيم. والله أعلم.
وسأله الفقيه الفاضل العالم العامل الشيخ المنور عبدالله بن عثمان العمودي، عما سيتضح (160)
في الجواب.
فأجابه نفع الله به وأمتعنا والمسلمين ببقائه آمين، بقوله: أما المسائل التي سألتم عنها في الكتاب السابق، الواصل صحبة الولد المنور سعيد فهي واضحة لا ينبغي أن تخفى على مثلكم. لكنا نتكلم عليها بكلام وجيز يحصل به حل الإشكال إن كان.
فأما سؤالكم عما ورد أن جنة عدن: قصر الجنة مشرفة على الجنان فهذا ليس في الذهن أنه قد مر بنا. ولكن المشهور في الفردوس والعدن: أنهما سرة الجنة وقصبة الجنة. وكل ذلك لا منافاة بينه ويمكن الجمع بين ما ورد إن صح بوجه قريب.
وقد ورد أن الفردوس أعلى الجنة،وإن سقفها عرش الرحمن وفي دعاء نبوي: اللهم إني اسألك الجنة التي ظلها عرشك ونورها وجهك وحشوها رحمتك.
(1/132)

وإذا سأل الله العبدُ المؤمن الجنة فقط كفاه، سيما إذا كان العلوم والأعمال والإخلاص فيها، على مثل أحوال المخصوصين من أهل هذا الزمان.
وقد بلغنا عن الإمام ابن المبارك رحمه الله أنه خرج على أصحابه يوماً فقال: اجترأت على ربي البارحة فسألته الجنة. وحديث الأعرابي: أمَا إني ما أحسن شيئاً من دندنتك ودندنة معاذ فإني أسال الله الجنة وأستعيذه من النار.فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن الحديث بمعناه.
(161) وأما سؤالكم عن قوله صلوات الله وسلامه عليه: لو أوخذت وابن مريم بما كسبتْ هاتان، يعني السبابة والإبهام إلى آخره مع أنهما معصومان ورسولان كريمان. فهذا لا خفاء به فإن حق الله على عباده لا يستطيع أحد منهم القيام به، لا ملَك مقرب ولا نبي مرسل وللخصوص ذنوب يليق بمقاماتهم الرفيعة يرجع إلى النظرات والخطرت حتى في الطاعات والقربات مما لا يكاد أن يسلم منه البشر.
وانظر إلى قصة آدم وإبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام المذكورة في القرآن وفي الأحاديث والآثار تعلم المقصود من قوله عليه الصلاة السلام.
وقد أشرنا إلى تنبيه يسير من ذلك في جواب رسالة، كتب بها إلينا بعض السادة من أهل الشحر. ولعلها عندكم في مجموع الرسائل إن كان هناك. وفي حديث الشفاعة ما ينبه على شيء من ذلك حيث يذهب الناس إلى آدم ويصير الأمر إلى سيد المرسلين.
وأما سؤالكم عن الحديث المذكور فيه: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين إلى أن قال: ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين. وهو مشهور.
فالظاهر أن المشار إليه به: القيام بذلك في الصلاة من الليل؛ لأن أكثر قراءة السلف الصالح للقرآن بالليل. إنما هو في القيام به منها كما نقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة وعن سلف الأمة من الصحابة والتابعين.
(1/133)

وأما القراءة في غير الصلاة من ليل أو نهار ففيها عنه صلى الله عليه وسلم: أن الحرف بعشر حسنات وذلك في حديث صحيح وفيها أثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أن من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة فله بكل حرف مائة حسنة. وإن كان في الصلاة هو قاعد فخمسون حسنة وإن كان في غير الصلاة وهو على طهارة فخمس وعشرون. وإن كان وهو على غير طهارة فبكل حرف عشر حسنات. ومثل هذا لا يقوله الصحابي من نفسه. فله حكم المرفوع.
وفي الباب أحاديث يتوهم منها الإنسان التعارض. وأنها تجتمع للقاري أجور من حسنات متعددة. وهذا لا بُعد فيه ولا امتناع فإن فضل الله واسع. والناس متفاوتون في الدرجات في القراءة وغيرها. فاحمل التفاوت على التفاوت. ولكل درجات مما عملوا ولنوفينهم أجورهم وهو لا يظلمون.
(162) وأما سؤالكم عن حال أهل التخريب من الصالحين من عباد الله، أهل الجذب الرباني، الذين ذهبت عقولهم بحقائق ظهرت لهم، فلم يحتملوها وخشوا على أنفسهم من الشهرة وتأله الناس بهم فتستروا بشيء من ذلك.
فنقول: أما في هذا الزمان فكما قال القشيري في رسالته وتبعه الشيخ ابن عربي.
(1/134)

أما القشيري فقال:
أما الخيام فإنهم كخيامهم ... ورأى نساء الحي غير نسائها
وأما ابن عربي فقال: إنما قال القشيري هذا، حيث أدرك من ترسم برسومهم ولم يكن على هديهم وأما الآن فلا نساء ولا خيام. وقد ذهبوا اليوم وذهبت آثارهم ورسومهم. وما بقي إلا الخبر وعفو الله وحسن الظن بالمؤمنين خصوصاً وعموماً وقد صار الناس كلهم من أهل التخريب، فإنه لم يبق منهم إلى على الندور من يقيم التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج كما ترى وتسمع. والله المستعان.

فإن وجد أحد ممن يقال له أحد على هذا الشأن المسؤول عنه ممن يعزى إليه صلاح وهو محافظ بعد إقامة التوحيد على إقامة الصلاة وما في معناها من قواعد الدين مجتنب للكبائر من الزنا والرياء وأكل أموال الناس بالباطل ومخالطة الظلمة والفساق المصرِّين. ثم وقع في شيء من الصغائر المختلف في كثير منها مثل النظر إلى النساء الأجانب واستماع شيء من الملاهي، التي قد اختلف فيها وأمثال ذلك. فقد يسلم له حاله ويخلى هو وربه إيثاراً لجانب السلامة،وفراراً من تكذيب الإنسان بما لم يحط به علماً؛ فإن لله تعالى في خلقه أسراراً.
{وربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلاً }
(1/135)

{قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} . والله أعلم.
وقد أملينا هذه الكلمات الوجيزة على هذه المسائل وهي تحتمل بسطاً وإن كانت واضحة.
ونستغفر الله ونفوض إليه ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
وكان إملاء ذلك بكرة يوم الخميس من شهر ذي القعدة الحرام سنة خمس وعشرين ومائة وألف (1125 هـ).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *
(1/136)

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "النفائس العلوية في المسائل الصوفية - الإمام عبدالله بن علوي الحداد - Kitab Alhaddad-6"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip