//

تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10d








(2/1)


ثم قال نفع الله به: وهذه الكلمات نعتاد نقولها في مجالسنا، لا بد لنا أن نقولها وَذَكَرها، مراده أن نقولها مع السيد زين عند الابتداء في كل مطالعة، فلما خرج السيد زين قلت لسيدنا: عساكم تملونها عليّ أكتبها، فقال نفع الله به: نحن نكتبها ونرسلها لك في وقت آخر، ونحن متريضين، فربما يحصل فيها غلط الآن، حيث طال بنا المجلس، فربما ليس هناك اجتماع خاطر، ثم قال: يا حساوي الكلام كثير، والعمدة إلاَّ على صلاح القلب، فلما كان عشية هذا اليوم، كتبها وأرسلها إليّ بخط ابنه السيد زين، وهي هذه :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، نويت التعليم والتعلم، والنفع والانتفاع، والمذاكرة والتذكير، والإفادة والاستفادة، والحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، والدعاء إلى الهدى، والدلالة على الخير، ابتغاء وجه الله ومرضاته وقربه وثوابه سبحانه وتعالى، انتهى ما أملاه السيد الشريف عبدالله بن علوي الحداد باعلوي .
وذكر إنه يقوله عند أول ما يجلس لتعليمه العلم، وقراءته عليه، والله تعالى يستجيب ويتقبل من الجميع بفضله وكرمه، وكان ذلك بتاريخ وقت العصر، يوم الثلاثاء لسبع خلت من المحرم أول سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، انتهى بلفظه .

(2/2)


ذكر بداية قراءة الحبيب عبدالله
وذكر رضي الله عنه في هذا المجلس، أعني مجلس السيد زين العابدين شيئاً من بدو أمره فقال: بعد أن ختمت القرآن، قال لي والدي اقرأ في الفقه، وعندنا نسخة صحيحة مليحة من الإرشاد تحفَّظ فيها، وكان معي طَرَفٌ من عبارة، ولكنها على قَدْرها، وكان سنِّي إذ ذاك دون خمس عشرة سنة، وكنت أجالس السيد سهل الكبش، وكان كثيراً ما أسمعه يذمّ الفقه وأهله، وينكر على أناس من الفقهاء ويذمّهم حتى الشّيخ ابن حجر، فقلت لوالدي: ما أريد القراءة في الفقه، فإن رجلاً من السَّادة يذم الفقه وأهله، فقال: الإنسان ما يستغني عن الفقه، ولا عذر له منه، فقلت: أريد القراءة في "البداية" فقال: مليح وعندنا أيضاً منها نسخة مليحة، وعزمت على حفظها، فحفَّظني الوالد حينئذ من أولها إلى قوله وها أنا مشير عليك، وكان الفقيه باجبير يقرّيء في النِّويدرة( )، يقرأ عليه كثير من السادة وغيرهم، فرُحت إلى عنده، وحضرت مجلسه، تَقدمةً للاستئذان في القراءة، ومرادي أن أستأذنه في القراءة في مرة أخرى، فأتيته في اليوم الثاني، وقلت أريد أن أتحفظ في "البداية" وأقرأ عليك فيها، فقال: إن حفظ البداية عسر، وعندنا ناس يقرأون فيها، فاستمع عليهم حين يقرأون، وتَحفّظ في "الإرشاد" فوافقَتْ إشارته إشارة الوالد، فقلت: الإرشاد حِفْظه عَسِر، فكيف أتحفظه؟ فقال: نَحْنُ نخلِّي من يحفظك، ويسمِّع عليك فيه، فأجبت لذلك لموافقة إشارته إشارة الوالد، فلقنني تلك الساعة من أول الإرشاد قوله: الحمد لله الذي لا تحصى مواهبه، ولا تنفد عجائبه، ولا تحصر له منن، ولا تختص بزمن دون زمن، فخرجت من عنده وقد حفظت ذلك، فما زلت أستمع على الذين يقرأون في البداية، وأتحفظ عنده في "الإرشاد" إلى أن وصلت إلى محرمات الإحرام، ثم إن السيد أبا بكر بافقيه عزم إلى الهند، وزيّن للفقيه باجبير المسير معه، وأنه قائم له بكل ما يحتاج إليه، فسافر معه وبقي معه
(2/3)


في الهند مدة قريبة، ثم وقع بينهما منافرة ومناكرة، فانتقل الفقيه من عنده إلى دقرور فوجد فيها السّيد عبدالله بن شيخ( )، وكان السيد ممن كان يقرأ عليه، فبقي عنده مدة، وقام بكفايته وجَبْره، ثم إن الفقيه رَجَع إلى حضرموت، فقرأ علينا الإحياء بعد أن رجع، وهذا من عجيب الاتفاق، أن كنا نقرأ عليه في الفقه فرجع يقرأ علينا .
وقال رضي الله عنه: حصل لنا من الفقيه باجبير( ) الإسناد في الفقه إلى ابن حجر على اثنين أبيه وأبي بكر بافقيه، فأخذ عن أبيه عن بافقيه، وهو أخذ الفقه عن ابن حجر، قال: وكان ابن حجر يذكر مسائل من "الإحياء" فإذا ذكرها جاء بعبارة الإحياء كما هي حفظاً، وكان يحفظ من "الإحياء".
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( كُتِب على كل نفس نصيبها من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين زناها النظر ... إلخ )): يعني أن هذه الأعضاء المذكورات أبواب الفاحشة، منها يتصل إلى القلب العزم عليها بِسَبب ما حصل من كل عضو بما يقتضيه، ولكن تمام ذلك بفعل الفرج، فبه تتم الفاحشة كلها، ويأثم بها من كل الأعضاء المذكورة، وهو معنى قوله: ( يصدق ذلك الفرج أو يكذبه ) أي يتم ذلك بفعله، أو تبقى ناقصة بما عداه فقط.
وقال رضي الله عنه: المقام مقامان: مقام إسلام، ومقام إيمان، فإذا حققت مقام الإسلام، صار هو طريقك إلى الإيمان، ولا طريق إليه إلا منه، ومن أراد الإيمان من غير طريق الإسلام، بقي لا إسلام ولا إيمان .
(2/4)


ولما مَرّ في القراءة حديث جبريل( ) لما سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان قال رضي الله عنه: الإسلام مجرد عمل فقط، والإيمان مجرد علم وتصديق، والإحسان مشترك بينهما، والأول في الجوارح، والثاني في القلب، والثالث فيهما، والأول ظاهر الثاني، والثاني باطنه، والثالث خالصهما، وهو الغاية من الإسلام والإيمان، إذا اجتمعا صارا إحساناً، وقوله: صَدَقْتَ يشعر بأن بينهما معرفة سابقة، وفي قوله( ): تشهد، أي تعتقد عن اعتقاد في القلب، ويقين في الباطن، لا إيمان المنافقين، وإيمانهم باطل، وإيمان العوام ناقص، وفي الحديث حث على طلب العلم، وعلى تكرير المعلم على المتعلمين، ليرسخ حفظهم، وعلى تخصيص أكمل الحاضرين بالخطاب .
وذكر رضي الله عنه في حديث: (( إن للقبر رجة، يسمعها كل شيء إلا الثقلين ))، ثم قال: حكى لنا رجل وكان ثقة: إنه أتى بعض البلدان، فرأى قوماً معهم جنازة، فأتوا بها المصلَّى، وصلوا عليها، قال: وصليت أنا معهم، ثم حملوها إلى التربة، ومضيت معهم، فلما وضعوها في القبر، هربوا في الحال مسرعين، فعجبت من سرعة مسيرهم وركضهم كأنهم خافوا من شيء، فسألت رجلاً منهم عن سبب ذلك، فقال: إنا في بلدنا هذه ساعةَ نضع الميت في القبر نسمع للقبر رجة شديدة، فنهرب خوفاً منها حتى لا نسمعها .
وقال رضي الله عنه في حديث( ) :(( يأتي زمانٌ القابضُ فيه على دينه كالقابض على الجمر)) :أي يعسر التمسك بالدين حينئذ، وأكثر ما يشتد على المتمسك بالدين والعلماء العاملين والصالحين.
وذكر رضي الله عنه: قوماً أساءوا الأدب مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، كالذي قال: إن هذه قسمة ما أريدَ بها وجه الله، ثم قال: فمن أين عرفوا الله، إلاَّ من نبيه عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه الأشياء، تَقْدح في دين قائلها، ومَثَلُها مَثَلُ القائم على جريدة في النخل أو على حبل، وهو يقطع فيه، فيوشك أن ينقطع به فيهوي .
(2/5)


وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( شر الرعاء الحطمة ))، أي الذي يحطم الناس بالجور، ثم بعد تحطمه النار فالحطمة للحطمة .
وقال رضي الله عنه في قول بعضهم: ( الإنقباض موجب للعداوة ) إلخ، أي الإنقباض في الأخلاق: بأن ينقبض مع الخلطة، لا الإعتزال عن الناس .
وقال رضي الله عنه في قولهم: ( عجباً ممن يحب نفسه على اليقين، ويَكْره غيرَه على الظن) أي يقيناً من المعصية من نفسه، وظناً منها من غيره.
وقال رضي الله عنه: العلم في هذا الزمان إنما هو للبركة، ولكن بشرط أن لا يروا لأنفسهم، وكانوا [ أي الأولون ] في غاية التواضع، وأين اليوم العلم النافع في الدين.
وقال له رضي الله عنه بعض السادة: هل وقت الإشراق هو وقت الضحى، أم له وقت وحده؟، فقال نفع الله به: من طلوع الشمس يقال له إشراق، ولكن لا تحل الصَّلاة إلا بعد ارتفاعها قدر رمح، ويبقى هذا وَقْتها إلى رمحين، ثم يَخْرج وقت صلاة الإشراق، وبين وقتها ووقت صلاة الضحى، وقت يسمى رادّ، واستشهد ببيت لامية العجم ( والشمس راد الضحى ) إلخ، وهو قدر ساعة زمانية .
وقال رضي الله عنه: إنا لا نحبّ أن نحيّر الطالب، بل نعطيه على قدره، وترى أقواماً يطيلون على المبتدين، ويحيرونهم حتى يملوا، ونحن قد طَالعنا كثيراً وقرأنا كثيراً، ونسينا كثيراً، ولكنا لم تَجْر المذاكرة في مسألة ما إلا ذكرنا لها شاهداً من القرآن والسُّنة، وإذا عرضت مسألة تَكَلَّمنا فيها، ولا نراعي حال الحاضرين، وإنما نراعي الوقت والدماغ، ونحب مع ذلك أن الحاضرين يُثْبتون بعض ما تكلمنا به، أو قال بعض المذاكرة، لأن لنا في ذلك شجناً، وإلى الآن نحب الكتب والمطالعة فيها، مع إنّا على ذلك من حين كان سِنُّنا نحو خمس عشرة سنة، حتى إنه يعجبني بعض الكتب التي لم أقف عليها أو وقفت عليها ونَسيْتها.
(2/6)


وقال رضي الله عنه في الحديث( ): (( يقول الله لأهل بدر: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم )): أي إنهم ما بقي فيهم داعية المعاصي، إنما عملهم كله صالح .
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( إذا اشتبهت عليك طريقان، فاسلك أيمنهما )) قال: هذا إذا كان كل منهما يسلك بك مقصداً واحداً، فاشتبه عليك الأقرب منهما، فأما إذا تحققت أن أيسرهما هو الطريق الأبعد أو الأقرب فاسلكه .
وقال رضي الله عنه: كلُّ ما صَرَف قلبك عن الله من علم أو غيره، ووسوستَ به في نفسك، فاتركه، وإن كان من علوم الآخرة، واختلاف العلوم كاختلاف الطرق، فخذ منها ما تَحْتاج إليه، مثل ما إذا كنت مسافراً ورأيت طرقاً كثيرة فلا تَسْلك الطرق كلها بل واحدة التي منها طريقك .
وقال رضي الله عنه: العالِم دون المكاشَف والنبي، وهو يعرف طبقات الناس كلهم من العرش إلى تخوم الأرض، ويُنَزّل كل واحد منزلته، وما سمي العالم الكبير ربَّاني إلا لكونه يربي الناس بصغار( ) العلم .
وقال رضي الله عنه: في معنى حديث( ): (( إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه ))، أي ينفعه بنفي العُجُب، بسبب شيء من الصغائر، تصدر منه مرة واحدة، كرؤية غير مَحْرَم، وأما الإصرار على المعاصي، بأن يعملها ويَنْوي ذلك مهما تمكن، فإنه يضر سيما الكبائر، فقد قيل بتخليد من مات مصرّاً عليها، وقوله مع الإصرار أستغفر الله وأتوب إليه بلسانه، لا يَنْفعه لكنه خير من عدمه، وإنما التوبة مع التَّنصل من الذنوب .
وقال نفع الله به في حديث( ): (( الدين النصيحة )) أي إنها داخلة في جميع أجزاء الدين.
وقال في حديث( ): (( من غشنا فليس منا )) أي أظهر خلاف ما أبطن، بِقصد الخدعة في سلعته .
(2/7)


وقال رضي الله عنه في الحديث الذي فيه ذِكْر أبواب الجنة الثمانية: هذه الأبواب الكبار التي تكون على حائطها، حائط سورها يدخل منها إليها، وإلا فلكل بيت باب، والنَّار سبع طبقات، إذا دخل من باب طبقة إلى أخرى، ينزل حتى الهاوية، والجنة إذا دخل من باب وأراد الآخر ارتفع، وكل منزلة أعلا من منزلة، ولأيّ شيء كانت أبواب النار سَبْعة، قيل لأنَّ القلب يعد في أبواب الجنة دون النار، والإنسان إنما يرجو من فضل ربه، وإلا فما له عمل صالح يرجوا الجزاء عليه، أو كما قال .
وسئل رضي الله عنه عن قول: ( سبحان الله وبحمده ) التي يُهْدى منها ألف للأموات، هل فيها لفظ العظيم؟، فقال نفع الله به: ليس فيها، وإذا ورد في الحديث تسبيح، كهذا أو استغفار كاستغفر الله في شيء من المواضع، ولا فيها لفظ العظيم، ثم إنه زيَّد فلا يعُكّر عليه، لأن العظمة وَصْفُه تعالى .
وقال رضي الله عنه: وفي الدعاء الوارد في الحديث( ): (( اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والحرق ))، إن هذه الأشياء، ولو كان فيها شهادة، إلا إنها لا تأتي إلاَّ بغتة، ويكون حِينئذ بِغَيْر استعداد، وما جاء بغتة، يُشْكل ويعسر، وربما يقبض وهو غير راض وذلك مشكل .
(2/8)


وسئل رضي الله عنه عن الذي استعجل الموت، فقتل نفسه، المذكور في قصة خيبر، هل هو مخلد أم لا؟، فقال: إنه كان مؤمناً، فاستعجل الموت لضرورة، ولعله مات على الإسلام، والله أعلم بحاله، وكونه يَدْخل النار، فما كل من دخلها بمخَلَّد، وقد كان السلف يَتْركون أحاديث الخوف على ظاهرها ولا يؤولونها، وقد استعجل الموت وفعل مثل ذلك ناس كثير، وتعرضوا لسبب موتهم، ونعرف منهم جملة ناس، منهم امرأة من الأشراف، طلبت مُوْسَى فَأُعْطِيَتْه فذبحت به نفسها، وآخر كان يخدم الدولة، ويؤذي الناس فاتفق أن غضبوا عليه الدولة، وأشغلوه فقتل نفسه، فقال السيد عمر بن أحمد وكان من المكاشفين: إنه أرسل إليه الفقيه المقدم من ذَبَحَه .
وقال رضي الله عنه في حديث: (( إذا لقيتم المصرِّين على المعاصي، فَالْقَوهُم بوجوه مكفهرة ))، والحديث في الجامع الصغير، قال: أي المجاهرين بها و المتظاهرين بها بلا مبالاة، ولا يجاهر ويتظاهر بها إلا من لا خوف معه من الله ولا حياء، فليبغضهم ويعاديهم ما لم يخش فتنة .
وقال رضي الله عنه لرجل من القرَّاء يغلط كثيراً ويَلْحَن: من راح عليه وَقْت التحصيل ولا حَصّل، يعسر عليه التَّحصيل بَعْد ذلك، ويروح وقته بلا شيء، كمن ترك الفخطة [ أي التأبير ] في أوانها فأرادها بعد ذلك، فلا تنفع بعد، ونحن ما تَكَلّمنا بهذا إلا بسبب رجل من الجهال، قال فلان قرأ على مَنْ، فنقل ذلك لنا عنه رجل، وقال عنه قال رأيت في النوم أمراً أَتْعبني، وهو أنه رأى أن أسداً أراد يأكل المتكلم الذي قال قرأ على مَنْ، قال نفع الله به: وما نحن بصدد المنافسة، وقد تكلم الإمام الغزالي على السلاطين والأمراء، وحفظه الله منهم، ولا كَلّم بذلك هؤلاء بعد ما تصوَّف، فإنه ينبغي أن لا يُكَلَّموا، وقلنا له: هو بواسع الحل .
(2/9)


وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع )): أي من صدق وكذب، ومن نافع وضار، فينبغي إذا أراد كلاماً أن يَنْتَقِيه، فلا يحدّثْ إلاَّ بما فيه نفع مؤمن، أو دفع ضر عنه .
وقال رضي الله عنه: إذا أردت توقيف إنسان يدعي علماً، فاسأله عن علمه المشهور به الذي يدعيه، فإن غلط أو جازف، فاعرف مقداره، والحاصل: إنك لا تسأل الإنسان إلاَّ عن العلم الذي تفرّغ له، وإلا فلا شك أن الفقيه يَغْلط في النحو وبالعكس، ويَنْبغي أن يُحْكِمَ العلم الذي تفرغ له، ويتطرف في بقية العلوم، فالإمام الشافعي مثلاً عالم بالحديث، ولكن ما نَزّلوه فيه، كابن شهاب( )، ولا ابن شهاب في الفقه كالشَّافعي، ولا هما في السِّير كابن إسحاق.
وقال رضي الله عنه: إذا رأيت الجاهل يحتج لجهله فاتركه، ولا تجادله، إلاَّ بفعل إن قدرت عليه، كما أنكر أقوام على الإمام الغزالي لما تصوَّف أرادوه يرجع إلى تَقْرير العلم الظَّاهر، مع أن أكثر انتفاعهم فيها منه، فتركهم وسكت عنهم.
وقال رضي الله عنه: كان النَّاس يطلبون الفضائل ليتحلوا بها، واليوم تأمرهم بذلك فيرون أنك أشغلتهم، فضلاً عن أن يتنبهوا لها.
وقال رضي الله عنه: الفقيه من عَلِم أسرار الدين، والذي عِلْمُهُ إلا أيَّة أفضل، كذا أوكذا أفضل من كذا ما هذا إلا موسوس .
انظر إلى هذا الدعاء الجامع
وقال رضي الله عنه لبعض السادة: أكثر من الدعاء بهذه الكلمات، اللهم ارزقني طيباً، واستعملني صالحاً، وتوفني مُسْلماً، وألحقني بالصالحين .
وقال رضي الله عنه: رأينا كثيراً من العقائد، ولم نر لأهل هذا الزمان أنفع من عقيدة الإمام الغزالي للمُبْتديء منهم والمنتهي، ولكن منتهيهم مبتديء.
وقال رضي الله عنه: أمور الآخرة لا يَسَع الإنسان فيها إلا التَّصديق والإجمال وعدم التأويل .
(2/10)


وقال رضي الله عنه في حديث: (( من تصدق فقد فك لحي سبعين شيطاناً ))( )، يعني خالف صفات الشياطين، فَشيْطان يأمره بالبخل، وآخر يخوفه الحاجة، وآخر يأمره يؤُخّره، ونحو ذلك إلى سَبْعين شيطاناً من هذا القبيل، فإذا تصدق فقد خالف جميع هذه الدواعي.
وقال رضي الله عنه: في معنى ما ورد أنه ينبغي أن يدار بنحو الماء على اليمين، قال: هذا إذا كان يدار بإناء واحد فقط، وأما إذا تعددت الآنية فالإنسان مخيّر فيما في يده، لأن ما فيه( ) له يعطيه من أراد، ممن كان عن يمينه أو شماله أو غيرها.
أقول: وذلك كما هو المعتاد في حضرموت في أدنان الماء، كل واحد يعطى دنَّا فيه ماء له، يستبد به، وذلك هو سبب كلام سيدنا هذا، فإنه لما شرب ناوله بعض السادة، فقال ما قال، لئلا يتوهم أحد ممن سمع الحديث، فيقول في نفسه ينبغي الإدارة على اليمين، وربما خَطَر ذلك في خاطر أحد من الحاضرين، فقال هذا الكلام المذكور مكاشفة منه له .
فائدة جليلة
وقرأ رضي الله عنه على رِجْل شخص فيها قرحة، عجز عنها الأطباء والمداوون ـ هذه الكلمات، وقال لي: أحفظها، فإنا نرويها عن سلفنا: ( يا ذا النبت المنبوت، مت في بدن من يموت، بقدرة الحي الذي لا يموت ) .
وقال رضي الله عنه في خبر: (( إذا هاجت الفتن، فعليكم باليمن ))، قال: وهذا هو الذي نشير به في الحياة وبعد الممات، لمن يسمع كلامنا أن يرجع عند هيجانها إلى حيث خرج الدين، والحرمين( ) تُسَمَّى يمن .
آ يات تقرأ للعين
ومر في قراءة تفسير البغوي، قوله تعالى: { وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ}( ) إلى آخر السورة، أنها دواء للعين، فقال نفع الله به: وفي الحديث: (( ثمان آيات دواء للعين))، الفاتحة سبع، وآية الكرسي الثامنة . فينبغي أن تضاف هذه الآية إليها.
(2/11)


وذكر رضي الله عنه العين، فقال: ينبغي أن يشوّش الأمور، لئلا يراها من يخاف منه العين، وأنا ما أوسوس إلاَّ من العين، لحديث( ): (( لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ))، ومن آخر أربعاء، لقوله تعالى: { يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ }( )، وإن كان بعض المفسرين قال: على عَادٍ بالخصوص، فإنهم قد عُذّبوا فما وجه استمراره، وقد فُسّر {إِلاّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}( )، أنه خاف على بنيه العين، فيَنْبغي سؤال اللطف والستر .
ما يقال عند شرب القهوة
ورأيت مكتوباً عنه رضي الله عنه: أنه يرتب قراءة الفاتحة وآية الكرسي مع شُرْب قهوة الصّبح، والفاتحة، ولإيلاف قريش، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل هو الله أحد مع شُرْب قهوة الظّهر، ومع شرب قهوة السَّحر خاصة يا قوي 116 مرة كما هو مأثور، وفي غير ذلك الفاتحة فقط، ومع آية الكرسى في الغالب .
ذكر إبتداء تدريسه نفع الله به
وقال رضي الله عنه: ما كان لنا رغبة في التَّدريس، إلا رجل من آل بافضل قال: أريد أن أتبارك عليكم ما تيسر في "رياض الصالحين" فجاء السيد حسن الجفري( )، وقال: أريد أن أقرأ ما تيسر في العوارف، وطلب الفقيه باجبير القراءة في حزب البر، فتراسلت القراءة، فلما رأينا النَّاس متراسلين على القراءة، رتبنا أوقاتها وقرأ علينا في مكة وفي المدينة خَلْق في "الإحياء" وفي غيره، ولم يتم من قراءة كتب "الإحياء" إلا كتاب رياضة النفس( ).
(2/12)


وقال رضي الله عنه: مقصودنا في كتاب "النصائح" أن يكون سلساً واضحاً يَفْهمه كل من نظر فيه ممن له فهم ويَكْتفي به، فإن لم يكتف، وإلاَّ يكون مشوقاً إلى أبسط منه، وسماه بعضهم حاء الإحياء، لكن في هذا الزمان ما قيل حاء، ولا تاء، بل ضُرب بعضهم ببعض، ووقع الضرب في أهل الدين، لكن الجهال ما لهم جواب، ولا يرد عليهم، والسّكوت عنهم أحسن، كما فعله الإمام الغزالي آخر عمره، فسكت عن الرّد على المبتدعة، وقد رَدّ على علماء وسلاطين، وقُتِل جماعة من تلامذته في الفتنة، منهم رجل يقال له محمد بن يحيى، شَرَح الوسيط، والدّين في جزيرة العرب أقوى منه في غيرها، فمن أدركته فتنة فيها، فليفر بدينه من مَوْضعه إلى موضع آخر منها، ولا يتعداها إلى غيرها، لأنّ الفتنة في غيرها مشكلة جداً، وإذا لم يفر يكَلّف أو يَتكلف، وكلاهما شر .
وقال رضي الله عنه: هذا زمان العالم فيه أبكم عن الحق، والجاهل فيه أصم عنه، فلا العالم يتكلم به لمداهنة وغيرها، ولا الجاهل يستمعه، لاستغراق الكل في طَلب الدنيا، وعَدم المبالاة بالدين، فمن أين يحصل الأمر بالمعروف وامتثاله، ومن أين يحصل النهي عن المنكر واجتنابه .
وقال رضي الله عنه: عادات السلف أحسن من عاداتنا بل من سَنّنا( ).
وقال رضي الله عنه: للشيخ عبدالله بن أبي بكر علينا مَشْيخة، باطناً من غير إسناد، وظاهراً بإسناد واتصال إليه .
وقال رضي الله عنه: العلم سيف على الجهل، يقطعه عن من اتصف به، وأهل هذا الزمان لم يأخذوا السيوف، ليؤمِّنوا بها الطرق، وما أخذوها إلا ليقطعوا بها الطرق .
وقال رضي الله عنه: قيل: ما عمارة الدين؟، قيل: الورع، قيل: وما خراب الدين ؟، قيل: الطمع، وهذا متداول .
وقال رضي الله عنه: كل حياء يمنع من خير فهو جبن، وليس هو من الحياء المحمود، وإنما المحمود ما مَنع من مباشرة مذموم، شرعي أو طَبْعي.
(2/13)


وقال رضي الله عنه: الركعتان اللّتان قبل المغرب، لا نأمر بهما، ولا نَنْهى عنهما( ).
وقال رضي الله عنه: ما أقمنا من أول الأمر إلا على الطريق العامة، وأما الخاصة فقد انطوت .
وقال رضي الله عنه: لو أملينا عليكم في الأذان لعجبتم، وسمعتم مالم تسمعوا.
وقال رضي الله عنه: ينبغي أن تكون السورة التي تقرأ بعد الفاتحة في صلاة التسبيح، من السور التي عدد آيها عشرون كسبح [ الأعلى] .
وقال رضي الله عنه: كل كتاب فيه باب هو عين الكتاب، ترجع كل الأبواب إليه، وما يقع فيها من الإطلاقات فهو يقيدها .
ومر في حديث: ذكرُ الجنة والنار، فقال: لا محالةَ إن الجنة أوسع، لأن لأهلها فيها منازل واسعة، وممالك مُطَّردة، ولا محالةَ أن أهل النار أكثر، لأن ما لأحدهم إلا مِفْحص رجله، وإن غلظت أجسادهم .
وقال في حديث( ): (( رب أشعث أغبر ذي طمرين ... الخ ))، هو فقير قانع بِفَقْره، ولا يريد خلاف ذلك، ذو تقوى مؤدِّياً لحق الله( ) فيما أمر أو نهى، ذو ورع لا يأكل إلاّ حَلالاً، وأما فقير ذو طمرين لا يُبَالي من أين أكل، من حلال أو حرام، فما فضيلته، فالحاصل أنه لا فضل إلا مع التقوى والدين، لا بشرف الآباء ونحو ذلك.
وقال رضي الله عنه: المعاصي إذا عَمَّت عم ضررها، وإذا خصت خصّ ضررها، التالية أن من علم بها ولم ينكر يأثم، وإلاَّ فإنما إثمه على نفسه، أى إذا لم يطلع عليها أحد.
وقال رضي الله عنه: لا بُدَّ في الإمام المقتدى به من السِّيرة والسريرة والصورة فالسيرة هي الطريقة، والسَّريرة هي حسن الخلق، أن لا يكون فظاً ولا غليظاً ولا وحشاً( ).
وقال رضي الله عنه: الجهال صغار العقول، لا تجالسهم فإنهم كالنَّار، ولا تجيء في طريقهم، ويجيء منهم مثل ما يجيء للنبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم من أبي جهل وأمثاله، إلاّ إن أولئك كفار، والجاهل ما يرجع من شيء.
(2/14)


وقال رضي الله عنه: أهل العلم متواخين( )، وأهل الجهل متواخين، إلا أن الأخوة متقاربة ومتباعدة .
وذكر رضي الله عنه: قراءة القرآن وما يحصل فيها من الغلط، فقال: احرصوا على أن تؤدوا ( وهنا بقي بياض، ولعل: أن تؤدوا القرآن كما أنزل ) واحذروا نقصانه، أو زيادته، أو إبداله بآخر، ونحو ذلك، وأنا أكثر ما يشتبه علَيَّ الواو بالفاء في بعض الكلمات، ولو كنت ممن يقرأ في المصْحف لما قرأت إلا فيه، ولو كنت في الصَّلاة، لأنه إذا كان قد اختلف في رواية الحديث أو قال قراءة الحديث بالمعنى، حتى يأتي به بلفظه، فكيف بالقرآن.
وقرأ رضي الله عنه يوماً في حلقة القراءة في رمضان وذلك يوم الثلاثاء 14 منه سنة 1125 سورة سأل سائل فقال لي: لو سُئلتَ عن غَرِيب هذه السورة، أكنتَ تجيب بديهة من غير مراجعة، فقلت: لا، ولا غيرها . ثم قال نفع الله به: لولا تغير الزمان لَوَضعنا كتباً في مثل هذه الأمور، ولكن كيف وقد تَغيّر قبل اليوم بزمان، وما عليهم إلاّ أن يقيموا حروفه .
وقال رضي الله عنه: دخل سلمان الفارسي رضي الله عنه بلد المدائن، فحف به النَّاس من كل جانب، يريدونه يحدثهم، فجعل يقرأ سورة يوسف فلم يزل الناس يَتَصدّعون، حتى لم يَبْق أحد منهم، فقال: زخرفاً من القول أردتم .
(2/15)


وقال رضي الله عنه في قول سفيان الثوري: طلبنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله: قد ذكر الإمام الغزالي رحمه الله، أنه إن كان العلم من أمور الآخرة، التي فيها التخويف فهو كذلك، يمكن أن يجرّه ذلك إلى الإخلاص والرجوع إلى الله، وإن كان في الفروع النادرة من الفقه فإنه لا يمكن فيها إصلاح النية، بل لو كان له نية في طلب العلم فإذا جاء عند هذه المذكورة فسدت نيته، وتفاريع الفقه ما لها طرف، حتى أهل الزمان لو أرادوا ذلك يمكنهم، ولا حاجة فيها إلاّ إن كان لإشحاذ الذّهن كما ذكروا في الخنثى( )، فإنه أخذ نصف العلم في الوضوء، والغسل، والصلاة، والمواريث، وغير ذلك ولم يوجد، ومن تأمل تصانيف المتأخرين، رآها تقصر عن تصانيف السابقين، لأنها أوضح، ونياتهم أحسن من نياتهم، إلاّ إن كان نَوَوا أن يكونوا منظومين في سلك من أحيا الشريعة ونصرها، ولو سئل ابن حجر وغيره ماذا نووا في ذلك، لا يقولون إلا كذلك إن شاء الله .
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ))، فقال: يختلف الغدر، فغدر في حقِّ الله، وغدر في حق رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، وغدر في حق الخلق على حسب أحوالهم، وغدر في حق نفسه .
وقال رضي الله عنه: في ما ذكروا في الخشوع في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه أو يساره، فقال أي إذا لم يكن قد عرفه قبل الدخول في الصلاة، وإلا فَقِدْهُ يعرفه، فإن لم يعرفه إلا فيها، فإن ذلك خاطر خطر له في الصلاة .
وقال نفع الله به لرجل يوصيه: إلزم كل مكان تصفو لك فيه طاعتك، ويطمئن فيه قلبك، إن كان وطنك أو غيره، وقال لآخر يوصيه أيضاً: الله الله في الدعاء في المجامع وفي مجالس السَّادة، وحال اجتماعهم، فإن الدعاء كالسهام، إن أخطأ هذا، أصاب هذا.
وقال رضي الله عنه: بالأدعية وحضور المجالس المحضورة، ومجالسة أهل الخير، فبمثل ذلك يكون التعرض .
(2/16)


وقال رضي الله عنه: اطلعنا على جملة من العلوم من غير قَصْد منا لذلك، وينبغي أن يطلع على أوائل العلوم، ليحصّل من كل علم حظاً، وأما التبحر فلا ينبغي إلاّ في العلم بالله وصفاته وملائكته واليوم الآخر .
وقال رضي الله عنه: في قولهم: ( إن النفس إن لم تشغلها أشغلتك ) أي إن كنت من أهل الدين فأشغلها بالعبادات والأوراد وتقليل العادات، من الأكل وغيره حتى الماء البارد [ أي أيام الصيف ] لا تكثر لها منه، وإن كنت من أهل الدنيا فاشغلها بالعوائد الحسنة، والأمور المحمودة، فإن لم تُشغل بذلك تَفرَّغَت للتفكر في أمور غائبة مذمومة، وَدَعَتْه إليها، ومن طَبْع النفس أنها إذا حُبست عن أمرٍ الضيقُ وإن كانت في سعة، وإذا أُطلقت الراحةُ وإن كانت في ضيق( )، كما لو كان صائماً فيحس الثقل من الصّوم من أول النهار، وإن لم يكن جائعاً، وإذا كان مفطراً استراح ولو تأخر عنه الغداء عن حِلّه المعتاد .
وقال رضي الله عنه: في حديث: (( من احتكر على المسلمين طعاماً ابتلاه الله بالإفلاس والجذام )) ذكره في الجامع الصغير، فقال: إما الجذام الظاهر أو محق البركة لأن الجذام المحقُ، فَيمْحق ويُفْلس من الدنيا مع إفلاسه أيضاً من الدين لأن الغالب ما يفعل ذلك أحد إلا افتقر قبل أن يخرج من الدنيا .
وقال نفع الله به في حديث( ): (( والله لا يؤمن، من لا يأمن جاره بوائقه ))، قال: البوائق التطلع إلى عوراته، والإستشراف في بيته من غير إذنه، ونظره إلى أهله، واحتقاره، ونقله لكلامه، وخون أمانته .
وقال في حديث( ): (( قل هو الله أحد ثلث القرآن، والزلزلة نصف القرآن، والكافرون ربع القرآن ))، ونَحْو ذلك، قال إن هذه أسرار لا يُطلع عليها إلا بنور النبوة.
(2/17)


وقال: في حديث( ): (( الجار قبل الدار )) أي إذا أردت نزول دار فانظر فيها واختر مجاورة أهل الصلاح والستر والصيانة، ولا تجاور معروفاً بالفساد، والتَّطلع على العورات، فربما تطَّلَع على عورتك، و تشرَّف عليك وعلى أهلك، فاختبر حال الجار أولاً قبل نزولك في جواره.
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( اطلبوا الحوائج بعزة النفس )) أي اطلبوها بعز، ولا تطلبوها بالتضعضع، لأن التضعضع ليس من أخلاق المؤمنين .
وقال في حديث :(( أعدى عدوك زوجتك التي تضاجعها( ) وما ملكت يمينك )) أي لأنه يقع منهم بلايا، وأقلّ الحال أنهم يوقعونك في طلب الدنيا، إن لم يكن معك شيء.
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( من أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلفه الله )) إلخ، هو من يستدين و نيته إن تيسر له أدَّى وإلا ترك .
وقال في قولهم: ( الجوع المفرط مفسد للفكر ) أي إنه إذا كثر عليه الجوع يرى أشياء يظنها أنواراً ومكاشفات ونحوها، وليس كذلك، إنما هو من فراغ الدماغ، إنما الجوع المحبوب يكون إختياراً بالتدريج .
وقال رضي الله عنه: الجوع الإضطراري مضر، وإنما المَطْلوب الجوع الإختياري كما يَفْعله الصالحون، وهو المعروف من حالة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم وأصحابه، فمَن بَعدَهم .
وقال رضي الله عنه: الجوع المستعاذ منه في الحديث( ): (( أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ))، هو الجوع الإضطراري الذي يُشْغل الخاطر كثيراً حتى تتغير عليه حوائجه، وأحوال دينه ودنياه، وغير ذلك من المضار الدينية والدنيوية، وأما الجوع الإختياري فهو محمود، فقد كان صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يجوع الثَّلاثة الأيام أو أكثر .
(2/18)


وقال رضي الله عنه: ذكر الشعراوي أن من دعا إلى الله في هذا الزمان، أن مَثَله كمثل المعلم، إذا فتح المدرسة لتعليم الصبيان القرآن عند غروب الشمس، فلا يجيئه منهم أحد، ولا أحد يرسل إليه ابنه في ذلك الوقت لضيقه، وهو [ أي الشعراوي ] مع ذلك في القرن العاشر، فكيف في زماننا الآن؟.
وقال رضي الله عنه: نحن تطرفنا في كل علم، حتى إذا وقعت المذاكرة لا يَبْقى الإنسان جاهلاً بشيء منها، وما العلم الصَّحيح بعد معرفة كلام الله ورسوله، إلا عِلْم التَّصوف، وأخذنا كثيراً من علم الأدب، وأكثرَ الناسُ من تصانيف الفقه، والحديثُ أحسن .
وقال رضي الله عنه: إذا الإنسان أمعن في شيء فلا عاد يزاحم أهله، فإنهم ربما زاحموه فلم يحسنوه، لأن المزاحمة من طبيعة الآدمي، ولا يخلو الثمر من شوك، ما هو إلا بين قليل أو كثير، وإذا أردت علم ما لم يمكنك أن تحيط به، فخذ أصوله، فمن أين يفرغ الإنسان لمطالعة العلوم كلها، ومن اشتهر بشيء من العلوم، وإن كان يحسن غيره، نسب إليه وسئل عنه .
وقال رضي الله عنه: لرجل كان يقرأ في "منهاج العابدين" عندما وصل إلى ذكر الأكل وكثرته، كيف قرأت هذا الكتاب في الخانقة( )، وهم إلاَّ يدوّرون للأكل والشَّهوات، أيلعبون بكتب الأئمة، ومثل هذه الأماكن لا يليق بها إلا طلب الفقه والنَّحو، ونحو ذلك . وأما قراءة كتب التصوف فلا تليق بمن هذه حالته، لأن عملهم مخالف لذلك، والعلم بخلاف السيرة يمحق العبد، وقد أرسل بعضهم إلى آخر، وكان من الرجال كيف تقرأ في "الإحياء" وأنت كذا وكذا، وكان مستقيم الحال إلا إنه ببعض السيرة يخل .
(2/19)


وقال رضي الله عنه: كنا أردنا أن نجعل القراءة قارئاً واحداً، ولا أولى من قراءة آية الكرسي، وقد كان كذلك جماعة من الأكابر، فيتكلم على الذي يقرأ ويقرره، ويَمْتد به الكلام حتى يخرج إلى ما يناسب كل أحد من الحاضرين، فيأخذ كل من الكلام ما يوافقه، ألا تسمع كلام الشيخ عبدالقادر، كيف يقول يا فلان، يا غلام، فيكلم كل واحد ويخاطبه بمقتضى حاله وما يناسبه، ولكن لا يَسْتقيم هذا إلا لمن استوى عنده الذَّامّ والمادح، والمعطي والمانع، والمحب والشَّاني، فإذا استوى عنده النَّاس بمثابة واحدة، تأهَّل لذلك، ونحن نرى النَّاس كلهم سوى، لأنهم كلهم خلق الله، والكلام كذلك فيه مشقّة اليوم، وأسهل منه الإيصاء بالدِّين والتقوى، وفيه كفاية من ذلك، وأسهل منه، وقد اكتفينا بذلك، وذكرنا ما يحتاج الناس إليه.
وجاء في القراءة في حديقة( ) بَحْرق تعداد فوائد الذكر وتَفْصيل ذلك، فقال نفع الله به: يظُنُّ الناس أن المراد بالذكر أن يقول بلسانه ( لا إله إلا الله ) وهذا غلط، والرجل( ) كان يذكر فيه حدّة، والحديد يكون في كلامه في كل شيء مبالغة من جنس ما يتكلم فيه، لكنه يكون ثقيلاً في الطَّبع، وكلامه مليح، لكن فيه المبالغة، وهذا كلام قد نخله الإمام الغزالي.
وذكر رضي الله عنه القراء فقال: هؤلاء الصّغار كل يريد إلا قراءته لنفسه، وإلاَّ فما ينبغي أن يُقرأ علينا إلا آيات من القرآن، فما أحسن ولا أبرك من كلام الله، وقال: ورَغْبتهم في القراءة لأجل الدنيا، وإن كانوا من المتصدّين للقراءة، لأنهم يحبُّون أمور الدنيا، ولا يقال له ممن يريد العلم اللدني، حتى لا يفرح بأمور الدّنيا، وإن كان الزهد من وراء ذلك وإنه لا يصلح للزهد كل أحد.
(2/20)


وذكر رضي الله عنه المعاملات الفاسدة، فقال: لهم في السَّلَم بشروطه وفي القراض وبيع الصَّبْرِ بأقل( )، مندوحة عن الرباء، ولكن الشيطان إذا أغرى الإنسان بشيء، ما يغريه إلا بالذي يُهْلكه، وهذه الحِيَل ما كنا نعرفها، ولكن ما عاد الناس مُعوِّلين بشيء، وكذلك تَزْييد بعض الورثة على البعض في الميراث، وكانت لنا جدة من آل الحَبْشي، ولها أخ وكانت في خدمة أمها، فقالت أمها يوماً لأخيها، أريد أن أقسم مالي بينك وبين أختك، هِبَة مني الآن، فسكت فلما فرغت من كلامها قال لها: يا أُماه قولي لربك إنكَ ما تعرف القسمة، يعني أنه كَره أن تَجْعل البنت كالولد في ذلك، وكان الرجل زاهداً في الدنيا جداً لكنه ما أراد أن تفتح هذا الباب.
وقال رضي الله عنه: ظاهر اليد والإسلام سببان كافيان في حل المال خصوصاً في هذا الزمان، إذا لم يكن لهما مدافع، ومَرّة قال عندما قرأ القاريء في "رسالة المعاونة" في فصل وعليك بالوَرَع عن المحرمات والشبهات، حتى وصل إلى قوله: ( الناس بالنسبة إليك ثلاثة أشخاص، الأول شخص معروف عندك بالخير والصلاح، فكُلْ من طعامه، وعاملْه إذا شئت، ولا تسأل ) فقال عند ذلك لأن في هذا ثلاث علامات، تدل على تَحْقيق حِلّه، وهي الإسلام، واليد، وظاهر الحال .
وقال رضي الله عنه: الشك ماله سبب أو قرينة، وهو الشبهة، ويَنْبغي أن لا يُقدِم عليه حتى يَتّضِح، فإن لم يكن عن سَبَب ولا قَرِينة فهو وَسْواس، وخواطر لا عمل عليها.
وقال رضي الله عنه: في قولهم ( الصيام قطب الرياضة ) قطب الشيء الذي يدور عليه، كعود الرحا قطبها الذي تدور عليه، وقطبها( ) أي عليه مدار الرياضة المعروفة في طريق القوم.
(2/21)


وقال رضي الله عنه: الدنيا 360 جبلاً وحضرموت جبلان منها، وهي بلاد مؤسسة وكان الذين أسسوها أهل قوة، فهل بلغكم تريم ابن من هو؟ فقال السيد زين العابدين: يقال بينه وبين الإسلام ثلاث آلاف سنة، ثم انجرَّ الكلام إلى مكة وجبالها، وإن في المسجد الحرام قُبُور بعض الأنبياء، فقال السيد زين العابدين: أراناها بعض النَّاس في الحِجْر، وعليها علامة، فقال سيدنا: هذا فضول منه، فلو جاء أحد يبحث ما وجد شيئاً، ولكن من أخذ بالذيل لا تسأله عن الرأس، وإن ذلك مذكور في شيء من الكتب، ومنها ما هو مذكور في كتاب ابن ظهيرة( )، ثم قال: لكن كتاب( ) الأزرقي خير منه، وكتب المتأخرين ماعاد توافقنا، ولا خاطري يَقْبلها لأنهم متكلِّفون كالذي خرّج على حديث جابر ألف ورقة، تكلف فيها فما يتم المطالع الكتاب إلى آخره إلا ونسي أوله، وإذا أردت تنقل أمراً فانقل أمراً بين أمرين، واحذر من التّعنت والاستقصاء، ثم أطال الكلام في ذلك إلى أن قال: هذا عزيز ونادر جداً.
وقال رضي الله عنه: في قولهم: ( العمل بالعلم ) أي يعمل بما يقدر عليه منه، ويتعلم منه ما يقدر عليه، ويعلّم منه ما يمكنه وعلى هذا . وأما معرفة كل العلم، والعمل بكل العلم، فمن يَقْدر عليه؟، ولكنه مع ذلك يعتقد أنه ما بلغ تمام العلم، لا في العمل، ولا في المعرفة، ولا في التعليم .
(2/22)


وسألته رضي الله عنه: عن معنى قول الإمام الغزالي في الشهوة والغضب، أنه يسلّط أحدهما على الآخر، فقال: التَّسليط العرفي، أو قال: الحسي ونحوه، وهو إذا كان طَبْعها يقتضي فعل شيء، فهو الشهوة، والغضب عليها يَقْتضي تركه، فهو الغَضب، فإذا غلبتك في الأكل حتى أكلت كثيراً، ثم بعدُ ذكرت ما فَوّتت عليك من الفضيلة وثواب القناعة، تأسفت على ذلك، حتى غَضبت عليها، وهمَمْت على أن تخالفها فيما تدعوك إليه، فهذا مَثَل التسليط المذكور، أو نِمْت حتى فاتتك الفَريضة أو قِيَام الليل حتى تأسَّفت، أو عَزَمْت على أن لا تنام إلا أربع ساعات فغلبتك عَيْناك حتى نمت ست ساعات، فَتعبت من ذلك، فهذا هو الغَضَب عليها، وتسليطه على الشهوة أو كما قال.
وقلت له رضي الله عنه: إذا كان الإنسان يعمل شيئاً من الطاعات، ولم يعلم بشيء مما يفسدها، هل يَتَطَرَّق إليها مُبْطل؟، فقال: لا، إلاّ إن كان يعلم فيها شيئاً من المبطلات، ولا عبرة بالوسوسة ولا تضر، فقلت: فإن وقعت الوسوسة في الصَّلاة، حتى غَيَّرت قلبه، وأشغلت خاطره، هل يضر ؟ قال: لا، إلاَّ الكمال فلا تكون صلاته كاملة، ودواها الإعراض عنها.
وقال رضي الله عنه: الدلائل العَقْلية والبراهين تشكِّك، لأنها إنما وضعت للمحاججة مع الكُفّار، والمؤمن لا يَحْتاج إليها، لأنَّ من عرف زيْداً مثلاً، فقيل له انظر إن هذا زيد، إما يشككه فيه، أو يَمْقته الآخر، والبراهين التي عليها المعول براهين القرآن، كيف وكُفَّار قريش لم يَكْذبوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، في قوله لهم، إن لكم إلهاً خالقاً، وإنما كَذّبوه في الوحدانية وأنهم لم يروه .
(2/23)


وقال رضي الله عنه: في قول صاحب العوارف، إن النفس الحيوانية تولدت من الروح الرباني العُلوي، كما تولدت حواء من آدم، للتوالد وحصول الذرية، فيتولد من النفس الجسمية، والروح، ثم قال سيدنا نفع الله به: كلام الشيخ هذا لا يوافق عليه، وما وافقه عليه أحد من الأكابر، لأنها لو خلقت منه لكانت طيبة مثله، وليس كذلك، وهذا من مشكلات الكتاب، فقد ذكره زروق في الكتب المشكلة، ككتب ابن عربي وغيره .
وقال رضي الله عنه في حديث: (( إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن، وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنهن صلاة وقرآن ودعاء))، قال: أي ينبغي تعليمهن ذلك وإن لم يمكن تُكتب وتعلق عليهم، وإن جمع لهم بين ذلك فحسن، وإن أمكن نزعه عند دخول الخلا فليفعل .
وقال رضي الله عنه في حديث: (( إن الله خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل ))، قال: فعلى هذا إن الذي أخطأه النور أكثر ممن أصابه، لأن أهل الضلال أكثر من المهتدين .
ما قال فى رؤية النبى صلَّى الله عليه و آله وسلَّم
وقال رضي الله عنه: رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في صورة رجل صالح، هي بشرى من الله، أو على صورة من ليس من أهل الصلاح، ففي ذلك إنذار للرائي، يدل على أنه شرير، وأما من قال شرط رؤية النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أن تكون على صورته المنقولة، حتى يرى رباعيته التي كسرت، فذلك غُلُو، وقد ذُكِر: إن الشعراوي سأل الله أن يريه مقامه، أو قال مَنْزلته عنده، فرأى أنه على مَطْرحة محشية شَوْكاً، فاستدل بذلك على أنه بقيت فيه بقايا، ماتَطَهَّرَ منها إذ ذاك، وكان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يَسْأل الناس من رَأى منكم رؤيا يَقُصّها عليه، كان ذلك منه أول الأمر، ثم وقعت له رؤيا فلم يسألهم بعدها .
(2/24)


وقال رضي الله عنه: في قول القائل ( وما من يد إلا يد الله فوقها )( ) إلخ، هذا مشاهد من أفعال الله، من تأَمّل أفعال الله في الوجود، وما نَصَّه( ) الله في آيات القرآن، استغنى عن أشياء كثيرة، وإذا حصل له المعرفة الكُبْرى، معرفة الوحدانية بأي وجه كان فهو المراد، فَكَيف وقد ملأ( ) العوالم كلها، ولكن الجسم المخدور( ) لا يحس بدخول الإبرة، وأنشد رضي الله عنه يوماً( ):
لي حيلة فيمن يَنُمُّ ... ... وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول ... ... فحيلتي فيه قليلة
وأنشد أيضاً:
الكلب أحسن عشرة ... ... وهو النهاية في الخساسة
ممن يطالب في الرياسة ... ... قبل أوقات الرياسة
وقال نفع الله به: هذا البيت لأبي العتاهية، ولم يسبق إلى مثله قال أي ما سبقه أحد إلى المعنى، لا أنه ما سبق بالبيت وهو :
ما كل قول له جواب ... ... جواب ما يَقبُح السكوت
ويجد المجوب في السكوت عن جَواب من لاَ يعرف لذة، لأنه لو تكلم شغل نفسه مع من لا يعرف بلا فائدة، وله أيضاً :
تعالى الله يا سلم ابن عمرو ... أَذَلّ الحرص أعناق الرجال
ثم قال نفع الله به: للشعر موقع عند العرب، ويسمونه ديوان العرب وتكَلَّم كثيراً، ثم قال: هذا هو معنى: الحديث أشجان، ومثله يُنْهى عنه في الصلاة وإن لا بد فتُزْجى به الأوقات.
وقال رضي الله عنه لي يوماً: هات سفينتك، فأتيته بها، فقال: اكتب، وأملَى عليّ أبياتاً في معان متفرقة من حِفْظِه نفع الله به، منها هذان البيتان للخليل بن أحمد :
ألم ينهاك شيبك عن صباكا ... ... وتترك ما أضلك من هواكا
وتنكر أن يطيعك قلب سلمَى ... ... وتزعم أن قلبك قد عصاكا
قال: و بيتان آخران :
قد بقينا مذبذبين حيارى ... ... نطلب الوصل ما إليه سبيل
فدواعي الهوى تخف علينا ... ... وخلاف الهوى علينا ثقيل
قال وبيتان آخران :
ومن العجائب والعجايب جمة ... قرب الحبيب وما إليه سبيل
(2/25)


كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
ثم قال: وبيتان آخران :
تواضع تكن كالنجم في أفق السما ... ... يُرى صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخَّان يرفع نفسه ... إلى طبقات الجو وهو وضيع
ثم قال: بيت آخر :
إن الرجال صناديق مقفلة ... وما مفاتيحها إلا التجاريب
ثم قال: بيتان آخران :
إذا كنت قُوتَ النفس ثم هجرتها ... فما تصنع النفس التي أنت قُوتُها
تعيش كعيش الضب في الماء أو كما ... ... يعيش ببيداء المفاوز حُوتها
وسمعته رضي الله عنه يقول: هذان البيتان للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، مجرب تكريرها بسرعة الفرج، وهما :
توقع صنع ربك سوف يأتي ... ... بما تهواه من فَرَج قريب
ولا تيأس إذا ما ناب خَطْبٌ ... ... فكم في الغيب من عجب عجيب
وكنت كثيراً ما أسمع سيدنا نفع الله به يتمثل بِشَطْر هذا البيت، فأين الله والقَدَرُ، مراراً متكررة، في أوقات متعدِّدة، في أزمنة متطاولة، ولم يذكر ما قبله، ولا ما بعده، وكنت أرغب في تمامه، ولا سألته عنه، فرأيته في بلد الحَسَا في جملة أبيات، وهي :
يا من ألح عليه الهم والفكر ... ... وغَيَّرت حالَه الأيام والغِيَرُ
أما سمعت بما قد قيل في مَثَلٍ ... ... عند الإياس (فأين الله والقدر)
خَلّ الخطوب إذا أحداثها طرقت ... وأصبر فقد فاز أقوام بما صبروا
فكل ضيق ستأتي بعده سَعَةٌ ... وكل فوت سيأتي بعده الظَّفر
وجاء في كتاب المحبة من "الإحياء"( )، ما ذكره يحيى بن معاذ عن أبي يزيد أنه رآه واقفاً على قدميه، حتى قال: أدخلني في الفلك السفلي، إلى آخر القصة، ونحو ذلك، فقال: هذه واقعة حال، أو كُبْر حال، أو من تَسَاهل النَّقلة، كما ترى من تساهلهم في المجالس اليوم، وهذه أشياء قَلْبية، والمراد أنها جائزة في قدرة الله ولا عليك، والجائز غير المحال، والمحال غير المستبعد، لأن المستَبعد قد يكون واقعاً، والمحال ما لم يقع .
(2/26)


وقال رضي الله عنه في حديث خوّات بن جبير رضي الله عنه لما مرض فعاده صلَّى الله عليه و آله وسلَّم فقال له: كيف تجدك؟، قال: بخير يارسول الله، فقال عليه السلام له: أوف لله بما عَاهدته عليه، فقال: ما عاهدت الله بشيء، فقال سيدنا: أي: إن كل مؤمن يمرض، يتأَسَّف على ترك الطاعة والإقبال على الله حال صحته، ويَحْصل له عزم على الجِدِّ في ذلك إن عافاه الله وعاد إلى العافية، فقال عليه السلام له ذلك مذكّراً له بهذا العزم، أن يفي به لما رآه متعافياً.
وقال رضي الله عنه: في حديث إذا دخل رمضان صفدت الشياطين، أي ما عدا الشَّيطان الكبير، وهو إبليس فلم يرد فيه نَصّ، ولو كان كذلك لما تعرض لهم يوم بدر، حيث أخبر الله عنه بقوله: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ }( ) الآية .
ووقعة بدر كانت في رَمَضان( ) وحَظّ أعوانه من الإغواء أكثر منه، فإنه ماله من العمل إلاّ الوَسْوسة، فيوسوس له في الأمور المذمومة، والمصفدون هم المردة منهم، وقيل لبعضهم أينام الشيطان؟، قال: لو نام لاسترحنا ساعة .
وقال رضي الله عنه: النفاق على قِسْمين: نفاق الكافرين، وهم من يظهر الإيمان ويخفي الكفر، ونفاق المؤمنين، وهو أن يؤمن ولا يعمل بما يقتضيه الإيمان، ومن علامته أن يضيق ويضجر من قراءة القرآن، والجلوس في المسجد ونحو ذلك، ويستأنس بالهَذْوة( )، والمجالس والأسواق ونحوها، ولم يُعرف هذا إلاَّ من قريب، وقيل للحسن البصري: إن النفاق والحمد لله ليس في وقتنا، بل في وَقْت الصحابة، وقد انقضى، فقال: لو أن للمنافقين أذيالاً، لما وجدت مكاناً تجلس فيه، يعني لكَثْرتهم، ويدل على نفاقك أن تغضب إذا قيل لك يا منافق، لأن الإنسان ما يخلو من نفاق.
وقال رضي الله عنه: يتنزل للعبد من الخير والشر على حَسَب عمله، جزاء وفاقاً، ولا بد أن يرى جزاء ما عمله في الدنيا والآخرة .
(2/27)


أقول: ويؤيد ما ذكر، أنه حُمِل شخص إلى بعض الأمراء، وقد اتهم بسرقة فقطع يده، فقيل للشخص هذا جزاؤك، فقال: إني ما سرقت في هذه ولكن سرقت قبل مرة، فاتهم غيري فقطعت يَدُهُ وأنا أنظر، فعاملني الله بأن قطعت يدي بسرقة غيري .
وقال يوماً رضي الله عنه وقد ذكر كِتابَهُ "الفصول العلمية" ثم قال: إنا نتكلّم بالكلام ولا يُعمل به، كالذي يتردد بمتاعه إلى السوق كل ساعة ولا يبتاع لكساده وقلّة الرغبة فيه، كَمَوْلى الزمالة، وهو أنه دخل رجل من بيت جبير في سَابق الزمان إلى تريم حاملاً زمالة مملوءة بَلَحاً، وأراد بيعه فلم يَنْفُق له، ولا أحد ساومه فيه، فضَجر منه، وطَرَحه عند باب بعض المخازن على دكّة، ورآه صاحب الدكان، فلما انصرف أخذه صاحب الدكان وباعه، وميز ثمنه، وبقي يتسَبَّب فيه ببيع وشراء، حتى رَبا وزاد، ثم بعد مدة سنين، جاء ذلك الرَّجل صَاحب الزّمالة عند صاحب المخزن، وَجَعل يتحدَّث معه، وقال: كنت أتيت سنة من السنين إلى هذا الموضع بزمالة فيها بلح، ورميت بها هنا، فقال له: أنت صاحبها؟، قال: نعم، قال: أدخل المخزن، خذ هذا المال فإنه حَقّك، وحكى له بما فعل بها، فأخذه وانصرف، وكانت لأهل تريم مناقب حَسَنة، هذه من جملتها .
ومنها: أنَّه مَرَّ رجل عليه دين لآخر على صاحب الدين( )، ولم يسلّم عليه فتعجَّب منه، وقال: لم تركت السلام؟ قال: حياء منك لأجل دَينك، ما أردت أن تَعْرف أني هنا، وكان بصيراً( ) فقال له: أنت بريء من الدين، فتعال بنا إلى الدَّار، فدخل به داره وأكرمه .
(2/28)


ومنها: أنه مَرَّ رجل على أرض فيها حرث، ومن جملة الحرث غلفق( )، فَسَرَق منه ملأ مظلَّة كانت على رأسه، ثم وَضعها على رأسه، وسار وصاحب العَمَل( ) يرى جميع ما فعله وهو ساكت لم يُرِدْ أن يَفْضَحه، فلما سار عارضه رجل وحركه، فسقطت( ) وأنتثر( ) فَظنه سَرَقه، فصاح صاحب العمل عليه، وقال: أصلحك الله أردناه ذرْياً فبدَّدته فَزَال عن ذلك الرجل ما ظنه به أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: بعد ما أكثر المذاكرة يَوماً ثم قال: وكَثْرة المذاكرة لا نحبّها، ولو ذاكرنا أحداً من هؤلاء غرق معنا لكثرة ما قرأناه وطالعناه ولقيناه من المشايخ .
وقال رضي الله عنه: العلوم الدينية والأعمال الدينية، يَنْبغي أن لا تُفْعَل إلاَّ مع الإجتماع، ليتم أمره ويَكْمُل، وأما الأمور الدنيوية فما عليه إلا أن يخلص فيه، ولا يَنْبغي السؤال اليوم إلاَّ عن أمور الدين، ، ولا الاستيصاء إلاَّ بها، وأما أمور الدنيا فهم مجتهدون فيها من غَيْر كلام، فلا يُحْتاج إلى الإيصاء به والسّؤال عنه، فالحازم لا يوصي، وهذا موعود به في آخر الزمان، بأن الناس يُقبلون بكليتهم على الدنيا وينسون أمر الدين، قال والناس ما يتواردون على أمر واحد، فإذا تَوَاردوا عليه، كان كالعدم .
حكاية أصحاب السرير والمروحة
(2/29)


كما حكي عن جماعة قصدوا ملكاً يريدون المنزلة عنده، وفيهم عَرَب، وفيهم عَجَم، فأمر بالعجم بمنزل وحدهم، وبالعرب وحدهم في منزل آخر، وأراد يرى ما يَصْنعون ليَخْتَبر أحوالهم سياسة منه، وجعل عند كل فريق منهم في منزله سريراً واحداً، فأما العجم فقدموا واحداً منهم وأجلسوه على السرير، وبقوا تحته يخدمونه، منهم من يفصّ( ) له، ومنهم من يَذُبّ عنه بالمروحة الذّباب، ويُرَوِّحْ عليه، حتى صار كل واحد منهم في خدمة، وأما العرب فكلما أرادوا أن يقدِّموا واحداً، قال الآخر أنا الذي أتقدم وتكونون من تحتي، وقال الآخر مثل ذلك، حتى اختلفوا بينهم فأمر الملك بطردهم وإبعادهم وأجاز العجم وأكرمهم، والعلوم تكلم فيها السابقون، فجاء من بعدهم فوجدهم قد سبقوه بكل شيء من دقايق العلم، وأراد أن يَذْكر غير ما ذكروه، كالذي جاء إلى أرض واسعة، فارغة من البناء، فبنا فيها داراً فجاء آخر فرآها مبنية فكنَّس، فجاء آخر فرآها مكنوسة، ففرش وعلى هذا.
وذكر رضي الله عنه المطالعة فقال: أولى ما ينبغي أن يطالَع كتب الإمام الغزالي، على قَدْر حالك، فإن كنت من المُبْتدئين، فالبداية، وإلا فالأربعين الأصل، وإلاّ فالمنهاج( )، فإن كان لك فَهْم ومَعْرفة بالعلم، فطالع في الإحياء، فإن كُنْت لا تعمل بالبداية، فقل في نفسك: لا شك إذا لم أقدر على العَمَل القليل، فلا أقدر على الكثير، كمن ليست له دواب قوية يَسني عليها، فلا يَزْرع كثيراً بَل قليلاً على قدر طَاقته، ولا يَتَشَوَّف إلى الكثير وهو عاجز عن القليل، والإحتياط للعلوم أولى من الإحتياط للزرع .
(2/30)


وقال رضي الله عنه: في ردّ المظالم والأموال المغصوبة: يسأل عنها أهلَ التقوى من العلماء الذين يخشون الله، وهم الذين يعرّفونك بالسر، ويسترون عليك، ويبينون لك وجه البراءة للذمة، وكيفية التَّقوى، فهؤلاء هم العلماء المحققون، وأما علماء الدنيا فإنما يُسَمّون مُتَرَسِّمين لا علماء، ولو جئت لأحدهم بالمال وأعطيته نصفه أخَذَه منك، فليس أولئك بعلماء، إنما هم متشبِّهون بالعلماء، فأقل الأمر إذا لم يكن من أهل التقوى، فليكن كالشَّمعة تضيء للناس، فتنفع غيرها وإن إحترقت في نفسها( )، وما عاد التوبة إلا ضحكات يغتسل من الحرام كما يغتسل من الحلال، ويقول: قد تبت، فأين التوبة؟، وأين التائبون صدقاً؟، وأين العلماء المتقون الذين يعرِّفون الناس أمور دينهم؟.
ومر حديث( ): (( إذا الْتَقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار )) فقال رضي الله عنه: هذا يَدْخلها بالنية والعمل، يَعْني القاتل، وهذا يدخلها بالنية فقط، بخلاف ما إذا استسلم أحدهما وقَتَله الآخر، فالمقتول يسلم، ويبوء القاتل بالإثم، كما قص الله في ابن آدم .
وقال في حديث( ): (( إذا التقى المسلمان فتصافحا، وتكاشرا( )، قسمت بينهما مائة رحمة، تسْعة وتسعون لأكثرهما بِشْراً، وواحدة للآخر ))، أو كما قال في الحديث، قال نفع الله به: فالفضل المذكور للأكثر بشراً إذا كان لله وللدّار الآخرة، لا لأمور الدنيا، فإن الدنيا جميعها ساقطة.
وقال رضي الله عنه: كلما شَكَكت فمل إلى ما فيه الإحتياط والنجاة في الآخرة، كالسيل إذا تطرفت( )، ينبغي أن تميل إلى جانب البَرّ، وإلا سَقطت في الماء وغَرِقت.
وقال رضي الله عنه: شَكّ المأموم في الصلاة مع شكّ الإمام من سوء الوضوء، وفي بعض الأحاديث( ): (( ما بال أقوام يسيئون الوضوء فيشكون إذا شك الإمام )) .
قف على ما قال في الكتب المعتمدة
(2/31)


وقال رضي الله عنه: أركان الدِّين عندنا وقواعده أربعة: "البخاري" في الحديث، و"البَغَوي" في التَّفسيْر، وفي الفقه "المنهاج"( )، ومن الكتب الجامعة "إحياء علوم الدِّين"، هذه القواعد التي عليها البناء، وطَالعنا كتباً كثيرة، ولم نر أجمع منها، والوَقْت قَصير، والقَوَاعد هي التي عليها البناء، وهي العُمُد، وما مذهبنا إلا الكتاب والسنة، حتى إنه سألَنا بعض النَّاس في الحرمين سنة حججنا عن مذهبنا، فقلت: شافعي، وفي المجلس رجل مكاشف من أهل الخطوة، فقال لي: ولم تقول أنت شافعي، وأنت مذهبك الحديث، فقلت: كيف؟ إن أسلافنا كلهم على مذهب الإمام الشافعي.
وقال رضي الله عنه( ): العلم دليل الفعل، فإن لم يكن فهو خَسَارة على الطالب والمَطْلوب، والأحسن للمحترف أن يَعلم ما لا بُدّ له من علوم الإسلام، وعلوم الإيمان، إذا لم يسهل عليه أن يعمل بما في "البداية"( ) ويَشْتغل بحِرْفته، ويترك طلب العلم [ أي الزائد على الكفاية ]، ويَسْلَم من خَطَره، ويدعه على غَيْره، سواء كان بَرّاً أو فاجراً، فإن قدر أن يعمل بها( ) فيطلبه، فإن العلم يزيده خَيْراً، وإلاَّ فمن عجز عن القليل، فلا شَكّ أنه عن الكثير أعجز، وفيها( ) ميزان عجيب، أو قال عظيم، ذكره مصنِّفها فليجرب به نفسه .
وقال رضي الله عنه ما معناه: يَنْبغي للمؤذن والمُقِيم، أن يُظْهرا نون التَّنوين، من قول أشهد أن محمداً رسول الله، لأن في إدغامها إشكالاً يوهم.
وقال رضي الله عنه في قول بعضهم ( إذا كثر علم الرجل، قل كلامه ) أي لأن الخوف يَمْنعه من الكلام في الفور .
(2/32)


وقال رضي الله عنه: من أراد أن يصير عالماً فَلْيَجْتمع على علم، ويتَمكَّن فيه حَتَّى ينسب إليه، ويتَطَرَّف في بقيّة العلوم، حتى لا يُنكر شيئاً منها إذا سمعها، قال سيدنا عليّ: من جهل شيئاً أنكره، وقال: من أكثر من شيء عُرِف به، ويكون كذلك، إن كان فقيهاً، أو صوفيّاً، أو نَحْويّاً، أو غير ذلك، والسؤال في غَيْر موضعه - أو قال محله - بلاء على السائل والمسئول.
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( إن البيت المعمور بحيال البيت يدخله كل يوم سَبْعون ألف مَلَك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ))، في بعض الأحاديث إن فيه أو عنده عين ماء يدخله جِبْريل عليه السلام كل لَيْلة وَقْتَ السحر ينتفض فيطير من جناحه سَبْعون ألف نقطة، فيخلق الله من كل نقطة ملكاً، فهم الذين يدخلون البيت المعمور، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة .
وقال رضي الله عنه: ما معناه بعد ما ذكر في إيداع السلام وتبليغه: من بَلَّغ إلينا السلام ولم يجتمع بنا، فما فاته منا أكثر مما حَصَّله ،كما قال الشيخ أبوبكر بن سالم: ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته .
(2/33)


وقال رضي الله عنه: أمران لا ينبغي أن يذكرا للعامة، ولا يسمعونها: دقائق العقائد، ودقائق الأحكام، أو قال دقائق الصلاة، فإنك لو تَتَبعتهم فيها، لما رأيت صلاتهم صَاحّة( ) على المَذْهب من إخراج الضَّاد وغير ذلك، بل إذا حملهم مذهب فاتركهم على ما هم عليه، وإلاَّ شددت عليهم، ولا أمكنك أن تحصّل منهم المطلوب، وكذا في العقائد لا تذكر لهم شيئاً من الخفايا فيها، بل ترى أحدهم يقول: الله مَعْنا الله ناظرٌ إلينا، ونحو ذلك، فاكتف منهم بذلك، فإن أردتهم أن يكونوا معطِّلة محضاً فاذكر لهم شيئاً من أمر الجهة والجسمية، ولذا يقال: العامي لا مذهب له، لأنه يُحْمل على الأسهل، ويقال: الصوفي أيضاً لا مذهب له، لأنه يتتبع الأحوط من كل مَذْهب فيأخذ به، وطَعَن بعضهم في قولِ: لا مذهب للعامي، وهو غالط لا عِبْرة بقوله، أو قال رُدَّ عليه .
ومر في الدرس ذكر بعضهم ذَمّ الكلام، فقال نفع الله به: من موبقاته ذكر البراهين، لو كان كذا، لكان كذا، فيوقع في القَلْب التهم، وَلَوْ تَفْتَحُ عمل الشَّيطان، إنما العلم مجرد العقيدة فقط، دون ذلك .
انظر ما قال في الشاهد العدل وتساهل أهل الزمان في الشهادة
(2/34)


وذكر رضي الله عنه الشاهد العدل الذي تُقْبل شهادته، فقال: لابد في العدل من المَعْرفة لما شهد به كما هو، فلو حَضَرَ مجلس بَيْع مثلاً، ولكن ما عرف البايع أو المشتري أو المبيع ونحو ذلك لا تَصح شهادته، وإن صَدَق في حضور العقد وفيما رآه كشهادة الهلال، حتى يكون مع العَدَالة عارفاً بالمطالع والمنازل، وأكثر شهود الزمان ما هم بعارفين بما شَهدوا به، ولا فيهم عدالة، الواحد منهم تمرعليه ثلاث صلوات فأكثر، في مجلس واحد إما حايك أو ضِعيف( ) أو غير ذلك، وإذا لم يقع الاحتياط في صيام أُمَّة، ففيم ذا يكون؟!، في بيع دار أو مَيْسمة( ) أو في حساب قرش، و إذا ما عَرَفوا، فيَنْقلون كلام عارفين وعلماء، ولو كتبوه كتابة، ما ترى، كان هنا أناس أهل علم ومعرفة، فإذا لم يتأدبوا مع الله ورسوله والأكابر، فمع من يتأدبون .
تأمل هذه القاعدة الكلية الجامعة
ثم قال احفظوا هذا: إن كل من تهاون بأصول الدين، وبالتَّوحيد من الإيمان بالله، ورسوله، واليوم الآخر، وفِعْل الواجبات، من صلاته وزكاته، ويَرْتكب المحرمات فلا يؤمَن.
وذكر سيدنا رضي الله عنه: يوماً رؤية الهلال، واختلافهم في رؤيته، فقال: لما اختلفوا في أول الشهر، اختلف عليهم آخرُه، والأشياء لها أوائل ومقدمات، تَحْتاج أن تضبط، فإذا لم تضبط الأوائل، لم تَنْضبِط لك الأواخر، وهكذا في أمور الدين والدنيا، وهؤلاء( ) لا يعرفون، وإذا عرفوا لا يسمعون .
(2/35)


وسأل رضي الله عنه: عن استهلال الشهر هل هو في ناحية دوعن كما هنا بيوم واحد، فقيل: لا، فيه تَقْديم عندهم، يعني شَوّال في تريم، بالسَّبت، وهناك بالجُمْعة، فلام الناس في تسَاهلهم في الرؤية، حَيْث اختلفوا والمَطْلع واحد، فقال: ما عاد نَحن عند شيء، إنما يتَعيَّن عليهم أن يُرَاعوا الأحكام المتعلقة بالأوقات من العِدَد وتأجيل الديون، والنُّذور، وغير ذلك، فإن بتقصيرهم في ذلك بايحصل التَّقصير في هذه الأحكام، ثم قال أحوال وأمور لو تَصَوَّرها الإنسان قبل وقوعها، هل يمكن وقوعها، لم يجوِّز ذلك بل يَسْتَبْعده، ويَسْتَحيله، ولكل شيء حُكْمُهُ، فإذا تصوّر الأمور الإلهية فلها حكم آخر .
أقول: وذلك إنه سنة 1116هـ بعد دعوى رؤيتهم الشهر، في خروج رمضان وثبوته عند القاضي، وإفطار الناس، وسيدنا الحبيب ومن تَبِعه ما أفطروا أول يوم، وما تحقّق رؤيته إلا لَيْلة رابعة من رؤيتهم، فكل من حدثته بذلك، قال هذا كذب ومحال، وهذا مصدقاً( ) لقول سيدنا أحوال وأمور إلخ .
(2/36)


ودخلوا عليه رضي الله عنه جماعة يعودونه، وكان معه حُمَّى وذلك في مرضه سنة 1130هـ فلما فرغوا من المصافحة، جَعَل يتكلَّم في رؤيتهم الشهر، ويخطئهم فيها، فقال: تمضي ثلاثة أشهر ما خَرَجوا يشوفونه، فإذا كان شهر فيه لهم أكل خَرَجوا له، والنَّاس ما هم فيما يتعلق بذلك، فلا فرق في أكلة تأخرت أو تقدمت، وإنما الحَرَج فيما تتعلق به الأحكام من الأشهر كَمدخل رمضان، وخُرُوجه وشهر يوم الحج، وكذلك العقود والأنكحة والعِدَد وغير ذلك، وهم عَمَّال يدورون الإشكالات، الإشكالات ما هي في الدين، كيف يشهدون به ولا يُرى ثاني ليلة، وقد لا يرى ثالث ليلة، كيف يكون ذلك، ورؤيته تحتاج( ) معها إلى معرفة حساب وهندسة، ليعرف محل النظر إليه، ويعرف إمكان رؤيته، ولكن هذا الزمان ما سكت ولا خَلاّ أحداً يتكلم، إن سكَتَّ ما صَبَرْتَ، وإن تكلمت ما لحقت أحداً يقبل، كالذي يَضْرب بالفاس على حجر، وما معك من الزمان اليوم إلا كما يحكى عن رجل كان ينظر إلى أمرد حسن وهو في الطواف، فما درا إلا بضَرْبة جاءته في وجهه، فقال آه، فقيل اسكت، وإلا جاءتك أخرى، فما لهم إلا مثل هذا، ولو كان( ) ذلك إلا من سلطان قاهر . وتَسْهَنه أن تثبُت رؤيته بالإثنين من غير اشتباه، وأن تكون الأمور صالحة، والفتن ساكنة، والشر منطفي، ثم أمر منشداً فأنشد بقصيدة الخِلِّي التي امتدحه بها: (قف بالمطي على الحِمَى يا حادي) . فلما فرغ، أمرني بتَفْرقة أسوكة، وقال: أعطهم على واحد واحد، فجاءت على عَدَدِهم كذلك، ثم قرأ الفاتحة وخرجوا .
(2/37)


قوله: تَسْهَنه إلخ أي ترجوه، يَعْني هلال ذي الحجة سنة 1130هـ، فثبت كذلك بالإثنين، من غير اشتباه، كما رجاه نَفَع الله به، فحَقَّق الله رجاءه، وكذلك ما ذكر بعده من صلاح الأمور، وسكون الفتن، ثم دعاهم رضي الله عنه، للدخول عشيَّة يوم التروية، وهو ثَامن ذي الحجة يوم الاثنين، فدخلوا عليه، فلما اطمأن بهم المجلس، جعل يَتكلّم فكان كلامه كله كان( ) تَنفّس، كالفاقد لمجالسه المعتادة، والمتَعطِّش لجريان المذاكرة بعد انقطاعها .
انظر ما قال في الصبر
وقال رضي الله عنه: إذا ابتليت بما يُمْكِنُكَ الصَّبر عليه، فلا تخرج من الصَّبر( ) إلى الجزع( ) ونَحْوه بل إن خرجت منه، فاخرج إلى الشّكر( )، وإذا دامت الشّدائد أُلِفَتْ وكانوا( ) لما ابتلاهم الله اتسعت قلوبهم، بأن أنزل الله في قلوبهم السَّكينة فصَبَروا ولم يتزحْزَحُوا .
وقال رضي الله عنه: إن المحن التي تصيب المؤمن في الدنيا، جَعَلها الله له بمَنْزلة الحدود على ما عَمله، قال ذلك نفع الله به لما كثر المتجوِّرون في الحاوي عِنْده خوفاً من الدَّولة، فقال لهم: هذه عقوبات على أفعالكم السيئة، ثم قال إن المحن إلخ .
أقول: يشهد له حديث( ): (( من أصاب منكم حداً، فأقيم عليه الحد في الدنيا فهو كفارة له ))، الحديث، وكان رجل يَكْتب للدَّولة، فتاب من خِدْمتهم، وبقي يعاوده وجع في الأصابع الثلاثة التي كان يَقْبض بها القلم، فإذا اشتد به وأسهره، جاء إلى سيدنا يقول: اتفل عليه، فيتفل عليه ويقول له: هذا محل القلم السوء .
وقال رضي الله عنه: ما يجمِّل أحداً ويستره في هذا الزمان إلاَّ الصَّبر، وفي الحديث، وفي الصَّبر على ما تكره خير كثير . وكم من الضرر في فَلتات اللسان، والرّجل العاقل هو الذي يسع، وهو الذي يَصْبر، وأما النساء فلا يَحْتَملن ذلك، وبين عقولهن وألسنتهن برزخ .
(2/38)


ومَرَّة قال: ما يستر الإنسان إلاَّ العافية، والعافية هي السِّتر للإنسان، وعليها المعوَّل في طلب الدين والدنيا .
وقال رضي الله عنه: اللسان له طغيان كطغيان الميزان، من غير أن يشعر الإنسان، كرجل يظن أنه يملك لِسَانه أن يتعَدى إلى المكروه، فتكلّم بما يحسن فلم يَشْعر إلاّ وقد تكلم بكلمة تضر ولا تنفع، وكذلك من يظن أن في نفسه سماحة بحيث لا يبالي بما نقص مما يوزن له من الحق، فإذا حضر الوزن تمنى في نفسه أن يزيد الذي له على الآخر، وربما فرح بِغُبار يثقل مقابله، وليس هذا من طبع المؤمن، بل إنما يجب( ) أَنْ ينقص حَقُّه قليلاً، فإن ذلك احتياط له، وسلامة له من التَّطْفيف المحذور منه، وصَدقة له يَحْتسبها في موازين حسناته.
وقال لي السيد سالم( ) بن عمر بن الشيخ أبي بكر بن سالم، قال: قلت لسيدنا الحبيب رضي الله عنه: أخبروني بإسنادكم في الخرقة، فقال: إذا قُدَك تَسير على الماء أخبرناك بذلك، فقلت: ومتى يكون ذلك؟ فقال: إذا انتفت عَنْك الحُجُب، قلت: فكيف ذلك ؟ فقال لو مَرّ عليك رجل ولم يصافحك، أتَحْنَق؟ قلت: لا، قال: فإن شتمك أحد وأنت تسمع، هل يقع في خاطرك؟ فقلت: لا، قال: فلو ضاع عليك شيء من الدنيا له قدر، أكنت تَشْتَغل بسببه؟ قلت: لا، فقال رضي الله عنه: إن صدقت فقد قَرُبْتَ .
(2/39)


وقال رضي الله عنه: ينبغي للإنسان أن يُوَطِّن نفسه على مَا هو من طَبْع الدنيا من الكَدَرِ، وإن حصَّل راحةً في شيء فهو عَارض، فقد قيل للجنيد: نَرَاك لم تتعب من أمر يكون عليك من مصائب الدنيا، فقال: اعتقدت أن جميع أمور الدُّنيا مصائب، وَوَطّنت نَفْسِي على ذلك، فأنا كل شيء يرد على نفسي مُوَطِّنه على منواله، ثم قال سيدنا: عمدة الأمور على شَيْئين: القِيَام بوظائف العبودية، وأن لا يَنْسُب إلى نفسه شيئاً من كل شيء، ويكون كالجسم الملقى، والقُدْرَةُ تَتَصرف فيه، كما ذكر عن سهل التُّستري رحمه الله، قال: إذا قال العبد أنا أطعت، وأنا عملت، وأنا فعلت، فيردّ الله سبحانه عَليه بقوله تعالى: أنا خلقت، وأنا غَفَرت، وأنا سترت.
وقال رضي الله عنه: ما تأسَّف العرب ما تأسَّفوا على شيئين: فراق الأحباب، وفوت الشباب، وأنشد هذين البيتين( ) :
شيئان لو بكت الدماءَ عليهما ... ... عيناي حتى تؤذنا بذهاب
لم يَبْلغ المعشار من حقيهما ... ... فقد الشباب وفُرقَةُ الأحباب
وقال رضي الله عنه لرجل به ألم: ما يتمّ الأمر إلاَّ بالصَّبر والشُّكر، فإن أمور الدنيا ما لها تمام أبداً، طال الأمر أو قصر، لأن الدنيا مبنية على النقصان .
وقال رضي الله عنه: شَرْط الصَّبر على الشيء، أو الصَّبر عنه، أن يكون الصَّبر أرجح من مقابله، والا يوشك أن يرجح مقابله عليه، فَيَقع في( ) الحَرَج، فَيفْعله على الوَجْه المأذون فيه، كمن يَضَعُ رِطْلاً في كفَّة ميزان، ودونه في الآخرى، فيرجح لا محالة - قال ذلك - لما مر في قراءة "قوت القلوب": إن الأولى للمريد تَرْك التزويج، إن أمكنه الصبر .
وقال رضي الله عنه: اثنان لهما أكبر المنة على آل باعلوي، الشيخ أحمد بن عيسى، خَرَج بهم من البدع والفتن، والفقيه المقدم سَلّمهم من حمل السلاح، والعمومية بكسره السلاح لما تفقر( ).
(2/40)


وذكر له رضي الله عنه رجل قد أخذ عن بعض مشايخه، فقال: قد اجْتَمَعْنا به أول مَرّة، وثاني مَرَّة، وفي الثالثة ما رُحْنا عنده، لأنه حصل لنا رؤيا من جهته، وكذلك بعض السَّادة رأى رؤيا، ولا حكى لنا بها إلاَّ ونحن هناك، ثم انجر الكلام كثيراً، ثم قال: ولا أعلم هل يَتعلّق بذلك أم لا، إنّا إذا أشَغَلَنا أحد أو قال آذانا أحد لا ندعو عليه ولا نَكْرهه، ولكن نحبّ أن نتكلم عليه بكليمة حتى نَتَنَفَّس بها من جهته لئلا يَبْقى في خاطرنا عليه شيء، فيأخذه الله بذلك، لأنا جَرَّبنا ورأينا من عادة الله، أنه ما آذانا أحد إلاَّ أخذه الله .
(2/41)


وذكر مرة رضي الله عنه: أنه سافر إلى دُوْعَن، وأنه زار الشيخ علي باراس( )، وكان من تلامذة شيخه الشيخ عمر العطاس، قال: فأراد مِنَّا أن نأخذ منه الطريق، فامتنعنا وقلنا قد أخذنا عَمَّن أخذت أنت عنه الشيخ عمر، والسادة إنما مَدَدهم من بَعْضهم بعض، وغيرُهم إنما يستمد منهم، وألَحّ في ذلك، فلما رأى امتناعنا من الأخذ عليه فعل لنا عَصِيْدة، وأرادنا نَتَغَدَّى عنده، فأَبيْنا من ذلك، فأنكسرت البُرْمة، وسَقَطَت العصيدة في الرماد، فقرأنا الفاتحة وَخَرجْنا، هكذا بهذا المعنى واللَّفظ ذَكَره نفع الله به يوماً في مجلسه بالسُّبير، وسَمعت من يذكر ذلك ممن حَضَر مَجْلسه عند باراس، أنه لما أراد القيام من المَجْلس، قال باراس: ياسيد عبدالله عَجِزْنا عنك من كل وجه، وإن بَعْض الساده من آل الجفري من أهل الخريبة، كان تلك الليلة التي بات فيها سَيّدنا بالخربية بوادي ليسر، فَحَكى ذلك السَّيد: أنه رأى تلك الليلة رؤيا، رأى أن سيدنا عبدالله أقبل على باراس، فاتحاً فاه، وحَنكه الأسفل بالأرض، وأعلاه في السماء، وباراس بين يديه كالعصفور أقبل عَلَيْه ليلتقمه، وإذا السَّيد عمر العطاس معترضه يقول له: لا يا سَيّد عبدالله، لا يا سَيّد عبدالله، إتركه لأجلنا، فتركه، ولم يعلم الرائي بالواقعة، إلا لما حكى بالرؤيا، أخبر بما وقع له معه، وإنما فعل باراس العَصيدة لَمَّا امتنع سيدنا من الأخذ عنه، لأن أكل الزاد عند أهل هذا الفن، أَخْذٌ للطَّريقة ممن أكل زاده، كما قدمناه من كلام سيدنا ( لو يعلم الناس ما في طعامنا وشرابنا ) إلخ .
وقول الشعراوي: إنهم يَجْعلون المدد في الزَّاد، لمن لم يمكنه الأخذ، سِيَّما في هذا الزمان، ويقوم لهم مَقَام التَّلقين، ويصير من تلامذتهم، ويحصل له منهم المدد .
(2/42)


وقال رضي الله عنه: الطَّالب إذا أراد الجلوس مَعنا، لا نتعذر منه على أي حال، ولو أنا ما نَقْدر استندنا له، وجَلَسْنا معه، وإنما نتكلف لأهل الرسوم .
وقال رضي الله عنه: أهل الدين مَطْمح نظرهم، وسائر همومهم كلها في أمر الدّين، وغافلون عن أمور الدنيا، ومن لم يَكُن غافلاً عنها تغافل، وأما أهل الغفلة فَمطْمح نظرهم وهِمّتهم، وأفكارهم في أمور الدنيا، وإن فَعلوا شيئاً ودَبَّروه وظنوه من الدِّين، فما هو إلاَّ من أمور الدنيا، فيرجع جميع ما يتعاطونه من أمور الدنيا .
وقال رضي الله عنه: من اعتقد في نَفْسه الأهلية، نَقَص حظه، وإن أهلوه يكفيه علم الله بأهليته، فإن اعتقدها كان بخلاف ذلك .
وقال رضي الله عنه: من عامل الله على قَدْرِه تعالى، جَازاه على قَدْره، وإن عاملٌ عَمِلَ لله على قَدْرِ نفسه، كان جزاؤه على قدْر نفسه .
وقال رضي الله عنه: أهل الباطن على الدَّحقة في وَسَط الشَّريعة . وأهل الظاهر على طرف الشريعة .
وتكلم رضي الله عنه في أحوال الزمان فقال: فقدت الأمانة، وفُقِدَ الحياء، وفُقِد الدين وفِعْلُ الخير، يريدون أن يُغْنوا أنفسهم بقلة خَيْرهم فما زادهم ذلك إلا فَقْرا .
وذَكَر له رضي الله عنه رجل حاله، فقال: هي نفسك إن أصلحتها وقَومَّتها فذاك، وإلاّ قَوَّموها بالنَّار .
وذكر رضي الله عنه يوماً مرور الأيام والسِّنين على الغَفْلة، وذكر هذا النظم :
تَمُرُّ بنا الأيم تَتْرَى وإنما نُسَاق إلى الآجال والعينُ تنظر
فلا عائد ذاك الشَّبابُ الذي مضى ولا ذاهب هذا المَشِيبُ المُكَدِّرُ
(2/43)


فقلت له: ياسيدي، ما سَبَبُ غفلة الإنسان، وعَدَمِ اهتمامه بإصلاح أوقات عُمْره، وَشُغلها بالطاعة، مع أنه مُتَحقق بذهابها سُدَى من غير فائدة، فقال ما معناه: سببه عدم شغله لها غاية الاشتغال بكمال الطاعة، وعدم شغله لها بما يقدر عليه أولاً، وضعف اليقين، وقِلَّة رغبته في خَيْر الآخرة، ومحبَّتهُ لأمور الدنيا أكثر من أمور الآخرة .
انظر ما قال في لعب الصبي
وسمع رضي الله عنه صَوْت صَبي يتنَحْنَح، سِنُّه نحو اثنتي عشرة سنة، فقال: من هذا الصغير، فأخبر به وبأبيه، وكان حاضراً، فقال له لِمَ تَرَكْته جالساً هنا، ولَمْ تتركه يروح يلعب مع الصِّبيان، فقال: نريده يستغنم الحضور في مجلسكم، فقال: أنت استغنم عنه، واتركه يلعب الآن، ما دام وَقْت اللعب، حتى يَنْفض جميع ما في الجراب من اللعب ويَرُوْح وقته، وإلاَّ رجع يَطْلب اللَّعب في غير وقته، وحيث لا يَنْبَغي له ذلك، فقد حُكِي: إن رجلاً من الحَنَفيّة جلس للتدريس، وهو ابن عشر سنين، فكان إذا جاع جَلَس يَبْكي . وشَكَا بعضهم ابناً له كان كثير اللعب إلى بعض الصَّالحين وأتى به معه إليه، فأخذ الصَّالح بيد الصبي، وقال له انطلق العب، فقال أبوه: لم؟، فقال: دعه ينفض ما مَعَه من اللعب الآن، ما زال أوانه، وإلاَّ رجع يَطْلبه في غير أوانه، والصَّغير ما دام في سِن الشباب، سِيَّما ما قبل البلوغ فإنه يَنْزع كثيراً إلى اللعب والحَرَكة، ويكون كالقِدْر الذي يَفُور، لا بد لك فيه من أحد حالتين، إما تَنْزع منه الغطا، وإما تنزله من فوق النار، والإنسان تَمُرّ عليه أطوار مختلفة، من طفوليّة وشَبَاب وصِبَا وكهولة وشيوخة( ) وهَرم، فَينْبغي أن يكون في كل طَوْر على حالة تناسب ذلك الطَّور، وإلاّ كان ناقصاً، والتمييز و الصَّبوة يسامح فيها أيضاً أكثر مما يسامح في غَيْرها .
(2/44)


وشكا إليه نفع الله به رجل من ولد له غير بَارٍ، وليس هو في رأيه، فقال له ما عاد معك إلاَّ الصَّبر والمسامحة، والصَّبوة في الصِّغر لا تُسْتَنكر، وفي الحديث: عجب ربك لِشَاب لا صَبْوة له . والصِّبا شعبة من الجنون . وإذا غَلَبتك الأمور فاغلبها بالصَّبر، ولا تَدَعْها تغلبك .
وقال رضي الله عنه: طِبَاع النّساء والصِّبيان متقاربة، ومَيْل الكل واحد، حتى إذا خرج الصبي إلى الكبر رأيته مشمئزاً .
وقال رضي الله عنه: لا تمنع السَّفيه ممَّا يريد، فإن ذلك عناء بلا شئ، ويَنْقلب عداوة فيما بعد، وأَمْرُ الصّغار والحريم لا يَحْتمل البَحْث، إذا قال صَلَّيت لا تحكّ عليه، فإذا حَكَّيت الحِجَارة لا يَخْرج منها إلاّ التُّراب، ثم قال خذ هذه الكلمة واحفظها، أهل الزمان ما لهم نظام، لا في دين، ولا في دنيا، تراك تراهم في صلاتهم لا يُحْسنونها، ولا يُحْسنون زكاتهم، ولا حَجّهم، فهذه أمور دِيْنهم فما بالك بأمور دُنْياهم، وفي بعض الأخبار يأتي زمان يحج أمراؤهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفُقَراؤهم للسُّؤال .
وقال رضي الله عنه: الصّغار اليَوْم ما عاد نَزُرُّ( ) عليهم، إن جاءت منهم زِيْنة بَرَّكنا عليهم، ودَعَيْنا لهم، وإن جاءت منهم عوجا سَرَطْناها، قال الله تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }( ) الآية، ولو قابلت العوجاء بعوجا مثلها، جاءتك عوجا .
وقال رضي الله عنه: لنشاط الأبوين وضُعْفهما تأثير في نشاط الولد وضُعْفه، والأم أكثر لأنّها موضع الحرث، وهي التي تُعْنى به دون الأب .
(2/45)


وتبعه رضي الله عنه رجل بابنه، يوم الأحد إلى السُّبير، وذلك ثامن ذي القعدة سنة 1125هـ فقال: قل له يَرْجِع، من رأيته يحبّ ابنه كثيراً فلا تكون بركة في ذلك الولد، لأنه يَبْقى يداريه ويَترقَّاه فيتغيّر، فلا تعلق قلبك إلاَّ بربك، والمَطْلوب الوَسَط، وأما فرط الحَنانة فإنما هو محمود للنساءِ، وذلك طَبْعهن، ولهذا إذا طلب الرجل ابنه ليضربه، إلتجأ إلى أمه، وإذا أَلِفَ من أبيه تلك المحبة المفرطة، بَقِيَ بلا أدب منه، فلا يؤدبه، لأنه إنما يعامله( ) بما يحب( )، فلا يُحْسن تَربيته، أَلاَ ترى السَّلاطين كيف يَدفعون أولادهم إلى من يُربّيهم من بَدْوٍ أو غيرهم، لِتَحْسُنَ تربيتهم، ثم إذا ألف منه ذلك أنكر خِلافه منه أو من غَيْره، فيتَوَلّد فيه حُبّ الجاه والمَنْزلة، فماذا ترى حَصَل لهؤلاء، اسمعوا كلامنا، كل هؤلاء ما فيهم خير، أو قال ما فيهم بركة، ومَثَلُهم كَمَثَل من يريد يخنِّم بِسْرَة ثم طال به الكلام في ذَمّ محبّة الجاه والظُّهور ومَدْح الخمول وما وقع في ابتداء أمره من الظُّهور، مع توقِّيه منه، وما قالوا له مشايخه في ذلك وأنه شكا ذلك أي ما وقع له من الظهور للسيد عمر العطاس، وذكره له ذلك الذي يقبِّل الناسُ حوافر دابته إذالم يتَمكّنوا من تقبيل شيء منه، وإنه قيل له في ذلك، فقال: إنهم ما عظَّموني، إنما عَظّموا اللّه، فلا أَمْنَعهم من تعظيم الله، إلى آخر ما سبق ذكره من ذلك القَبِيْل، ثم قال: لا يظهر أحد من أهل الظُّهور من الأولياء إلا بواسطة جميع الأولياء من ظاهر وخامل، وذكر الشعراوي أن من ظهر منهم وفيه كفاية، إذا رام أحد مُنَازعته في ظُهور مِثْله، يدعون عليه حتى يهلك، وقد ذكرت كل ذلك بتَفْصيله فيما تقدَمّ، ولما استخلف( ) منه ذلك الرّجل، أبو الولد المذكور، يُريد بلده شبام، قال له: الحذر أن تَغْبط أهل الدّنُيا، وَتَوَدَّ أن تكون مثلهم، فتُحاسب في
(2/46)


الآخرة حساب الأغنياء، وأنت ما معك شيء .
وقال رضي الله عنه: الولد في هذا الزمان، لا يؤمن على الأهل، فكيف بالأجانب، لأن الدّين ضعف جِداً، ومن لا دين فيه كيف يَصِحُّ منه الوَرَع، والوَرَعُ إنما هو خوف من الله، ومن يفرق بين التَّمرة والجوهرة، فلا تأمنه على الوَرَع، والإنسان قد يُبْتلى بنفسه أو بغيره، فإذا زرعتَ شهواتٍ فإنها تريد منك سُقْياً .
وذَكَر رضي الله عنه: الموت والمرض، فقال: قد يُشْرَك الوالد في موت ولده، إذا لم يَطْلب له في الأمور الطبية دواءً .
وسأل رضي الله عنه: عن صبي صغير، هل صَام، قيل نعم، فقال ما معناه: فأي معنى لصيام الصغير الذي لم يجب عليه، ويَشُقّ عليه، ولا يَنْتَفِعُ به، فخَلّوه يُفْطر، يَقْضي لأهله حاجة، فإذا شَقّ على الكَبِير، فَعَلى الصَّغير أشق، فكما أنه يضرب على الصَّوم، ويؤمر به في بعض الأحيان، إذا استطاع، فكذلك يُضْرب على الفِطر ويؤمر به، إذا لم يَسْتطع، ومِثْل الصغير يوم تلزّقه في الدين، مثل الشَّعرة في العجين، والدين إنما هو فِقْه، أو قال فَهْم وعلم بحيث يعرف الذي هو يباشره وإلاَّ غَيّر على نفسه وعلى غَيْره، فكل من لا مَعْرفة له بأمور الدين، إذا أمرته بها غيَّرها وأتعب نفسه بلا فائدة، فينبغي أن يُعَرَّف أولاً كيفية العمل، ويُبَيّن له إذا لم يعرفه من قَبْل، وإنما اكتفى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بأمره لهم على العُموم من غير شرح لهم، لأنهم كانو ا فقها أنفس، يبيعك الواحد منهم ويشتريك بكلامه وأنت لا تشعر وكان الرجل يعرف القرآن وهو ابن أربع سنين، والآن الواحد شَيْبة ما يقرأ سورة إلا أخل بحروفها، فضلاً عن أن يَعْرف مَعْناها، ثم أنشد هذا البيت :
ومكلف الأيام ضد طباعها ... ... متطلب في الماء جذوة نار
(2/47)


ولَمْ يُذْكر أن أحداً سَأل النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، عن معنى لا إله إلا الله لِكَوْنهم عالمين بما تضَمَّنته، عُرْفٌ مَعْروف بينهم، فإيمانهم أَقْوى من قلوبهم، فلو أن محتسباً قام على أهل تريم، لاحتاج أن يُبَين لهم ما يجهلونه، ويطالبهم بما يعرفونه، ويُنْكر عليهم في أمور كثيرة يتعاطونها، ذكر منها نفع الله به جملة، منها أنهم يدَحْرِجون الصغار( )، في مسجد آل باعلوي، يُدَاحِنُون( ) الكبار في المَسْجد والجَوَابي، ويَتْركون ما هو ألزم من ذلك، فأين الزكاة وغيرها، وما كنا نعرف صغيراً يقدم في الصَّف الأول في مسجد باعلوي، وقد كنت إنما أدخله( ) مع الوالد ولا أصلي إلا في الصف الثالث، وهذه الأمور التي حدثت ما كُنَّا نعرف منها شيئاً، ولو توليناهم، أو تولى والٍ يسمع لنا، لأظهرنا لهم أموراً غريبة من الحق ما كانوا يَعرفونها، وغير ذلك ومثل ذلك وأشباه ذلك، وكم وكم أوكما قال .
وذاكرته رضي الله عنه في الكلام المتقدم، في شأن الصغير إذا مَيَّز، بأن يحسن يأكل، ويستنجي ويتوضأ وحده، فيؤمر بالصلاة لسبع، والصَّوم إن أطاقة، قلت فالعمدة في ذلك بالتمييز، أو بالسن، أي بلوغ السبع، قال بهما جميعاً، قلت فلو مَيّز قبل السّبع، أيؤمر قال لا، لأنه لا يوثق بَتَمْييزه قبل السَّبع، ومن كَلّف الصغير أن يُصَلي ويصوم، كما يصلي ويصوم الكبير فقد بالغ وتنَطَّع، وللأمور أوائل وأواخر ووسط، فكل من عمل في أوائلها كما يفعل في أواخرها، فهو المتنَطِّع. فخذ هذه حكمة وقاعدة، أيمكن الإنسان طلوع السطح قبل الدَّرجه أو كما قال نفع الله به .
وقلت له نفع الله به: تكلمتم بالأمس في تَعْليم الصغار، ولكنه تَفَلَّتْ علينا فقال: النَّاس اليوم لا سَماع في آذانهم، ولا قابليَّة في عقولهم، فلو كان فيهم قابلية، لأخذوا الكلام في ذلك الشئ وفي غيره، فأين نحن اليوم ممن أخذنا عنهم .
(2/48)


وذكر رضي الله عنه: الجُدَري الذي حَصَل في حضرموت، أول سنة 1126 وقد مات فيه كثير من الصِّغار، فقال لم نعرف منه كثرة الموت هكذا إلاّ من نحو اثنين أو ثلاثة، وقد مر علينا مَرَّات، وإنما قد يَحصل بسببه تغير بعض الأعضاء كالعين، ولعَلّ هذا الموت، الحاصل منه بِسَبب أمور كشُبْهة في أنكحتهم إن لم يكن زِنَا أو عَدم تنزُّه في الوِقَاع، أو عدم ذِكْرِ الله عنده، وأين الناس اليوم قد غَفِلوا جداً، أقل الحال أنه لم يقصد بالنكاح السّنة أو العفاف، أو كف بصره وإنما مراده مُجَرّد الشهوة، واشتغلوا بأولادهم عن اللّه، وقد ذُكِر أنه حصل مَرّة في مصر مَوت ذريع، وفيها الشيخ أبو عبدالله القرشي وكان من الأكابر فدعا اللهَ في رفع ذلك، وتَشَفّع لهم، فسمع صوت قائل يقول لا تأسف على هؤلاء فكل من رأيته مات فهو ولد زِنَا، فخرج من مِصْر قاصداً إلى الخليل فلما قرب منه تلقاه الخليل عليه السلام، فقال له: يا نبي الله ما أريد قِرائي منك إلا أن تَشْفع لأهل مِصر فَشفَع فيهم فَشَفَّعَه الله ورفع عنهم ذلك .
وذَكَر له رضي الله عنه رجل أن ابنه مات، فقال: الناس كلهم طحين رحا الموت، إلاّ أن منهم من قَد طُحِن، ومنهم من عاده، فقال الرجل: لكن فيه أنس، فقال سيدنا: أنت قد آنست أهلك، فيَكْفيك ذلك أنساً، وسمعنا فيما سمعنا أن الإنسان قَلّ ما يخطر له الموت في مرض موته، لُطْفاً من الله، وإلاَّ كان انخلع قلبه.
وذكر رضي الله عنه: الجدري( ) فقال: طَبْعه الحرارة، إلا أن أهل جِهَتنا ظنوه بارداً، لما رأواْ من شِدّته في الشتاء أكثر منه في الصَّيف، وهكذا عادة الجروح تكون شَديدة في وقت البرد، وإن كان طَبْعها الحرارة، وأكثر موت الصغار بعد تقدير الله والأجل بسبب حَبْسهم في الأماكن الحارة، وقد أوصيناهم من بعد نجم الطرف، أن يجعلوا المقطِّب( ) في البراح، ولكن يَمْنعونه من المهب( ) .
(2/49)


ذكر تاريخ ولادته وإبتداء أمره نفع اللّه به
وقال رضي الله عنه: حفظنا تاريخ ولادتنا من الوالدة، قالت ولدتَ ليلة الإثنين، خامس صفر سنة 1044، وقال: جاءت امرأة من الجِيران، كانت حاضرة الولادة، وأنها لَفَّتني في بعض ثِيَاب الوالد، قالت: فبقيتَ تلك الليلة إلى الصّبح، ما طعت تستقل من الصياحِ، فقلت لبعض النساء: شوفوا الولد ما به، مَا له لا يَسْكت، فَفَتَّشَتْ الثوب، وإذا بِعقرب عظيمة مُلتفة بالثّوب، مما يلي البدن بينه وبين الثوب، والبدن متخبّز مُحمر من لسعها( ) وقلت لسيدنا عندما تكلم بذلك، وذكر قصة العَقْرب: في هذا إشارة إلى ما تقاسون من محن الدنيا، كالغَطَّات الثلاث( )، قال: نعم .
قال رضي الله عنه: ووقع في تلك السَّنة يعني سَنة ولادته أشياء كثيرة، فيها خرج السلطان عبدالله، وفعل ما فعل، ومات فيها الشيخ الحسين بن أبي بكر بن سالم، ووفاة السَّيد يوسف ابن عابد الفاسي تلميذ الشيخ أبي بكر بن سالم وفيها قتل السيد بَاجَبْهان على خُبْرة تَمر، وقاتِلُه من المناهيل، وذلك أن اثنين منهم جاءا ليقطعا خُبْره من نَخْلة له، فلما رآهما قام إليهما فكلمهما، وَوَاحد فوق النخلة يقطع، والآخر يتناول، فأراد السيد أن يأخذ الخبرة من المتناول، فرمى الذي فوق النخلة السيد بجنبيّته فأصابت منه مَقْتَلاً فكان بها أجله، ثم التفت سيدنا إلى السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي وكان حاضراً فقال له: أنتم ما تَعْتَادون تورخون المولود قال: بلى، قال لا تَخلّوا ذلك، فإن عليه عمدة كبيرة في المواريث والأحكام ومَعْرفة البلوغ وغَيْر ذلك، ألا ترى ما يذكر في التَّواريخ، من تواريخ الولادة وغيرها وهذا في العُموم فكَيْف في الخصوص، وقد كانوا عندنا يؤرخون بالسيول( ) والنُّجوم ولكن إنما العبرة بالسنين، وذَكَر نَفَع الله به، فى غير هذا المجلس، أن ولادته كانت بالسُّبير، أيام المحلَّة .
(2/50)


وكان رضي الله عنه يوماً جالساً في السُّبَير المذكور، وذلك يوم الأحد واحدى وعشرين من ربيع الأول سنة 1128، فذكر أيام صغره، وكان إذا ذكر أحوال الصبا يُطْنب في الكلام، ويتعَجّب من تلك الحال، فإذا أطال فيه الكلام ثم سكت يقول: الكلام شجون، وينشد هذا البيت :
وحَدَّثْتني يا سعد عنهم فزِدْتني شجوناً فزدني من حديثك يا سعد( )
قال: كنت قائماً عند جَرْب مسجد مقالد، أنا والصّنو حامد تحت عِلب هناك، فحذَفْت العلب بحجارة، فوقعت في رأسه فأدمته، وقد عندنا في الجهة مَثَل يقولون دواء الحجارة أن تدق له حجارة، فأتفق أن جاء يناديني بعد المغرب، وكنا في درس فأبطَيْت عليه، فَحَذف بحجارة، فأصابتني، فشَرَد فلحقوه، فسبحان الله، ما حال الصبا وماوالاه من الشَّباب، وكنت في أيَّام الصبا لا أتعامل معاملة من لا يشوف، لا في مشي، ولا في لعب، حتى إذا سِرْت ما أسير إلا مع أحد ويوم نلعب( ) كنت أَجلس عند صاحب المَد، حتى لا أُغْلَب أو كما قال .
وذكر رضي الله عنه: أنه كُفّ بصره، وهو ابن أربع سنين بسبب القَطيب .
(2/51)


وسألته يوماً نفع الله به أن يُملي عليَّ شَيْئاً من ظاهر أحواله، من صغره إلى الآن، لنَحْفظها عنه، فلم يُسْعفني بذلك، وقال قد نَسِينا أكثرها ولا عاد بقي إلا كتابات لم نثق بها، ولا عاد معنا دماغ لذكر ذلك ولو ذَكَرناها لاحتاجت إلى مجلدات، ولا عَاد مِنَّا شىء، وقد قلنا لبعض الناس اشرح بعض القصائد، فقال: لا أشرح إلا بشرط، أن أجعل مجلدين أحدهما في ترجمتكم وذكر أحوالكم، والآخر في شرح القصيدة، فما أعجبنا ذلك منه، وأناس مدحونا بقصائد كثيرة، وذَكرونا بها فأردنا أن ننهاهم عن ذلك، لكن خفنا من عدم الإخلاص في نَهْيهم، فخَلَّينا كلا يتولى ما تَوَلّى، ويتدَرّك ما تدرك به، ونقتدي بالنَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، لما قيل فيه النظم، مما مدح به وأنشد بين يديه، ومدحه عمه العباس وغيره، ونحن هذه الأشياء ما تجئ على بالنا ولا نحبها لنا ولا لمن نحبه.
(2/52)


وتكلم رضي الله عنه يوماً في معنى ذلك فقال: في نفسي من أيام البداية، أن لا أضع لبنة على لَبِنَة، ولا أتزوج إلا على عَرَبية، لتقع راضية، وما منا شئ لشَره الأشراف، ولكن ما قَدَّر الله إلاّ ما وقع، وفي بنائنا من العجائب ما لا يُصدِّق به إلا من رآه، حتى إن دارنا( ) هذه، لم نعلم بها إلاَّ مبوّبة، جعلها الله على يد حيمد بن دامس، وأمور الدنيا يحاسب عليها من نواها، وإن لم يكن عنده شئ منها، ونَحْن خائفون من أن يحاسبنا الله عليها، لكنا منطرحين له، وجاعلين أنفسنا في القاع، ولا نَدَّعي أنا قائمون له بشكر، مخلصين( ) له في عبادة، وأول من تأهلنا على امرأة عربية عند الهجيرة خُفْية، وما علم الوالد إلا بعد في آخر السنة، وكان ذلك في أولها وهي سنة 1061 وكان مرادهم البركة، وعُلْقَتِ( ) ولد ماهم مثل هؤلاء القناتير( )، لأن بين ذلك الوقت وهذا الوقت مدة بعيدة نحو 66 سنة تَبَدّلت فيها الناس، وتغيرت أحوالهم، وقد ظَهرت طبقات، بعد طَبَقَات، وفي كل طبقة شئ غير ما في التي قبلها، وكانوا بِرْكين( )، إذا خطب الشَّريف عندهم فرحوا لأجل التبرك، ولعلقة ولد، وأَتْمَمْنا بناء غرفة الحاوي سنة 1074، وَبقينا نَتَعهَّدها يوم الأحد وفعلنالها أشجاباً( )، والمحلة في السبير، وبنيناها بطين الإكليل وهو سَيْل كبير حصل في نَجْم الإكليل وهي سنة 1049 وفعلنا لها أبواباً سنة سافرنا الحج، وهي سنة 1079هـ، وفي مجلس قال: كان نزولنا إلى الحاوي، أي للاستيطان سنة 1099 سنة ولد ولدنا الحسن، وكان ولادته في الحاوي غرة رجب، وأول ما جلسنا في زاوية الهجيرة سنة 1061، وبقينا ملازمين فيها إلى سنة 1072، فتأهَّلنا أول هذه السنة أي سنة 1061 أول تأهل لنا، ثم بقينا نَتَردَدّ إليها نَبْقى النهار فيها، ونغيب عنها في الليل، ثم بنينا غرفة الحاوي سنة 1074 نحلّ فيها أيام الخريف، ونأخذ زائداً على أيام المحلة إلى
(2/53)


سنة ولد حسن إبننا في الحاوي، وأقَمنا فيه، وأول زيارة زرناها إلى عينات، زرنا الشيخ أبا بكر بن سالم، و زيارة النبي هود والشيخ سعيد، وسِنّي إذا ذاك نحو 15 سنة، وهي سنة 1059، وبعد ذلك بسنتين، وهى سنة 1061 دخلنا الهجيرة في رمضان، وكنا حالِّين في السّبير أيام الخريف، فطلبت المبيت فيه أي في الهجيرة، مدة رمضان لأجل صلاة التراويح، والوترية فيه، وأخذنا نيابة من الفقيه باهارون ونحن إذ ذاك نقرأ عليه، وأخذناها بطيب قلوب أصحابنا وإلا فجدُّنا الذي بناه وجعل نظره ونيابته إلى ذُرّيته، وهو كان لا يحب أن يباشر الأوقاف .
وقال رضي الله عنه: ما نَزَلنا الحاوي وتوطَّنا إلا لما رأينا معنا من ثقلة وكثرة الدواب، وأيضاً يجئ عندنا من له نيَّة، ومن لا له نيَّة، ولكن رجعوا يجيئون إلينا هنا بهذه الصورة، قيل ما يجيئكم إلا من له نية، قال: نَعم، نِية وهي نَيِّة، أيحسن أن تأكل اللحم النيئ .
أقول: وكان رضى الله عنه في مدة إقامته بزاوية مَسجد الهجيرة المذكور يطوف كل ليلة على مساجد تريم كلها يصليّ في كل مسجد منها ما تَيَسّر له، وقد أدركت خادمه حميد بامزيدان، وسألته عن ذلك، فقال: يطوف المساجد كلها، يصلِّي فيها حتى إن المساجد المغلوقة المهجورة التي لا يصلَّى فيها، كنت أقدم له ظهري يَرتقي عليه ويتسور ويصلي، والمَسَاجد المهجورة كمسجد بامروان الذي قريب المجف كان أخر ما يأتيه منها، وكان هو مَوْضع تدريس الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ علي، وقد سبق ذكر ابتداء قراءته، وطلبه للعلم على باجبير، وذكر ابتداء تدريسه هو نفع الله به في ذلك .
وقال رجل لسيدنا نفع الله به: العيد مبارك فقال رضي الله عنه: العواد عادة، لا سُنَّة، ولكنه عادة حسنة، يدخل في جملة التهنئة، كما في قصة طلحة وكعب ابن مالك، ولكن لما قَلَّت المواصلة بالزيارات، كان ذلك سبباً لحصولها سيما بين النساء يولعن به كثيراً .
(2/54)


وقال رضي الله عنه: المعاودة في العيد بدعة قَوَّتها السنة الأصلية وهي زيارة الأخوان محبة في الله، وقد عدمت( ) كما عدم غيرها من السنن، كالهدي وإشعاره، وعدمت أيضاً عيادة المريض، وجعلوها في الزيارة، وإنما الزيارة زيارة الصحيح للصحيح في الله، ومثل ذلك التَّهنئة بالمولود، ومَرّة قال إنما التهنئة بالولد لا بالبنت، وكانوا يقولون: ليهنك الفارس، فقال بعض الحاضرين من السادة: المدد يحصل من أي من ذلك( )؟، فقال: إنما يحصل المدد للمنخفض، والمماثل يحصل له قليل من ذلك، والمُرتفع لا يحصل له شئ أبداً، قياساً على أماكن الماء، فالذي يحصل له المدد الذي يرى نفسه دون المزور، والذي يَرَى أنه مثله يحصل له قليل من ذلك، ويُحْرَم من ظن أنه أفضل منه، وزيارة الحي في ذلك أبلغ من الميت لأن الميت اندرجت بَشَريته في خصوصيته، فلا معك منه إلا ما تسمع عنه من مناقب وكرامات، فهو مُجَرّد خصوصية، والحي إن كمُل، فهو خصوصية مع بشريّة، وإلا فبشريّة فقط، ويَمْنع من المدد أيضاً إشتغال الخاطر بحيث لا يكون معه اجتماع، وراح بالنَّاس اشتغالهم بهموم معاشهم .
(2/55)


ثم قال الشريف المذكور: من علم بما فيه، مما يمنعه من ذلك، ما يلزمه في حقه؟، فقال: من بلغته الدَّعوة إنما يجب عليك تَدْعوه وتُذكره، لا أن تعلّمه، فقد كان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بمكّة قبل الهجرة، إنما يدعوهم إلى الإسلام فقط أكثر مما بعدها، ومن رأيته يصلي ولا يَطمئن في صلاته، وهو عالم بوجوب الطمأنينة، لا يلزمك أن تُعَلمه، إنما أكثر ما يلزم التَّذكيرُ، والإنسان يدّعي بإجتهاده وسَعْيه، ولو وُكِّلَ الأمر اليه في تدبير نفسه لما أحسن ذلك، ولا قدر عليه فضلاً عن غيره، و وجدت الموجودات على مقتضى عقل أعقل الخلق، لو رجح بعقول جميع الناس، لما اقتضى أن توجد أحسن مما وجدت، ثم أطال الكلام في الصلاة فكان من جملة ما قال فيها: إنها عمود الدين وإنها تجر إلى أمور الدين، لأنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر، وآخر ما تكلم به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم يوصي بالصَّلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، لأنهم كانوا أهل حرب . وأما التهنئة بالبنت، فلا نعرفه والدَّليل فيه مأخوذ من تهنئة كعب بن مالك بالتوبة، وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب( ): ليهنك العلم أبا المنذر .
وقال رضي الله عنه: لا وَجْه للتهنئة بالبنت، وإنما هي بالولد، وَعَلى هذا يُسْتشهد من لفظ التهنئة من قوله: رزقت بره أَوَ للبنتِ بِرٌّ وبلغ أشده، كلٌ ضمائره مذكرة، ولكن من أراد يحاجج( )، قال: وما هو إلا كذا، وما رأينا في الكتاب إلا هكذا .
(2/56)


وأوصى رضي الله عنه رجلاً ورغَّبه في مطالعة كتب الإمام الغزالي، فقال: أكبّ على مطالعة كُتب الأمام الغزالي، فإنها في كل الكتب كالخصار في الطعام، بل أعلى من ذلك، فإن الطعام إذا لم تَشْتهه في وقت تَرَكْته إلى وقت أخر، وهذه لا يَسْتغنى عنها بحال، لأنه جَمَع فيها الشَّريعة، والطريقة، والحقيقة، ومواريث السَّلف، وإذا جاء عند ذكر الحقائق حد لها حدوداً، وشرط لها شروطاً، ليتحقق من أرادها، أنه من دخل إليها من غير بابها أنه ضال مدِّع، وقد رأى بعضهم بعدما صُنّف "الإحياء" الشيطانَ يحثو على رأسه التراب، فقال له ما بالك . قال: صُنِّف في الإسلام كتاب، أخشى أن الناس يتبعونه . وعلوم الحقائق هذه رأيتها أنها كالنَّار المحرقة، أو كالمياه المغرقة، إذا دخلها الإنسان إمَّا غرق، وإلاَّ احترق، ويحس الإنسان إذا نظر إلى الإحياء أنه كتاب مطول، وإنما هو مختصر( ) وذلك لبلغ مجلدات كثيرة، وقد قال الإمام النووي: كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وهل ذلك لكثرة ما فيه من آيات القرآن، للاستدلال بها، أم لكونه معجزاً فشابَه القرآن من هذا الوَجْه، وهذا أقرب، ومعنى كونه معجزاً أنه على منوال لم يُسْبق إلى مثله، ويعسر على من أراد أن يُصَنف مثله الإتيان بمصنف على نمطه.
وقال رضي الله عنه: الإحياء بالنِّسبة لما اشتمل عليه مختصرٌ جداً، ولو فُصّل ما ذكر فيه لبلغ ستين مجلداً، قال: سمعت عن بعض أهلنا المتقدمين، أنهم سمعوا آباءهم كثيراً ما يذكرون الإمام الغزالي، قالوا له: ما هو الغزالي، سَيّد هو، يعني شريف، قال ليس بسيد و لكنه سيد السادات .
وقال رضي الله عنه: إثنان يغار منهما أهل الباطن، ويحسدونهما أهل الظاهر، لأنهم إذا طعنوهما بمَسلة( ) طَعَنَاهم برمح: الشيخ عبدالقادر، والإمام الغزالي .
(2/57)


وقال رضي الله عنه: عن الشيخ عبدالله العيدروس: الإحياء مغناطيس القلوب، يَجْذبها إلى حضرة علام الغيوب .
أقول: وما سمعت سيدنا قط، يقول في مسألة ذكرها الإمام الغزالي، أنه لم يُسَلَّمْ له فيها، بل كلّما تكَلّم في مسألة، وفيها كلام لغيره، يقول إن كلامه هو الراجح، إلا قوله( ) في الموازنة بين القيامتين، الصُّغرى وهي الموت، والكبرى وهي البعث وما بَعْده، وأنه يقال في الصُّغرى: ولقد جئتمونا فرادى، فقال: ليس هذا بمسَلّم له، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في غير موضع من القرآن، إنما يقال ذلك في القيامة الكبرى .
وذكر يوماً رضي الله عنه الإمام الغزالي، ثم قال: هو والسُّهروردي، والمحَاسبي، يتواردون على منهل واحد، وإن اختلفت الموارد، ولكن من في قلبه دغل يتَعلَّق( ) أوهن البيوت لبيت العنكبوت .
ولما خَتَم السيد زين العابدين بن مصطفى كتاب "الأربعين الأصل" للإمام الغزالي، تكَلّم كثيراً في ذلك المجلس، فمن ذلك قال: سبحان الله، كلام الإمام الغزالي يكفي عن غيره، وغَيْرُه لا يكفي عنه، وصَدَق من قال: لو يجوز خروج نبي، كان الإمام الغزالي، وثَبَتت مُعْجزاته في بعض مؤلفاته، وقد رأى الإمامُ الرازي وبعضُ أصحابه النبيَّ صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال عليه السلام( ): أتحب أنْ كنتَ قد أدركتني، فقال: كيف لا أحب ذلك، وأنا متأسف على رجل من أمتك ما أدركتهُ، أن لا أكون أدركتهُ، فقال: مَن هو؟، قال: الإمام الغزالي، فقال عليه السلام: ذاك هو الإمام الزاهد الفاعل( )، حتى عدد مائة خصلة، وكذلك ما رآه الشيخ أحمد الزبيدي ليلة مات الغزالي، وهو أنه رأى أنه خرج من قبره، وعرج به من سماء إلى سماء حتى غاب عنه، فسأل عنه من هو؟، فقيل: الإمام الغزالي .
(2/58)


أقول: قوله أحمد الزبيدي، يَعْني الشيخ أحمد الصياد، وتقدمت قصته هذه، ومكاشفته، وكذلك ما رآه الشيخ أبو الحسن الشاذلي، نفع الله به آمين، قال: نمت في المسجد الأقصى، فرأيت خلقاً كثيراً، جاءوا أفواجاً أفواجاً، فقلت لرجل في جنبي: ما هذا الجمع؟، قال: جميع الرُّسل والأنبياء قد حضروا ليَشْفعوا في الحسين الحلاّج، فدخلوا عند محمد صلَّى الله عليه و آله وسلَّم في إساءة أدب وقعت منه فشفَّعهم وقبل شفاعتهم وعفا عنه، ثم نَظَر فإذا نبينا صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جالس على التخت بانفراده، وجَميع الأنبياء والرُّسل جالسون على الأرض، مثل إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، فوقفت أنظر، وأَسْمع كلامهم، فَخاطب موسى محمداً صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فقال: إنك قلت: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، فأرني من أمتك واحداً، فقال له: هذا، وأشار إلى الإمام الغزالي، فَسَأله موسى سؤالاً واحداً، فأجابه بعشرة أجوبة، فاعترض عليه موسى بأن الجواب يكون مطابقاً للسؤال، فقال له الغزالي رحمه الله: هذا الإعتراض وارد عليك أيضاً حين سئلت: وما تلك بيمينك ياموسى، فكان جوابك أن قلت: هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غَنَمي، ولي فيها مآرب آخرى، فعددتَ لها صفاتٍ كثيرة فابتهر سيدنا موسى من قوله وتعجب غاية العجب، قال: صدقت يامحمد علماء أمتك كأنبيائنا، قال الرَّاوي: فبينما أنا متفكر في جلالة قدر نبينا، وكونه جالساً على التَّخت بانفراده، والبقية على الأرض، إذ رفسني شَخْص برِجْله رَفسة مزعجة، فانتبهت فإذا بالقيِّم يشعل قناديل المَسْجد الأقصى، فقال: أتتعجب أن الكل خلقوا من نوره، فخررت مغشيّاً عليّ، فلما أقاموا الصلاة أفقت، وطلبت القيم فلم أجده إلى يومي هذا .
(2/59)


وذكر الشَّرجي في ترجمته للإمام الغزالي، عن أخيه أحمد، قال: لما وضع في قَبْره، رأى يداً تناولته من اللَّحد، وبقي فارغاً لَيْس فيه أحد، وهذه القِصَّة تؤيد ما رآه الشيخ أحمد الصياد المذكور آنفاً، والله أعلم .
وذكر رضي الله عنه جماعة كانوا يتَردَّدون إليه من آل الشيخ أبي بكر بن سالم، ثم انقطعوا، فقال: ما كان بَيْنَنَا وبينهم شئ من أمور الدنيا، ولا نالنا منها منهم شئ وهم عالمون، ولو أرسلوا لنا شيء رَدّيناه ولا قبلناه، وإنما مرادنا منهم أن يتربّوا ويتخَلّقوا بأخلاق سلفهم، ما هم داريين إنا نربي الرجل من أولادنا على الخُلق الواحد سنين .
وسئل رضي الله عنه عن الشيخ علي بن أحمد( )، فقال: وأما الشيخ علي فجوهرته محفوظة ولم يَزَل لنا على المحبّة، وخاطرنا من جانبه طَيِّب، أو كما قال .
أقول: ترَّدد الشيخ علي على سيدنا، ويكتب إلى سيدنا إذا منعه العذر من المجيء في بعض الأوقات، وما تَردّد على سيدنا إلا بجاذب من الحَقّ ودواعي دَعَتْه، ورأى النَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم مراراً يشير عليه بذلك وبالإقبال على الله، فأمره الحبيب أن يقرأ عليه في كتاب "فَتْح باب المواهب" لجدّه الشيخ أبي بكر بن سالم، ثم في كتاب "الأربعين الأصل" للإمام الغزالي، وتهذّب السيد على يد سيدنا وفُتِح عليه، وكان الشيخ علي إذا جلس بحضرة سيدنا عبدالله يغيب عن حسه ويذهل عن شُعوره ويغير على رِجْل سيدنا يقبِّلها ويمد له يده ليصافحه ولا يغير إلاَّ على الرِجل، وكان حصل له منه نظر تام وشدة عناية واعتناء من سيدنا، فيهناه ما أوتيه وبقي على الاستمداد دائماً( ) .
(2/60)


وقال رضي الله عنه لرجل( ) من السادة تخلف عن صلاة العصر مع الجماعة خَلْفَه( )، وذلك يوم السَّبت في 4 شعبان سنة1130: ما الذي خلفك عن الصلاة والقراءة؟، قال: جاءني فلان وفلان من السادة اجتمعت بهما في المسجد ثم ساروا معي إلى الدار فَقَطعوا بي، فقال رضي الله عنه حَق مباسطة: كيه ذا حَشَّمُوك، وهذه الأمور لا حرج عليكم إذا طَلَبْتموها على الوجه المباح الذي لا يتعدى إلى محظور، وقد وَصينا أصحابنا بأن يتَوسّطوا فيها ولا يبالغوا فيها ولا يترَفّعوا ولا يتَكَبّروا على غيرهم بل يُسْتحسن لهم فيها الأوسط لأن في طبع أهل هذه الجهة إذا رأوا الإنسان يتواضع لهم دَحَقُوا عليه، وظنوا أنهم أفضل منه وأنه ما يبلغ حِذاهم، وإذا رفع نفسه عرفوا له حقه، وهذا ما يَنْبغي، ولو أنهم رَفَعوا مَن تَوَاضع لهم وَظنوا أنه قد تنزل لهم دون ما يستحق لكانوا قد أصابوا، فلهذا نحب الوسط ولا نحب الغُلو ولا التسَفُّل.
وفي مجلس آخر ذكر الرياسات وأهلها. فقال رضي الله عنه: الرياسة الحقيقية لا اعتراض فيها وإنما المَذْموم الرِّياسة الصُّورية الوَهْمية ولكن إذا حصلت الحقيقيّة في رجل جاء أَولاده يطلبون الرِّياسة الوهمية المذمومة كالشيخ فلان وهذا أمر عزيز لا يكاد يتم منه للأشراف حتى إنه يشق على السادة انتساب الشّيخ أبي بكر بن سالم إلى معروف باجمال مع أن له مشايخ كثيرة غيره من السَّادة فلم يَظْهر الانتساب إلى أحد منهم والمشيخة إلا بالنسبة لا بالاجتماع اتفاقاً، ودَخلت أم الشيخ أحمد بن الحسين العيدروس( ) بقَهْوة وقالت له: رح بها إلى الشيخ أبي بكر بن سالم وقل له يَدْعو لك وسلم عليه، فقال له: تسلم عليك الوالدة وقالت: أدع لي وأرسلت هذه القهوة حَقّ البَرَكَةِ فقال: إنك ما تحتاج إلى الدعاء ولكني أسلُّ منك حق آل العيدروس كما تُسَل الشعرة من العَجين أو كما قال وذلك يوم الثلاثاء و20 من جماد أول سنة 1128 .
(2/61)


وفي مجلس آخر ذكر أُناساً مشغولين بحب الجاه ويتَكَلّمون فيمن يُذكر بشيء من ذلك ولو من أقاربهم، فقال: إذا لم تتمكن أَن تكون رأساً فدع أخاك يكون لك رأساً وبهذا السَّبب إن الله عكسهم ووقع لهم مثل ما وقع للديك والحدأة فإنه اذا رآها تأخر عنها خوفاً منها ثم لما كبر بقي كذلك فقيل له: لم تتخلف عنها وأنت أكبر منها، فقال: قدني أخاف منها مذ كنت صغيراً، وعَمّال يطلبون حتى يَصير أي أحدهم مما حَصَّل بلا شئ في مداراة من لا يستحق المداراة من عَجم وغيرهم كيف تَتَكبّر على أشراف وفضلاء وتتواضع لأراذل وتكلم في هذا الشأن كثيراً .
ثم قال نفع الله به( ): ما عاد بقي إلاّ هؤلاء الجماعة بُلو بنا وبُلينا بهم وإن كانوا ذو رَحم وما عاد إلا أسير معهم بما يظهر لي ولو ما سرت معهم بما يظهر لي ما وصلْنا إلى هذا الحد، وناس من الأشراف ما يؤبه لهم يبالغون في التواضع لهم، لامهاجرين ولا أنصار . ثم قال: وتسطر لهم أنه لا يَسْتقيم لهم جاه إلا بالدحق على أصحابهم وبهذا السبب انظر كيف يتعاملون بعضهم مع بعض وهم فخذ واحد .
وقال رضي الله عنه: نحن على القدم النَّبوي وسِيْرة سلفنا السابقين ما استطعنا، ومظهرنا إنما هو مَظْهر علم لا مَظْهر رؤية شيء آخر، لأن الرياسة على أهل الدين إنما هي زَرَا بِهِم .
وقال رضي الله عنه: كلما جاوز حَدّ الوسط والأعتدال فهو شَرّ وبلاء وخُصُوصاً في العادات فإن ذلك في العبادات قد يُغْتَفَر إذا زيَّد على قدر الممكن إما شغف بالعبادات أو الاحتياط . وستأتي هذه المقالة بأبسط منها هنا قريباً .
(2/62)


وذكر رضي الله عنه جماعة من المعروفين في الجهة، فقيل له رضي الله عنه: إن آل فلان( ) يدّعون في أنفسهم . فقال رضي الله عنه: لا عاد تَغْتر في هذا الزّمان بِدَعاوي النَّاس فقد خرجت فيه الأشياء عن أوضاعها فانظر إلى أحد من آل فلان وهم من أحسن النَّاس لو أمنته وسألته كيف يقول لك( ) وأما ابن إسحاق اليتيم، فكان إلا فقيراً لبَاعبَّاد .
وَذَكر رضي الله عنه جماعة من السادة المعروفين بحبّ الرياسة، أنهم تَغْلب عليهم السَّلامة حتى تَخْفاهم الأمور الكثيرة، فقال: وهذا لعدم مخالطتهم للنَّاس، حتى فَوّتوا طَلب العلم، وَفَاتَتْهم مجالسة صَالحي زمانهم، فأعمارهم راحت ضائعة، وليست هذه عادة أسلافهم، فإن الناس ما قَدّموهم إلا لكونهم متقدّمين في الفَضْل فيَنْبغي أن يتَربَّوا بغيرهم، حتى يترَبَّى بهم غيرهم، فإذا لم يتربَّ فكيف يُرَبي .
وقال رضي الله عنه: الحزم تَرْك الكلام، لأن من كثر كلامه كَثُرت خطاياه، فإذا تركه سَلم من الإثم والفضول .
وقال رضي الله عنه: نحن جاه حَضْرموت ما هو على بالنا، ومانَرَى جاهَهَا إلا الخمول، وما يَدْخل علينا لا نَفْرح به، إلا إن نواسي به محتاجاً . وما خَفَّنا عن الإقامة في الحرمين إلاَّ خوف الشُّهرة والجاه، وهذا فينا من حيث الطبيعة لا أنا نتكلفه، ولأن الإنسان ما يستقيم أمره ويَصْفو إلا إذا كان فيما بينه وبين الله، وإذا ظهر دَخَلت العلل، إنْ ما دخلته من جانبه، دخلته من جانب الناس .
(2/63)


وشكا إليه رضي الله عنه رجل من فقرائه( ) ضِيْق المعاش، وكان ممن يقرأ القرآن، فقال له: إجعل المصْحف نُصْبَ عينيك، ولا تزاحم أهل الدنيا، وخَلّهم هم الذين يجيئون إلى عندك، لأن صاحب الدِّين لا يحتاج إلى صاحب الدنيا، هل يحتاج من عنده( ) جوهرة إلى من معه وَدْعَه، ومن رأيته يتنعم في الدنيا ويتقلَّب فيها فهو كالمتمرغ في عَدانِه، أي مزبلة هل يُمْكنك أن تَغْبطه وتتمنى أن تتمرغ فيها مثله، لا، بل تَفْرح بالسلامة من ذلك، واصبر مع عيالك وخلهم هم يترقونك بالعشاء والغداء إذا رأوك مهتماً بأمر دينك، وغافلاً عن هَمِّ المعيشة، ولكنك خُذْ منه ربع الكفاية ورد لهم الباقي، وقل أنتم تَتعبون في تَحصيله، وأنا جالس، فهذه هى الطريق لك ولِجُبْنِك ما تعرف الطريق مع طول مجالستك لنا، لا بَلْ تَعْرفها، ولكنك نَفْسك غالبةٌ عَلَيْك، فلا تَقْدر تَعْمل، قال ذلك ضحى يوم الجمعة ثالث جماد أول سنة 1123 .
وقال رضي الله عنه: شاغل أهل حضرموت وراحتهم في أيام الخريف، فتظهر في هذه المدّة أشغالهم الباطنة على ظواهرهم، ولكنها أشغال مُسْتلذة عندهم .
(2/64)


وأشار رضي الله عنه: على فقير من بعض فقراء الجِهَة أقام هنا، بالمسير إلى بلاده، وقال له: بلادك الآن خير لك، والخَريف قَرُبَ، فلم يمتثل، واختار الإقامة بتريم، فَتَركه ثم بعد أيام أخبره رجل من أهل بلده أنه حصل بَيْع في نخيلات له ولإخوانه لغيبته عنهم، فجاء يطلب الشور في المسير، فقال له ما عاد شئ شور في المسير الآن وقد سَبَقت لك الإشارة فلم تمتثل، والآن افعل ما أردت، فقال: بل أريد الإشارة والدعاء . فقال نفع الله به: ما يصير الإنسان صالحاً، إلا صاحب علم يَعْمل بعلمه أو صاحب حال يَعْمل على حاله، وأما لَقْلَقْ ما يَنْفع، وهذه لَقْلَقة اللِّسان المذمومة، والإشارة ما هي إلاّ استماع وامتثال من غير اعتراض، بل يسَلّم ويمتثل، ولا يقيس بعقله، ثم لا عليه، فلو قلت لك رُح اجلس في يَبْحَر( )، أما تقول هاه من أين آكل، وأنتم اجعلونا في الإشارة إلا كصاحب علم يشير بما يقْتَضيه عِلْمه، ولو ما عرفتم وَجْه الصلاح فيه، وهو لابد أن العالم ما يشير إلا على مقتضى العلم، ولا عاد تجعلونا أهل صلاح، نشير بمقتضى الصَّلاح، ومن اعترض على العلم اعترض على الصَّلاح أيضاً .
وقال في غير هذا الموقف: والإشارة ما تبرز في كل حين، ولا لكل أحد، وإنما هي عارض أي فالممتثل ينبغي له اغتنامها إذا حصلت والاعتماد عليها ساعة يسْمعها .
(2/65)


وقال رضي الله عنه لرجل جاء زائراً: أتريد أن تسافر إلى بلادك؟ قال: الذي تَبْغون، فقال نفع الله به: كيف الذي تَبْغون، هذه كلمة فيها سوء أدب، إنما نستخبركم عما أردتم أنتم، وتعرضونه علينا ما هو إلاَّ إذا قال واحد هكذا نخليه يَمْكث شهرين، حتى نشوف خَبَره، ونحن قد ذكرنا لكم ما جرى لنا مع السَّيد عمر العطَّاس وأمثاله، لتَعْرفوا وتَعْتبروا، لمّا زرناه وخَرَجْنا من عنده، وهي تَمْطر، فقال لنا: عساكم تجلسون، فقلنا له: إن أشرت لنا بالجلوس جلسنا، وإن كنت إلاَّ من جهة المطر فلا عَلَينا من ذلك، فَخَرجْنا وأبردنا، وإنما ذلك مع الانطراح الكلِّي حتى نحن نود أن يكون معنا منه بعض شيء، وقد جاء بعض المريدين إلى بعض المشايخ طالباً، فقال له: رُحْ أولاً إلى عند الشيخ عبدالقادر يعلّمك أظن قال الأدب أو الانطراح، فراح إلى عِنْده فَتَركه نحو مائة يوم أولاً . والكذب كذبان، كَذِب يختلقه الإنسان، بأن يقول خلاف الواقع، وهو كذب الفُسَّاق، وكذب في الحال بحيث يدعي أمراً لو امتحن فيه لكان على خِلاَف ذلك، ولا يصير الإنسان من الصدِّيقين حتى يصدق في الأمرين جميعاً، ثم هو على درجات .
(2/66)


أقول: وكان سيدنا رضي الله عنه من سِيرته كما يدل عليه أقواله، أنه إذا أشار على أحد بأمر ورآه راغباً في خلافه، قال له: افعل كذا الذي يريده، أي إذا لم يكن فيه إثم، ويقول له: إنما قلنا لك كذا إيناساً لك، ونحو ذلك، وقد رأيت من جَماعة سيدنا نفع الله به، على هذا الوصف أي من الانطراح الكلي، الشيخ عمر العمودي، حتى إنه يوم الخميس والقهوة تدار حال الخَتْم، وكان قاعداً في الصَّف، وسيِدنا قدَّامه في المحراب، فأعطي فنجاناً وكان صائماً على عادته فقَبض الفنجان وأراد يَشْرب ويَبْقى على ما نَوَاه لكنّه ما استعجل بالشرب، ففي الحال نادى سيدنا الخادم خذ الفِنْجان من يده، فتناوله منه وأعطاه إياه، فعجبت لذلك منه رحمه الله، وزاده من كل خير.
وقال رضي الله عنه لرجل مسافر( ) من جانب سَفَره، فقال: على ما تريدون، فقال نَفَع الله به، مُرَادنا إطْلاق الكلام للتَّنْفيس، ولا نقيده فَيَحْصل التَّضْييق، وإذا جعل اللّه لك النَّفس، فلا تُضَيّق على نَفْسك، ليعاملك اللّه بالنَّفَس في دينك، ومعاشك، وكل أمورك، ولو أردنا تقييد الكلام في مثل هذه الأشياء قيدناها( )، وجعلنا إذا قال: أريد السفر اليوم، قُلنا: غدوة، وإذا قال: غدوة، قلنا: اليَوْم، ولكنّا اخترنا التَّسهيل على النَّاس، فيكون على ما سَهل على الإنسان، إن كان ذلك عن قرب أو على بعد .
(2/67)


وقال سيدنا يوماً رضي الله عنه في معرض المزاح، وهل لو جاء رجل إلى بعض الناس، وقال له أبسط سجّادتك على الماء، أو قال أظن على الهواء، ولم يألف ذلك، ولم يَعْرف القائل له، هل يُطِيعه أم لا، ثم قال: ما أظن أنَّ أحداً يجيب إلى ذلك، إلا فلان، لأن الإنسان لا يَدْري هل ذلك من الصَّالحين أو شيطان ثم إلتفت إليَّ وقال: لو قال لك أحد تعال أوصلك إلى بلادك في ساعة تطيعه؟، قلت: أشاوركم، وأشرط عليه الإعادة على قرب، قال: لا، إنه لو جاءك وحدك، قلت: لا أجيبه، قال: قد قيل: إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طُوِيت، حتى أنه رُوي أن بعضهم جاء بحزْمة سيوف إلى آخر، وقال: هذه أحوال الصالحين طُوِيت، ثم قال سيدنا: ما الإنسان يريد الصلاح ولا الصالحين لأجل هذه الأمور، إنما يريد ذلك لطاعة الله تعالى والدَّار الآخرة، أقول: وأول هذا الكلام مقدّمة لآخره، ولهذا ذكرته.
(2/68)


وأراد رضي الله عنه يوم الجمعة ثاني ذي القعدة يركب إلى البلاد اعترضه ابن ابنه أحمد بن الحسين وسنّه حينئذ نحو خَمْس سنين، أراد يركب معه إلى البلاد، وإذا بمكتِّب جاء بأوراق من الشِّحر، فصَافحه وناوله الأوراق وناوله قرشاً مُرْسلاً به من الشحر، فقال لأحمد: أترجع وتأخذ هذا القرش، قال: نعم، فأعطاه إياه، ورجع فسار سيدنا قليلاً، ثم قال يخاطب الخادم: كأنك حزنت عليه، تريده للجَعْلاَ( ) أما قلنا لك قل: يا فتاح يا رزاق فأبيت، فقلت أنا: إن لم يقبل الإشارة فأنا أقبلها، وأقول ذلك، ثم بَعد قليل ونحن سائرين، قال: ولو كنا نُخَبِّي وندخر لغيرنا من الأهل والمحتاجين، فطريقنا عُمَرِيّة، إنما هو تقدير الأمور وتَرْتيبها، وَوَضْعُ كل شئ في محلِّه، وإن كنّا لا نَحْفل بها فإن عمر كان يُرَتّب ويقدّر لأبي بكر، إذ أبوبكر من أراد منه شيئاً له وجه في أخذه أعطاه إياه، وعمر ينظر من أولى منه، وكان له قوة في تَقْدير ذلك إذ لا يريد شيئاً منه لنفسه، ولو كنا متجرِّدين من الأهل والعيال، لكنا لا نَدّخر شيئاً، ولا نَبِيْت على معلوم، فقلت له: من فَضْل اللّه أنهم رأوا النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومن بعدهم رأوهم، وهكذا إلى زماننا، وفي نفسي إننا أيضاً رأيناكم، فقال: نعم والأولياء موجودون الآن، وما عدموا، ولكن يَخْفَون ويقلُّون، وظهورهم وخَفَاهم بحسب صلاح الزمان وفساده، لكن انقسم النَّاس فيهم إلى محب غالي يكاد يعبدهم من دون الله كما كان ذلك في حق سيدنا علي، ومنهم عدوّ شاني حتى لَعنوه على المنابر، ولكن المبغضون لم يزل أمرهم يَضْعف ويتلاشى، وأمر الآخرين يَقْوى . حتى في وقتنا هذا منهم المطبوع لنا على المحبة والتَّعظيم ومنهم العدو القالي وإن أظهر المحبة، حتى إن أحدهم لم يطالع لنا كتاباً، وإذا سمع لنا نظماً ضاق منه، مع مجاروتهم لنا في النَّسب والبلد، فلا هُم رَبَّوا دينا ولا رياسة، ولولا انقباضنا
(2/69)


عنهم وعدم مخالطتنا لهم، كان آذونا وأشغلونا، فذكرت له حينئذ رؤيا وقعت لي البارحة، وهي إني قلت له: رأيتكم البارحة وأنا معكم جينا من مكان، وإذا بكم تقولون: سر إلى المكان الفلاني، وكأني ثقل عليَّ ذلك لعسر فراقكم عليَّ، فلم تعذروني في الترك، فلما رأيت منكم العزم، قلت: فإذاً أكون معكم في الدنيا والآخرة، فقلتم: نعم، فَفَرحت لما قبلتم مني ذلك، فقال: ذلك لتعلقك بالسّلسلة، ولما بلغ أحمد المذكور سَبْع سنين ألبسه حينئذٍ( ) عمامة، فجاء فرحاً بها إلى أبيه الحسين، فأخذها منه، فرجع إلى حبيبه باكياً، فلام أباه في أخذها، فكتب أبوه الحسين إلى أبيه سيدنا الحبيب أبياتاً يعتذر فيها إليه، ويقول: الكبير أولى بالعمامة من الصَّغير، فكتب إليه سيدنا والده هذه الأبيات جواباً له على نمط أبياته، بسم الله والحمد لله :
وليس على أحمد لكم ملامة ... ... وتعذره الولادة والرحامة
وحَسْبك قول من يسأله كسرى ... ... من الحكماء( ) أرباب الزعامة
وحب المصطفى المختار صلى ... ... عليه الله ما درت غمامة
لابنيه حسين وأخيه ... ... بني الزهراء فاطمة الكرامة
وكُلٌّ تابعٌ للكل منهم ... ... لأنهم مصابيح الإمامة
وبعد وفاة سيدنا الحبيب بأيام، قال لي أحمد المذكور: رأيت البارحة كأني دَخَلت على حبيبي عبدَالله في قبره وكأنه أعطاني عمامة، ودعا لي .
انظر ما قال في الولاة الظلمة وشؤم الظلم
(2/70)


وقيل له رضي الله عنه: فلان يَعْرفكم، وهو من بعض الملوك، فقال هو يعرفنا ونحن لا نَعْرفه، ومن بَدَهَنا( ) من الولاة الظلمة وعنده الدنيا ما رجع، وأما أنَّا نتعرف بهم فلا، ونحن على القَدَم المحمدي وسيرة سلفنا السَّابقين ما استطعنا، ومظهرنا إنما هو مَظْهر علم، لا مَظهر رؤية شئ آخر، لأن الرّياسة على أهل الدين، إنما هي زرابِهم، وعاد نحن في جميع أحوالنا مترخِّصين في جميع أحوالنا( )، في حالتنا هذه على مُقْتضى العلم أيضاً لا على مقتضى الباطن، ولو نظرنا وعملنا على ما نَعْرفه من العلم ما سَاغ لنا شيء، ونحن لا نَسْتريح بما يَحْصل لنا من أمور الدنيا لأنا فيها أزهد ممن تأتينا من عِنْدهم، لأنهم يتعَذبّون في تحصيلها، ويَجْتهدون في طلبها، وطريقتنا طريقة الفُقَراء، وهي غير طريقة المشايخ، ونحن ما نريد أحداً يتقيَّد لنا، وإن تقيد فمن غَيْر علم منا .
(2/71)


وقال رضي الله عنه: لشخص يذكر الأدب: خذ مني، هذه المراتب تعطي الإنسان( )، سواء كانت مراتب الدين أو مراتب الدنيا، ألا ترى في مراتب أهل الدنيا ساعة يُعزل عنها يكون على أخسِّ حال، لأن المراتب على أصل الخِلْقة، والخلقة من فعل الله، بخلاف مراتب العمل، فكلّ مرتبة تعطي صاحبها ما يناسبها سواء كانت المرتبة محمودة أو مذمومة، ثم قال: ونحن ما أنكرنا على فلان( )، أنه يشرب الخمر أو يَزْني( )، وإنما قلنا: إنه ما يعرف أمور المرتبة، لأنها تحتاج إلى رصانة، وتحتاج إلى رزانة وتحتاج إلى سر، وتحتاج إلى معرفة، والبَخْت من وراء ذلك، فمن كان له بخت أنقلبت سيئاته حسنات ومن لا بَخْت له بالعكس، انقلبت حسناته سيئات، وفَتْكُه إنما كان في لسانه، لا في فعله، ولو كان فتكه في فعله: لتم له أمره، ولكنه في قوله، ومن كان فَتْكه في لسانه، فإنه يهتك ولا يفتك، ولكن وقع ما قَدّره الله، والمملكة الدينية والمملكة الدنيوية لا بدّ لها من تحفظ ومِنْ تأمل ومَن له علم رأى جميع هذه الأمور قد سُبق إليها .
(2/72)


وذكر يوماً رضي الله عنه ولاة الأرض وتَغَيّر أحوالهم فقال: جاءنا فلان( ) فقلنا له: أنتم اليوم والرّعية أموات، ما الحي إلا آل فلان و يافع ولكنهم أول من يُخَرّب، لأن من عَمَرَ نفسه بخراب غيره خَرُب، وهذا سَلَفٌ مجرّب إما أسرع وإما أبطأ، فقد كان بعض السَّادة معه ساقية ماء( )، وفي البلاد نقيب، متسلط في وقته، فأراد أن يَقْتَطع من ساقية الشَّريف شَيْئاً، فَجَمع لذلك جماعة من العمارين وأمرهم بذلك، فقالوا لا نفعل حتى تَبْتديء أنت فأزال بيده حَجَرات، ثم فعلوا كَفِعْله حتى أخذ منه الذي أراد، فلما أُخبر الشريف قال: خَرّب الله دياره في الدنيا والآخرة، فمَكَث أياماً لم يصبه شيء فتعجّب السيد وقال: هذا تعدى علينا عدواناً ثم لم يصبه شيء، هذا عجب فمَرّ يوماً مقبلاً من التربة، فسمع قائلاً( ) يقول: هي تقع غير ما بَيْن عاجل وآجل، فكان ذلك النقيب في تلك الليلة أو اليوم يَنْزح على بير الحصن، يريد يَسْقي فرسه وحوله جماعة إذ أفلت الدّلو من يده، حتى سقط فقالوا له في ذلك فقال: قطعت يدي يدُ القدرة، فخرج في يده جرح، وهي التي قطع بها الساقية، ثم خرج إلى ذراعه ثم إلى حلقه ثم هَلَك وهكذا سنة اللّه في خَلْقه يَنْتقم الله بالظَّالمين، ثم ينتقم منهم، وإذا تعدى الإنسان ضَرَّ نفسه وضَرَّ غيره، وإذا بقي على حِشْمته ولم يتعَدَّ حدّه نفع نفسه ونفع غيره، ما هو إلاّ إذا رأيت إنساناً مائلاً عن الحق انصحه بما أمكنك إما بالإشارة أو بالتَّعريض فإن قبل فذاك، وإلاّ مِلْ عنه وخَلّه لربِّك، فإن ذلك حَظّه منه، فكل من رأيته على غير الطريق خله لربك .
(2/73)


ودخل عليه السيد زين العابدين، فذكر له مجيء بدر وجماعته إليه فقال نفع الله به: جاء إلينا هؤلاء يلوّحون مثل من يلوّح بعود إلى عِلْب( ) ليسقط منه له شيء. وتسييب أوائل الأمور ثم طلبُ الذيل بعد ذلك أمر عسر، ما عاد إلاَّ من يَسْتشيرك في مثل ذلك، تبعد منه وخله على ما هو عليه، أو قل له إسع فيما أردت فإن حَصَّل شيئاً فأنت معه شريك، وإلاَّ سَلِمت من التَّوسط مثل حجة الصيد وهذه الأمور في هذا الزمان ما عادها إلا بالبخت( )، فلا تعتمد اليوم فيها إلا على البخت والنَّصيب، وإلا فالأسباب ضَعُفت وقَلَّت. ومما جربناه في هذه الأيام ببركة السَّادة أنه إذا جاءنا أحد يستشيرنا في شيء لا نريد أن نشير به عليه، نقول له: على ما أنت عليه ولكن الله الله في الدين والصلاة والطَّاعة وقراءة القرآن، ولا نزيدهم على ذلك، ولكن بعد ذلك ما يَحْصلون إلا على خير .
وصافحه رضي الله عنه: مَكَّاس بلدة شبام وقد يُجْعل مكاسا في تريم، فقال له: لا تكن عَذاباً على أهل بلدك، ثم تكون أيضا عذاباً على أهل تريم، إذا أُمِرت بذلك فاعتذر، فإنك إن كنت في خَير فيكفيك ما أنت فيه وإن كنت في شَرّ فلا تجمع شراً إلى شرٍّ، وأوصاه كثيراً بالمساكين، وكافة المسلمين .
(2/74)


وقال رضي الله عنه: ما غَيَّر الناس إلا النَّاس، حتى الدولة ما سَبَب غيارهم إلاَّ هم، وإلا فأحسن أن تسامح الغني لأجل الفقير، ولا تطبخ الفقير بمرقة الغني، والظلم يمحق، وتلا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ }( ) الآية، وهؤلاء كذبوا، وإذا فعل من آمن مثل فعل من لم يؤمن حصل فيما حصل فيه، والتكذيب يكون في القلب وفي الأقوال والأفعال، وهؤلاء كذبوا بأقوالهم وأفعالهم، والله أعلم بما في قلوبهم، وإذا ذبح الرعاة الغنم للذئب ما بالك؟، وقد كان الرعاة يحفظون الغنم عن الذئب، وهؤلاء ذبحوا الغنم للذئب، ولكن الله يُمهل ولا يُهْمل، وقد قال الله تعالى في بعض ما أنزل، أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم، وجاء أيضًا أنه تعالى قال: لو كان الظلم حَجَراً ملقى في الجنة لخربت الجنَّة بسبَبه . مع أن الجنة لا تَخْرب، وجاء أيضًا: إذا صلح الولاة والعلماء تَمَنّى أناس من الأموات أن يكونوا في الأحياء، و إذا فَسَد الولاة والعلماء تَمَنّى أناس من الأحياء أن يكونوا في الأموات، والآن هنا أحد في الأحياء( ) يَتَمَنّى أن يكون في الأموات .
وذكر رضي الله عنه: أقواماً مخالطين للدَّولة، فقال تكَدَّرت أحوالهم، لأن الصفا يتكدر بمخالطة أهل الكدر، والنَّاس معهم منذ عشر سنين، وهم يذوبون كما يذوب الملح في الماء، والشَّجر في النار، وقاعدة أهل هذا البيت( ) الخراب، وإلا فقاعدة: من له حيلةٌ ضبطَ في مكان، حتى إذا رؤي منه ذلك، انضبط المكان الآخر، ولكن هذا آخر ملكهم، لأنه مُلْك شيبة، وَوَقَع خرابه بأيدي أهله، وهو كالضَّرب في الشَّجرة( )، وما عاد مع الجزع ثواب بل عقاب آخر .
(2/75)


ودَخَل عليه رضي الله عنه رجل من بيت دولة الجهة، فقال لسيدنا السيدُ زينُ العابدين: لكن رأيتم فلاناً، يَعْنيه، عسى أن يكون له حُرَّاقة ناضجة بحيث تُوري من أول قَدْحة، فقال: سيدنا: إنا قد طَرَحْنا القُرَّاعة( ) في هذا الزمان فلم نقدح لأحد فيه قط( ).
وقال رضي الله عنه: لله في خلقه مثوبات وعقوبات، فمن أحبه منهم أقامه في المثوبة، ومن أبغضه جَعَله في العقوبة، وإذا رأيت أن اللّه جعل أحداً ينتقم به ممن خالفه فاعلم أنه يبغضه .
وذكر رضي الله عنه والي اليمن، فقال: هو ظالم لأن الظلم له صورة، وإنما هو عقوبة طَرَحه الله على رِقاب الناس، والوالي الظالم عقوبة، يعاقب الله سبحانه به أولاً ثم يعاقبه .
وذكر رضي الله عنه عمر بن جعفر، فقال: حركاتُه كثيرة، وظَفَرُه قليل وإذا أراد الله بالعبد شيئاً [ أي من الخير ] جعل حركاته قليلة، وظَفَرَه جَمَّا، فانظر أمر الله في خلقه، أحد منهم في الراحة وأحدٌ منهم في التعب، وأهل حضرموت يَعْملون كالمريض الذي بَعُدَ منه الطبيب ولا معه دَوَاء . وليس للناس حاجة بقتل يافع، ما هو إلاَّ يَرْفعون أيديهم من الأموال التي ما تنبغي لهم، وَصِفَةُ العسكري ما هي إلاَّ هكذا، ولو كان أربعة جماعة أردت تقدم منهم واحداً تَعالقوا( )، والأمر ما هو إلا بالنظام، وقد قَصَد ستّة نفر بعض الملوك ثلاثة منهم عجم وثلاثة عرب، فأمر لكل بسرِير ومِرْوحة، فأما العجم فأَمّروا واحدا منهم، وجعلوا له السرير، وأعطوا المروحة آخرَ منهم، يُرَوّح عليه، والآخر جَعَلوه على الباب بواباً، وأما العرب فاختلفوا بَيْنهم، كل منهم يريد أن يؤمَّر، فلما علم الملك بذلك أمر العجم الثلاثة بالإقامة عنده، وأعجبه حالهم، وطَرَد الثلاثة العرب، وقال هؤلاء مفسدون لا خير فيهم، أو كما قال .
(2/76)


وقال رضي الله عنه في الحض على التأهل للولاية وغيرها: تأهلوا للشيء، والصغير يربَّى كالعَشعش( )، يُسقَى ويُربَّى حتى يَكبُر، فلو أراد جاهل يتوَلّى القضاء لم يمكنه ذلك( ) والسياسة لها حكم، والشريعة لها حكم، ولكن السياسة تُحكِم( ) الشريعة( ) إذا كانت السياسة من أهلها، كما إن العادة تخدم الشريعة، وقد رأيت( ) الإمام المتوكل( )، وكأني مررت عليه، وهو في طريق كلها شوك، وعليَّ حذاء، وهو حافي فقلت له: خذ الحذاء فالبسها لأنك صاحب أمر، فقال: لا، ما يُحتاج إليها، وإنما هي لأجْل، ثم تَكَلّم سيدنا بكلام اشتبه عليَّ، ثم أنشد هذا البيت :
ولربما قتل الفتى أقرانُه ... ... بالرأي قبل تقاتل الأقران
ثم قال والأمر ما هو إلا بالرأي والسر والسياسة .
وذكر رضي الله عنه تَذبذب السلطان وامتحانه فقال: من تولى على قوم، يفعل الله به في الدنيا كَفِعله في رعيته، كما أتعب الناس بالظلم، أتعبه الله، صام الناس رمضان في بيوتهم، وهو لابِدٌ في غار تحت حِجَارة في شَبْوة وهكذا فأخذهم بأعمالهم .
(2/77)


وذكر رضي الله عنه رَجلاً وكان من سلاطين البلد المتقدمين، أظنه بدر بن عبدالله الكثيري قال ذلك في طريق السبير يوم الأحد، سابع ربيع أول سنة 1125، فقال نفع الله به: إنه لا بأس به، وإن كان مخلّطاً فإن فيه خيراً يَسْتره، وأما الآن إنما فيهم شوك بلا ثَمَر، مجرد شر بِلاَ خير، وأما لو كان شوك معه ثمر فحسن، فالنخلة فيها شوك وثمر، والعِلب فيه شَوْك وثَمر، وغير ذلك فلما كان جالساً في السُّبير، قال: النخل هذا العام مليح الثمر، ولولا أن المَهْدي تتقدَّمه فتن لقلنا هذه السَّنة من سِنِين المهدي، فقيل له إن بعض النخل، أي نخل السُّبير أصابه السيل، فقال: قد كان فيما مَضَى يصله سَيْل دَمّون، فأردنا أن نأخذ منه له ماء، فخَشينا أن يَكُون ذلك حَقّاً مستمراً فَتَركْناه، ويَنْبغي للعاقل في هذا الزمان فَضْلاً عن الزَّاهد أن يفرح بالسكون ولا يُحَرّك ساكناً، ويترك الناس على ما هم، وأرزاقهم على ربهم، وهو كافيهم إياها :{أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَه}( )، وإن تحرك فليتحرك في أمور الدين، فإنها مُعَطّلة، ولو قام عليك عشرون سيفاً أو عَصاً في شيء فأحسن لك أن تتركه، ولو هو مالُك .
(2/78)


وقال له رضي الله عنه بعض السادة وكان قريب عهد بالسّفر ومن عادته الانبساط معه قال: قَدِمْتُ من السفر إلى الآن في كل شهر ثلاثة قروش دُفْعة للدولة يأخذونها منَّا، ولا عاد شيء يقع برهان، وقد كنا في السفر يحصل ذلك كثيراً، فقال رضي الله عنه له: الفوائد تتبع العقائد فهناك تحصل للشريف مَشَمَّة( ) ويُعْتَقد، وأمَّا هنا فالمكان ملآن من الأشراف، إذا تعدَّى واحداً لحق اثنين، فضَعفت العقيدة لذلك، ثم قال الرجل: خاطركم بالفرج عساكم تأذنون في قراءة يس في مسجد باعلوي بنية الفرج للمسلمين، فإنكم لما أذنتم بها في طلب الغيث، لم يفرغوا من مدة قراءتها، حتى ضاق الناس من كثرة الغيث وملوه حتى قرئت بنية قطعه، فقال رضي الله عنه: بِشَرْط أن تقسِّمون على الفقراء والمساكين، إن أردتم يس فقسموا، وكلٌّ يعرف يقرأ يس، كما حكي أن رجلاً وقف يقرأ يس على دار بعض الناس، يَطْلب حاجة من صاحب الدار، فَنَزل صاحب الدار فدارسه إياها، وقال كلنا نحسن قراءة يس، لا تظن أنه لا يحسن يقرأها إلا أنت، ولكن الأشياء إنما هي بالإشارات، وفي الناس مصرّرِين( )، إذا جاهم الفقير يطلب الزكاة دفعوه وَمَنعوه، فلما لم يعطوا الفقراء حَقَّهم من حقِّ الله، سَلّط الله عليهم من يَقْلعها من مناخرهم قَهْراً، فما أصابهم هذا ونحوه إلاَّ بمنعهم من الحق، ولَوْ لم يمنع منهم إلا واحد، فإنما كان عاقرَ الناقة واحد، ورُبّ فقير محتاج إلى مِلْحفة ما يقدر عليها ما يعطونه من الزكاة ما يشتري له به ملحفة، فأين الزكاة، وأين حق الله، ما يُخرجونه، وأمر بقراءة "الإحياء" في مسجد آل أبي علوي، وقال: إن فهموه، وإلاّ فلا يَخْلو من روحانية أحد من الصَّالحين، أو روح يَحْضر إذ ذاك، لأن الأولياء منهم مَنْ تُطْلَقُ روحه في الدنيا والبرزخ والآخرة، وكثير من السادة آل باعلوي كذلك، كما ذُكر إن رجلاً اجتمع بالشيخ السيد عمر باشيبان( ) في
(2/79)


المشقاص بعد وفاته، فقال له: مَن أنت؟، قال: أنا من الطُّلَقَة، ومنهم من تُطْلق روحه في الدنيا فَقَطْ، ومنهم في البرزخ، ومنهم في الآخرة، ومنهم من يَمْكث ببدنه في قبره بلا إطلاق لروحه، أو كما قال .
وذكر رضي الله عنه كلاماً يُرْوى حَديثاً: إن الله يأخذ من الظَّالم لمن ظلمه ثواب سَبْعين صلاة مقبولة، ثم قال نعم إن حَكَّموه في حسناته يأخذ هذا وزيادة( )، لكن مقام العدل لا يقتضي هذا، بل يعطى قدر حقه قَلَّ أو كثر، لأن مقام الآخرة كله عدل ظاهراً وباطناً، لأن أمره إلى الله لا سواه، وأما العدل في الدنيا فهو ظاهر، لأنه مَنْسوب إلى الخلق ظاهراً ومنسوب إلى الله تعالى في الباطن أيضاً، وكما إن الله تعالى طلب من الخلق العدل في الدنيا كذلك يعاملهم به في الآخرة .
وتكلم رضي الله عنه في أهل الزمان وفي دُول الجهة وفي كَثْرة ظلمهم فقال: أكبوا على جِيْفة الدنيا، وهي حرام إلاَّ قدر الضرورة، قال تعالى :{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}( ) الآية، ومن تأمل أحوالهم عرف أن ما فيهم رَحْمة، لا الدولة على الرّعية، ولا الرعية بَعْضهم على بعض، فإذا لم يَتَراحموا ما رُحموا، وأكثَرَ في مثل هذا ثم قال: إنا نحب أن نتنفس مع من نحب،فإن لم نتنفس وبقي ذلك مكموناً في صدرونا نخْشى عليهم أن يصابوا.
(2/80)


وقال رضي الله عنه في قول بِشْر: صُحْبة الأشرار تُوْرث سوء الظن بالأخيار، أي لأن الأشرار غالب أوقاتهم يَذْكرون النَّاس بما لا يَنْبغي فيقولون: فلان كذا وفلان كذا، حتى يَصِفوهم بأشياء من سمعها أنكر عليهم، حتى حكى لنا رجل: أنه بقي يوماً يمشي خلف رجلين من أهل تريم يَذْكران صالحيها، وأحدهما يقول للآخر: ما تقول في فلان؟، فقال: إنه يأتونه الدَّولة أو يَرُوح عند الدولة، قال: وفلان؟، قال: إنه كذا وكذا، قال: وفلان؟، قال: فيه كذا وكذا، حتى لم يبق منهم أحد إلا ذكره بشيء( )، فقال له: كيف قلت إنه الآن لم يبق فيها صالح، ثم قال سيدنا: والقدح في أهل الخير، يقتضي القدح في الدين .
وقال رضي الله عنه في حديث( ): (( من حمى مؤمناً من منافق ينتهك حرمته ))، أي يغتابه، وهذا يدل على أنه لا يغتاب الناس إلا منافق، إلا أنه قد يكون منافقاً تام النفاق، أو دون ذلك .
وقال رضي الله عنه: الشَّقاوة لها في قلوب أهلها حلاوة أشد من حلاوة السَّعادة، أو قال الطاعة لأهلها، حتى إن أمير الجيش الذين استباحوا المدينة وهَتَكوها، وقتلوا غالب من كان فيها من المهاجرين والأنصار وذرياتهم، وتُسمى وقعة الحَرّة، وذلك أنه اتفق موته بين مكة والمدينة، فقال عند النزع: إن كان عَذّبه الله بعدما فعل( ) في أهل المدينة ما فعل، إنه لشقي، انظر كيفَ عَدّ فعله ذلك قُرْبة يتقرب بها، وكان الجيش من قِبَل يزيد بن معاوية .
وشكا إلى سيدنا رضي الله عنه رجل شدة الظلم من الدولة، فقال له: اصبر على ظلمهم حتى يضجروا من الظلم فيتركونه، أو يضجر الظلم منهم فيأخذهم الله .
وقيل له رضي الله عنه: عسى ببركتكم أن الله يكفي الناس شَرّ يافع، فقال: الذباب لا يقع إلا على علة، فعسى الله يكفي الناس شر أنفسهم، إذ لولاها لكانوا في عافية .
(2/81)


وذمَّ رضي الله عنه هؤلاء( ) الظلمة، فقال: لو قيل لأحدهم هاك كذا دراهم، و صلِّ إلى شرق لفعل، فالخطاب مع هؤلاء ما يجوز، وما عاد إِلاَّ إمنع على دينك، وأشفق على نَفْسك، وما قدرت عليه من فعل خير فلا تكره .
وقال رضي الله عنه: الظَّلمة ينبغى أن يُقرعوا بأشياء، إذا اعتبرها الإنسان في الدين صحت، ولا يَنْبغي أن يسلط الظَّالم على شئ أصلاً، أما ترى في قصة إبراهيم مع النّمروذ، حيث قال له إنها أختي، وكذلك كلماته الثلاث .
وذكر رضي الله عنه المَظَالم، فقال: مظالم أهل الزمان إنما هي في ألسنتهم وأعراضهم، وإلا فإنهم أشحاء بأموالهم، وكلٌّ ظَالم ومَظْلوم وما بقي إلا التَّواهب، كما في الحديث: تَوَاهبوا المظالم فيما بَيْنكم وادخلوا الجنة برحمتي .
وَدَخل عليه رضي الله عنه رَجل من أهل الدَّولة، فقال سيدنا له: أنتم ثلاثة قد قَصَدْتم هذا الأمر، أنت وعمر بن جعفر وآل الشيخ أبي بكر، ولا انجحتوا، فقال الرجل: أنتم الأصل، وإنما نحن مُدَيْرَة( ) على سترة( )، فقال نفع الله به: لا تحتج بالأمور الإلهية، فإنها عامة لكل الناس، وفيها حجة لك، وحجة عليك، وها هو الطَّعام تحت الرحا، ولا شيء عود ولا سهم، ولو إنه( ) إمتثل وَرَقَة واحدة من أوراقنا التي كَتبَنْاها إليه كَفَتْه، وقد تأسَّفنا على كتابتها إليه لما أهملها، وقد قُلْنا له اجمع أوراقنا، فإن لم يكن لَكَ بها حاجة، فلنا نحن بها حاجة، ونحن ما أخذنا الرِّياسة( ) إلا من الكتب على قانون الشَّرع، لا مثل ولاية فلان( ) وإن كان لنا منها نَصِيب من جهة سيدنا عليّ، إلاّ أن سَلَفنا تركوها وزَهِدوا فيها .
وقال رضي الله عنه في انتصار المظلوم من ظالمه، بعد كلام طويل: ماعاد اليوم إلاّ كل ينتصر لنفسه، ويَرَى أنه هو المظلوم، ولكن يَنْبغي أن يداريهم بِحُسن الخلق، وهذا لمن خَالط الناس، وعرف طبقاتهم وأحوالهم .
(2/82)


وذكر رضي الله عنه جهة الجِرَبْ( ) إنها ضعفت وَتَغَيَّرت، فقال نفع الله به: راح بها دعاء أهلها، إذا حصل عليه بسببه شيء من المتاعب من نحو دولة أو غيرها قال: الله يَفْعل به ويَفْعل، فغيَّر ذلك عليهم، وهذا كما قال الله تعالى: { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ}( ) الآية، ثم قال: معك خصلتان يمحقان: تعلّق الدولة، وتعلق هِمم الناس، ثم ذكر إفراط ولاة الجهة في الظلم، فقال: لو جاء والي على الجهة يريد أن يدمّرها بِسيَاسة من غير قتل ولا إزعاج، ما فعل بهم مثل هذا الفِعل، وقد أمرنا بعض سلاطين الجهة بشيء من المعروف، وهو السلطان محمد بن بدر الكثيري، فلم يَمتثل، فأرسلنا إليه رَجُلاً ممن يتَّصل به ويداخله، فكلَّمه بكلامنا، فقال: إن فلاناً يريد مني أن أسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، وأنا ما أطيق ذلك، ولا قُدْرة لي عليه، فحكى لنا بقوله هذا، فقلنا للرجل: حُكمك، بَلَّغْتنا كلامه، فهل تُبَلِّغه كلامنا؟، فقال: نعم أبلغه كلامكم، وما عليَّ منه، فقلنا له: قل له يقول لك: تخزى، ما نطلب منك أن تسير بسيرة عمر بن عبدالعزيز، لا أنت ولا نحن في أنفسنا ولا في أهلنا، ولا من هو أحسن منا( )، وإنما نريد منك أن تَقُوم وتؤدي من حقوق الله وحقوق عباده، ما لا يغيّر عليك أمرك الذي تقصده( ) .
وقال رضي الله عنه: جعلنا لمحمد بن بدر قاعدة، أن يعمل بكل أمر من أمور الدين والدنيا التي يُحتاج إليها، بما لا يخل عليهم في الأمر الذي هم بصدده، فقال أما هذا فسهل .
ذكر دوعن وآل العمودي
(2/83)


وذكر رضي الله عنه فتنة دوعن، فقال: إن هذا المثير للفتنة، إنما هو ولد منهم، وليس بطالب رياسة، إنما هو ومن ساعده من البدو تجَمَّعوا طَمَعاً في الأكل، وطالبُ الأكل أمره سهل، بخلاف طالب الرِّياسة، وهو الذي يقوم على صاحبه منكراً عليه أموراً يفعلها، كأن يقول له: إنك غيّرت الطرق، وظَلَمْت الناس وفعلت كَذا وكَذا، مما ينكَر عليه فيها، والأمور تقابل بأمثالها، وما أقام الله الولاة إلا لإقامة الدِّين، وإقامة المعاش بعد إقامة الدين، وهذا وادي مُبَارك ما يقوم فيه إلاّ من فيه صلاح وإقامة لأمر الدين، لأنه إلا مَنْصب وزاوية، لا محل مملكة وولاية، حتى إن الشيخ عثمان ما أخذه بحرب ولا عسكر، إنما كان شيخ زاوية دَخله مع تلامذته وفقرائه، ومن تولَّى منهم طالباً للدنيا فالغالب إنما يموت بِسَفك دمه، كصاحب النَّقعة لما قتله التُّرك، وكذلك ولد عبد الرحمن لما سَلَك غير طريقتهم، قام عليه آل مطهر فقتلوه، ومن حين قَتَل محمد بن مطهر ابنَ عمه( )، ما تبارك في نفسه، ولا تبارك به أحد، وآل العمودي مالهم بخت في البغي، قال سيدنا علي: مَن سَلَّ سيف البغي على أخيه قُتِل به، ومن حفر لأخيه المسلم حفرة وقع فيها، وآل العمودي بيت صلاح، والشيخ سعيد أخٌ( ) لسيدنا الفقيه المقدم، وكل أهل زاوية وقع بينهم إلا آل باعلوي، وآل العمودي، أما سمعتم فيما يقال إن الفقيه المقدم طَرَح عند الشيخ سعيد شيئاً من الأحوال، وابن هادي كم حاجَّه أصحابه، فانقلبت العاقبة عليهم، والبغي ما له عاقبة، وفي الحديث( ): (( لو بغى جبل على جبل لَدُكَّ الباغي ))، وخصوصاً فيما يثير فِتْنة في الناس، وشاغلاً عليهم، ولا يقوم في هذا الأمر إلاَّ من فيه علم وديانة، ليقيم للناس أمر دينهم ودنياهم، وهؤلاء ما نفعوا الناس، لا في دينهم ولا دنياهم، وأي شئ وقع للذين تولوا بلا علم، تراهم يتِلتِلون الناس، ومن لا يحسن يصلي ،
(2/84)


يصلح( ) أن يلي أمر المسلمين؟، وما هو إلا أهل الزمان غلب عليهم الشيطان والهوى، فبقي ناس يحسنون أشياء لأجل أغراضهم، كما قال بامخرمة :
يا عمر إن توليت أحرموك الولاية ... وإن رأوك اهتديت با يحرموك الهداية
وأنشد هذا البيت :
ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فَعَقْرُ جميع الناس من رابط الكلب
ووقعت مرة فتنة في دوعن، بين آل العمودي فجاء خبرها ليلة السبت 17 شعبان سنة 1132، وجاءه السَّيد زين العابدين، يوم الثلاثاء 20 شعبان، فسأله: كيف حالكم؟، فقال ما معناه: نحن بحمد الله في عافية، ولكن ما مع الكِبَر صحة، وأنا أبقي على نفسي لمكان العجز، لئلا إذا حصلت الكلفة يقع القليل كثيراً، وقد كنا يوم الأحد بانخرج إلى السبير، لكن كَمَخْنا خَبَر آل العمودي، لأن هذا الرجل( ) سقوطه سقوط الوادي كله، ولكن هؤلاء منهم الذين قاموا بالفتنة ما يقع لهم خَيْر، وقد ولي هذا الوالي منهم، نحو أربع سنين، ما شفاه( ) منهم أحد، قيل: ما فيه مما يُذَم إلاَّ البخل، فقال: البخل في آل العمودي معروف، وقد طَلَب جدّهم الشيخ سعيد من الفقيه المقدم الدّعاءَ لهم بالبخل( )، وكلهم بُخَّال بأموالهم .
وليلة جاء خبرهم رأيت كأني جالس بين رجلين، وأني أصلي، وأحد الرجلين الشيخ عمر المحضار، والآخر الشيخ علي بن أبي بكر، وقلت يوم الشيخ عمر في الجانب، والشيخ علي في الجانب الآخر، وهو صاحب علم شريعة، يكون الأمر مفرجاً، ولو كان إلا الشيخ عبدالله في الجانب الآخر، مقابل الشيخ عمر، لكنا نخاف من ذلك لكونهما أصحاب أحوال وأهل حقائق .
وقال رضي الله عنه: من لا يخاف الله، خَوّفه الله من الناس، ومن خاف الله خوَّف الناس منه .
(2/85)


وقال رضي الله عنه: الناس مع فلان يشير إلى بعض الولاة( )، كالقائم في طحس أي وحل، كلما تحرك زلت رجله، فإن أموره مضطربة والناس معه كل ساعة في حكاية، والذين يبغونهم الناس ما جاؤوا، والذين ما يبغونهم جاؤوا، حتى يعلموا أن القوة لله جميعا، وقد تَغَيّرت أساليب الدولة كلها على وجهه، وكلما غرق في حِجة( ) قال نجوني منها، وعاده ما ثبتت له قدم، ولا استقام لنا معه أمر، وما هو إلاّ كما قيل( ): أخذت زوجاً ليقوم بي وبعيالي، فعجز عني ما قام بي بحال أو نحو هذا اللَّفظ، وما مثَله إلاَّ مثل فلان، رجل سماه قال: كان أعمى وشَيْبة ولا يَسْمع، والإنسان فَلْيقع إما ثمر وشوك، وهذا هو التمام، وإما ثمر يأكل منه الناس، وإلا شَوك فيمنع على نفسه، وكان هذا الكلام حاضره السيد زين العابدين، فشكا( ) إليه من أحوالهم، وما هُم عازمين عليه من إيذاء الناس وظُلْمهم، وذلك في شعبان من سنة 1130 لما جاء بتلك( ) العساكر، فقال سيدنا: لا عاد الإنسان يَشْغل نفسه في هذه الأمور فكم من قربة منفوخة تحسب فيها ماء، ما عاد إلاَّ يتولى الله خلقه( )، ولا عاد تتعبون أنفسكم بلا قدرة لكم عليه، وإذا عَجَزَتْ قدرةُ العبد عن أمر كان فيه الخيرةُ إلى الله .
وطلبه السيد زين العابدين المذكور، أن يصل إلى مكانه( ) فَمَضَى نفع الله به إليه، يوم الأحد تاسع عشر شعبان، فمما قال في مجلسه ذلك، أن قال: إنَّا متعجبون من عاقل يشك في أمر يافع ويُخشى حتى على إيمانه، فإنهم مستحلون أمراً حَرَّمه الله في القرآن( )، واستحلال ما حَرَّم الله يوجب الكفر، فلا يَمْتري فيهم أحد، ولا يرى أن على من قام عليهم حرجاً .
وقال رضي الله عنه: إعانة المؤمن لأخيه أمر مَطْلوب، فإن كان إعانة لوالي أمر كان أمراً عاماً، والعمدة كلها على الرحمة والأمان، ما يستقل الأمر إلا بهما . قال السويني :
(2/86)


ما حَضْرموت إلا ان صفا كَدَرْها ... ... وطاب مَصْعدها ومُنْحَدَرها
أي مجيئها ومراحها، ولا يصلح حال صاحب الأمر ويستقيم أمره، إلا إن طلب المصلحة لغيره، فإذا طلبها صلح، وإن طلبها لنفسه فسد، والظلم كله خراب، ولكن الظلم المرَتَّب، خير من العدل المُسيب، قال بعضهم فأما اليوم فهو ظلم مسيب، وأصل الأموال والجرايات ما تجبيها إلا الرعايا، فإذا كان الوالي ذئباً فمن أين يُجْبونها، وقال بعض أهل السياسة للمأمون، لما ضعف بعض ممالكه: إني لأعلم ما يقوّمها، قال: ما هو، قال: تَرْفع عنهم خَرَاج سنة، والحاصل أن المحسن ينفع نفسه وينفع غيره، والمسيء يضر نفسه ويضر غيره .
وقال رضي الله عنه: من علامة فساد الزمان، إن الرجل فيه إذا ظُلِمَ صاح واستغاث وتنَصَّف وقال: ما أظلم الناس، ما يأمرون بالمعروف ولا يَنْهون عن المنكر، وأبطلوا الحقوق، وتركوا الدين، ونحو ذلك واذا وقع الظلم على غيره، تراه بارد الخاطر، ولا يقول كقوله إذا ظُلِمَ في نفسه .
وقال رضي الله عنه: ومن العجائب أن الواحد من ظَلَمة أهل هذا الزمان، أنه لَو وقع في وَرْطة تَذَكَّر ماذا فعل في عمره من الخير، فإن ذَكَر شيئاً من ذلك اعتقد في نفسه أنه ما حَصَل عليه ما حصل إلاَّ بسببه، فانظر ما أعجب هذا الأمر، مع أنهم قَلَّ ما يكون منهم شيء من الخير فيما رأينا، فما أحد يطلب من الله الفرج بمعصيته، إنما يكون ذلك بطاعته، فإن الحسنة إذا احتوشتها سيئتان أفسدتاها، فكيف بِحَسنة بين سيئات كثيرة .
(2/87)


وتَظلَّم إليه نفع الله به رَجل فقال: الظلم في الإنسان كالنار إذا اشْتَبَّت، فادع إلى الحق، فإن قُبل منك وإلاَّ فخل بين الظالم وبين الله سبحانه، وهو يَكْفيه، وكان معنا عشدلية( ) مليحة جداً، جعلناها لرجل خُرْفة ولا حَقّ له في أصلها، فمات، فتملَّكها عِيَاله فأعلمناهم بذلك، فلم يقبلوا وجعلوها في جملة مالهم، فتَركناها، ونحن من طَبْعنا من ظَلَمنا تَرَكْنا حقَّنَا له، ولا ننظلم( ) لأهل الزمان، وإن كانوا هم الظَّالمين، ونُظْهر لهم أنهم مُسْتحقين، ونحن نقدر مع ذلك أن نُظهر الحق، ونأخذ حَقَّنا منهم، بالحق لا بالباطل، وكان النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قد آذته قريش في عِرضه ومالِه فعفا عنهم وَتَرك لهم مالَه ثم أظهره الله عليهم فَمَلَّكه رقابهم وأموالهم فمنَّ عليهم برقابهم وأموالهم، ونَحْن طريقتنا إلاَّ مثل طريقة الشيخ عمر العطاس من أعطانا شيئاً سكتنا عنه ولم نسأله، وإن طالب به عياله خَلَّيناه لهم، فكم ناس أوصوا وجعلوا لنا أشياء ما أخذناها، وأشياء فَرَّقناها على ورثتهم، وما الإنسان يكره أن يَدَعَ إلا لمن أراد أن يُرْبي به ويتخذه وسيلة للربا والحرام، فهذا لاَ نَدع له شيئاً لأنه لا تجوز المساعدة على الحرام .
(2/88)


وذكر رضي الله عنه ولاة الجهة وشدِّة ظلمهم، فقال: لا تَدْع عليهم، فما عاد معك معهم إلاَّ مثل ذاك الذي شكا أولاده إلى بعض الناس، فقال له: هل دعوت عليهم؟، فقال: نعم، فقال: أنت الذي أفسدتهم، ولا تخصّص أحداً منهم، بل قُل: الوالي أو الولاة، والدّعاء لهم، وتجنَّبهم ولا تَصَلهم، لأنهم معزولون بحكم الشَّرع، لأن الفاسق معزول شرعاً، وأعظم الفسق ظُلْم المسلمين، فإنهم( ) أهلكوا الحرث والنسل، حتى صَيّروا الناس كدود القبر، يأكل بعضه بعضاً، حتى تَبْقى ثنتان كبيرتان، فتأكل إحداهما الأخرى، ثم تموت . ولكن قاعدة: كلما( ) فعلوه( ) في الناس من صغير أو كبير، لابد لهم ما يذوقونه أو قال: يقعون فيه كايناً ما كان، لأن الله سبحانه وتعالى قال فيما جاء عنه: ( أنا الظالم إن لم أنتقم من الظالم )، وإن أُخّروا إلى أمدٍ يُريده .
وقال رضي الله عنه: أحكم على الظَّالم بِفِعْله، لأن الله وعد بأخذ الظالم . (*)
وقال رضي الله عنه: خلافة الخلفاء بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أما أبوبكر فبالإجماع عليه، وأما عمر فبالوصيّة من أبي بكر، وأما عثمان فبالإجماع عليه، بعد الشّورى، وأما سَيدنا علي رضي الله عنه فبمبايعة أهل بدر والمهاجرين والأنصار، وأما معاوية فبتسليم الحسن بن علي له ومبايعته، وغيرهم إنما هو بالسَّيف والظلم والتَّعدي أي سوى عمر بن عبدالعزيز فإنه بالإجتماع عليه، والمبايعة له، ورجوعها إليه بعد من كان قبله من أهل بيته .
وقال رضي الله عنه: اسأل ربك السَّتر، وإلاَّ عاد يصبح الأمر غَير هذا، والبَيْضة فيها وَقْوَقَه، لكن الشهادة فيها الخير، والأمور تجري على قليل قليل، ويُسكت عنها .
(2/89)


وقيل له رضي الله عنه: إن السُّلطان مساهن ما وعدتوه، من أنه يكثر عليه الخير، حتى لا يجد وعاء يَطْرح عليه، فقال: هذا إن اتقى الله وعدل . فإن جار وظلم لا يَحْصل له ذلك، يطرح الرِّجْلين ويريد أن يستقيم له الأمر، إن الظلم ييبِّس الإنسان حتى يصير كالعود اليابس، حتى لو نُقّع في الجنة ما عاد انتقع .
وقال رضي الله عنه: لا بُدَّ بعد كل سَبْع سنين تَحْصل حركة بين الولاة والعَسْكر من حَرْب، وتَبْديل سُلْطان بآخر، ونحو ذلك .
(2/90)


وتكلم رضي الله عنه في الفاطميين، وبَني العباس، وبَني أمية، فكان من جملة ما قال: إن محمد بن عيسى، أخا الشيخ أحمد بن عيسى، قَاتَل بَني العباس، وكان إذ ذاك شَوْكتهم قائمة، وإذا قهروا أحداً من بني فاطمة لا يَسْتأصلونهم كبني أمية بَل يجعلونهم عِندهم في بيوتهم مع أهلهم، ولما علم عبدالله بن عمر بِقَتْل الحسين بَكَى، حتى خرج الكحل من عيونه مع الدموع، ثم قال: أما والله لو حدثكم أبو هريرة، بأنكم ستقتلون ابن نبيكم، وتُخرِّبون بيت ربكم لكذَّبتموه، وقلتم ما صَدَق أبو هريرة، وها أنتم فَعَلتم ذلك، فقلت لسيدنا: ألم يكن معاوية، وهو صحابي عهد إلى ابنه بالخلافة فَفَعل هذه المُنْكرات، فقال رضي الله عنه: إنه قيل: إن معاوية لما عهد له بها قال: إني تفرست فيه خيراً، فإن صدقَتْ فراستي فيه فذاك وإلا فتِلْك من محبّة الطبع، محبة الوالد لولده، وأنا أسأل الله أن لا يطيل بقاه، فلما بَان على خلاف ما ظَنّه فيه، لم تطل مدته ومات مقتولاً قَتْلَةً قبيحة ذَبَحه لما أرسل إلى الحرمين، لقتل ابن الزبير، وهدم الكعبة - وأكثر في ذلك - حتى قال: ينبغي للإنسان أن ينطويَ باطنه في أصحاب النَّبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم على المحبة وحسن الظن بهم، ولا يسيء ظنه فيهم، حَتَّى يصير من الذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان( ) . وأما يزيد، وابن زياد، والحَجَّاج، ونَحْوهم فلا لهم حُرْمة الإسلام ولا هم بشيء حتى يذكروا، وهذه الأشياء كلما اجتنبها الإنسان، كان أحسن، لا سيما إذا لم يكن فيه مسكة دين، وخرج رجل ممن يحب أهل البيت في العَسْكر الذين خرجوا لقتل الحسين، وبقي فيهم مختفياً، فلما كان وسط الليل أنشد :
يارب رب الناس والعباد ... ... العن زياداً وبني زياد
وذكر هذا النظم أيضاً :
جاءوا إليك يا ابن بنت محمد ... ... متزمِّلاً بدمائه تزميلاً
(2/91)


ويكبرون إذ قتلوكَ وإنما ... قتلوا بك التكبير والتهليلا
وقال رضي الله عنه: لو أن الخلافة صارت بعد عثمان أو بعد معاوية إلى بَني هاشم، ولم تَصر إلى بني أمية، لكان لم يَبْق لغيرهم مجد ولا فَضْل، ولكن لله تعالى في ذلك مُرَاد، وهو سُبْحانه يحبّ أن يَتَشَارك عباده في الفَضْل والمجد، ولولا ذلك لكان مختصاً بهم ومقصُوراً عليهم وليس لِغَيْرهم منه شيء، لأن فيهم النبوة والرِّسالة وفيهم الحَسَب، وعَدَّد أشياء، ثم قال: ولكن الله أراد ذلك ليتفرق في جميع قبائل العرب، ولهذا لا تخلوا قبيلة من مناقب وفضائل، كثرت أو قلَّت، ولَوْ خصلة واحدة، ليستر ذلك ما فيهم من المذموم.
وتكلم رضي الله عنه في الولاة ممن سبق فقال: إن أولئك، وإن كانوا ظَلَمة فالمَظْلومون في زَمَنهم قليل، فيقلّ لذلك الدعاء عليهم، وفيه( ) حتف على الظالم، وأعماله أيضاً حَتْف عليه .
وذكر أن بعض ملوك الروم، أو قال: الملوك، أو ملوك الإسلام، أرسل بريداً( ) إلى ملك الصين، أو قال: ملك الهند، فقال: قل له: فلان يقرئك السلام، ويَسْألك لِمَ تطول أعمار ملوككم، وتَقْصر أعمار ملوكنا، فأراه شَجَرة ثابتة عُرُوقها في الأرض، فقال له: إذا سقطت هذه الشجرة عن أصلها أجبْتُك، فبقي مدة مستبعداً لسقوطها، ويتَمَنَّاه وخاطره متعلِّق بها، فبعد مدة سقطت، فتعجب من سقوطها، فقال ذلك الملك له: إن ملوككم يَظْلمون فتَتَعلَّق بهم همم المظلومين حتى يَهْلكوا، وهُنا الظلم قليل، والشَّاهد سقوط الشجرة، لتعلق همة هذا بها، هذا ما حفظناه مما تكلم به ضحى يوم الخميس حال القراءة في 29 صفر سنة 1124 .
(2/92)


وتكلم رضي الله عنه يوماً كثيراً في حوادث الزمان وظلم الناس، فقال: وَرَد عن الله: لو أن الظلم في حجر في قعر الجنة لأخرَبْتُها لأجله . مع أنها لا تخرب، ثم ذَكَر الصحابة وما جرى بينهم، وقال: الذين بايعوا سيدنا عليًّا من أهل الحديبية , نَحْو مائة رجل، ومن أهل بدر وأحد والمهاجرون والأنصار ولم يَتَخلف عن بيعته من الأنصار، سِوَى رجلين أحدهما كان صغيراً، وأكثَرَ في ذلك ثم قال: إنما مرادنا من ذِكْر ذلك لِيَكُون في بالكم، فربما تسمعون فيما يأتي بأشياء من هذا القبيل، فلا تُنْكرونها وتَبْقون حسنين( ) الظَّن بأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فالله الله بحسن الظن بالصحابة، نُوصيكم بذلك كثيراً، استوصوا بحسن الظن فيهم، وما كان لنا مطالعة في ذلك إلا لما وَصَلوا الزيدية إلى الجهة( )، احتجنا إلى المطالعة فيها، فطالعنا بِقَدْر ما نحتاج إليه .
وَذكَر رضي الله عنه الولاة والرؤوس، فقال: إنما الرأس من تنفذ كلمته، ويُسْمع قوله، وأما من لا يبالَى به، ولا يُسْمع كلامه، ولا يَنْفُذ حكمه وأمره، فليس برأس .
وصافحه رضي الله عنه بَعْضُ عبيد الدولة، فقال له: أنت الذي في تريم، فقال: نعم، فقال سيدنا له: تريم مباركة، إذا وَصَلتها النَّار انطفت، ومن مَدَّ يَده إلى ما لا يحل قَطَع الله يده، وإن الله يمهل الظالم ثم يُحضفه( ) .
وقال رضي الله عنه: أكثر ما يُشْغلنا في المجالس، كَثْرة المصافحة، والكلام أكثر، ونحن لحقنا الناس خاربين قد خَرّبهم أناس قبلنا، فَجَعلنا نحن نصلِّح بشدة، لأن أكثر الناس قد طال بهم العهد، ولو أنهم على ما كانوا عليه كان أسهل، وإذا جاءك إنسان وبقيت ساكِتاً ولم تتكلم، خرج غَضْبان، كأنك أخذت عليه شيئاً فكيف لو رَدَدْته، ثم يلقاه أناس يضعفون عقيدته، وحسن ظنه، ويقولون له: لو قد جبرك أو وَكّد( ) عليك، وهل كذا وكذا . وما كان الناس هكذا .
(2/93)


أقول: قد قال لي يوماً السيد الجليل الفاضل أحمد بن عمر الهندوان، رحمه الله: لو قد جئت إلى عِنْدي، فقلت لك: إرجع يا فلان، ما أنا خَليّ لك، هل تحنق ويقع في بالك، فإن غضبت فقد كرهت ما هو أزكى لك، وقد قال الله تعالى: { وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ }( ) فلِمَ تكره ما هو أزكى لك، قلت: يا سيدنا إن كان مرادكم تفعلون معي هذه القصة، فأخبروني حتى أبقى على حذر، وإلا فإني لا آمن قيام النفس عند ذلك .
وخرج رضي الله عنه إلى السُّبير يوم الأحد في 25 شعبان من سنة 1132 فكان مما تكلم به أن سأل عن أحوال فلان وفلان، من صغار أهل بيته، فقال: أحسن أحوال أهل هذا الزمان، أن لا تكون له حاشية، بل يكون سليم القلب ما يَدْري إلا بما هو حاضره في الحال الحاضر، فإن الحاشية في هذا الزمان، ما تدعو الإ نسان إلا إلى الرّغبة في الدنيا والمنافسة فيها، لضُعْف وَقْتهم وجِهَتِهِم، فالله يحسّن أوقاتهم، ويَرْحم جِهَتهم، وإلا فما هم إلا ضعاف مساكين .
وذكر رضي الله عنه السيد محمد بن علوي، والسيد علي بن عبدالله، فقال: ما تظهر بركات الصالح على من صَحِبه إلا بعد موته، قال: وكان الناس أهل حسن ظن، ( وما الناسُ بالناس الذين عهدتهم ) .
انظر ما قال فيما يتعلق بالرحمة
(2/94)


وذكر رضي الله عنه الرَّحمة، فقال: ما بَدَا رَتَّبْنا ثلاث أربعينيّات {يَس} لأجل الرحمة إلاَّ هذه السنة، يعني سنة 1128 ولقد خَشِينا أن يكون ذلك من الإلحاح على الله، وقد بقي بَعْض موانع ذَكَر من جملتها الرِّبا والظُّلم وقلة إخراج الزكاة وغير ذلك . ثم رأينا أنه ورد عن الرسول صلَّى الله عليه و آله وسلَّم( ): إن الإلحاح على الله في الدعاء مطلوب، سواء كان الإلحاح في أمر محمود تريده، أو أمر مكروه تخافه، فإن كان في أمر مطلوب فهو من باب الشكر، أو مكروه فهو من باب الصبر، وكل منهما مطلوب، مع أن الضعف جِبِلّةُ خِلقة الإنسان، وقاعدة: إذا وقعت الأمور المحمودة، فقل: هذا من الله( )، وإذا وقعت الأمور المكروهة، فقل: هو من الناس( )، ولا تحتج وتذكر القضاء فيهما، وإن كان لا بد منه في الأمرين كما ورد، ومثال ذلك: كقُفّة لها عروتان، إحداهما إلى الله، وهي بيد المَلَك، والأخرى بيد الآدمي، فإذا سَيّب الإنسان الذي يَليه فالتقصير منه، وينسب إليه، والله سبحانه هو المُقَدّر لجميع ذلك، ولكن يذكر بالأمر المحمود، ولا يذكر بالأمر المَكْروه .
وشكا إليه رضي الله عنه رجل من قِلّ الرحمة، فقال: إبْن أمورك كلها على حُسْن الظن بالله، مع التّعلق بطاعته، وقد جاء في بَعْض الأخبار: إن الله ليعجب من قنوط ابن آدم مع قرب الفَرَج منه . ولو قد أردف لهم السَّيل مرتين أو ثلاثاً لضاقوا وتَبرّموا، وقد انتشرت الرحمة في أماكن، وهذا ما هو قليل، والمرجو من فضل الله وكرمه أن يُتم ويعمّ، والقليل من الله كثير، فاشكروا واعرفوا موضع القليل لئلا تُبخسوا في الكثير، فإذا شَكَرتم على القليل أعطاكم الكثير، وإن لم تَشْكروا منعكم الكثير، ولم يَنْفعكم الذي معكم، وما هو إلا لحظة من كرم الله ويعم الكافة في ساعة واحدة .
(2/95)


ومر رضي الله عنه ذات يوم وهو بُكْرة يوم الإثنين رابع رجب سنة 1126 بجهة وادي ثبي، وإذا نخيلُه كما هي أيام الشتاء، لا خَريف فيها لِعَدم الغيث، فقال: سبحان الله، إذا أثمر أثمر بمرة، وإذا تَعَطَّل من الخريف انقطع منه بمرة، وبهذه الأشياء يستخرج اللهُ تعالى من عباده الصّبرَ والشكرَ، ويوم الأربعاء سقى الله تعالى تلك الجهة وغيرها ببركته، فقال نفع الله به: إن الله تعالى قائم بِتَدْبير خَلْقه، وإنما طلب منهم الدُّعاء إظهاراً لعجزهم وفاقتهم إليه، ثم إن الغيث كثر جداً وكَثُرت السُّيول من كل وادي، حتى مَلَّت( ) الناس وخافوا الضَّرر، وسقط بعض الدُّور، فشكا إليه بعض النَّاس من ذلك، وسألوه الدعاء في خِفَّته، فقال رضي الله عنه: هَلْ حَلّ حوالينا ولا علينا، فقيل: نعم، فسكت حتى كان صلاة الظُّهر، فقرأ بعدها يس بنية اللطف وقَطْعِه منهم، فخَفّ بِفَضْل الله، فقال: إن خير الدنيا مبشر بِشَرّها، وشَرَّها مُبشّر بخيرها، كما في قصة الراعية التي مر عليها عيسى عليه السلام .
وذكر رضي الله عنه الرَّحمة أيضاً، فقال: في بعض الآثار عن الله: إنه سبحانه يقول: عجبت من إياس الآدمي وقُرْب الرحمة منه . لأن الإنسان ظاهرُ فعلِه أن يَقْنط وييأس لعدم حصول الرحمة له، وظاهر أمور الحقّ سبحانه حصول الرحمة منه عن قرب، لأن الرَّب تعالى على قَدْره والعَبْدَ على قَدْره، وسَقَط علَيَّ هنا بعض الكلام، ثم قال: وهذه أرض كَدٍّ، ولا تستقيم أرض الكد إلا بمساعدة أمور السماء ويسمى وادي العَجَل( )، لكونها أرض مَسْنا وليس فيها أنهار، وقد ضَعُفت الآن جدًّا لقلة مساعدة السَّما وعَدَم القَطْر . ثم أطال الكلام في ذكر أناس قد مضوا ثم قال: إن شاء الله الخلف في بركة السلف، وإلاَّ فالوقت اليوم والدنيا إلا مضادة للحال الأول، ما هي مخالفة بل مضادّة، إذا تأملت أحوالهم وقستها بأحوال السابقين .
(2/96)


وقيل له نفع الله به: خاطركم، ادعو للناس بالرحمة فإن الدواب أدركها التعب، فقال: لَعَلّ الرحمة تَحْصل لأجل الدَّواب، فإن في بعض الأخبار: إنما يُسْقى الناس بِسَبَبِها لعدم تَكْليفها، ولو رُحموا لم يَرْجعوا إلى الطاعة، فقد كانوا( )، إذا قحطوا يَشغلهم أمر المعاش عن الذّكر والطاعة، وما مَطْلوبهم إلا السَّلامة من ذلك ليتفرّغوا لهما، وأما اليوم فلا، ولكن ادعوا ربكم فإنه كريم رحيم إن أعطى أعطى برحمة، وإن منع منع بحكمة .
وقال رضي الله عنه: كلما ثار السّحاب رجا الناس الرَّحمة، وكلما ثار إِضمحل، فكأن الناس يهمّون بِفِعْل الخير ثم لم يفعلوا .
(2/97)


وذكر رضي الله عنه فَسَاد الزمان والفتن، فقال: من آن مات النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، تَبدّد الحُبُّ المجتمع، ولكن في وَقْت الصَّحَابة كانوا مجتمعين، والأمر مَسْتور، ثم بَعْد ذلك ظهر، وهذا الأمر قُده مِنْ قديم، وكان الناس فيهم أهل اليَقَظة، يرحم الله بهم أهل الغفلة، وهنا لو نظرت إلى البَوادي ونحوهم لرأيتهم أكثر تضرعاً إلى الله منهم، ولهذا رحمهم، وترك هؤلاء، وكانوا [أي الأولون] إذا حصلت لهم نِعْمة ازدادوا تضرعاً وخشوعاً، وهؤلاء إذا حصلت لهم بَطروا، فترى الواحد منهم يقطّع اللحم يأكله والطَّلاَّب( ) يَسْأله فلا يعطيه شيئاً، ثم تَكلم في هذا كثيرًا ومما قال: والرحمة ظاهرة، ما بقي إلا مَظْهر الرَّحمة، ولا عاد يقصّر أحد من التَّوبة والاستغفار، والتّصدق بما تيسر، وذكر كلاماً تقدم ذكره، من أن ينقِّص بعض المأكول فيتصدق به، ثم قال: فلا عاد تدعو المدْبرين إلى الصَّدقة، بل إلى المقاربة، فإن أهل الزمان مُدْبرون، فإن من عِنْده شيء ودَعَوته إلى الصدقة إستثقل كالسُّلطان الظالم إذا قلت له في الجور اشتغل( )، ونحن لاعاد أحد يوصينا بالدعاء بالهداية والصَّلاح للمسلمين، والظُلْمة ما هو إلا إن القلوب مُظْلمة، ولو سَمِعْنا أحدًا، يَدْعو علينا ما تركناه من الدّعاء له بالهداية والصَّلاح، ولا عاد كلام، ودَخَلت الناس دَوَاخل فكلّ منهم اتهم صاحبه، ولا عاد شيء قلوب مُجْتمعة .
وذكر رضي الله عنه ما حَصَل من الرحمة في الأرض، ثم قال: سبحان الله الذي عَلّق الأشياء بالمشيئة، فقال: { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَآءُ}( ) فكيف لو عَلّقها بالمحبة، فلو كان كذلك لما أعطاها إلا من يُحب، وكل بلاء يتبعه رحمة وعافية، وهذا بلاء ساقوه إلا بأنفسهم إلى المسلمين بلا نية وبلا صلاح .
(2/98)


وقال رضي الله عنه: حَرْث السماء يضاهي التِّجارة في بركته، فهو أقرب إلى الحِل، وفي قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}( ) التجارة، {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ}(4) الحرث .
وذُكِر له رضي الله عنه بعض الأشراف وفيه خربطة، فقال: هذه الأمور ما تسلك لك إلا بشيئك( ) أو بدِينك، إما معك مال يحملك، وإما إن تكون صاحب دِين يُحسَن بك الظن، وهذا الرجل ما مَرَّ تلك الطريق التي مر بها إلا باسمنا، ولا كلمه الناس إلا كذلك، والآن إن مر بها لا يُعرف، ولا يكلمه أحد، وهذه حالة الجنون، وآل باعلوي معروفون في الجهات بالصلاح والسِيَر المحمودة، ومجنونهم صالح، وما كانوا يعرفون مثل هذه التفْتفات، التي أهلها يدلهم الشيطان على مواضع الغلط :{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}( ) الآية، والحق له صَوْلة، والباطل له دولة .
وذُكِر له نفع الله به بعضُ السَّادة بحسن عقيدة فضَحك، وسكت ساعة ثم أنشد هذين البيتين: لكل إلى شأو العلى حركات ... ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
غيره: كل من في الوجود طالب صيد ... ... غير أن الشباك مختلفات
وَذَكر رضي الله عنه محبَّة الناس للبنين، وتَرْجيحهم على البَنَات، فقال: هذا من طَبْع أهل الجاهلية، والطبايع دائمة على حالها الأول، فكل أمة طبايع آخرها كطبائع أولها، وإنما يهونها قوة الإيمان والرياضة، وأكثرَ من ذلك حتى قال: إن بامخرمة قال وسَقَط عليَّ هُنَا كلام، لعلَّه ما ذُكِر من أن طبايع الآخرين كطبع الأولين ؛ قال يعني بامخرمة :
خاف شيء ذا لشيء يا اهل الحِنَات الدَّويلة كل من لا يزيل المنكرْ الله يزيله
قال نفع الله به: وفي كلامه حِكَم، ولو هو على هَيْئة كلام العامة، فإنه عالم صوفي صاحب رياضة، ما هو بصوفي جاهل .
(2/99)


وزار رضي الله عنه التربة لَيْلة الثلاثاء في 21ربيع الأول سنة 1127، فلما انصرف ذكر الصَّالحين في الأزمنة المتقدمة وظهورهم فيها، وفي هذا الزمان وخفاهم فيه فقال: كان الزمان صالحاً، وبِضَاعتهم مطلوبة، فظهروا لذلك، وأما اليوم فالزمان فاسد، وبِضَاعتهم مَرْغوب عنها، فلذلك لم يظهروا ألا ترى لو أن رجلاً معه بضاعة لايطلبها منه أحد، فإنه لا يُظهرها، و لا يذكرها لأحد، ومن معه مسك يروح يجلبه للزبالة( )؟، ولو أن رجلاً انفرد بطلب شيء لم يطلبه أحد غيره لم يجده، ولو كان له طالب غَيْره وللناس فيه رغبة لوجده أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: من يُحب الطاعة فالله يحبه، ومن يبغضها ويستثقل منها فالله يبغضه، ومن يحب المعاصي فالشَّيطان يحبّه، والشَّيطان لا يعبأ بهؤلاء، ولا يهمّ بهم، لأنهم في حوزته وتحت يده، وإنما يهمّه أمر المتمسكين الملازمين للطاعة، وله حبال طويلة، وحبال قصيرة، فمن كان في حباله الطويلة، فإنه بعيد جداً كالذي يميل في مسيره عن الطريق ميلاً كثيراً حتى لا يراها، فما معه ممن يدعوه إليها إلا السماع، من غير ما يعلم أين هو، وأما من هو في حباله القصيرة، فإنه قريب عندك بيدك تأخذه من قريب، وله مَعاليق يَصيد بها العُبَّاد، حتى إن يحيى بن زكريا رآها، فقال له: هل لي فيها شيء، فقال نعم: شبعت ليلة من الطعام فَثبَّطناك عن قيام تلك الليلة، فقال: لا جرم، لا شَبعتُ بعدها أبداً أو كما قال .
ما قال في الإلباس رضي الله عنه
(2/100)


وذكر رضي الله عنه الإلباس والتلقين فقال: إن هذه الأمور لا تتكرر، ولا هي عادة السادات تَكْريرها، لأنها إذا كثرت هانت، ولهذا لا يَنْبغي أن يأكل مع الشّيخ، لئلا يرى بشريته، بل يَنْبغي أن يَعْرف( ) خصوصيته، ولا تُعْرف إلاَّ بالإيمان، وهذه الأشياء قد دَرَست، وإنما نحن جَدَّدناها، ولا يَنْبغي أن تُعْرف إلا منّا، وقد قالوا: قلَّ من ينتفع بالإنسان أهله ومخالطوه لعدم احترامهم له بسبب المخالطة به .
أقول: هذا في من لم يكن لهم منه نصيب، وإلا فهم أحق بالانتفاع به من غيرهم كما تقدم نحو معنى ذلك .
فقال له نفع الله به رجلٌ: كيف لنا بالقرب منكم، عسى يحصل الاجتماع بكم عن قريب، فقال: إذا أردت الانتفاع فتقرب بقلبك، بأن تعتقد وتجتهد في الاقتداء، وترى أناساً تحت الرِجْل ما انتفعوا، وقد رأى أبو يزيد رجلاً يمشي خلفه ويضع رجله على دحقته، يريد أن يسير على سيره، وطلب هذا أو غيره منه أن يلبسه من ملبوسه، فقال: لو لبست جلدي ما نفعك حتى تسير بسيرتي، وفي مجلس آخر قال: لو سلخت لك جلدي، ولبستَه ما نفعك حتى تسير بسيرتي التي سرتُ عليها إلى الله أي تقتدي بي في أفعالي وأقوالي وأخلاقي، وهذا يدل على إنما الانتفاع بالاقتداء بالشيخ في ما ذكر، والاجتهاد في ذلك، وكل يحصل له على قدر همته وتوفيقه و ما قسم له .
قال رضي الله عنه: والإلباس إنما يتكرر إذا حضر واحد لم يتقدم له الإلباس إلا حينئذ، فيحصل معه المشاركة للباقين، وإن تقدم لهم ذلك، أو رجل ختم كتاباً فيُلبس أيضاً ويُلقن، وإن كان قد تقدم له ذلك، ويكون معه للباقين كذلك، وكان قد ختم السيد الجليل أحمد بن زين الحبشي صحيح البخاري، فألبسه و ألبس كل من حضر تبعاً له، وقال: هذه الخرقة [ أي القبع المعروف ] خرقة أبي مدين . وخرقةُ الشيخ عبدالقادر ألطف منها بقليل، والإلباس رابطة بين اللابس والمُلبِس .
(2/101)


وقال رضي الله عنه: السِّر في السر، فإذا أتى المريد بالاستعداد، فما على الأستاذ إلا أن يُوري المِصْباح، وإذا تَنَوَّرت النَّفس صار الليل نهاراً، وإذا أظلمت صار النهار ليلاً .
ومَرَّ في القراءة في كتاب ذم الدنيا من "الإحياء" أيما أفضل . تحصيل المال وإنفاقه في الخير، أو تَرْك ذلك والاشتغال بالذكر، وذكر المصنف أن كل قول من هذين رجحه جماعة من السلف . فقال سيدنا عند ذلك: فإن حصل المال من غير سَبب ولا تَعَب كإرث، فما الأفضل، فنقول: الأفضل أن يأخذه إن وثق بنفسه، ظاهرًا( ) ويتصدق به سرًّا، ولا يتمتع به، بَل يَأخذ منه ما يَضْطر إليه ويقدّمه للآخرة، لأنه إذا كانوا أرادوا أن يُعْطوه في الجنة بيوتاً من ذهب وفضة وجواهر وترابها مسك، وهو في الدنيا لعله ما رأى المسك ولا الذَّهب ولا الفِضّة ولا الجواهر بعينه، فماذا يريد بمتاع قليل، فَلْيقدمه إلى ما هو خير له .
أقول: وقد رأيت مرة في النوم، كأنّي في جَمْع، وسيدنا الحبيب عبدالله نفع الله به حاضر وفي جنبي رجل من طلاب الدنيا وكأني معه نتجادل فيقول هو: إذا كان عندي مال، أفعل به خَيْرًا من بناء رِباَطات ومَدَارس ومساجد وغير ذلك، خير من أن أبقى لا أقدر على شئ، ولا أفعل من ذلك شيئاً، فقلت له: سلامتك من الدنيا، ولو ما فعلت شيئاً أفضل، فلم يُوَافق، ثم قلت: لم لا أسأل الحبيب ونعمل على قوله، فسألته عن أي الحالتين أفضل، فقال: تريد أن تفعل تلك الأشياء لترائي بها وليقال، فقلت: إنما أفعلها خالصة لوجه الله، فقال: ما فعل الله بك وأجراه عليك من تلك الحالتين هو الأفضل .
(2/102)


ومَرَّ حديث( ): (( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده )). فقال نفع الله به: إذا كان واجداً فلا ينبغي أن يُقتّر على نفسه إلا إن كان بنية زهد، وكان من أهله، وفي الحديث( ): (( إن الله يحب أهل البيت الخصب ))، أي في المعيشة إذا كان هناك شيء بغير إسراف، وفي حديث( ): (( هل بقي من برِّ الوالدين شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: نعم أن تصل الرَّحم الذي لا توصل إلا بهما، وأن تَصل أهل ود أبيك ))، ثم قال: هذا إن عهد إليه في شيء من ذلك، وفي حديث( ): (( إن الله يلوم على العجز، ولكن عَليك بالكَيْس )) أي الحذق في الأُمور، بأن يأخذ فيها كما ينبغي، ولا يجلس و يَتَسهَّن من الناس، وفي حديث النهي( ) عن الحلف بالآباء أي من ليس فيه صلاح، فإن كان فيه صلاح فإنما هو حلف بالله، إذْ لا يَنْبغي أن يَحْلف به تعالى كل حين، فَيبْتذل الإسم الكريم، وفي الغالب إنك لا ترى من يحلف بأحد من آبائه، إلا إن كان فيه صلاح، إلا إن كان أحد من النساء، ولو حَلف حالف بما كان يحلف به النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، مثل والذي بعثني بالحق، فيقول والذي بعث محمداً بالحق فيحسن إذ يحصل به التعظيم له عليه الصلاة والسلام، والتبرك بذكره، والسلامة من اليمين، ومن حظر الحلف بالآباء .
أقول: قوله فإنما هو حلف بالله إلخ، في هذا تَوْسعة من توسّعات لغة العرب، كما في حديث( ): (( لا تسبوا الدهر، فإنما الدهر الله ))، أي فعل الله إذ الدهر هو الليل والنهار، وهو خلق الله والصلاح أيضاً خلق من خلق الله يجعله في من أحب، فالحالف بأحد بسببه( ) حالف بوصف من أوصاف الله .
(2/103)


وقال رضي الله عنه: في حديث: (( لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، فإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ))، قال: أما خوفه في الدنيا، فبأن يجتنب ما نُهي عنه من حرام ومكروه وفضول ونحو ذلك، وأمنه بالغفلة عن الله وتضييع ما ذكر، ويتناول كل ما يشتهيه، ويقول كل ما أراد و لا يبالي، و لا يمنع نفسه مما يُذم.
وتكلم يوماً رضي الله عنه بكلام كَثِير لم نَحْفظه كله، فمن جملة كلامه أن ذَكر العلم والمال، فقال: العلم الظاهر هو دربك( ) الذي تسير عليه لا بد لك منه، فإذا صَلَّيت مثلاً على ما سَمِعت، ودُمت على ذلك رَسَخ، وبعد رسوخ العَمَل تَظْهر ثَمَرته، وأما المال فإن المال الحرام يَرُوح في الحَرَام، والشُّبهة يروح في الشُّبهة، وذَلك أكثر ما تروح فيه أموال أهل الزمان، وهو دَليل على أصله، فَتَرى أحدهم يُخرج في هَوَى نفسه، أموالاً غَلَطاً( ) من غير طَرَف، ومن غير حَدّ، وإذا جئنا إلى فِعْل الخير لَحِقْنا ساقيته يابسة، وفي الحقيقة هو الدائم وذاك هو الفائت .
وذكر رضي الله عنه الشّح المطاع، والهوى المتبع، والاستغناء بالرأي، وقد مَرّ الثلاثة في الحديث، فقال: قد يكون في الإنسان الشح، ولكن لا يضره إلا إن أطاعه، بأن أطاعه في ترك واجب كالزَّكاة، أو فِعْل حرام كأخذ مال حرام، فلا شَكَّ أن ذلك يضره، والشُّح هو الذي جَرّه إلى ذلك، وكذلك الهَوَى كُلٌّ فيه هوى، لأنه من طبع النفس، فإن اتبعه حتى وقع في حرام، مما تدعو ه إليه نفسه أو تَرك ما يَلْزمه، فلا شَكَّ أن ذلك مما يهلك الإنسان . والاستغناء بالرأي، لكونه يَمْنعه من أن يَستشير من هو أعرف منه فَيقع هو في المحذور .
(2/104)


وقال رضي الله عنه: الزمان مَعْكوس، فجاء أهله على طبيعته، وقد قال الشيخ عبدالرحمن بن علي في زمانه: يا ابن الفقيه هذا زمان معكوس . فإن كان ذ لك الزمان معكوساً ومنكوساً فاليوم قد زاد الانعكاس والانتكاس .
وقال رضي الله عنه: في القرآن غنية وكفاية عن كل شئ، وإنما عليه إذا أشكلت عليه كلمة، أن يسأل عنها فقط، لأن فيه موجود التواتر والصحة والإعجاز، وفي غيْره ربما يقال: هل صح أم لا .
وقال رضي الله عنه: قَلّ ما نُقل عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم قراءة القرآن إلا في الصلاة .
(2/105)


وقال رضي الله عنه: ثلاثه أشياء أنا متأسِّف عليها، وما حصلت لنا إلا إن كان بالنية، التشفيع في صلاة التراويح، وصلاة الصبح بوضوء العشاء، وتخلِّي العشر الأخيرة يعني اعتكاف العشر الأخيرة من رمضان كما هو السُّنة، أي لم يساعده الفراغ على هذه الثلاثة في وَقْته الحاضر، وقد فَعَلها في ابتداء أمره، فقلت: قد فعلتوها فيما مضى فيَكْفيكم ذلك من فعلها الآن، قال نعم: لكن ذلك الحين أيام البداية، والبصيرة ضعيفة، لأن العُمْدة على البصائر، ولكن الصّبر في ذلك الوقت قَوِي، والآن كَلّت القوى وضعفت، والبصيرة أَقْوى، لأن المريد حال بدايته الصّبر فيه قوي والبَصِيْرة أضعف، وفي النهاية البَصيرة أقوى والصَّبر أضعف، ونحن إلاَّ من شواغل الناس وعلائقهم أكثر ما كان، فإن هؤلاء المتردِّدين إلينا أحسّ في باطني لكل واحد خاطراً، فأقول هذا جاء لكذا، وهذا جاء لكذا، وأريد مراعاة كل واحد على ما في نَفْسه فَرُبَّما جاء واحد يستشير وآخر يطلب شيئاً وعلى هذا، وهذه الأمور مع الضّعف شاغل كبير، وهي مع النَّشاط وتراجع القوة أسهل، وما حَال الإنسان إذا كان ضعيفاً واحتاج مع ذلك إلى أن يدبر الأمور، ويضع كل شئ موضعه؟ وقد كان بعض خلفاء بني العباس أَفْضت إليه الخلافة وهو ابن ثمانين سنة، فبقي يتأسف في نفسه ويَتَحسّر، ويقول: أي خلافة في هذا السن، ويود لو حصلت له في صِبَاه، قلت: فلو انتبه الإنسان في بلوغ سنه، وحال كبره أكان يتأسف أن لو كان ذلك في الصِّغر، قال: نعم قد يتأسف . وقد ذكر ابن عربي أن بعض أعمامه دَخَل في الطَّريق وهو ابن ثمانين سنة، ولكن الإنسان إذا استيقظ في تِلْك الحال، وأقبل على الله يعطيه الله سبحانه عِوَض ما فات عليه من الأعمال، لأنه خزائنه سُبحانه مملوءة من الأعمال، وما قَدْر عمل ابن آدم الضَّعيف، فلو عمل ما عمل، فإن مَلَكاً واحداً من الملائكة عمله يوازي أعمال جميع بني آدم ،
(2/106)


فإذا كان الملائكة مع كَثْرتهم للواحد منهم كذا كذا رأس وَوَجه ولسان، يَعْبد ويَسْجد ويسبح بكل واحد، فما عمل ابن آدم بالنسبة إليهم، ولكنه تعالى شَرَّف بني آدم بعبادته، وللآدمي مزيّة وخاصيّة، إذا أقبل على الله عَوّضه الله عما فات، كما وقع لآدم حين أقبل على الله في كِبَره وتاب وأناب إلى الله، تاب الله عليه، وعَوّضه عما فاته، وكانت هذه المزية منه في ولده .
أقول: وكلامه نفع الله به، يدل على أنه تَمَنَّى تلك الثلاث( ) تحصل له حال كمال البصيرة وتمامها، ولو أنها قد سَبَقت له في تلك الحالة التي ذَكر( )، لكن ما منعه من ذلك في وقته الحاضر إلا شواغل الناس وضعف القوى حينئذ، ولكن قد حَصَل له ثوابها بالنية كما قال .
(2/107)


ولما خرج رضي الله عنه لصلاة العَصر تاسع رمضان سنة 1128 سكت ساعة، ثم ذكر حديث ذهب المفرّدون بالأجر وحديث( ): (( فاز المخفّون ))، ثم قال: ليس مراده عليه الصّلاة والسلام في هذا ولا في غَيْره أمر الدنيا، وحاشاه من ذلك، ولكن إذا أخذ اللَّبيب من كلام نبيه صلَّى الله عليه و آله وسلَّم معنىً لأمر دنياه، فلا حرج عليه، وما في شئ من أمور النبوات من أولها إلى آخرها إن أمر المعاش أصل في شئ أبداً، وإنما هو عارض، وإنما بعث الله الأنبياء ليدعوا مَن جعل أمر المعاش أصلاً - إلى الله( )، قلت: ومعظم الناس مع ذلك جعلوا أمر المعاش اليوم هو الأصل الذي عليه المعوّل، وغيره تبع له، قال: ولهذا بعث الله الأنبياء ليَدْعوهم من الدنيا إلى الآخرة، قيل: فهو مع ذلك يضطر إليه( ) جداً، قال: نعم، لهذا ميز الله سبحانه بين المخلوقات، وفضَّل بعضها على بعض، وإلا لاشتبهت الملائكة وبنو آدم . والدواب لا فضل لشئ منها على آخر، فلو لم يضطر الحيوان إلى المعيشة لاشتبهت المخلوقات، وقد أحوج الله الناس بعضهم إلى بعض في جميع حرفهم، ليعمروا الدنيا وينتظم أمر المعاش إلى حين، قلت: وقد يحب الإنسان أن يكون متجرداً للآخرة وزاهداً في الدنيا، ولكنه يعجز عن ذلك، فقال رضي الله عنه: قد ذكر الإمام الغزالي: أنه لو أكل الناس الحلال أربعين يوماً خربت الدنيا، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، والرجل من أهل العلم( )، يتمنى أن يكون شجرة أو حطبة( ) ونحو ذلك كما قد سمعت في ترجمة إبراهيم بن أدهم والفضيل، ولا يَرَون أنفسهم شيئاً، قلت: وهم مع ذلك في أحسن الأحوال، قال: نعم، عند غَيْرهم لاعند أنفسهم .
(2/108)


وسَأله رضي الله عنه رجل إلباساً فقال له: قد معك إلباس، ولكن بَقي عليك الانتظام والسلوك، فالله الله في السلوك والانتظام، واطلب العلم لا تجلس سبهللاً، فإنه قبيح بالرجل سيما إن كان خطيباً أو معروفاً، وكان الرجل خطيباً، أن يجلس المجلس أو قال يجلس بين النَّاس، ليس معه شئ من العلم، لو سئل عن شئ ما عرفه، ويَنْبغي أن يتطرف من كل شئ . وشكا إليه ذلك الرجل كثرة الخواطر والوساوس، فقال نفع الله به: ذلك بسبب الخلطة والطُّعْمة، إذا لم تُطَب، فإن طاب ذلك لك وإلا( )، فإن كان ولا بد فخذ منه القليل، أي كما يأخذ المضطر، ومراده القليل من الأمرين معاً، الخلطة والطعمة .
وقال رضي الله عنه: ورد أنه لا ينتشر مجلس رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم إلا متفرقين عن ذواق، ورأينا المناسب هنا الانتشار عن ماء، فهو سَبَب ما يعتاد شربه من الماء عند القيام من المجلس .
(2/109)


وذكر رضي الله عنه الملائكة عليهم السلام، فقال: إنهم تجردوا عن هذا العالم السفلي، فلا يَحْتاجون لأكل ولا شرب ولا نكاح وغير ذلك للعالم العلوي، وبَقُوا في مقام الخصوصية، والترقي في الأفضلية، بمعنى إن بعضهم أفضل من بعض، فليس جبريل في ذلك كأدنى واحد منهم، والكل قائم بما كَلَّفه الله، ومن فَضّل خواص الآدميين عليهم، فإنما ذلك من وَجه، وباعتبار من حيث إنهم قاموا بما أمرهم الله به، مما لم يكلف به الملائكة، مع إنهم في قواطع كثيرة عن القيام به، وأولئك مجردون لما كلِّفوا به، ثم إن الآدميين في قيامهم بما أمروا به، مع العجز بسبب البشرية، إنما مَدَدهم من الملائكة، كما وَقَع في بدر وحنين، والأمور الإلهية لا تكيّف، بل تُوكل الأمور إلى المقدور( )، كما حكى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم عن حال المعراج، وتردّده إلى موسى عليه السلام مَرّات متعدّده في ساعة واحدة وهو في السّماء السادسة، ويقول له في كل مَرّة: ارجع إلى ربك واسأله التَّخفيف، مع أنه غار من كَثْرة من يدخل الجنة من أمة محمد، فغَيرته لذلك( )، لا لكونه فَضُل عليه، وهذا عجب وإلا لكان قال: ارجع إلى أمتك بالخمسين الصلاة .
وقال رضي الله عنه: قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم( ) بسبب يهودي: لا تفضلوني على يونس بن متى . ولا ينبغي تأويله ؛ بأن ذلك كان قبل أن يعلم أفضليته، بل السكوت عن التأويل أحسن . وقال رضي الله عنه: ومن هذه الأشياء - يعني ما تقدم - وما وقع لسيدنا موسى مع النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، يتطرق للأولياء الإنكار فيما يقولون، لأن مقام الولاية لا يبلغ مقام النبوة .
(2/110)


وسئل رضي الله عنه عما جاء: إن الملائكة لهم أجنحة، يلتحفون ببعضها ويَفْترشون بِبَعضها، وإن الواحد منهم كالجبل، ونحو هذا مما يوهم أنهم صور حسية، مع إنما هم أرواح، فقال: هم كذلك على الصور التي يتمثلون فيها، كما رأى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم جبريل عليه السلام، وقد سد الأفق، وقال: إنه على صورة دِحْيَة، وكذا في القرآن: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ}( )، وأما حالتهم الأصلية فهي الروحية، والآدميون إنما يتمثلون كذلك بعد السلوك، فحينئذ يمكن منهم ذلك، وأما الملائكة فهذه حالتهم الأصلية .
وقال رضي الله عنه: الروح ما يتغَذَّى بالأكل، وصاحب الأمر إنما غذّا روحه في الأمر والنهي، في قوله، افعلوا كذا، واتركوا كذا، وحطوا كذا، وأخروا كذا .
وقال رضي الله عنه: ليجهد الإنسان في سلامة نفسه أولاً، ثم في سلامة غيره، ومن هو غارق في بحر كيف ينجي غيره، ويغرق نَفْسه، ما عاد إلا اعمل في نفسك، واشكر الله على ما أعطاك، ولا تقل في الناس إلا خيراً، إنما ذاك( ) إذا صادف الإنسان، وفيه داعية إلى الخير من نفسه، وأما عند التكلف فلا يمكن شئ، ولكن مادام يرجو الانتفاع لنفسه لا يقصر، وتعرف ما يجوز السّكوت عليه - أو قال عنه - وما لا يجوز، ومثل ذلك لمن رأيته في تقصير، فإذا طلبت منه الصَّواب، فلم يفعل، جعلت تغتابه، فتقع في الحرج، كمن رأيته في وحل( )، أردت تخرجه منه فغرقت عنده في الوحل .
وقال رضي الله عنه في وقت القراءة: ما عاد إلا يأخذ الإنسان ما تيسر على قدره مع المسامحة، عسى تحصل المسامحة من فَوْق بالنسبة إلى نفسه، وإلى زمانه، وإلى إعراض الخاص والعام .
وقال رضي الله عنه بعد ما فرغ القارئ الذي يقرأ في "منهاج العابدين": إن هذه الأشياء لا تَظْهر إلا بالتَّكرار والتأمل ثم الاستعمال، فطالعه مرة و مرتين وأكثر، وتأمل ثم اعمل، وإلا كنت كالذي يعرف الدواء وهو مريض ولا يستعمله .
(2/111)


وقال رضي الله عنه: غداً يوم القيامة التحاكم بيننا وبينهم( ) إذا رأيت صلاتهم وزكاتهم ومعاملاتهم الباطلة، وقد يكون ذلك رأساً( ) فبماذا يُحسَن الظن فيهم، غاية حسن الظن بالمسلم العاصي أن تعتقد أنه لا يبقى على ذلك، ولا يصر على المعصية، وانظر ذلك في نفسك ولا تحدد في هذا الزمان، فإنك إن فعلت رأيت ما يسوؤك، وفي الزمان السابق، إذا حَدَّدت رأيت ما يسرك، وما راح بالإنسان إلا الأماني، يُمَنِّي نفسه بالتَّوبة، أو بمن يشفع له، وهذه أماني باطلة، وأما محبة البقاء فطول أمل، يشغل عن العمل الصالح، وشفاعة الأولياء ذكروا إنما هي لمن شابههم، فبسبب المشابهة لهم تحصل الشفاعة منهم كالمغناطيس، والأمور قد بعدت، فيأخذ في درجة أصحاب اليمين، وإذا أردت تعرف تباعد الأمور، فانظر بين حال أهل وقتك، وحال من قبلهم، فيكون حال كل متقدم أزهد في الدنيا، وهلم جرا، لأنه لولا النزول لما قامت الساعة، لأنها يوم تقوم ما يبقى إلا شرار النَّاس، يَتَهارجون بها تهارج الحُمُر، ولا تقوم إلاَّ بغتة( ) لكن تَتَقدَّمها علامات . وفي الحديث إذا ظهرت علاماتها، تبقى الساعة في قربها كالحامل المُقْرب .
وقال رضي الله عنه: من رأيته على مَعْصية، فقد أبدى صَفْحته، فلا مَعْنى لحسن الظن به، إلاَّ أن يظن به التَّوبة وعدم الإصرار، وأما إذا كان ظاهر فعله طاعة، أو يحتملها فلا وَجْه لسوء الظن، وفي الحديث من أبدى صفحته فلا غِيبة له .
(2/112)


وذكر رضي الله عنه أهل الوقت، فقال: إن الإنسان لا يقيس إلاَّ على نفسه، فإذا رأى صالحاً في وَقْته ظنه مثله، لوجود بشريته، وإن كان فيه خصوصية، ومن مات إنما يُسمع بخصوصياتهم دون بشرَّياتهم، فيُعْتقد فيهم لا محالة، وبُدُّك( ) من يطوي البشريّة، وينظر إلى مجرد الخصوصية، وهؤلاء( ) ما يريدون الصالحين لأجل التعلم منهم والاقتداء بهم، وإنما يريدون منهم أن يُبرهِنُوا لهم فيما يُزيد دنياهم، ويريدون الفقهاء لأجل أن يعلموهم الحِيَل والرُّخص في أمور الدنيا، ويريدون لو مات الفقراء كلهم، حتى لا يبقى فقير يسألهم، أو يقف عند أبوابهم، ليتَفرّغوا منهم ويستقلوا بدنياهم، ومثل هذا، فجميع مطالبهم الدنيا فقط، لا عناية لهم بأمر الدين البتة أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: اليوم الناس في العمل، من هو مجتهد( ) بالنسبة إلى من قبلهم، كالأعرج في أسفل الدرجة، والآخر صحيح في أعلاها، وهو يراه ويتأسَّف أن لم يكن عنده فيمسكه، وأما غير المجتهد فالعياذ بالله، يَتَكلَّم بكلام فظيع، ومن طالع في كتاب ما عاد قنع بالجنة( )، وهو ما يُسْوى شيء، وبعض أصحابنا قال: إني أستريح بالأماني، ولكني ما يبقى في يدي منها شيء، فقلنا له ما بلغك شئ مما قيل في الأماني :
أمانيُّ إن تصدق تكن غاية المنى ... ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
قال: بلى .
وقال رضي الله عنه: أمور الدنيا من قُدّر له منها نصيب، وصبر على أوائلها إرتقى إلى أعلاها، لكنّه سريع ونَشَغ( ) به، هذا في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فإذا ارتقى فيها إلى منزلة عالية، فإنه لا يزال في علو وارتقاء .
وقال رضي الله عنه: الإنسان ضعيف، إذا وقع في أمر من خَيْر أو شر ظن أن هذا هو هو، فإذا كان بعدُ تَبيّن له أن ما هناك شيء.
(2/113)


وقال رضي الله عنه في إعانة الله عبده في الأمر، ما يعين الله الإنسان في أمر يَفْعله أو يتركه حتى يَهِمَّ به ويشرع فيه، فإذا شرع أعانه، سواء كان ذلك في الفعل أو التّرك .
وذم رضي الله عنه أحوال أقوام، فقال: فُرْط الشهوة والبخل يَشْتد في الإنسان، حتى يقيم الحجة لِنَفسه على رَبِّه، وحقائق الدين قد خرجت من الباطن، وإنما بقيت صور، لا إن الصّور الظاهرة تدل على الباطنة، إلاّ أهل الدواير من الأولياء، ولو قلت لواحد تَصَدَّق وافعل الخير، أتاك بمائة علة ثم يَشْتهي أن يكون من أولياء الله وهو من أولياء الشياطين، وأرادوا الكرامات يتزيدون بها في دنياهم، وإذا هم إلاَّ هكذا، فترى الدجّال فيه كفاية( )، وتتبعه الكنوز فليحرص الإنسان في تصحيح أصول الدين، وفعل الظَّواهر التي لا عذر في تركها، ويَعْتقد في نفسه التقصير، وَيَعْتَبر في يومه وليلته، ويرى أيَّ الأكثر، من صار إلى الله، أو إلى الدنيا، فيعرف لما يرى، مع أن المصير إلى الله هو الذي عليه المعوّل، فليناقش نفسه إذ هو أعلم بها من غيره، والناس في ستر الله، لا اطلاع لأحد على أحد، والعلماء يفرحون بعدم اطلاعهم على النَّاس، ويَحمل الدينَ من كل خَلَفٍ عدولُه.
وقال رضي الله عنه: الزمان زمان أثقال وأشغال، فيَنْبغي أن يخفف فيه عن نَفْسه، ولا يثقّل عليها فيُهْلكها، ولا يتكلف ما يشق عليه، كالبعير المحمَّل إذا ثقل عليه يخفف عنه، والمركب المشحون إذا احتاج إلى التَّخفيف يَرْمون ثقله في البحر خوفاً عليه من التلف، ولا يجوز أن يلقي نفسه في التهلكة ويغرقها لأنه لا يَمْلكها بالتَّصرف فيها، ومن رمى نفسه في البحر مختاراً، وإن كان يمكن أن يُسبّب اللهُ سبباً ينجيه، لكنه ملوماً متعدياً بذلك فلا يجوز له، لأن نفسه ليست له إنما هي لله فلا يجوز له إتلافها .
(2/114)


وقال رضي الله عنه: العمل القليل مع الإحسان خير من الكثير بلا إحسان، قال الله تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَىَ اللَّهُ عَمَلَكُمْ }( )، أي حَال العمل، فيَنْظر كيف عملكم له للمطالبة بالإحسان، { ثُمَّ تُرَدُّونَ }( ) إلى آخر الآية للمجازاة عليه بما وَعَدكم به إن أحسنتم فيه، ولا تكتب الملائكة إلا ما كان مَصْحوباً بالإحسان، والقراءة مع العجلة لا تكتب، وكذا الصَّلاة والدعاء( ) لا يكتب، ولو خَاطَبْت مخلوقاً واستعجلت في الكلام، أعرض عنك فكيف بالخالق، والملائكة في هذا الزمان من حيث النظر، لا من حيث العلم يحيرون في طاعات أهل الزمان، إذ لا فيها إحسان فيكتبونها حسنة، ولا هم لم يفعلوا شيئاً منها فلا يكتبون شيئاً، إلا إن كان فيها داعية رياء فيكتبونها سَيّئة، وقيل: إن فاعل الطاعة مع عَدم الإحسان أحب إلى الشيطان من التَّارك لها أصلاً، لأن التارك أمره ظاهر، وسلم من التعب فيها، والفاعل بلا إحسان أَتعب نفسه، وأعجب لظنه أنه فعل طاعة، وصدور أهل الزمان تضيق من الحق، لأنهم لم يألفوا إلا الغفلة، لأن مجالستهم مع بعضهم بعضاً( )، ولو تذكر متذكر منهم ومال قلبه إلى الخير رأى أنه زاد على أقرانه، فأعجَبَ( ) ورجع من حيث أتى، فعلى قلوبهم شياطين، تَمْنَع دخول الخير إليها، والموعظة لا تصل إلى القلب إلا بيد مَلَك، فإذا أَراد أن يدخلها إليه صادف الشيطان قاعداً عليها . فأحْسِن، فالقليل مع الإحسان خير من الكثير بلا إحسان، فدرّة واحدة خير من عشرين حِمل وَدْعٍ، أو كما قال . انتهى ما حفظناه في هذا المجلس المبارك، بعد عشاء ليلة الأربعاء في 15 محرم عاشورا عام 1123 .
انظر ما قال في حسن الخلق
(2/115)


وقال رضي الله عنه: شَمْخُ الإنسان بأنفه، إن كان من كِبْر أو سوء خلق، فإنه شؤم يُبْغِضه إلى الخالق والخَلق .والأخلاق الحسنة قِسْمة من الله لمن أراد، ويتولاَّها النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، والسيئة( ) أيضاً قسمة من الله لمن أراد، ويتولاَّها الشيطان ثم تمثل بهذا البيت :
العلم حرب للفتى المتعالي ... ... كالسيل حرب للمكان العالي
وقال رضي الله عنه لرجل: نَفْسك منطوية فيك، أدنى كلمة تخلِّيك تفور، ولهذا ثَقُلْت على الناس فإن النَّاس ما يلينون إلا على الوطاء .
وقال رضي الله عنه: ما عاد مجالستنا لأهل الزمان ومداراتنا لهم، إلا كمداوي الجرحى، والمداراة هي التي نسميها المراعاة، ولكنّها إذا كانت بالدين لأهل الدنيا فهي مداهنة( )، ولكن التَّودد إلى الناس بحسن الخلق من المداراة . والتَّوْءَدَةُ: التَّثبت في الأمر، حتى يتبين رُشْده، فإذا تبين فالتأخر توانٍ وهو مَذْموم والمحمود التأني فيه حتى يأتي به على الوجه المَطْلوب، وينبغي أن يداري الناس بحسن الخلق، وهذا لمن خالط الناس وعَرَف طبقاتهم وأحوالهم .
انظر ما قال في الغضب
وذكر رضي الله عنه الغضب، فقال: هو طبيعة في الآدمي لا يُمْكنه أن لا يغضب، ولا يُلاَم عليه، إلاَّ إنه لا يَنْبغي أن يُكثر منه فيُخْرجه من الحق إلى الباطل .
وقال رضي الله عنه على قوله عليه السلام: (( وخالق الناس بخلق حسن )) أي لا تجفو على الناس، ولا تشحَّ( ) عليهم، ولا تُنْكر عليهم، ولا تَكُون( ) ثقيلاً على الناس، ولا عتَّاباً على الناس، حتى على أهلك وأولادك .
وقال نفع الله به: بحسن الخلق يُسْتجلب خير الأخيار ويُسْتكفى شر الأشرار .
(2/116)


وشكوت إليه نَفَع الله به يوماً في خَلوة، وذلك بين الظُّهر و العَصْر، من يوم الإثنين في 27 مُحَرَّم سنة 1126 من سَوْرة الغضب، تعتريني أحياناً فقال: كيف تجده، قلت: يصيّر الناس عندي سواء كرجل واحد، بلا تمييز وتظهر لي عيوب في كثير منهم، وأتكَلّم على من لا يستحق الكلام عليه، فقال: ليس هذا صفة الغضب، إنما الغضب ما كان له سَبب من جهتك، أو من جهة أحد من الناس، بأن فعل معك ما تَكْره، ولكن هذا ضِيْق في الحوصلة، لعدم وُسْع في الصدر، فقلت: فكيف مداواة هذا قال: بمخالفته، بأن تفعل ما تكره فعله حينئذ، وتترك ما تحب أن تفعله إذ ذاك، والرياضة على قسمين: رياضة الشهوات بالصوم والمجاهدة بالجوع وكسر النفس، ورياضة الأخلاق بالتّكلف، بأن تخالف ما يدعو إليه الخُلق السيء، وتَفْعل ما يَدْعو إليه الخلق الحسن، كتكلّف التَّواضع . والنَّفس لها كمائن ودسائس، فتدّعي شيئاً وإذا جاء هواها لم يصح شيء من دعواها، وما قرن الله اسمه الواسع في القرآن، إلا مع اسمه العليم أو الحكيم، فقال تعالى :{وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}( ) {وَاسِعًا حَكِيمًا}( ) وفيه دليل على أن سعة الصدر تكون من العلم، وفيه: الحكمة أم الفضائل: { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}( )، قلت: فما معنى المجاهدة التي يذكرونها . قال رضي الله عنه: تَصْحيح التَّوحيد، والعمل على مُقْتضى الشرع، وتَذْليل شَهَوات النفس، وتَعْديل أخلاقها، حتى يَسْتقر كلٌ على الأمر العدل الشرعي، وقد يفتح الله على الولي بعد المجاهدة، بفتوح من عنده يتحقق له إنها لم تحصل له بمجاهدته، بل حصلت فَضْلاً منه تعالى ومِنّة، وقد يجتهد ولا يحصل له شيء، ليسلم بذلك من العُجب، فلا يَرَى أنه حصل له من مجاهدته شئ، ولا بد من المجاهدة، قال وسمي جهاد
(2/117)


النفس أكبر، لأنه دايم ولازم لكل أحد أو كما قال .
وقال رضي الله عنه في قول صاحب "الإحياء": الطريقة الثالثة في تهذيب النَّفس، أن يَتّخذ شيخاً صفته كذا فيرشده ويبصّره بعيوب نفسه إلخ، قال: يكون ذلك بالإشارة، إن كان من أهلها، وممن يَفْهم بها، أو بالتَّصريح في الأمور التي لا بد منها، ومن نعم الله عليك أن لا يُشَافهك بالأمر والنهي، بل بالتعريض .
أقول: وهذه سيرته هو رضي الله عنه، في المتّصلين به والملازمين له، لا يكاد يواجه أحداً بأمر أو نهي، إلا إن وَجَب . ومن رآه على أمر فعلاً أو تركاً، لم يكلمه فيه، إذا اتسع له فيه العذر شرعاً، وإن استأذنه أحد أو استشاره راعى مراده وما يميل إليه كما تقدم ذلك من قوله مراراً، ما لم يكن إثماً أو مذموم العاقبة، وإذا علم من أحد فعل مكروه، أو ترك محمود، ذكر الفعل بعينه، وبالغ في ذم ما يُكره، ومدح ما يُحمد بحضرة فاعل المكروه، وتارك المحمود، كما بالغ في ذم الكلام، حال انتظار الصلاة، ولا قال: يا فلان لِمَ تَتَكَلَّم فما سَمِعته قط يقول ذلك، وكذا إذا علم من أحد تَرْك ما يَنْبغي فعله، ذَكَر فوات الفضيلة المرتبة على فعله بحضوره، ومن له بصيرة يَفْهم الإشارة، ومن عُدِمها لا يُفيده التصريح بالعبارة، ومع هذا فله نفع الله به، تَرْبية خاصَّة معنوية، بإذن ربانية، لمن سَبَقت له السعادة، لا يطَّلع عليه الخلق ولا من يربّيه، لا يختص بها القريب، ولا يُحْرم منها البعيد، كما قدسمعته يقول: ومن ربيناه يفوق غيره لأنا نربيه تَرْبية لا يَشْعر بها، فيا سعد ويا فَوْز من حصلت له، هنيئاً له هنيئاً، جَعَلنا الله من أَهلها وممن نالها وفاز بها .
وقال رضي الله عنه: إلْزق بالأرض تواضعاً، فإن اللّه ما خَلَق الخلق إلا ليَتَواضعوا لعظمته، وإلاَّ فخزائنه مملوءة من الأعمال، ولا اعتراض على المتواضع . وما يَجد المعترض؟.
(2/118)


وعنَّف رضي الله عنه رجلاً على جَلاَفته، وقوّة طَبْعه عند المصَافحة، فقال له: طبعك قَوي، ونَفسك منطوية على كِبْر، ومادام الإنسان ونفسه ما يحصل على شيء، وأقل الحال الأدب، ولو بأدب العامة، من السّلام والتّحية، والصلاة على النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، والإنسان لا يخلو إما أن يكون قلباً خالصاً فذلك من جند الرحمن، أو نفساً خالصاً فذلك من حزب الشيطان، أو قلباً ونفساً مرة يغلب القلب ومرة تغلب النفس، وغالب الناس لا يخلو من هذه الثلاثة الأقسام، وقد أثبت الله الشيطنة بقوله شياطين الإنس والجن، وقد عجزوا حتى عن التأدب بالأقوال فكيف بالتأدب بالأفعال أو الأحوال، فإذا كان الإنسان قائماً مع نفسه، فكيف يمكنه التأدب بالمشايخ والاقتداء بهم، والتخلق بأخلاقهم، ونحن الآن ما عاد رأينا محلا يصلح للكلام، ولا قابلاً له، ولا رأينا أحداً نتكلم معه، وإلا فمعنا كلام كنا نتكلم به، لكن ما رأينا له محلاً لائقاً، ما عاد يريد أحدهم إلا يقرأ كتاباً و يطرح كتاباً، لا غير، وإلى متى هذا، ما هو إلا كما قال عمرو ابن العاص، لما قيل له إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم كان يحب إنشاد الشعر، ويعجبه الأنس، قال عند النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم أشياء لا نعلمها، أو كلمة نحوها . وذاك الذي له تلميذ يقرأ عليه، فأراد يوماً يقرأ عليه، فقال له اتخذتني حرفة لقراءتك، إقرأ على ربك، أو كما قال . قال نفع الله به: ولم يزل في نفسي من كلمة عمرو شيء، وقد لامه السلف جداً حتى فضلوا معاوية عليه، فقال الحسن [أي البصري] وكان معاوية خير الرجلين .
وقال رضي الله عنه: ينبغي للإنسان في هذا الزمان، أن يسير إلى الله باللطف، ويأخذ نفسه بالتي هي أحسن، ومن تبعه فهو منه، ومن عصاه( ) فإن هذا الزمان هو الذي ذكر في الحديث آخر الزمان، الذي على الإنسان بخويصة نفسه، ولا عليه من غيره، لأن الروابط قد ضعفت في هذا الزمان .
(2/119)


وقال رضي الله عنه: الأخلاق الشريفة، من لا يعلمها يتعلمها، فإذا لم يتعلمها وأراد يعملها لا يعرف كيف العمل بها، وقد جمعها الإمام الغزالي وذكر: إن من تواضع لكناس أو دباغ مثلاً غير محمود، وإنما يحمد التواضع للأكابر، وأهل العلم .
وقال رضي الله عنه: مقابلة النفس بالنفس، تورث العداوة، وإنما ينبغي أن يقابل النفس بالقلب، والشر كله في الكلام، فينبغي لمن ثارت عليه نفسه أن يسكت ولا يتكلم، ما دامت كذلك، وأنا من طبعي، إذا غضبت على أحد، فإن تكلمت استمر بي ذلك، وإن سكت سكن مني، وإن خرجت مني كليمة على أحد من المحبين، فإنما هي حق التنفس، أو كما قال.
وقال رضي الله عنه: إنا نتكلف إساءة الخلق، وطبيعتنا عكسه( )، بخلاف الغير فإنهم يتكلفون حُسْن الخلق، وطبعهم ضده .
وقال رضي الله عنه: إذا حسنت أخلاق الشخص، ساءت أخلاق أخدامه .
وقال رضي الله عنه: الغل: إضمار البغض لمسلم . وهو شديد، إلا إن كان من غير اختيار، كأن ظلمه حقه، فلا يَحْرُم لكن ينبغي أن يكفره بكراهته والاستغفار منه، ويعزم على أنه إن تمكن منه، لم يخرجه عن حد المباح فذلك تكفيره .
وقال نفع الله به: سوء الخلقِ ضيْقُ الصدر .
وقال رضي الله عنه: أهل شبام، كثيري الكلام، كل ذلك لِضِيْق صدورهم، فَلِضيقها يتَنَفَّسون بكَثْرة الكلام، وضِيْق صدورهم لضيق بيوتهم ( لأن من ضاق بيته ضاق صدره ).
(2/120)


وعاتب رضي الله عنه خادماً له، فكان مما قال: إذا حسنت أخلاق الرجل، ساءت أخلاق خادمه، وأحب إلينا أن يكون ذلك فيهم، ولا فينا، وما كنا من حين ابتداء أمرنا نظن أن نلابس شيئاً من أمور الدنيا وأسبابها للطَّرَف، حتى صارت الأمور إلى غير الاختيار وأقبل الناس علينا، فلما رأينا ذلك علمنا إنه إنما كان بسابق( ) إِلهي ساقهم إلينا، فيجب علينا الصبر فيه، وتمشَّت لنا من الأمور المعاشية أشياء ما يكاد يصدق بها الإنسان كالمحال، تسْتَبعدها العقول، ومن رآها وسمعها تعجَّب كثيراً، وقال: بعيد جداً أن يكون هذا الأمر من هذا الباب أو كما قال .
(2/121)


وقال رضي الله عنه: الأوصاف ما تَصير أوصافاً إلا إذا قويت وثَبَتت، وهذا في كل الأخلاق، المحمودة منها والمذمومة، كالحسد وغَيْره، وأما الخواطر المتردّدة فلا يُعْتد بها ولا إثم بها، ولا مَدْح ولا ذَم، والكبر والإعجاب وحبّ الدنيا ماحِقَات كلّها، والقليل منها يجر إلى الكثير، وفي الحديث: إذا رأيتم في إنسان خلقاً محموداً فاعلموا أن هناك له أخوات، وإذا رأيتم فيه خلقاً سيئاً فاعلموا أن له أخوات، ثم قال: انظروا إلى أماكن الشّوك والنمل، كيف يدل القليل على أكثر من ذلك، وكذلك في الأماكن المُسْبِعة، ولكن راحت بالناس الأفهام، فلا معهم أفهام يعرفون بها الأمور، ولا مفهّمين يُعرِّفونهم بها، فبَقُوا حائرين لا يَدْرون وِجْهتهم ولا أين هم متوجهين، وذلك حتى في أمور الدنيا، لا تحقق لهم بها، وهذه الأشياء لا يقبلها الله تعالى ما دام الإنسان يقبل التشكيك في الأمور الدينيات، و الإنسان، أو قال، وما زال الإنسان يقبل التشكيك في الأمور الدينيات فلا يقبلها الله، والإنسان في مطالبه على قَدْر همته وطَلَبه، فلو كان إلاِّ إنما يريد نكاح امرأة، أو شراء ضَيْعة، فإذا طلبت النفيس من ذلك صعب عليك الأمر، وإن طلبت ما اتفق أمكنك من ذلك كثير، فطالب الصعبِ أموره صعبة وطالب السَّهل أموره سَهْلة، أو كما قال، قال ذلك عشية الثلاثاء في 21 جماد الآخر سنة 1129.
وقال رضي الله عنه: النَّفس قاسية رغيبة، إذا رأت الشيء لم تَقْنع به، لكن إن رأته كثيراً تبارك وإن كان قليلاً، وإن رأته قليلاً ذَهبت بركته وقلَّ، وإن كان كثيراً .
وقال رضي الله عنه: من تهاون بطاعة الله الظَّاهرة، ووقع في معصيته لا بد له من الموت عاجلاً وآجلاً، وأول ما يموت منه قلبه .
انظر ما قال في البر وقطيعة الرحم
(2/122)


وتكلم رضي الله عنه في قطيعة الرّحم، فقال: إذا أراد الله بامريءٍ سوءاً سَلّط عليه قَطِيعة الرَّحم، فعند ذلك يسرع إليه الذهاب والدمار والهلاك،وقد ورد( ): ((صِلْ رحمك وإن قَطَعَتْ)).
وقال رضي الله عنه لبعض السادة: الله الله في الوالدة أنّسها واجبرها، لعل تحصل لك منها دَعْوة، والكَبير قد يَتَغَيَّر طبعه فيحتاج إلى صَبْر، وما مع الإنسان إلا إعانة الله، إن أعان تَيَسر له الأمر الصعب، وإن لم يعنه لم يقدر يشل ثيابه، والبيت بيت أجر وصبر، والأجر يبغى صبراً، ولا شئ إلا بالصَّبر، حتى لو أحد جعل لك دواء احتجت فيه إلى صبرٍ في مقاساته ومرارته ومعالجته، وقد قالوا: الراحة لا تنال بالراحة وإنما تنال الراحة بالتَّعب، وأنشد :
بقدر الكَدّ تُكْتَسَبُ المعالي ... ... ومن رام العلا سهر الليالي
وبعده: تروم المجدَ ثم تنام ليلاً ... يغوص البحرَ مَن طلب اللآلي
في أبيات تنسب لسيدنا علي، ومنها :
لنَقْلُ الصخر من قِلَلِ الجبال ... أحب إليَّ من منن الرجال
وقال رضي الله عنه لرجل يوصيه في أبويه: الله الله فيهما، برَّهما واتبع رضاهما، وكن لهما كالعصا المركوزة، ولا تتحرك إلاّ إن حركاك .
وذكر رضي الله عنه البر وأهله، فقال: البِر فيه بركة، وصلة الأرحام مباركة، فيها طول العمر وسعة الرزق وكفاية الأعداء، ومن وَفّقَه الله فهو بخيت، وإذا أضل الله عبداً أو أراد هلاكه، لا ينفع فيه شيء .
(2/123)


وَذُكِرَ له رضي الله عنه إن رَجلاً غضب على ابن له، فرماه بشفرة، فكان فيها حتفه، فقال سيدنا: لا حَوْل ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا سبب الغضب، والغَضَب من الشَّيطان، فينبغي للإنسان أن لا يعمل شيئاً حالة الغضب أبداً، لأن كل شئ يفعله في تِلْك الحالة غير سديد، ويُرَيِّض الإنسان نفسه بتكلف الصبر، والإمساك عَمَّا يقتضيه الغضب، حتى يتعَوَّد ذلك، فلا يَغْلبه الغضب، وقد أمر النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، إنه إذا كان قائماً فَلْيقعد، وإن كان قاعداً فليقم . وفلان لا يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يدعوه إليه الغضب، سمّى رجلاً من آل فلان، كان في الحاوي خادماً، فإذا وصّاه في بعض الحوائج، يراه وعليه أثر الغضب جداً، فيزعله ذلك منه .
انظر بعض مكا شفا ته رضي الله عنه
(2/124)


ومن العَجب إن هذا الرجل كان يقول: إن سَيّدنا عبدالله قد كان أوعدني بالحلول والإقامة بوادي الدَّواسر، وكَرّر ذلك عليه مراراً كثيرة، قال: كلما خاطبني قال لي: ما لك إلا بلاد الدَّواسر، وظاهر هذا إنما هو توعد لا وعد، فاعتقده وعداً، أو إنه سيصير له بها مَظْهر واسْم وصِيْت، فاستعدَّ لذلك بكتب فقه وخُطب، وقال إنها بلاد عامَّة، يحتاجون لذلك، فحين وصَلَها وافق حضور الأجل، ففي سُرْعة من الوقت انتقل، فكان الوعد له بسكنى في القبور، لا بسكنى في الدور، فأَعجِبْ من بُعْد مرمى كشف سيدنا . وقد قال نفع الله به: كلما بَعُدَ ما كُوْشف به الأولياء كان أصح وأقوى للكشف، فتبَيّن بهذا أنه تَوعُّد لا وعد، كما تَوَعَّد عيسى بن بدر، لما كثر ظلمه على الرعية، فقال سيدنا: ما له إلا الكثيب الأحمر، أي كَثِيب عينات، وكان مقامه بشبام، فانحدر إلى عينات فحضره أجله في يومه، ومات ودفن في الكثيب الأحمر، كما ذَكَر، وتقدَّمت قِصَّته، وكذلك لما قال نفع الله به لي، قال لنا حسين بافضل: إن بَدَت لكم حاجة، الحذر ما تَذْكرونها لي، فقلنا: إن بدت حاجة تُطلب من الخلق، فما أولى منك، وقِدْنا ببيتك، وإن قَضَى الله الحوايج فما بقي كلام، ثم قال لي: فاعلم ذلك واعمل عليه، وهذا منّة بفضل الله لي، وعد لا توعد، فمن حين وضعت رجلي بالحسا من سنة 1134 قيض اللّه لي بعض المحبين الصادقين، أن قال لي: إن بَدَت لكم حاجة فلا تَسْتقضونها إلا من عِنْدي، ولا تَسْتَقضون حاجة من غَيْري، فقلت له: إن شاء الله إن بدا لنا غرض، فأنت أحق بذلك وأولى به، فكان لنا معه في أمور المعاش أحوال غريبة جداً، لا توجد في أهل هذا الوقت، من جملة ذلك إنا بقينا نَتَسَلَّف منه إلى أن بلغ ذلك 170، غير ما يعطي بغير سَلف، وهو أكثر من ذلك بكثير، فقال عند ذلك: أنت بريء من ذلك كله، ومَرَّة كان للأهل عند رجل ثلاثمائة ،
(2/125)


فَذَكرنا ذلك له فأعطاناها، وقال: أنا أجوز معه، وغير ذلك حتى صِرْنا نقْضي أمورنا من بعيد، ومهما علم بشئ قضاه من غير ما نعلم، إلى أن جانا هذا الوقت، وهو سنة 1163 الذي أقعد الأقوياء، وأفقر الأغنياء، صِرْنا نخْفي عنه بعض الحوائج، شَفَقَة عليه، وهو يطالبنا بذكرها، ونخْفيها عنه وعن غيره ما استطعنا، ولا يمكن اليوم إلا القناعة، لتغَيّر الزمان وأهله، ومَيْلهم عن شَاكلة الصَّواب، لغلبة البخل والشُّح عليهم، نعوذ بالله من أحوال ما تَدْعو إليه النُّفوس في هذا الزمان، وكان سَيِّدنا نفع الله به يقول في وقته ما معناه: لو يتصور الإنسان هذه الأمور الوَاقعة في هذا الوقت قبل وقوعها، هل تقع أم لا؟، لكان لا يجوّز وقوع ذلك، فلو قيل لك: هل يمكن إن رجلاً كان يحسن إلى الناس ويعطيهم، إنه سيصير يستعطي ممن كان هو يعطيه، لقلت: هذا ما يمكن، وهذا وقع في هذا الوقت كما ترى، وكلُّ ما يُستنكَر وقع، فكل ذلك مما أشار إليه نفع الله به، وهو من أمارات الساعة .
(2/126)


ومن جملة مكاشفاته نفع الله به، قِصَّته مع حسين بافضل عام حجِّه، وملخّصها: إنه رضي الله عنه رأى وهو في المدينة المشرفة، وفي صحبته إذ ذاك الشيخ حسين بافضل، وكان مريضاً، قال: رأيت كأن باباً مفتوحاً له من المدينة إلى مَكَّة، فقلت: إنك لا تموت إن شاء الله إلا في مكة لأنا رأينا لك كذا وكذا، فقال: وقد قبري في مكة مَبْحوث، و حَصل لنا بسبب مرضه، أنا رجعنا إلى مكة، وجددنا عهداً و اعتمرنا، و إلاّ فإنه إنما خرج معنا ميتاً وراجعاً، و نقل شليه( ) عنا هذه الرؤيا، ونقل معها أيضاً كلاماً ليس على بالنا، و لا نَعْلم بوقوعه منَّا، إلا إن كان قد نَسيناه فَيُمْكن، والسيد ثِقَة، و هذه الأشياء لا نريد أحداً ينقلها عنا، و لا نمكّنه من نقلها، وهو إنه ذكر: إنا وَهَبْنا له من عمرنا أياماً واستَوْهبنا له من الجماعة أياماً، فلما تمَّت مات، إلى آخر ما ذكر . وهو مذكور في ترجمته، من المشرع الروي بأبسط من هذا( ) .
أقول: وقد سَألته عن هذه القّصة ثلاث مَرّات لأنقلها عنه، فالأولى سكت فيها، ولم يرد جواباً . والثانية قال: ذكر هذه شليه، وهو ثِقة. والثالثة قال: ذلك من بركة المتابعة . وذاكرته في قصة سقاية قَسَم( )، فقال: ذلك وأشباهه من بَركة الإتباع، ونور النبوة، ومن معجزاته صلَّى الله عليه و آله وسلَّم.
(2/127)


ومن عجيب مكاشفاته رضي الله عنه وبُعْدِ مرائي( ) إشاراته، قصة محمد المغربي، الذي كان ينزح على بير زمزم، وقد جاء إلى حَضْرموت ومَكَث عند سيدنا في الحاوي مدة، فكان ليلة كما ذكر ذلك عبدالله باشراحيل بمَعْناه في مَجْموعه( ) الذي جَمَعَهُ في كرامات سَيِّدنا، وهم في الراتب، وهو يفص رجلَيْ سيدنا الحبيب، إذ شَراه ظَهْرُه، فجَعل يحكّه وقال: يا حبيب ظَهْري يشْراني( )، فَرَفع سَيّدنا يده و ضرب بها على ظَهْره، وقال: هذا إبراهيم في ظهرك فنريد أن نزوجك، فحين ما قال له ذلك، أمر رجلاً كان حاضراً، و قال له: سر إلى أختك، و استأذنها أن نزوجها بفلان، فسار إليها واستأذنها فأذنت له في ذلك، وزَوّجها إياه بحَضْرة سَيدنا وزُفّت إليه، ومكث معها أياماً، ثم جاء إلى سيدنا يطلب الإذن في المسير إلى الحرمين فأذن له، فلما جاء يَسْتودع مسافراً، قال له: إن زَوْجتك حَملت بولد، فإذا وَلَدَته سَمَّيناه إبراهيم، فإذا بلغ يحج أحد من عيالنا ويحج معه، فَولِّم( ) له كل ما عندك من الدَّراهم، واجمع له ما قدرت عليه منها، ثم يجيئك بعد مدة حاجًّا ويجيئك من عندنا بكفنك، يكون هذا على بالك، فسافر وقد حفظ منه ما قال، وصار ذلك على باله، ثم ولدت زوجته ولداً و سمّاه سيدُنا: إبراهيمَ، فلما بلغ وكان سنة 1118 حج السيد الحسين بن الحبيب( )، فحَجّ إبراهيم معه و إذا بأبيه مجمّع له ما قدر عليه، فدَفَعه إليه، وهو سَبْعون قرشاً، فجاء بها فغرس واشترى منها نَخْلاً، و بنى داراً، و تزوج منها، ثم إنه حج مرة أخرى بعد الأولى بنحو عشر سنين، فأعطاه سيدنا لأبيه ملحفته التي يلبسها، و قال إدفعها لأبيك، و قُدْ معه خَبَرها، أي كونها كَفَنه الذي عهد به إليه، فلما سَمع أبوه بوصوله إلى جدة قادماً، حَزن حزناً شديداً، فَهنّاه بعض أهل المدينة بقدوم و لده، فقال: فبم تهنيني، أتهنيني بالموت، فإنه جاء يبشرني
(2/128)


بالموت، فلما قدم المدينة و أقبل على أبيه يحيّيه، قال له: هات كفني الذي جئت به من عند حبيبك، فدفع له الملحفة، فَتَمسَّح بها وقال له: ليتني ما رأيت وَجْهك، ما كان تَرَكْتني أذوق الرُّطب، وكان قد قرب إدراك الرطب، فَمرض من يومه أو ثاني، والحاصل ما بقي إلا نحو ثلاثة أيام، وتوفي، فيا للعجب، من هذا العجب .
ومن جملة مكاشفاته نفع الله به بشارته للسَّيد الحبيب أحمد بن زين الحبشي، بابنه جَعْفر قبل يولد، وذلك إنه توفي للسيد أحمد ولد اسمه علي، وكان قد حفظ القرآن وطلبَ العلم، وكان أبواه مشغوفين به، فحَزنا لموته، فقالت أمه لأبيه: زُرْ بنا السيد عبدالله الحداد، أريد ألازمه، يدعو لي بولد مبارك يخلف عليّ ذلك الولد، فأتياه زائرين، وتَكَلَّمت له بما في نَفْسها، فقال لها: اصبري الآن، عادكُما إلا جئتما، فإذا أخذتم كم يوم أرسلنا لكم، فلما مَكَثا المدة التي قال لهما، أرسل لهما فأتياه، فقال: سِيرا على بركة الله، ونُبشّركما بولد مُبَارك سَمياه جعفراً، فسارا على إشارته، ثم بعد أيام جاءت من السيد أحمد وَرَقة، ذكر أن الشَّريفة حملت، ثم بعد ذلك أرسل كتاباً آخر، وذكر إنها ولدت ولداً سميناه جعفراً، ثم نشأ هذا الولد نشواً حسناً، وصار فيه بركة كما وَعَد سَيّدنا، وصار اليوم القائم في مقام أبيه، فانظر وافهم، واعتبروا يا أولي الألباب .
انظر ما قال في موت الفجاءة
(2/129)


وقال رضي الله عنه: ينبغي إذا مات أحد فجاءة أو بِمَرض خفيف أن لا يُسْتعجل بِتَجْهيزه، حتى يتحَقّق موته إمّا بتغير، أو علامة تفيد اليقين، أو معرفة طبيب حاذق ماهر في الطب، ورأينا في بعض كتب الطب، ذكر علامة وهي أن يُجعل عند أنفه قطنة مندوفة مهبَّاة، فإن تغيرت بنحو حرارة أو غيرها، دل ذلك على حَياته، لأن ذلك من أثر النفَس، ثم أطال الكلام في ذلك، وذَمّ أحوال الناس في استعجالهم بالجنائز، فقال: إنما نحن إذا عَرَضت لنا مسألة تَكَلَّمنا فيها و بَيَّنا تساهل الناس فيها، ولا أحسن للإنسان من اتباع سَلفه، لأن للناس سلفاً هم أهل علم و صلاح، و يكفيهم الأمر في تَجْهيز النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ما جَهَّزوه إلا لثالث من مَوْته، أَوَ هُمْ ما رأوا سُنّة يعملون بها في زَعْمهم إن مرادهم السنة في السّرعة بِتَجْهيز الميت إلا هذه؟، و التَّجهيز للميت بعدما يتحقق موته، لا في الحال، فرب من تَحْصل له سَكْتة أو إغماء يظنّ أنه مات حتى ذكر: إن رجلاً خَرَج من قبره، بعد أن دفن عاضًّا بإبهامه، دُفن حيّاً، و قصته مشهورة يسمى عاض الإبهام، و آخَر سمع صياحه في قَبْره، فلما بَحَثُوا عليه رأوه في آخر رمق فمات، وذكروا: إن الإنسان قد يموت من شم ريح الكافور، فيفزعه وهو حاله ضعيفة فَيَمُوت، وليس عَمَلهم من عمل الدين، ولا من أعمال أهل الجهة فإن البلد( ) مدولة، دَوْلة عِلْم، ما هي دَولة جَهْل، فينَبْغي إذا مات عشيَّة أن ينتْظر به إلى الصّبح، أو ضحوة ينتظر به إلى عشية ليتحقق مَوْته، فإنما التَّجهيز للميت لا للحي، أَوَ ما رأوا سنّة يعملون بها إلا هذه؟، فلأي شيء ما يطمئنّون في الصلاة، و يَتْركون الهَذْوة في المساجد وفي الحزب، كيف هذا، ويريدون يَعْملون بالسنة، فينبغي أن يشبه الماعون الماعون، ثم ذكر قِصصاً وحكايات كثيرة في هذا( )، كقصّة( ) هارون الرشيد، لما ظنوا مَوْته و أرادوا تَجْهيزه، فدخل عليه
(2/130)


طبيب فأمر بجريد( ) فأتي به فضربه به، فجعل يتحّرك قليلاً قليلاً، حتى انتبه من حالته، ثم برىء بعد ذلك و صَحَّ، و ذكر غير ذلك . ومما ذكر قال: حكاية نَسْمع بها، إن امرأة حبلى، رأوها كأنها أسكتت فظنوها ماتت، فأرادوا تَجْهيزها، فجاء إليها طَبيب، فقال إئتوني بإبرة فأتوه بها فغرزها في بَطْنها فتنفست، وتحقّقوا حياتها، فسألوه عنها، فقال: إن ابنها وضع يده على مَوْضع نَفَسها، فتنَفّست من مغرز الإبرة فصَحّت، أو كما قال، وذلك عشية الأربعاء في 22 محرم سنة 1123.
أقول: سمعت إن الإمام البيضاوي، حَصَل عليه مثل ما ذكر، فجهز ودفن حَيَّا فانتبه مما جَرَى عليه في قَبْره، وَعَرف أنهم ظَنّوا موته، ففعلوا به ذلك، فنذر إن أخرجه الله سالماً ليفسرن القرآن، فجاءه نَبّاش كان ينبش القبور، ويأخذ الأكفان، فنَبَش عليه حَتّى إذا وصل إليه تنحَّى له عن الكفن، وقال له: امض إلى بيتنا آتني منه بِقَميص، فارتاع النَّباش وغشي عليه، فقال له: إنهم ظنوني مُتُّ فسر إليهم بَشّرهم، وآت لي بِثَوْب ألبسه و خذ هذا الكفن، فذَهَب و أتى له بقميص، فلبسه وَ خَرج، ثم فَسَّر القرآن التَّفسير المشهور.
وقال رضي الله عنه: الأمور الفجائية، التي تأتي الإنسان بَغْتة، أو يُخْبر بها كذلك، قد تَقْتل وقد تُرْعب رُعْباً شديداً، بحيث يغمى على الإنسان، كما حكي: إن حارساً كان في بَعْض الحصون رأى جرادة في الجو طائرة، فظنها سهماً فوقع من الحصن، فبقي مطروحاً إلى اليوم الآخر كذلك، ثم أفاق، وكذلك اتفق لشخصين مسافرين أن نام أحدهما ولم يَنَم الآخر، فرأى( ) حية لدغته، إلى هنا رأيت في الوَرَقة، وأظن إن النائم رأى ذلك فصاح فقام مرعوباً فقام إليه الآخر وأمسكه .
(2/131)


وقال رضي الله عنه: إذا أفرط الإنسان في محبة أمر أو بغضه انعكس إلى ضده، لأنه لا ضابط حينئذٍ، فينعكس الأمر، كذلك الذليل جداً لو سمع خربشة يفزع منها يظنها شيئاً يخاف منه، وليس كذلك، كما ذكر إن رجلاً رأى جرادة طائرة قاصدة نحوه فظنها سهماً فصاح فوقعت عليه، فسقط وهو يقول بصياح شديد، أصابني سهم حتى مات، وآخر خرج من بعض الحصون، فسمع ضربة بندق فظن إن رصاصة وقعت فيه، فسقط فخرج إليه أهله فرأوه ملقى، فلما أفاق قال: إنه أصابني، إلا إنه لما آتيتموني ذهب ذلك عني .
ومر رضي الله عنه في طريقه من الحاوي إلى السبير في باجبهان بنساء ضعاف ومنهن عميان، فسألوه( ) فقال للخادم: إعتن، أما لك عناية بالمساكين، أما ترانا بعد كل صلاة ندعو: إن الله يحبب إلينا المساكين، يعني في الدعاء بعد الصلاة: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، إلى أن قال: وحب المساكين، فقيل: إنهم مساكين بلا دين أي بلا صلاة قال: ولو، لأن الله يحب المساكين، ولو أن غنياً بلا دين، وآخر مسكيناً بلا دين، يكون ذلك المسكين أحب إلى الله من ذلك الغني، ففيه وصف مما يحبه الله، ولو قلت له: لِمَ لا تصلي؟، لقال: ما علي ثوب يعني يعتذر بذلك أو غيره، ولا يقول: ما عليَّ صلاة فينكرها.
وذكر رضي الله عنه جماعة من آل الشيخ أبي بكر كانوا يترددون ثم انقطعوا، فقال: ماكان بيننا وبينهم شيء من أمور الدنيا، ولا نالنا منها منهم شيء، وهم عالمون بذلك، ولو أرسلوا لنا شيء رديناه ولا قبلناه، وإنما مرادنا منهم أن يتربوا ويتخلقوا بأخلاق سلفهم، ماهم داريين إنا نربي الرجل من أولادنا على الخلق الواحد سنين( ) .
ما قال في عقيدة أهل شبام
(2/132)


واستأذن عليه رضي الله عنه بعض السادة من شبام، فأذن له بالدخول وذلك بعد إشراق يوم الثلاثاء في 25 صفر سنة 1132، فكان مما تكلم به أن قال له: أهل شبام لهم عقيدة وحسن ظن في السادة ظاهراً عليهم، ليسوا كأهل تريم، فإن لهم أيضاً كذلك لكنهم مستبطنينه لا يظهر عليهم إلا عند الاختبار، كما ترى إذا كانوا في سفر أو رأوا أمراً نزل بالشريف فيظهر عليهم أثر التعب حينئذٍ، وما ذاك إلا لكثرة الأشراف، ومخالطتهم لهم، كالمسك إذا قل عَزَّ وإذا كثر هان.
وسأله عن رجل بشبام، كيف هو وأهله، وامتد به الكلام إلى أن قال: أرسل أهله إلينا نأمره بالفراق، ونحن كلامنا ماعاد نسيبه لأهل الزمان، لقلة امتثالهم، وماذا ينفع الكلام مع قلة الاستماع له والعمل به، كالذي يعجن الطحين بلا ماء، كيف يمكنه عجنه بلا ماء، لأن فيهم مباهتة وكذباً، إن ذكرت له حال نفسه وما فيه من مذموم الخصال لأجل نصحه وتبيين عيوب نفسه، حقد عليك، وربما أقر على نفسه بذلك، وقال مثلاً: نحن إلا كذا وكذا، فإذا وصفته بما وصف به نفسه ثقل عليه ذلك، وأضمر لك الحقد، وما يحسن في هذا الزمان إلا الإنفراد عنهم، إن أمكن، أو المجاملة معهم وهي المداراة المطلوبة في الشرع، وأنشد بيتاً للزمخشري وهو :
قد كان لي كنز صبر فاضطررت إلى ... إنفاقه في مداراتي لهم ففني( )
(2/133)


فقال له ذلك السيد: أهو معتزلي؟، يعني الزمخشري، فقال: نعم، في العقائد دون الفروع، فإن مذهبه حنفي، ثم جرى ذكر أبي طالب وإجتهاده في نصرة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ومنافعه له، فقال سيدنا: لكن ما نفعه ذلك، لأنه كان لمجرد العصبية، ولا كتب له إسلام حيث عرض له النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم بكلمة التوحيد، وطلب منه أن يقولها، وكان عنده أولئك الرجلان من كفار قريش، حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب ومات( )، ثم قال سيدنا: ما يحصل للعبد التثبيت، إلا إن ثبته الله وإلا أدنى خاطر يخطر له يزلزله، فقال ذلك السيد: أدعوا لنا بالتوفيق، فقال سيدنا: إذا جرى شيء في خاطرك فهو بايقع لك، لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطر في خاطرك رجاء حصول أمر إلا ويريد أن يعطيكه، لأنه سبحانه لا يؤمل أحد منه أمراً فيقطع به عنه، لأنه تعالى كريم رحيم، وما خلق الخزائن الا ليعطيها عباده، مع قوله تعالى: { أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم}( ) ثم سأله في شيء من الكتب يطالع فيه، قال: في "الأربعين الأصل" و "المنهاج" فقال له: كتاب الأربعين الأصل فيه أشياء ليست في الإحياء، وهو كتاب جليل، وسماه الشيخ عبدالله العيدروس الصراط المستقيم، وفي كتب الإمام الغزالي خاصية، وهي إنها تجلب القلب الى الحضور مع الله بالخاصية لا بمجرد العلم، وقد ذكر الشيخ عبدالله أي العيدروس لذلك مثالاً: كما يحصل السواد بمجرد اجتماع الماء والزاج، ثم أمر بالقهوة، وبعدها بالدخون، ثم قرأ الفاتحة ثم خرج ذلك السيد، وتم ذلك المجلس المبارك .
(2/134)


وذكر رضي الله عنه أهل شبام، فقال: كان فيها ناس زهاد، ولا رغبة لهم في الدنيا، أهل خير، فصاروا اليوم كلهم مشغولين بالدنيا، فصاروا إلى لهو ولعب فإن كان في أحد خير فهو اتفاق . وكان الفقيه بامجبور إذا جاءه حَكَمان يتحاكمان يبكي أولاً قبل الحكومة ثم يفتي فانظر الآن، وهكذا كانوا، وما يستجري العامة، الا باستجراء العلماء، وأدركنا كثيراً من أهل الأحوال في الجهة، مساتير ومشاهير، ولكن انطفى ذلك النور، واشتعلت بدله نار، ولو كان هنا أحد من أهل الكشف لرآها ناراً من أعمالهم لا من غيرها.
وفي بعض الأيام وهو يوم السبت 23 ربيع آخر سنة 1132 دخل عليه السلطان عمر بن جعفر في داره في البلاد بعد صلاة الصبح، ووصلت من الحاوي وهو داخل، فوقفت في الضيقة الى أن خرج، ثم خرج سيدنا وقال: يوم هو هنا قدْ جيت، قلت: نعم، ولم أجزم بالدخول فقال: نعم نحن الغِنا، وهو العَنا، إذا دخل علينا لم نخل أحداً يحضر إلا إن كان العيال، لأن الناس ليس فيهم أمانة في حفظ الكلام، وأيضاً إذا كل من جاء حضر فما فائدة في كلام الخلوة، وكذلك إذا كان عندنا سماع، إذا خلونا لانمكن أحداً من الحضور إذا كان السماع خاصاً في خلوة، فإن كان ظاهراً فلا نمنع أحداً أو كما قال .
وشكا إليه رضي الله عنه بعض السادة، من ألم ضرس أضرَّ بِهِ فقرأ عليه، ثم قال: يقال بئس الصاحب الضرس، إذا رأيته ما نفعك( )، وبئس الصديق الدرهم ما ينفعك حتى يفارقك، ثم قال لي: إحفظهما .
وقال رضي الله عنه: أكثر زلات أهل الزمان في ألسنتهم، ومعاملاتهم الفاسدة، و يظن أحدهم أنه يتعدى شجرة إلى فوق يريد الجنة، وعاد العلم وعاد العمل( )، و إذا نظر الإنسان إلى أهل طبقتين وتفاوتهم يرى بينهم بُعدًا، حتى إنهم مايتعارفون، فإن الزمان إلى نزول .
(2/135)


وذُكِر عنده رضي الله عنه جملة من صالحي الزمان، فقال: فلان كذا، وفلان يجيء عند الدولة، يعيبهم بذلك، ثم قال: كانوا( ) أهل يقظة وانتباه، فقد كان بعض الصالحين له صاحب، فرأى صاحبه أنه يناوله شيئاً يأكله، فتأمله فإذا هو خَرَا الجرذان، فحكى له بالرؤيا، فقال: نعم، إن لنا جماعة مالُهم غيرُ حلال، يجيؤون لنا بشيء فنرده ولكن قد دَخّنتك بشيء من دخونهم، ثم امتنعَ منه ولا عاد عالقه ولا صارمه .
وقال رضي الله عنه: بعدما ذكر جماعة نقلوا من كلامه شيئاً، قال: فلم يعجبنا نقلهم، فإنهم قد يأخذون بالمعنى ولا عرفوا مقصود الكلام، وقد نهى بعض العلماء عن نقل الحديث بالمعنى، لكن ضاق عليهم الأمر واحتاجوا لذلك، والكلام له أول وآخر، وعلى مقتضى السؤال يكون الجواب، وقد قال لنا رجل: إنكم تذمون فلاناً يعني من سلاطين الجهة( ) مرة، ومرة تمدحونه، ولا عرفنا كيف حاله، فقلنا إذا ذُكِرَ بظلم تكلمنا بما يناسب ذلك، وإذا ذُكِرَ بنفع تكلمنا كذلك، أَوَ نسكت مع ما نُسأل؟، وكثيراً إذا سألَنا أحدٌ مسئلة في المجلس، أود أن أخلِّف جوابه إلى بعد المجلس، والجواب أوسع من السؤال، وقد قالوا: لا ولد أكبر من أبيه إلا الجواب( )، فهو الولد والسؤال الأب، وكتب لنا يعني ذلك السلطان، وقال: إنكم تشددون في نقل الكلام، ولا يمكننا نحضر مجلسكم مع ذلك( )، وقيل لسيدنا نفع الله به: فلان يريد يكلمكم، وذلك عند خروجه لصلاة العصر يوم الخميس في 27 صفر سنة 1128، فقال: للكلام وقت غير هذا، وأما مع اجتماع القلب للصلاة فلا يحسن الكلام، وما شُرِعت النوافل قبل الصلاة إلا ليحصل فيها اجتماع القلب على الله، حتى يدخل الصلاة بحضور وإقبال على الله، وقد كدت أمس أن أسهو في الصلاة لكون قد صافحني جماعة وأنا خارج اليها.
(2/136)


وقال رضي الله عنه: إذا سار الإنسان في الدنيا إلى ربه في طاعته، سار إليه في الآخرة إلى جنته والجنة فوقهم فهم يمشون في الدنيا تحتها وهي فوقهم، فإذا كانوا في الآخرة صعدوا إليها( )، والعصاة يمشون فوق النار في الدنيا وهي تحتهم، فإذا كانوا في الآخرة نزلوا إليها .
وقال رضي الله عنه: الصُّعلوك( ) إذا أطاع الله، نال رتبة الملوك، وحصلت له الآخرة، وجاءته الدنيا فتكون من خلفه( )، لأن الدنيا كالظل، إذا استقبلها الإنسان صارت خلفه( ) .
وقال رضي الله عنه: كل ما مَنَعَ من المباح فهو محمود، وما المذموم الا مامَنَع من الخير الصريح، ولكن ينبغى أن يُعرف الفرق بين الأمور .
وقال رضي الله عنه: ما كان من الأمور بسبب الضعف، يعذر اللهُ تعالى فيها كما تعذر الشريعةُ، فإن الشريعة من عند الله أيضاً. وما استنبطه العلماء فيها فهو من هذا القبيل، وهكذا في جميع أمور الأرواح المقتضية للترقي والمقتضية للنزول بحسب الأخلاق، فترقى إلى أعلى عليين وتنزل إلى أسفل سافلين، تصعد وتنزل في مراقي الصعود والإنحطاط، ثم ذكر قصة الشيخ أحمد الصياد، من أهل زبيد لما رأى كشفاً وهو بزبيد، أن الأمام الغزالي صُعِدَ به من قبره إلى آخر القصة السابقة .
(2/137)


وذكر رضي الله عنه: حديث معاذ، تصعد الحَفَظَة بعمل العبد...الخ، ثم قال: وهكذا في سائر أحواله، فإن مات ولم يتب صار على مثل هذا الحال، ثم قال قد تطول بنا المذاكرة، ونخاف على دماغنا منها، وإذا طالت بنا في المدرس، نود أن القاريء يكون واحداً ولكن كل واحد يريد لنفسه قراءة، وإذا كان أحد من السادة فيه فضيلة، نريد عيالنا أن يتباركوا عليه بقراءة الفاتحة فقط، لأن مدد آل باعلوي من بعضهم بعضاً، فإن جاء شيء من غيرهم، كان كالسيل يجيئك منه رِدف فقد كانوا( ) متعلقين بالأخذ كل واحد عن غيره حتى الصلاة، فإن كل واحد تعلمها من أبيه عن أبيه، إلى سيدنا علي إلى النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، ولما فرغ القاريء في حضرة سيدنا نفع الله به في مجلس القراءة في شرح الحكم لابن عباد، قال: القصد أن تكون متعلقاً بالله، وإلا فمعلوم أنه لا غنى به عن ربه حتى في عشاه وغداه، وكثيراً مايستبعد الإنسان أشياء من نفسه وهي موجودة عنده، لا يعلم بها، وترى من هو في خدمة ملك متى رأى منزلته، واختار شيئاً لنفسه عزل عنه، وإنما المراد، أن يقوم بما أقيم فيه، تحقيقاً للعبودية، لا ليختار ماشاء .
وذكر رضي الله عنه واقعة علي بن موسى الرضا رضي الله عنه، حيث لم يضره الأسد في قصته مع زينب الكذابة، فقال: الكرامة وخوارق العادة، لا تأخذ بها تجربة لا في نفسك، ولا في غيرك( ) فإن الله سبحانه يجيب المضطرين، ولا يحب المتكبرين، والله تعالى إنما يقبل المخلصين، واختلفوا في أن الإخلاص ما هو، فقالوا: إنه ما ليس للنفس فيه حظ، وهذا عزيز، وللنفس دسائس خفيّة، حتى لو كان اثنان في مرتبة واحدة، لدعت أحدَهما نفسُه أن يسعى في إزالة صاحبه عن مرتبته لينفرد وحده .
(2/138)


وقال سيدنا رضي الله عنه يوماً في معرض المزح: وهل لو جاء رجل إلى بعض الناس، وقال له: أبسط سجادتك على الماء أو على - أظن قال الهواء- ولم يألف ذلك، ولم يعرف القائل له هل يطيعه أم لا، ثم قال: ما أظن أن أحداً يجيب إلى ذلك إلا إن كان فلان، لأن الإنسان لا يدري هل ذلك من الصالحين أم شيطان، ثم التفت إلي وقال: لوقال لك أحد تعال أوصلك إلى بلادك في ساعة. تطيعه؟ قلت: أشاوركم وأشرط عليه الإعادة على قرب قال: لا، إنه لو جاءك وحدك. قلت: لا أجيبه قال: قد قيل: إن كرامات الأولياء وغاراتهم قد طويت حتى إنه رُوي أن بعضهم جاء بحزمة سيوف إلى آخر وقال هذه أحوال الصالحين طويت .
وذكر رضي الله عنه التقوى فقال: التقوى يريد ورع وقناعة، فلا يفتح بطنه، فإذا فتح بطنه أمتلأ ناراً، فلا يملؤه إلا النار .
وسأل رضي الله عنه عن رجل غائب، هل أموره متيسره أم لا فقيل: لا، فقال مازحاً: هو ما يبرهن مثل أبيه؟ وكان أبوه مقبولاً عند الناس، لو إن كل من جاء نجر مابقي في الوادي شجر، بل ولا حجر، وما كل الناس يبرهنون، وأحد يبرهن لنفسه وأحد يبرهن له غيره، ومن هو يبرهن لا يعد هذه الأمور شيئاً.
وقال رضي الله عنه ما معك من أهل الزمان إلا خير، وليس شيء هين إذا قامت النفوس والأهوى، وأما أمور الدين والتقوى وأمور الآخرة، فقد تخلفوا عنها ولا بالوا بها، فإذا انخلع الإنسان من الدين والتقوى، فماذا يبقى من الخير فيه .
قف على تقسيم الرزق
(2/139)


وذكر رضي الله عنه السفر وذَمَّ الرثاثة فيه، ومَدَح الحزم والنباهة، فقال: ما السفر إلا نَظَر، ولو إن الرزق مقسوم، لكن الحركات بها البركات، والأسباب موزعة على المسببات، فكم من جالس من غير سعي، يبقى جائعاً، وساعياً قد نال ما يطلبه، وهذا جرياً على الغالب، وإلا فكم من ساع محروم، وجالس مرزوق، وذلك بحسب الأقسام المقدرة، فإن الرزق نوعان: مضمون ومقسوم، فالمضمون ما به قوام بُنية البدن، وذلك لكل موجود إلى مدة أجله، والمقسوم ما زاد على ذلك، والناس فيه مختلفون، فمنهم الموسَّع عليه والمقتَّر.
وذُكِرَ عنده رضي الله عنه أنه قد سُرق شيء منسوب لبعض السادة ممن تقدم، فقال: تغيَّرَ الناس اليوم وانقلبت قلوبهم، ودَخَلَتْها دواخل، فهم كما قيل: لو قطّعت الإنسان قطعتين مابالى، وأهل هذا الزمان دخلت بواطنَهم شياطين، فما عادهم ناس، فلا عاد تلوم الآخذ( )، وإنما تلوم المضيع( ) .
وقال رضي الله عنه: إن الله لا يؤاخذ الإنسان بوساوس الشيطان إذا كان كارهاً له وعقيدته بخلافه، وهذا الوسواس مانقيم له وزناً لأن عندنا: كلما خرج عن الإختيار لا نرى فيه حرجاً، وهذا منهي عنه، حتى في حق الرجل مع زوجته، وفي الحديث: (( لا تكونا كالعَيرين( )))، وقد قال لنا يوماً فلان: ما أنا مشغول إلا من الورود، ما أدري كيف نكون، فقلنا له: لا تشغل نفسك بهذه الأمور، وأمور الآخرة ألا قَصِّرْها ولا تطولها على نفسك، فكيف يكون دخول القبر وسؤاله .
وقال رضي الله عنه: سبحان الله، يسهن( ) الإنسان الأمر يأتي من جانب، فيأتي من جانب آخر فلهذا وجب التسليم .
وقال رضي الله عنه: لا يخلو الزمان من الأفاضل من آل أبي علوي حتى يخرج المهدي، إما خامل مستور، أو ظاهر مشهور .
وقال رضي الله عنه: المريد أو المعتقد في أحد إذا سمع منه كلمة فيعمل على مقتضاها إن أراد العمل، ولا يثني فيها الكلام .
(2/140)


وقال رضي الله عنه في حديث: (( لا تغضب )) أي إن أمكنه ألا يغضب فذاك، وإلا فله أدوية فليستعملها ولا يجري على مايقتضيه غضبه، والأدوية إن كان قائماً قعد، أو قاعداً قام، أو يتكلم سكت، أو ساكتاً تكلم، أو يفعل شيئاً تركه، أو يتوضأ أو يغتسل، أو يقوم من مكانه ذلك، وأمثال هذه الأشياء، فإذا سألت في الحديث عن شيء فقل: ما الحكمة في كذا ولا تقل: ما العلة فيه، إنما العلة في الفقه .
وذكر رضي الله عنه الحِرَف فقال: ما يأخذ الإنسان معرفة الشيء وأحكامه إلا من أهله، ومن لا نفعته التجارب( ) . ولا تنفع التجربة إلا من له عقل غريزي لأنه الأصل، والتجربة فرعه، ولا ينفع تجربة الأحمق، وإذا جرب شيئاً فينتفع به في نفسه، لا في حق غيره إلا إن أعلمه بأنه جرب الأمر كذا قبل، فإن أخذ الأحمق بتجربة العاقل فإن انتفع فمليح، لكن الشيطان لا يرى الإنسان في أمر إلا أمره بأمر آخر، حتى يشتت عليه أمره من أمر الدنيا والدين، لكن يأخذ في الدين بما اتضح عنده ويترك ما اشتبه عليه :
خذ مارأيتَ ودع شيئاً سمعتَ به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ( )
قف على درجات العقل
ثم قال: العقل على أربع درجات، أعلاها أن يزهد في الدنيا ويرغب عنها، وكل من لم يعرف شيئاً أنكره، فلو قلت لأحد: إنه يمكن أن يبلغ الإنسان إلى حالة يستوي عنده الذهب والحجر لم يصدق، فلينظر إلى حالة الذي في سكرات الموت، كيف لا يلتفت إلى شيء في حق نفسه، لكنه يريده لولده، ومن هو في تلك الحالة( )، فهو في الآخرة بقلبه، وإن كان جسده في الدنيا، والكرامات التي تظهر عليهم، ما عادها من أمور الدنيا، بل من أمور الآخرة، قيل: أَفَمِن لازِم العاقلِ أن يجرب الأمور ويعرفها بالتجربة، قال نفع الله به: إن لم يكن فيه هوى . وكلما قوي الهوى ضعف العقل، وكلما ضعف الهوى كثر العقل .
(2/141)


وذكر رضي الله عنه المجددين من أهل القرن الحادي عشر، فقال: ما عاد عليهم إلا يقبلون من غير دعاوي ولا بلاوي، ما عاد في هؤلاء مجددين، إنما هم مقددين، وضرب نفع الله به مثلاً لدعاء أهل الزمان إلى الخير وإنهم لا يجيبونه: كمثل نائم غلب عليه النوم، فتنبهه ليقوم للصلاة وتجر برجله، ثم يخالفك وينام، فإن كان نومه إلى أُمَّة( ) قليلة أشكل( ) ممن نومه إلى الموت ثم ينتبه حينئذ، وكل ينتبه إذ ذاك .
وقال رضي الله عنه: العمل إذا رُفِع أو نُسِخْ نُسِي، وربما يؤخر عمل الخير ليزداد صاحبه ندماً.
وقال رضي الله عنه: كان السادة آل أبي علوي، إذا ظهر واحد منهم انطوى فيه الباقون، وخملوا هُم، حتى لايبقى لهم وجود لأن النسب واحد ولهم في بعضهم( ) العقيدة التامة ولا رغبة لهم في جاه ونخوة، ومناقبهم لم يُدَوَّن أكثرها، وإنما عرفنا منها ما عرفناه بطول مطالعتنا في الكتب من سابق الوقت، وكثيراً عرفناه ممن أدركنا من شيابتهم، وقد أجاد الشيخ علي في ذكره المناقب، في " البرقة"( ) وأفاد، لأنه أتى بهم من أولهم، ولم يذكر الكرامات، وكل بيت آل أبي علوي بيت مناقب، ولكن تؤخذ مناقب كل بيت من أهله، إذ كلٌّ يحفظ مناقب أهله ولا يعرف مناقب غيرهم، إلا إن كان واحد ظاهر كثيراً ولا لوم عليه إذا لم يعرف غير ذلك . وهذا بسبب نقصها في التواليف حيث ذكر مؤلفوها ما سمعوه من مناقب غيرهم ولم يسألوهم عنها، ولكن أين المناقب اليوم إنما المناقب اليوم والمناصب: الحِرَف والكسب . والأولون قد صححوا بهما المناصب والمناقب فأنفقوهما في سبيل الله وطاعته، ومثلهم اليوم كالذي قيل له: مامهنة أبيك؟، قال: مفلِّح( )، قال: قد خرج رمضان( )، ويُسلَّم للإنسان في معرفة أهل بيته ما لا يُسلَّم له في غيرهم .
(2/142)


وقال له رضي الله عنه رجل: لا تروا علينا في قلة الأدب، فضحك وقال: و نحن وإياكم وما نرى أنفسنا أن نستاهل حسن الأدب إنما هو لأهل العلم الذين هم في الكتب مذكورون، وعدم رؤية النفس هو الذي يرفع الإنسان، فإن كان هناك شيئٌ كان متواضعاً، وإلا سلم من الدعوى، ويَقبُح جداً أن يدعي من غير حقيقة، كالمرأة التي تدعي الجمال، وهي في غاية القبح، وإنما يرى الإنسان نقص نفسه، إذا تأمل أحوال السابقين وما كانوا عليه من الجد والإجتهاد، فعند ذلك يعترف ويتحقق أنه ماهو شيء ولا ينظر إلى أهل زمانه المتشبحين من غير شيء فما حصلوا من ذلك على طائل .
قف على من يتجاوزون الحد
وقال رضي الله عنه: ثلاثة يتجاوزون الحد: المعتقد، والشاعر، والعدو، لايقفون على حد الوسط فيما يتكلمون به، المعتقِد في معتقَده، ولا الشاعر فيمن يذمه أو يمدحه على من عداه( )، وإن كان هناك من هو أفضل منه .
وقال رضي الله عنه: مانحب مجيء الناس إلينا ولا نحبهم إلا لأجلهم، ولا نكرههم إلا لأجلهم، وأهل الزمان يفتحون أقفال الفتنة وهي مقلودة ولا يفتحون أبواب الخير إلا بزعمهم( )، هذا يفتح باب الفتنة من طرف، وهذا من طرف .
وقال رضي الله عنه: ينبغي للإنسان أن يقتصر من الملبوس والمأكول والنوم والكلام على ما لا بد منه، لأنه على هذا درج السَّلف والأخيار. وخصوصاً في هذا الزمان، الذي كثر فيه الحرام وقل الحلال والنيات الصالحة، فإن كان ممن وسّع عليه فيُنفق منه إن وفقه الله في كل الأوقات، وإلا ففي بعضها، وإن كان ممن قتر عليه فما معه إلا ذلك، أي ما أمكنه .
وقال رضي الله عنه: أصلح الصالحين من لا يرى إنه من الصالحين .
وقال رضي الله عنه لرجل: الله الله في السكون وترك الحركة، واستعن بالله وبكتابه فإن الله خلق الإنسان متحركاً، وقال له: اسكن، فقدِّرْ أن الذي أردته من الناس قد أعطوكه أمس وبقيت الآن بلا شيء منه، وذكر الأبيات التي أولها:
(2/143)


أقسِمُ بالله لرضخ النوى ... ... وشرب ماء القُلُب المالحة
أحسن للإنسان( )من حرصه ... ... ومن سؤال الأوجه الكالحة
فاستغن بالله تكن ذا غنى ... ... مغتبطاً بالصفقة الرابحة
اليأس عز والتقى سؤدد ... ... وشهوة النفس لها فاضحة
وهي مذكورة في رسالة المذاكرة .
وقال رضي الله عنه: وأهل الزمان كبرت جسومهم وصغرت عقولهم.
وذكر رضي الله عنه البيع والشراء فقال: البيع فيه بركة، خصوصاً إن حَمَل الطعام من مكان إلى آخر، وباعه بسوق وقته من غير احتكار إلى أن يغلى، فإن الإحتكار لا بركة فيه، إذ لا خير في اغتنام الناس، وقد نهى بعضهم عن بيع المأكول، خوفاً من أن يتمنى الغلاء على المسلمين، وكذا عن بيع الأكفان والذبح لأن ذلك يقسي القلب، لأنه إذا اعتاد الذبح وتمرن عليه، ربما لا تبقى في قلبه رحمة، فقد قيل لنا عن رجل من آل بافضل وكان يبيع الأكفان، إنه ماتت له أخت، أو بنت أخت فترك حضور جنازتها وراح القنيص، وكان سليم القلب.
وقال رضي الله عنه: الإنسان في هذه الدنيا مغرور يجرونه، ويُنَبَّه( )، وينام فكلما جروه انتبه، وإن تركوه نام .
وذكر رضي الله عنه الميراث فقال: كلما ذكر الإنسان في مرض موته شيئاً من النخل ونحوه يريد يجعله لله ذكر أولاده وأهله فآثر أن يكون لهم، ولا يجعل لله شيئاً.
وقال رضي الله عنه: للأنبياء معجزات، وللأولياء كرامات، هي من بركات النبي أو الأنبياء، ولا ينبغي أن يقال أكثر من ذلك، ولم يذكر عن ولي في كرامته أنه أشبع أناساً كثيراً من طعام قليل كما جاء معجزة( ) .
وذكر رضي الله عنه الطرائق، فقال: كل علم الطريق علم واحد وإن اختلفت الطرق، وإنما من تعلق بمسألة منهم نسب اليها وإلا فهو علم واحد، هو علم التصوف، وهو الذي قرره الشاذلية، وقرره الإمام الغزالي والقشيري والسهروردي .
(2/144)


وتكَّلم رضي الله عنه على بعض القُرَّاء وقت القراءة فقال: ليعرف أحدكم اللَّفظ أولاً ثم المعنى، ثم يعمل ويعلّم، ولو تركناكم على هذا ما فهمتم، وليس المراد مجرد القراءة بل المراد شيء آخر فحاك في صدر الرجل خوف، إن تغير خاطره عليه، فقال عند ذلك: إني لا أغضب على أحد إذا تعاطى معنا ما يغضب، إلا إن تكلمت كلمة أو كلمتين( )، وإلا فلا، وذلك لعدم المخالطة فهذا من طبعي، والإنسان متردد في الخطاْ، إلا إن عصم الله، وكان عندنا خادم إذا غضبت عليه أعطيته شيئاً ليزول عني الغضب عليه، فيقول ليته يغضب علي كل حين، وهذه عادتي إذا تكلمت لأحد بما يغضبه، إني بعد أترضاه بما يرضيه، من قول أو عطاء، ثم قال: مرادنا العيال والجماعة وأنت تتباركون، وإلا كان جعلنا السيد أحمد( ) إذا جاء يقرأ وحده، والباقون يستمعون، نخاف إن العيال يحتاجون إلى أحد في ذلك أو أنت إن أردت تقرأ - وهذا قوله لي والقاريء المذكور غيري .
ما قال في التطفيف في الكيل والوزن
وذكر رضي الله عنه من يبخس الكيل والميزان، وأطنب في ذمه، فقال: هو من بقية مَدْيَن أهل البخس والتطفيف، فكل من يعمل بعمل قوم فهو منهم، ثم أطال الكلام حتى قال: لما انفردوا بها وأقبلوا عليها( )، نُسِبُوا إليها، والكبائر حتى في الجنة محرمة كإتيان المحارم والزنا وغير ذلك، ولو كان الأخت في بعض الصور حلالاً في وقت آدم( ) .
وقال رضي الله عنه: قاعدة: إنا إذا عزمنا على أمر لانظهره للناس، خوفاً من عدم الوقوع، ولكنا نعلقه بالمشيئة، ولكنهم ينسون المشيئة ويتعلقون بالقول .
ووقعت ذات يوم مشاجرة بين بعض الناس في الحاوي فبلغه ذلك، فقال نفع الله به: إن أناساً يقيمون عندنا، ولم يكن فيهم أهلية للجلوس، فمَنْ حَسُن خلقه واستقام على الصواب فذاك، ومن خالفه فهو في حبل المقصورة( )، وحسبه الله .
(2/145)


وقال رضي الله عنه: عجبت من أهل الزمان إذا طلبت منهم الإستقامة، لم يمكنهم ذلك، وتعدوا منها إلى الإفراط والإعوجاج، وذلك لأنهم تبعوا نفوسهم وولَّوها، وصاروا منقادين لها، والنفس خبيثة كالمرأة السوء، وقد قال عليه السلام( ): (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة )) .
وقال رضي الله عنه: مع كبر السن وخشونة العيش، قَلَّ ماتحصل في البدن قوة، بل لا يكون مع ذلك إلا الضعف، إلا بين ضعيف وأضعف، أمّا مع ليونة العيش، فقد يكون بعض قوة أو مع صغر السن( )، اللهم إلا إن كان معه قوة روح فيحصل فيه قوة مع كبر سنه( ) وخشونة عيشه، لكن قوة الروح أعني الروح الإلهي الأمري إنما تكون بأمر آخر، فقُوْتُه الذكر لا الأكل فإنه قوت الروح الحيواني وهو النفس التي تطلب منافع البدن من اللذات، فقلت له: فكثرة الخواطر من أي شيء تكون، قال: من غبار النفس، فقال رجل كان يمكث فيما أظن ريدة المشقاص أياماً قال: وكنت هناك مطمئن الفؤاد، وقليلاً ماتخطر لي الخواطر، فلما جئت إلى الحاوي( ) تشعبت علي من كل وجه، ولا أراها تكثر إلا فيه، فقال له سيدنا: لأنك فيه في طاعة، وفي معزل عن الشيطان ولا له قدرة عليك، فلما كان كذلك جعل يوسوس، حيلة العاجز لما لم يقدر على غير ذلك، وأما هناك فأنت في قبضته، كالمقبوض في اليد، وقد حكي: إن رجلاً صالحاً مرَّ بالشيطان قائماً على باب مسجد فيه رجل نائم( )، وآخر يصلي، فقال له يالعين، ماتفعل هاهنا، قال: أردت أن أدخل على هذا المصلي فأُفْسِدَ عليه صلاته، لكن منعني نَفَس هذا النائم عن الدخول إليه، قال ذلك نفع الله به في مجلس جلسه في الضيقة بين الأذان والإقامة، من ظهر يوم الأحد في 12 رمضان سنة 1125.
(2/146)


ومرة قال نفع الله به: إن الطاعات والمعاصي تختلف باختلاف العاملين، وهم فيها مختلفون، أحد أوفر حظ منها من أحد، تختلف المعاصي باختلاف نياتهم ومقاصدهم، وكذلك الطاعات، وقد تحصل منها واحدة وقد تكون مضاعفة، والعاملون بما ذكر مختلفون، من حيث الصدق وعدمه، حتى إن بعض الأكابر مر على الشيطان وذكر القصة المتقدمة آنفاً ثم قال: لأن النائم كان شأنه الصدق فيما بينه وبين ربه بخلاف الآخر فبهذا السبب لاتقع طاعة هذا وما عمل من أعمال البر كذاك، بل ذرة من عمله أفضل عند الله من أمثال الجبال من أعمال الآخر مثلاً لأن الصدق هو الأساس، وما لا أُسَّ له لا ثبات له .
أنظر تعريف الأخلاق الحسنة
وقال رضي الله عنه: إذا أردت محبة قوم والإنتفاع بهم، فَلِنْ لهم وتَخَلَّق معهم، ولا تناكرهم، وتأدب معهم، حتى يثبتوك، ويتأدب معك غيرك وينتفعوا بك، وإن بقِيْتَ مثل الحجارة تباعدوا عنك وتباعد عنك كل من قربت منه، فقد قال معاوية في خلافته: لو أن مابيني وبين الناس إلا شعرة أقودهم بها لما انقطعت بيني وبينهم، لأني إن رأيتهم اشتدوا لنت لهم، وإن لانوا اشتددت معهم، وايش تكون الشعرة وما قدرها حتى يقود الناس بها، وإنما هذا مثال حتى صارت مثلاً يتداول بين الناس، يُضْرَب لمن لاَنَ وحَسُنَ خلقه. فيقال فلان ألين من الشعرة . واللين والشدة لكل منهما مَحَال ومواضع، فاللين مع الأكابر ووجوه الناس إذا لم ينفع معهم إلا ذلك، والشدة والعنف مع أداني الناس إذا لم ينفع معهم إلاّ ذلك، وكل من اللين والعنف مع أحد الفريقين ليس كهو مع الفريق الآخر .
(2/147)


وذكر رضي الله عنه: كثرة الشواغل من الناس، في زياراتهم ومصافحاتهم، ومطالبات مَنْ بَعُدَ بالأوراق، ثم قال: أهل الزمان يطالبون الإنسان بالحظوظ لا بالحقوق، وفرق بين الأمرين. فإن طالب الحق يطلب الشيء لله، وطالب الحظ يطلب الشيء لنفسه، وماعاد معنا لهم إلاّ المسامحة، نسامحهم لعل الله أن يسامح الجميع، كما في قصة الذي كان يعامل الناس، ويأمر أخدامه بالتجاوز عن المعسر إلخ، حتى قال الله تعالى: نحن أحق بالتجاوز منه فتجاوز عنه .
واستخلف منه رضي الله عنه رجل يريد الحج، وبعدما أوصاه بالتقوى، وملازمة الطَّاعة، والدعاء في الأماكن الشريفة، قال ذلك الرجل: اعفوا عنا، ولا تروا علينا فيما قصرنا به من حقكم، فقال رضي الله عنه: لا، إنما نحن نخاف أن نكون قصرنا في حق الوافدين والزائرين، أي فكلنا نسأل من الله سبحانه المسامحة في التقصير.
وصافحه رضي الله عنه بعض الصغار فلما أحسّ به، ذكر هذا المثل فقال: إن هؤلاء غلبت عليهم المَصْرخية، ثم ذكر لهذا حكاية وهي: إن النبي سليمان عليه السلام، كان ذات يوم في حرّ شديد، والطير تظله بأجنحتها، فأمرها أن ترفع كل واحد منها جناحاً، وتخفض جناحاً ليحصل الظل من المرتفع، ويدخل الهوى من المنخفض، فمكث كذلك فلما رآها هكذا، قال: غلبت عليها المصرخية، ومعناه: إن المَصْرخية اسم لطير معروف، هو أكبرها ومعها أصغر منها، فغلبت هذه لكبرها على تلك لصغرها، أي لم يظهر لها كثير أثر معها، والشَّاهد فيه كون المصافحين، فيهم الكبير والصغير، إلا إن الكبار أغلب وأكثر، ولما أحسّ بذلك الصغير، ذكر هذا المثل في خاطره فذكره بقوله .
(2/148)


وخرج رضي الله عنه إلى مسجده الأوابين، يوم الثلاثاء سابع ربيع ثان عام 1125، فمما تكلم به أو معناه: أن ذكر رجلاً كبير السن بأنه في عشر السبعين قال ومن لم يبلغها ففيه قوة، وإنما الضعف منها، وفيما بعدها، ومن العجيب إن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم نحر في حجة الوداع، وسنه نحو ثلاث وستين سنة، سبعاً وستين بدنة، ونحر سيدنا علي بقية المائة وإن الرّجل من أهل هذا الزمان يعجزه ذبح اثنتين، ثم قال: أما مَن عادته الحركة وإن كَبُر سنا فهو أقوى من المتخمّل وإن كان دونه، فالرياضة خير له من القوة، ويحتاج إلى القوة في الكد على نفسه وأهله في المعيشة وفي تحصيل الأعمال الصالحة حاجة شديدة، ثم امتد به الكلام إلى أن قال: إن خزائنه تعالى مملوَّة من كل شيء، مملوَّة بالرزق والأعمال والرَّحمة، وإنما أراد سبحانه من العبد أن يملأ خزائنه هو مما ينفعه وهو الطاعة، فإن أوقات الإنسان التى تمر به تعرض عليه في الآخرة، التي مرَّت في الطاعة مملوَّة نوراً، والتي في المعصية ناراً، أو قال ظلمة، والتي مرت بلا شيء فارغة، فتتقطع كبده من التحسر على الفارغة، أن لو كانت مملوَّة نوراً، فكيف بالتي فيها المعصية، و هذا في حق المؤمن الذي ثبت له أصل الإيمان، وأما الكافر فيجازى بما عمل من خير في الدنيا لأن الله تعالى عدل، لا يأخذ بلا حجة، ولهذا بعث الرسل وقال: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }( )، وعرض جبريل عليه السلام لفرعون في صورة رجل، فقال له ما تقول، لي عبد أنعمتُ عليه وأعطيتُه وفعلتُ به كذا وكذا، فلما تَمَّت نعمتي عليه ترك أمري وادعى أن له مِثْل ما لي، فقال فرعون: لو أن هذا عبد لي أغرقته في بحر القلزُم، فقال له: أكتب لي هذا في ورقة، ففعل فأخذها وانصرف فلما كان وقت غرقه في البحر عَرَض له جبريل، وأراه كتابه وقال: هذا حُكمك على نَفْسك، أي فأُغْرِق في بحر القلزم، كما حكم على نفسه، ولهذا اشتد
(2/149)


حرص الأكابر على ثبوت أصل الإيمان وتقويته واشتد خوفهم من زواله، وحكى لنا بعضهم: أنه رأى في النوم باباً، وكأنه باب الجنة وهو من خارجه، قال ففرحت، و قلت الحمد لله قد صح لي أصل الإيمان. ثم المفاضلة في الأعمال وتعرف في الآخرة بالميزان فمن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة. ومن كثرت سيئاته على حسناته دخل النار، إلى أجل معدود، إلا أن يغفر الله، ومن استوت حسناته وسيئاته جُعِل في الأعراف، إلى أن يأذن الله له بدخول الجنة، فتفكر في هذه الأشياء، لكن إبليس قائم للناس بالمرصاد، و يوسوس لهم بخواطر لا حاصل لها، فلو كانت نافعة لنفعته هو، كيف ضَلّ في نفسه ولم ينتفع، ولا نفعته وساوسه هذه التي يوسوس بها، بل ضَرته وهو يريد أن ينفع بها غيره، وهو إنه يُمَنّى الإنسان مع المعصية أو عدم العمل الصالح بفضل الله وعفوه، وهذا هوس و باطل، أيظن المغرور أن العفو والفضل يتعدى من جميع الأمة وفيهم أهل الطاعة ومن لم يتعمد معصية إلى هذا المغرور، وهو وغيره في كرم الله تعالى لتَرتُّب الجزاء على الأعمال .
تأمل أيضاً ما قاله في القضاء والقدر رضي الله عنه
(2/150)


وأَمْرُ القضاء والقدر خفي جداً، وأمر دقيق لا شيء أخفى منه . وينبغي أن تفطم عنه العامة بالكلية حتى لا يخوضوا فيه أبداً. فإن الخوض فيه زندقة، ولئلا يغتروا، فإن هذه أمور دقيقة جداً، ولا أخفى منها أدق من بيت العنكبوت، لأنها تنزلت قليلاً قليلاً. وكلما لها تَدِقُّ حتى انتهت إلى العلماء وهي في غاية الضعف والدقة، فلا وصلت إلى العامة إلاَّ وهي شيء لا يكاد يُدرَك بسبب ذلك، وفي الخوض فيها خطر عظيم، لا ينبغي أن يفشى، ومنه( ) فرَّت القدرية( ) حتى سقطوا في الجانب الآخر، و قد قال بعضهم إن القدرية مُعظِّمون للحق [ أي الله تعالى ] أو كما قال انتهى، ثم ختم المجلس بقراءة الفاتحة، ودعا بهذا الدّعاء وفيه مناسبة للمجلس: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى و العافية واليقين والثَّبات على الحق، والوفاة على الإيمان، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة .
وحصل شدة برد وذلك في نجم الطرف، فقال نفع الله به: إنه فيما يعتاد عندنا إن البرد بعد دخول الطرف يفتر، وكان العرب في هذا الوقت يُخرجون الغنم من الزرائب لأنهم حينئذ قد أمنوا من شدة البرد، ولكن لعل ذلك لأمر أراده الله، فإنه سبحانه يُحدث الحادث( ) للحادث( )، مما لا يعلمه إلا هو سبحانه أو بعض ملائكته أعني الموكلين بتلك الأمور لا كُلُّهم، فإنه بلغنا أن الله تعالى خلق ملائكة موكلين بالأشجار والثمار . وشدة البرد عندنا في ستة نجوم، أولها الثريا وآخرها النثرة، يَعني النجوم الشبامية، وهي معروفة عندهم لغالب الناس حتى الفلاحين( ) وكثير من الصغار والعوام .
وقال رضي الله عنه: أكثر ما يُدخِل الناس الجنة التقوى وحسن الخلق، وأكثر ما يدخلهم النار الأجوفان: البطن والفَرْجُ، وقد ورد: أشقى الناس من أدخله أجوفاه النار.
(2/151)


وقال رضي الله عنه: إن الله يُذَكِّر عباده في الدنيا بذكر الوعد والوعيد، فإذا كان يوم القيامة جَمَع الخير كله في الجنة لأهلها، وجمع الشر كله في النار لأهلها.
وقال رضي الله عنه: إذا فزع الإنسان من شيء، أو فعل به أحد شيئاً أو هاب من وقوع الأشياء، فيتوضأ ويصلي ركعتين، لأن الله تعالى قال: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَلوة}( ).
وقال رضي الله عنه: كان بعض المشايخ إذا أراد شيئاً أو دفعه( ) أمر، طلب من المريدين الدعاء له بذلك، لأن المشايخ الظاهرين بالمشيخة، يغلب عليهم الرضاء بالقضاء، فلا ينزعجون لشيء، وإنما ينزعج المريدون، ويتضرعون إلى الله فيه، ولأن الدعاء بلسان الغير مستجاب، لما جاء: إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، ادعُني بلسان لم تعصني بها، ومعناه أطلب من غيرك أن يدعو لك .
قف على الفرق بين الإيثار والمواساة
(2/152)


ومر في القراءة ذكر آداب الطعام، فقال رضي الله عنه: إذا أكل القوم بقصد الكفاية بلا شَرَهٍ مع اعتقاد الإيثار ولا يَكْرَه أحدهم أن يأكل صاحبُه أكثر منه نزلت عليهم البركة، وإلاَّ نُزِعت البركة من طعامهم، وقد ذُكِرَ: إن جماعة من الأخيار جلسوا للأكل ليلاً وكل واحد منهم معتقد للإيثار من غير ما يعلم بذلك أصحابه، فأطفأوا السراج، وجلسوا قدر مدة الأكل، وكل منهم يوهم أنه يأكل، ثم قاموا وإذا بالطعام على حاله ما نقص منه شيء، وكذلك قصة الرأس في سبعة من الصحابة، أو من التابعين، وهي إنه أُهْدِيَ لواحد منهم رأس، فدفعه لواحد من أصحابه، فدفعه الآخذ لآخر، وكانوا كلهم محتاجين، فدفعه لآخر حتى رجع إلى الأول، فهكذا كانت سِيَرهم، فقل لهؤلاء الذين يجلس أحدهم يأكل ويقطع اللحم، ويسمع السائل ما يعطيه شيئاً، وهو يتبلع بالطعام، والإيثار شيء والمواساة شيء آخر، فالإيثار أن تمسك وأنت محتاج، وتعطيه محتاجاً آخر، والمواساة أن تعطيه شيئاً منه، وقد قلنا لهم في أيام الأزمنة الشديدة، انقِصُوا من طعامكم المعتاد قليلاً بحيث لا ينقص كل واحد من عادته إلا نحو ثلاث أو أربع لقم، وتواسون بذلك محتاجاً.
وقال رضي الله عنه: إذا أخذت شهوة فقدم قدّامها أو بعدها ذكر الله، حتى ترفعه الملائكة، شوبوا مجالسكم بذكر الله .
وقال رضي الله عنه: إذا أردت أن تفعل الخير هونه على نفسك حتى يسهل عليك، وأكثر منه ما استطعت .
وذكر رضي الله عنه الصدقة فقال: إن الآخذ قد يكون من الأنبياء( ) والأولياء والأبدال، وأهل هذه المراتب متجرّدون، لا يأخذون من الدنيا إلا كفايتهم، ويردون الزائد، وإن احتاجوا عند الفاقة سألوا بقدر الحاجة، وجعلهم الله يبتلي بهم أهل الجِدَة والسعة، وكذلك قد يبتلي بملائكة خصوصاً عند المساغب والأزمنة الشديدة، فإذا رأيت فقيراً يسأل فبادر إلى إعطائه، فلعله ساقه الله إليك اختباراً لك .
(2/153)


وقال رضي الله عنه لرجل من دوعن، يستفهمه عن إرادة السفر قرب شهر رمضان، فقال سيدنا له: الزائر لأحدٍ فهو في كنفه، وقاعدة: من هو في كنف أحد لا ينبغي للمزور أن يقول له رح، ولكن الزائر إذا خطر في خاطره شيء يخبره به، وإذا أمرت أحداً بما في نفسك، وهو خلاف ما عنده أتريده يوافقك، ويترك ما يريده( )؟، أترى صاحب السفينة إذا أراد السفر، فقال له بعض الرَّاكبين: أريد أن تتخلف إلى غدوة، يطيعه( )؟ وقد قلت لكم غير مرة، إنا لا نشير على أحد بخلاف رأيه، ولكن نرد الرأي إليه، فإن وافق فذاك، وإن عمل بما يريد لا بأس ونسلم نحن من اللوم، ورمضان إلاَّ مقبل، والسكون فيه خير من الحركة، وقد ذكر الله السكون في عدة مواضع من القرآن ولم يذكر معه الحركة، منه قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَن}( ) الآية، كل ذلك للأمر بالسكون وترك الحركة، ثم قال هذا البيت لابن الفارض :
في هواكم رمضانُ عمره ... ينقضي ما بين إحياء وطي
(2/154)


ثم قال: فلان قد مر القصيدة مرات كثيرة ولو سألته عن البيت الذي قبله ما عرفه، فقال المشار إليه: لا، ولو آية من القرآن، فقال: دريت، وقد نزل الناس اليوم نزولاً كثيراً، نزلوا إلى الأرض، ولو ماشي أرض ظاهرة، ولكن من تخلّق بخلق مذموم، أو عمل عملاً مذموماً فقد نزل، ولم نر في الزمان إلا رجلاً له نفس غير مطمئنة، أو قلب مضطرب، أو روح منزعج، ومن استقام منهم كان في درجة أصحاب اليمين، فهو شأن من صلح من أهل هذا الزمان، وأما السابقون فقد تقدم زمانهم، ولو خرج اليوم منهم واحد لأنكروه، ولم يعرفوا حتى كلامه، وأصحاب اليمين ما هم كالسابقين، ولو كانوا سواء لما فاوت في ثوابهم في سورة الواقعة، ثم ذكر رجلاً من أهل الدَّار خرج إلى الخلا( ) ومكث أياماً فقال: نحن من عادتنا أن من كان في كنفنا فخرج من عندنا لا نكلف عليه في الرجوع، ولكن لابد ما يخلف الله علينا خلفاً خيراً منه، أقله الصبر عنه .
وذكر رضي الله عنه رجلاً وإنه كان مجذوباً منظوراً، قال: لكن فيه تَمَسُّك، ثم ذكر عياله وأنهم يَقْصُرون عنه، ثم قال: ليس بول الإنسان كنفسه، لأن الولد من البول( )، ولا يكون كأبيه( )، كما لا يساوي البول من بال، ثم قال: هذا الزمان، الصالح فيه من لم يحصل منه أذى، فمن كان كذلك فهو من صالحي الوقت، وأما حصول النفع فقلّ أن يكون .
وقال رضي الله عنه: صاحب القلب يأخذ العطا بشرطين، أن يراه من الله وأن يستعين به على طاعة الله، وفي قضاء الحاجة إرفعها إلى الله ثم أنزلها إلى من جعلها الله على يديه، مع تعلق قلبك بالله .
وقال رضي الله عنه: وما مثال من اهتم بطاعة من أهل الزمان، إلا كالذي كان نائماً فانتبه من نومه فزعاً( ) .
ما قال في الخوف والرجاء
(2/155)


وقال رضي الله عنه: الرجاء أوسع من الخوف، لأن النفس مغرورة، ومن لا معه معرفة بقدر خوفه، يُخشى عليه الإنقطاع، ثم قال: إن وَضَع على عبده عدله ما نفعه عمله، وإن عامله بفضله يرجى له السلامة بأدنى شيء، والخوف أهم من الرجاء، لأن فقده مضر، ويسوق إلى المعاصي، والنفس كالمرأة السوء، كن شديداً عليها في الظاهر، مع التحنن عليها في الباطن وهي قط لا تدعو إلا إلى الشر، ومن لازِم الرجاء الخوف، و وُسْعُ المعرفة، وأما هؤلاء فيرجون بلا خوف ولا معرفة( ).
وقد قيل: الخوف كله للرَّاجين، والرجاء كله للخائفين، وطبيعة النفس طبيعة ما هي من طبائع الدين، بل هي طبيعة جاءت من جهة الطين . وأحوجَ( ) الإنسانَ إلى قدر الضرورة من الدنيا، ولو اكتفَوا منها مثل الملائكة لاستراحوا، وأولئك قد كانوا ضعفوها بكثرة الأعمال الصالحة، وأعمال الدين، وأنت اليوم كلما لك تجدّد على نفسك ما يشغلك ويؤذيك، وما زاد على الضرورة فهو عندك بمنزلة الأمانة، وعاد متعلق به شواغل و أمور أخرى، ولكن لم يتم لك شيء فإن الإنسان خلق محتاجاً، وخلق مبتلى، ومثل ذلك، قد أسسها لهم آدم، إذ أخرجه الشيطان من الجنة، ولكن عليك بتذكر ما يسليك، فإذا لم يُعَزِّك أحد فَعَزِّ نفسك .
وقال رضي الله عنه: الطاعة في الأماكن بركة ونور، وقد جاء: إن أماكن الطاعة تتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض .
وذكر رضي الله عنه الحيوانات والدواب، فقال: جميع المخلوقات تُسَبِّحُ خالقها، وهي لا يتعارف بعضها مع بعض .
وذُكِرَ له رضي الله عنه مجلس يجتمع فيه رجال ونساء، فقال: هذا مجلس من حَضَره يَغْضَبِ الله عليه .
انظر ما قال في أهل القرن الثاني عشر
(2/156)


وتكلم رضي الله عنه في الزمان وأهله، فقال: هل سمعتم أحداً ذكر القرن الثاني عشر، قط، لا ما ذكره أحد، إنما آخر ما ذُكِر القرن العاشر، وقد كُنَّا لما كنا صِغاراً، يعيّبونا الكبار يقولون: اسكتوا إنما أنتم أهل القرن الحادي عشر، ثم قال مشيراً إلى نفسه، نفع الله به: وقد قال بعض آل باعلوي: أنا في طرف البساط، فلو قَدْ مُتُّ لطوي البساط( )، أعني بساط العمل، ولو سئل إنسان: أأنت من الأولياء؟، فقال: لا، وسئل آخر فقال: نعم، لاحتُمل صدق كل واحد منهما، وإن كلا منهما ولي، فالعلم واسع لا طرف له .
كلامه رضي الله عنه فيما يسهّل أمر المعاش
وقال رضي الله عنه لرجل رآه مهتماً بأمر معيشته: طالع في كتاب "الفرج بعد الشدة" وواظب على: {وَمَن يتِّقِ اللّه يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا}( ) إلى: {قَدْرًا}، ولو ثلاثاً بعد كل صلاة، ومبنى الكتاب( ) على هذه الآية، ثم قال له: ابن أمورك على حسن الظن بالله حتى ينشرح صدرك، فإن الأمور إذا بنيت على حسن الظن بالله تيسَّرت والإنسان ضعيف، جبله الله على ذلك، وما ذكر الله قصة آدم وقصَّها، إلا لينبِّه بها على ضعف ابن آدم، فإن الله سبحانه جعل له جَنَّة وغيرَها، فلما نهاه عن أكل الشجرة عجز عن الإمتناع . ويس ولا إله إلا الله، دواء لكل شيء، وإن تعسرت عليك السورة كلها، فاقرأ إلى: {يُبْصِرُون}( )، لأنها قلب القرآن، وشأنها عند المؤمنين عظيم، حتى إنهم إذا مَرِض الإنسان، أو عثر، أو ذُكِر بعيب، أو سقط، أو وقع عليه شيء من المصائب، أو أي شيء يُتَرَحم عليه منه، يقال له: يس عليك، يحصِّنونه( ) بها لمكانها من المؤمنين، لما كانوا عليه من التعظيم لها، وعاد أثر ذلك إلى الآن .
قف على الأحرف النورانية
(2/157)


ثم قال له: وعادنا نكتب لك الأحرف النورانية( ) تكررها وهي أربعة عشر حرفاً، ا ل م ر ك هـ ي ع ص ط س ح ن ق ( ) من أوائل سور من القرآن، أقول: هي أوائل ست سور الر ،كهيعص، طس، حم، ق، ن، وكذلك أول أربع سور كهيعص، طس، ق، الرحمن، وكان عبدالرحمن بن عوف وجماعة من الصحابة يكتبونها على أمتعتهم، لسلامتها في بر أو بحر، ويقولون اللهم بحق كذا وكذا، سلم هذا المتاع، ويسميه .
وقال رضي الله عنه: ينبغي أن يأخذ الإنسان من الأعمال على قدر ضعفه، وضعف زمانه، ولا يَدَّعي القوة في غير موضعها، لأن أمور الدين كالمسك، كلما ازددت له شمًّا نقصت رائحته عندك .
وقال رضي الله عنه: مقام ساداتنا آل أبي علوي الضعف والمسكنة والخمول، غير ما هو لغيرهم من الأولياء من ضد هذه الصفات، والصفات المذكورة أمر عظيم في التقرب إلى الله والسلامة في الدين .
وقال له نفع الله به رجل: أعطوني طريقة آل أبي علوي، فقال: انظروا إلى الأعمال، ولا تنظروا إلى الأقوال، ومن أرادها ينظر إلى أفعالهم وأقوالهم، ومن رآنا ظن أنا على الطريق الخاصة، طريقة المقربين، وليس كذلك إنما نحن على الطريقة العامة، وهي طريقة أصحاب اليمين، ظاهر الكتاب والسنة .
(2/158)


أقول: ومعنى ذلك: أن مقامه مقام الدعوة إلى الله لعموم الخلق، وأن يقتدوا به في سيرته، وأعماله وأقواله وأخلاقه، عبادةً وعادةً، وهذه هي طريقة أصحاب اليمين، ولا ينبغي أن يسير فيما بين الناس ويدعوهم إلى الإقتداء إلا عليها، فهي سيرته ظاهراً لعموم الخلق، وأما شأنه وحقيقة أمره، فيما بينه وبين ربه، فهو على أكمل حال، وأعلا مقام من طريقة المقربين، ومن سمع ظاهر الكلام يظن أنه في الحالين على ما ذَكَر، وليس كذلك، بل على ما ذكرناه، وراثة نبوية، وإذا اتفق له من هؤلاء المخصوصين أحد من أهل طريقة المقربين، رقَّاه إليها، فهذان مقامه في الدعوة للناس على طبقاتهم، كما تقدم من قوله لعبدالله باسعيد العمودي، كم ألسنة الدعوة إلى الله، فقال الله أعلم، فقال سيدنا: خمس، وتقدم ذكرها في أول هذا النقل، وقلت له: يا سيدي ما لنا بعد رسول الله إلى الله وسيلة، سوى رؤيتكم، والإتصال بكم، والإنتساب إليكم، فقال نفع الله به: إن فضل الله إنما يجيء من باب واحد.
أقول: لعل مراده إنما يصل من الله إلى عبد من عبيده بواسطة النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، أو من ينوب عنه، وهو واحد في كل زمان .
وقال رضي الله عنه لي: جاءتنا كتب من أناس من أهل الحسا، يسلمون عليك، وذكروا إن أردتم حاجة أو شيئاً، قولوا لنا، ونحن لكم في الخدمة . أَوَ نحن تجار حتى نحتاج إليهم؟، ما حاجتنا إليهم إلا أنهم يتقون الله، ويؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق عباده، فهذه هي حاجتنا التي نطلب منهم، لأن هذه هي حاجتنا من أنفسنا نطلبها منها، فنحتاج إليهم فيها، ونطلبها منهم أيضاً أو كما قال .
(2/159)


وقال رضي الله عنه: الملائكة والشياطين محيطة بالإنسان، وعنده لكل منهما متاع، فإذا تكلم الإنسان بالأمور الغيبية، كحال المجذوبين، فإن كانت من الحق، فهي على لسان مَلَك، وإن كانت من الباطل فهي على لسان شيطان، كما ورد في حالة الجماع، إذا ذَكَر اللهَ حضره المَلَك، وإن لم يذكره حضره الشيطان .
وقال رضي الله عنه لرجل من الحاضرين: كتبنا لفلان وقلنا له: يسلم عليك الشيخ فلان، فسميناك شيخاً، تفاؤلاً بأن تحصل لك رتبة المشيخة، فقال ذلك الرجل: ما مقصدي إلا أن أكون مرضياً عند الله وعندكم، فقال له: إتبع رضى الله ورسوله، ولا عليك، فالباقي تبع له، والإنسان لا يقطع بحسن العاقبة لأحد إلا لمن ورد فيه نص كالعشرة من الصحابة، فسلم ما فيه القطع( )، ودع عنك غير ذلك، فلو قيل لك: إن فلاناً من المشايخ السابقين، هل تقطع بأنه في الجنة؟، لقلت: لا، فقال له: لكن بعض الناس يقع في الخاطر إنه كاليقين إنه من أهل الجنة، فقال: لا إنما هذا عيش النفس، فلو قَوَّمَكَ من مجلس أنت فيه جالس إلى مكان آخر، تغيرتَ عن تلك الحال، وإنما ذلك ما دمت راضياً، فقال له: فالعمر يمضي على هذا التلبيس من النفس، ولم يُعرف الصواب، فقال: لا، الزم الطريقة المثلى والمحجة البيضا، ولا عليك من هذا، فكل شيء يرجع إليها، فقال له: فهذا التلبيس من النفس يكون لبعض الناس أو لكلهم؟، فقال لبعضهم: وبعضهم يكشف الله لهم الحق، ويقيمهم عليه من غير تعمل منه، مثل الذي يتكلم من غير لحن، وهو لا يعرف نحواً وإعراباً، وآخر يعرف أحكام النحو وهو كثير اللحن، فقال ذلك الرجل: فعسى ببركتكم يحصل التوفيق لطرح الأشياء على من هي عليه، ويستريح الخاطر والبال منها، فقال: نعم، هذا هو الصواب، إلا إن الله يقيم الناس على درجات كما يريد، ولا يمكن الإنسان ولا يثبت له أن يقيم نفسه في شيء، ولهذا كانت الجنة درجات، والنار دركات، فلو كان مع
(2/160)


إنسان عشرة أعبد هل كل واحد يقيم نفسه فيما يريد، أو سيدهم هو الذي يقيمهم، بل هو، فيجعل واحداً على الباب مثلاً، وآخر في الضيقة، وواحداً في الرقاد( )، وواحداً عنده في الغيلة، ونحو ذلك، ويوعد كل واحد بما أراد إذا قام بما أمره به، وكل منهم فائز إذا قام بما عليه، وإن اختلفت درجاتهم، ووعده لهم حاصل، إذ لا يُخلف، وأما العبد السوء فيبقى متعلقاً بالوعد، حتى إنه يطلب أجرته قبل العمل درهماً إذا وعده عليه بدرهم، وإنما المطلوب أن يكون متعلقاً بالخدمة لا بالأجرة، وما وَعَده لا يفوته، وفي هذا اختلفت درجات العبَّاد، انتهى ما حصل في هذا المجلس الأنيس ومثل هذا يكون من التبسط معه في أوقات البسط والفسحة كما قال القائل :
أويقات وصل لو تباع شريتُها ... بروحي ولكن لا تُباع ولا تُشرى
فرضي الله عنه ونفعنا ببركاته وأسراره في الدنيا والآخرة .
انظر إلى هذه الرؤيا
(2/161)


أقول: ومما يناسب هذا الكلام: إني رأيت في 21 ربيع ثاني سنة 1125، رؤيا ملخصها: كأن سيدي يقول لي: نريدك تسافر إلى بلادك، فقلت له: يا مولانا دعوني أتمتع برؤيتكم، فقال: لا، قد طالت بك المدة هنا، والأمور إلا جميلة، فسر إلى بلادك، فقلت: تفضلوا علي بالمقام عندكم، فقال: سر إلى بلادك أحسن لك، فطلبت الجلوس، هكذا وقع ثلاث مرات، إذ لا طاقة لي بفراقه، كما لم أطق الجلوس بعده، فلما أكَّد علي في المسير، ولا قبل لي عذراً، قلت له: أروح بماذا؟، أريد أن تظهر عليَّ ثمرة مقامي عندكم، أتريدون أن أروح كما جئت، لا يكون ذلك أبداً، فلما علم ما أردت سكت ساعة متبسماً كما هي عادته يقظة، وأراد أن يجيبني بكلام، وخاف أن يثقل ذلك عليَّ، ويشتغل خاطري منه فضرب لي مثالاً ففهمت منه ما أراد، فالله المستعان، وهو أنه قال: إن واحداً له عبدان، أحدهما صادق في خدمة سيده، ومخلص فيها بظاهره وباطنه، كما يحب سيده، وسواء كان بحضرة السيد أو في غير حضرته، والسيد يحبه لذلك كثيراً، والآخر ليس كذلك، يعني لا في خدمة السيد، ولا في محبته، بل إذا كان في مرأى من السيد، تكلف أن يكون مثل الآخر، وإذا خلي لا يبالي، ولو ضيع حق سيده، فاتفق أن كانا يوماً بمحضر من سيدهما، فقال السيد لذلك الصادق: نِعْمَ العبد أنت يا فلان، فلما سمعه الآخر غار، فزاد في التكلف في حضرة سيده، طامعاً أن يثني عليه كصاحبه، فاتفق أن قال له وصاحبه الصادق يسمع: يا فلان ولو تكلفت ما عسى أن تتكلف من خدمتنا ما أنت إلا بئس العبد، قال الرائي: فغلبني البكاء كثيراً، حيث فهمت أنه أراد أنك مثل هذا العبد المقصر، وأنت تطلب أن تكون عند سيدك مثل ذلك الصادق، نسأل الله العافية والتوفيق، والتسديد والرشد، والهداية والتأييد، والمثال المذكور يدل على قوله نفع الله به: لا تقطع بحسن العاقبة لكل أحد، إلا لمن ورد فيه النص، وبودّي أن قد قصصتها
(2/162)


على سيدي، وكان يمكنني أن أقصها عليه وأسمع ما يقول فيها، كما قد قصصت غيرها عليه، وذكرت ما قال فيها كما تقدم أول هذا النقل، وإنما منعني أنه لزم علي فيها في السفر إلى بلدي ثلاث مرات، وأنا أعتذر، فخفت إذا سمع ذلك أن يجعل الرؤيا يقظة، والمثال حقيقة، فهذا الذي منعني، وبعد ذلك وددت أني فعلت وأبقى بين الخوف والرجاء، ولعل ما خفته لا يكون، ويكون ما رجوته كما قيل :
ولعل ما تخشاه ليس بكائن ... ولعل ما ترجوه سوف يكون
ولكن ما أراد الله إلا ما قد كان .
وذَمَّ رضي الله عنه أهل الزمان، فقال: أهل الزمان كلهم أقفية، وليسوا بوجوه، فإذا لم يكن لك بهم نسبة لا في شور ولا عطا ولا غير ذلك، فهو أحسن، فإنك لو أحسنت إلى أحدهم، ما رجع منه إليك إلاَّ شر، وكل أمورهم راجت( )، الدَّولة والفقير وغيرهم، وهم كقوم جاءهم صيَّاح فاختبطوا، منهم المقبّل، ومنهم المشرّق .
وقال رضي الله عنه: في معنى قول بعضهم: أن ترى الله في كل شيء، أي ترى وتعتقد أنه فعله، وهذه حالة تقع على القلب ضرورة من غير تكلف، ولو تكلفها لم تحصل له تلك الحالة.
(2/163)


وقال رضي الله عنه: عندما خرج لصلاة الظهر، لذلك الرجل المشار إليه، وذلك يوم الخميس غرة جماد آخر سنة 1126، هل صليت الاستخارة، وانشرح صدرك لذلك الأمر الذي قلنا لك، فقال: صليت الاستخارة ولا ظهر لي شيء، ولكن ما أشرتم به هو الصواب، فقال نفع الله به: لا، قد حكينا لكم أن طريقتنا أنَّا لا نأمر أحداً ابتداءاً بأمر لأنا قد صحبنا على ذلك أقواماً ما فعلوا معنا إلا هكذا، وإنما نشير على من استشارنا بما نرى فيه الصواب، ونبين له وجه الصواب فيه، وهو بالخيار مثل ما إذا استشارنا فقير في الصوم فننظر في مزاجه وقدر طاقته، ونحن في هذا الزمان لا يتأتى لنا ذلك، لأنا رأينا أهل الزمان وجربناهم مراراً كثيراً( )، تقول له في الشيء وكأنه لم يسمع منك فيه كلمة، والتجربة تحصل بمرتين من شخص لا أكثر من ذلك، وقد مكث صلَّى الله عليه و آله وسلَّم 13 سنة، يَعرض نفسه على الناس يدعوهم إلى الله، وما قابلوه إلا بالأذى، ولو قلنا لواحد: افعل كذا، لراح وترك، وربما أوجب له ذلك الإنقطاعَ عَنَّا، وإنما نحن مُيسِّرين، ونَسْتَجِرُّ الناس إلى الصواب، وتلك درجة أصحاب اليمين، ولا يجينا إلا من أردناه، ولو جلسنا منقطعين عن الناس في جبل فمن يجينا، ومن كان عندنا من ولد وفقير وخادم فإنما هو في كنفنا ولو أمرناه بأمر لا يمكنه إلا أن يجيب، ولكن ما نحن بجالسين لهذا، وإنما إذا أمرنا أحداً بأمر وطلبناه منه، إن استراحت بذلك نفسه ولا يشق عليه، أو نعرّض له بفعله إن أراد فعله، أما مع استثقال نفسه، إن فعل مرة ما فعل أخرى ثم لا يدوم، ولا نحب أن نأمر أحداً بما يشق عليه أبداً.
(2/164)


أقول: وذلك لأن قولَه حجةٌ، يلزم إمتثاله، ويأثم بتركه، فهذا شأن القائم في مقام الدعوة إلى الله، لأنه قائم في مقام النيابة عن النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فانظر كيف يجب امتثال أمر الإمام، إذا أمر الناس في صلاة الاستسقاء بالصدقة وصيام ثلاثة أيام، فهذا من ذاك القبيل، فقيل له رضي الله عنه: كان عادة المشايخ، مَن صَحِبَهم، لا يراعون معه ذلك، فقال وأين هذا، كانوا إذا جاءهم أحد، لا يجيء حتى يجعل إليهم النظر في نفسه، حتى لو أرادوا ذبحه لا يقول في نفسه: إن هذا لا يجوز في الشرع( )، ثم تكلم في هذا كثيراً، و بَعَّد الأمر فيه جدَّا، ثم قال: لو قلنا لك اعط فلاناً ثيابك، خطر لك عشرون خاطراً من هذا القبيل، وقد سَكِر( ) كثيرٌ من الناس من الصوم، حتى مَلَّهم الصوم وما مَلُّوه، ولم يحصل لهم من ذلك ذرة، لأنها قِسَم ومواهب لبعض العبَّاد، ألا ترى إن الإمام الغزالي بعدما ملأ الأرض علماً، لما جاء إلى بغداد وأراد أن يدرس امتسك لسانه عن التدريس من غير سبب ظاهر، فهذا بأي سبب كان( )، حتى قيل: إن عينا أصابت الإسلام، والإمام النووي مع جلالته وكثرة علمه، يثني على الصوفية ويستحسن أحوالهم، ولكنه ما تصوف، فماذا منعه من التصوف، وهو يعتقد إنه الحق، فاعرف بهذا، إنما هي أقسام، قيل له: لكن يحصل نشاط فيما تأمرون به إبتداءاً دون ما تُستأذنون فيه، فقال: نعم يتوهم إنه يحصل له بذلك شيء، وتلك الأشياء قد قسمت، أما تسمع قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم} ( )، {نَحْنُ قَدَّرْنَا}( ) قيل: فعسى ببركاتكم يحصل كمال الرضى بالقضاء، فقال: قال النبي صلَّى الله عليه و آله وسلَّم: (( اتركوني ما تركتكم ))( ) أو كما قال .
وقال رضي الله عنه: لا تطلب من زمانك غير طبعه، فإنك إن طلبت منه ذلك فقد طلبت محالاً ثم أنشد هذا البيت :
ومُكَلّف الأيام ضدّ طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار( )

Subscribe to receive free email updates:

0 Response to "تثبيت الفؤاد بذكر مجالس القطب عبدالله الحداد - الإمام عبدالله بن علوي الحداد- Kitab Alhaddad10d"

Post a Comment

Silahkan komentar yg positip